من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

وبعد ان وعدهما بتأويل رؤياهما قريبا. أخذ يبلغهما رسالات ربه. ابتداء من نفسه حيث كان معروفا عندهما بالإحسان والفضل فقال لهما :

اولا : انه رسول من الله.

(ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)

فلقد علمه الله تأويل الأحاديث.

ثانيا : انه حنف عن الشرك الذي اتخذه قومه ملة لهم ، ورفض طريقة قومه وملتهم ، وثار على نظامهم الثقافي والاجتماعي.

(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)

ان طريقة هذه الجماعة ليست المثلى لأنها قائمة على أساس الكفر وإني ارفضها رأسا.

[٣٨] ثالثا : اما الملة المثلى في طريقة آبائي ـ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ـ وهكذا بين يوسف (ع) انه من سلالة النبوة.

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ)

وان طريقة هؤلاء قائمة على أساس التوحيد ، ورفض كل أنواع الشرك ، وكل ألوان العبودية والطاعة لغير الله.

(ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)

فالتوحيد ليس فقط واجب الهي مقدس ، بل وأيضا نعمة كبري على البشرية.

٢٠١

حيث انه يعني التحرر من عبودية الطاغوت وعبودية المال والشهوات. ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله في الأيمان بهذه النعمة.

[٣٩] رابعا : بين يوسف (ع) لصاحبيه وزميليه في السجن الذين تقاسما وإياه المعاناة والأذى. ان أكثر الحروب والصراعات الاجتماعية ، والخلافات الهدامة انما هي نتيجة مباشرة للشرك. حيث ان كل فريق يعبد صنما من دون الله ، ويطيع ربا مختلفا عن رب الآخرين ، فكل يعبد صنم أرضه وإقليمه وقومه وعشيرته وحزبه. فيختلفون.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)

[٤٠] خامسا : بين ان الأصنام التي تعبد من دون الله تعالى ان هي الا انعكاس لأوضاع وحالات انحرافية فاسدة داخل المجتمع أو النفس ، وليست لها قدسية أو واقعية حقه.

ان صنم الإقليمية انعكاس لضيق الأفق ، وشذوذ الفكر ، ومحدودية الرؤية ، فهو إذا اسم سماه الإنسان وليس حقا أنزله الله ، وهكذا صنم الوطنية والعنصرية والشوفينية والقومية .. وكل الأصنام الباطلة. إنها أسماء اخترعها الإنسان انعكاسا لواقعه الفاسد ، وليس تعبيرا عن الحقيقة.

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ)

نعم هنالك أسماء ورموز ينزل الله بها سلطانا فتكتسب الشرعية من الله. مثل الرسول وخليفته ، وصاحب الفقه والعدالة ، وكل القيادات الشرعية التي تطاع بأذن الله وباسم الله. لا بأذن الشعب أو باسم الأصنام.

٢٠٢

ذلك لان الولاية الحق لله ، والحاكمية والسيادة والملكوت لله سبحانه ، فكل حكم لا يستند الى الله والى حاكميته. بأن لا يكون بإذن الله ، ولا يهدف اقامة حكم الله فهو حكم باطل وزائل.

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)

فلأن الولاية الحق لله في الكون ، ففي مجال التشريع وفي الواقع السياسي يجب ان يكون هو الحاكم من خلال خليفته ورسالته.

(أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)

فلم يأذن للسلطة الا بأذنه. ولم يبح الحكم كما أباح ـ مثلا ـ خيرات الأرض وبتعبير فقهي : الأصل في نعم الله الإباحة والحلية ، فالبشر حر في الانتفاع إلا إذا جاء نص بخلاف ذلك ، ولكن الأصل في السلطة هو العكس تماما. اي ليس لبشر ان يطيع بشرا في سلطة الا بعد التثبت من وجود نص.

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

اي هذا هو النهج السليم للحياة. الا يطيع أحد أحدا الا بأذن الله ، وليس يدين أبدا بسيادة الطغاة أو السكوت عنهم. وحاكمية الفراعنة والرضا بها. من هنا نعرف مدى دلالة الآية على ان الدين هو السياسة. والسياسة هي الدين.

لذلك تجدهم يفصلون الدين عن السياسة ، ويقول فرعونهم : لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ، ويقول هامانهم : لا دخل لرجال الدين في السياسة ، ويقول قارونهم : اننا نريد رجال دين لا يتدخلون في السياسة.

وجمهور الناس يسعون من أجل فصل الدين عن السياسة تحت تأثير التضليل

٢٠٣

الأعلامي ، وبسبب انهم يستصعبون مسئوليات الدين والسياسة ، ويريدون الاكتفاء بالطقوس الدينية السهلة.

[٤١] وبعد ان بين هذه الحقائق لهما. فسر رؤياهما قائلا :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً)

اي يعود الى سيده ، ويصبح ساقيا له فيسقيه الخمر كما وجد في الرؤيا.

(وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ)

اي يقتل وتجلس الطيور الجارحة فوق رأسه لتأكله.

(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ)

اي انتهى القضاء فيما سألتما الى هذه النهاية ولا عودة فيه.

٢٠٤

سورة يوسف

وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦)

____________________

٤٤ [أضغاث] : الأضغاث الأحلام الملتبسة.

[دأبا] : دأب في عمله يدأب دؤبا إذا اجتهد.

٢٠٥

قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)

____________________

٤٨ [تحصنون] : تحرزون وتدخرون.

٢٠٦

الكفاءة

مقدمة التمكين في الأرض

هدى من الآيات :

وخرج الفتيان من السجن. أحدهما الى الحرية ، والثاني الى المشنقة ، فاستغل يوسف (ع) نجاة أحدهما ، فطلب منه العمل من أجل نجاته بيد ان الشيطان أنساه ذكر ربه ، فبقي في السجن عدة سنين بسبب نسيان الله والتوسل بعبيده ، وحين قضى الله مدة سجنه قدر الله له النجاة وذلك بأن رأى الملك في منامه سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات هزال ، ورأى بجنبها سبع سنبلات خضر وسبع سنبلات يابسات ، فجاء الى كبار أصحابه يستفسرهم عن رؤياه فقالوا : إنها أحلام مختلطة ببعضها ولسنا بعالمين بها ، وكان صاحب يوسف حاضرا فتذكر ، بعد فترة طويلة ، فطلب إرسالة الى يوسف (ع) وطلب منه تفسير رؤيا الملك لينقلها اليه فقال يوسف (ع) : ان أمامكم سبع مواسم خيرة تعقبها سبع مواسم شحيحة ، وهكذا تأكل السنين السبع التالية ما كانت في السنين السابقة من نعمة ، أما السنة الأخيرة. فهي سنة الاستغاثة. حيث يعصر الجوع الناس عصرا ، وهكذا وفر الله ليوسف أسباب النجاة.

٢٠٧

بينات من الآيات :

وصية يوسف :

[٤٢] خرج الشخص الذي فسر يوسف رؤياه بالنجاة. واستغل يوسف المناسبة ، وطلب منه ان يرفع مظلمته عند الملك ، وكان عليه ان يتوسل بالله في ذلك لا بالسجين الناجي أو الملك لأنه رسول الله الذي ينبغي ان يقطع صلاته الشخصية بالناس جميعا ، ويمحض الله إخلاصه.

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ)

لماذا استخدم القرآن تعبير الظن. أو لم يقل ربنا سابقا : ان الله قد علمه تأويل الأحاديث؟

في الاجابة قال صاحب المجمع : ان معنى الآية أي للذي علم من طريق الوحي انه ناج متخلص ، كما في قوله تعالى : «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» هذا قول الأكثرين واختيار الجبائي. وقال قتادة : للذي ظنه ناجيا لأنه لم يحكم بصدقه فيما قصه من الرؤيا والأول أصح. (١)

ولكن ـ يبدو لي ـ ان الظن هنا بمعناه الأصلي وهو التصور والتخيل الذي يوهم بعدم وجود علم ثابت بذلك ، والسبب ان يوسف (ع) لم يكن يضمن المستقبل لأن الله قد يشاء شيئا أخر ، فلربما مات الشخص أو تغير نظام الملك ، أو بدى لله في شأنه وعاد به الى السجن ، أو الى الاعدام ، ومناسبة الظن بما بعده هي ان يوسف (ع) كان موقنا بأن الله سبحانه ارحم الراحمين ، وانه يستجيب له دعاءه بينما كان يظن بنجاة

__________________

(١) المجمع ج ٢ ص ٢٣٤

٢٠٨

صاحبه ظنا ، وكان ينبغي ان يتوسل بالله قبل توسله بذلك الشخص لأن الله اولى باليقين من رؤياه حول الشخص التي لو صدقت لتجاوزت حدود الأقدار ، وقضاء الله فوق قدره وإرداته فوق سنته سبحانه وتعالى.

ولكن الشيطان اعجل يوسف. حيث ان مشكلات السجن رفعته الى التسرع بالتوسل بالبشر دون ربه.

(فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)

ليربيه ربّه على الإخلاص التام في عبادته سبحانه.

رؤيا الملك :

[٤٣] وبعد ان قضى مدة سجنه التي حددها الله له من بعد نسيان ذكر ربه ـ والتي طالت سبع سنين حسب ما جاء في الأخبار ـ بعدئذ هيأ الله له وسيلة نجاته بحلم رآه الملك.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ)

اي هزال.

(وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ)

وأراد من كبار مستشاريه تفسيرا لرؤياه الغامضة.

(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ)

اي ان كنتم تفسرون ما يراه النائم في حلمه.

[٤٤] ولكنهم حين عجزوا عن تفسير رؤياه الغامضة. قالوا بأنها أفكار مختلطة

٢٠٩

وليست رؤية للحقيقة.

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ)

الضغث : الحزمة من كل شيء ، وقيل بأنه الخلط ، وقالوا : والحلم بكسر الحاء ضد الطيش وهو الاناة ، وكأن أصل حلم النوم عن هذا لأنه حال أناة وسكون.

ويبدوا ان الحلم غير الرؤيا ، فهو كل ما يراه النائم من آثار نفسه وتخرصاتها.

مفاتيح الرؤيا :

[٤٥] وكان في حاشية الملك صاحب يوسف في السجن الذي تذكر الآن رؤياه في السجن ، وتعبير يوسف الصادق له.

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)

اي تذكر بعد مرور وقت طويل ، قالوا : انها سبع سنين.

(أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)

اي ابعثوني الى يوسف لآتيكم بتأويله.

[٤٦] فبعثوه الى يوسف في السجن ، فطلب منه تفسير رؤيا الملك بعد ان نقله له.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)

عبر عنه بالصديق لما رأى منه من آيات الصلاح في السجن ، ولما جرّبه شخصيا في تعبير رؤياه ونجاته.

(أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ

٢١٠

يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)

يبدو ان صاحب يوسف عرف انه يحب خدمة الناس بينما يكره الطغاة ، لذلك لم يقل : لعلي ارجع الى الملك بل قال (إلى الناس).

[٤٧] وعبر يوسف رؤيا الملك ، بما اهتز له أركان المجتمع ، فبين لهم : ان امامهم سبع سنين من الرفاه والوفرة ، ولكن عليهم ان يستعدوا فيها لسبع سنين جدباء ، فكلما حصدوا أكثر من حاجتهم من القمح احتفظوا به وهي في السنابل لمجابهة أيّام القحط التي تنتهي بسنة صعبة يتوافد عليهم الناس من كل مكان طلبا للقمح.

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً)

اي تجتهدون سبع سنين في الزراعة ، ويبدو ان الشعب المصري كان في عز حضارته في تلك السنين.

(فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ)

اي اعملوا كثيرا ، وكلوا قليلا ، وحافظوا على ثرواتكم للمستقبل ، وهكذا نصح يوسف قوم مصر بأفضل الحكم الحضارية.

[٤٨] (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ)

اي تأتي سبع سنين شديدة جدباء تأكلون فيها ما جمعتم في سنين الرخاء.

(ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ)

وعبر يوسف (ع) بالسنين وكأنها حيوانات تأكل خيرات السنين الماضيات للإشارة إلى الرؤيا ، وأن السنة تشبه البقرة التي رآها ملك مصر في نومه.

٢١١

(إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ)

فهو الوحيد الباقي لكم.

الحصن هو : الحرز ، ويبدوا ان يوسف أشار عليهم بضرورة المحافظة على انتاجهم في سنين الرخاء بصورة جيدة.

[٤٩] وأشار لهم عن السنة الأخيرة التي انعكست في الرؤيا في صورة سبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، وهي سنة القحط الشديد التي يتوافد فيها الناس الى مصر طلبا لشراء الطعام.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ)

والغوث : هو نفع يأتي بعد شدة الحاجة ، أو نفع يأتي لدفع ضر شديد ، ويبدو ان معناه قريب من رفع ضرر الجوع ، ومنه أطلقت كلمة الغيث على المطر.

(وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)

اي يلتجئون طلبا للطعام.

٢١٢

سورة يوسف

وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ

____________________

٥١ [خطبكن] : الخطب الأمر الذي يعظم شأنه فيخاطب الإنسان فيه صاحبه.

[حصحص] : اشتقاقه من الحصة أي بانت حصة الحق وجهته من حصة الباطل.

٥٢ [كيد] : الكيد الإقبال سرا لإيصال الضرر الى الغير.

٢١٣

الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)

____________________

٥٤ [استخلصه] : الاستخلاص طلب خلوص الشيء من شائب الاشتراك كأنه يريد أن يكون خالصا به.

[مكين] : المكين من المكانة ، وأصله التمكن في الأمر.

٥٦ [يتبوء] : التبوء اتخاذ منزل يرجع اليه وأصله من باء يبوء إذا رجع.

٢١٤

الملك من بعد

هدى من الآيات :

وعاد الرسول الى الملك ، يحمل معه تعبير الرؤيا ، فلما سمعه الملك دعا يوسف ، فلمّا جاء الرسول يدعوه أبى يوسف ان يخرج من السجن بعفو بل بإثبات براءته وادانة الذين اتهموه ، وهكذا عاد الرسول الى الملك الذي أعاد الملف ، وسأل النسوة اللاتي قطعن أيديهن هل كان يوسف مذنبا ، فكررن كلمتهن الشهيرة (قلن حاشا لله) ما علمن عليه من سوء ، وهنالك اعترفت امرأة العزيز انها هي التي راودته عن نفسه.

وهكذا أرسل يوسف الى الملك تلك الرسالة لاثبات براءته ، وانه لم يخنه في غيبته عنه ، وان الله لا يهدي كيد الخائنين ، ولكن دون أن يبرئ نفسه من كل زلة وغطاء إذ ان النفس امارة بالسوء ، ولكن الله هو الذي يعصم عباده المؤمنين ، وانه غفور رحيم.

وهكذا بعد أن ثبتت براءته التامة. أراد الملك أن يستخلصه لنفسه ، ويجعله وزيرا

٢١٥

له ، وطلب يوسف أن يجعله على أموال الدولة لأنه حفيظ لا يخون ، وعليم بالأمور لا يجهل.

وهكذا مكنّ الله ليوسف في الأرض برحمته الواسعة لأنه كان من المحسنين ، وهذا أجر الدنيا ، وأجر الآخرة خير للذين آمنوا والذين يتقون ربهم.

بينات من الآيات :

الآن حصص الحق :

[٥٠] صاحب يوسف في السجن عاد الى الملك يحمل اليه بشارة حل اللغز الذي أعجز الملأ من قومه بما فيهم من كبار العلماء ، فأمر الملك بإحضار يوسف عنده.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ)

ولكن يوسف أبى الحضور عند الملك ، إلا بعد ان يثبت عنده براءته ، وبعد إثبات فساد نظامه الذي يلقي بشخص في السجن بضع سنين من دون محاكمة أو إثبات للتهمة.

(فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ)

أي جاء صاحبه اليه.

(قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ)

واحتج يوسف على الملك بالنسوة اللاتي شهدن له أول يوم بالبراءة والطهر ، واستشهد بهن على زوجة العزيز التي اتهمته بالفجور ، كما ذكرهم بربهم العليم بكيدهن.

(إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)

٢١٦

يبدو أن كل النسوة اشتركن في المؤامرة ضد يوسف ، لذلك اتهمن يوسف ، وذكر الملك ان الكيد الشيطاني لا يدوم.

وجاء في حديث ظريف مأثور عن النبي (ص) انه قال بهذه المناسبة :

«لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره ـ والله يغفر له ـ حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني من السجن ، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ـ والله يغفر له ـ حين أتاه الرسول فقال إرجع الى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث ، لأسرعت الاجابة وبادرتهم الباب وما ابتغيت العذر ـ انه كان لحليما ذا أناة ـ» (١)

[٥١] وهكذا بقي يوسف في السجن الى أن يتم التحقيق في سبب سجنه ، واستحضر الملك النسوة وسألهن عن سبب تقطيع أيديهن ، وهل كان ذلك بسبب فعل يوسف لشيء ـ حاشاه ـ ، ولم يحرن جوابا ، فاعترفن بحقيقة الأمر ، وان يوسف كان نقيّ الجيب ، وانهن دونه طلبن الفاحشة.

(قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ)

أي هل بسبب انه كان أهلا لهذا.

(قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ)

لقد كان نظيفا للغاية ، واستعذن بالله من اتهام يوسف بسوء ، فلما شهدن بالأمر اضطرت امرأة العزيز إلى الاعتراف هي الأخرى.

__________________

(١) نور ثقلين ج ٢ ص ٤٣١

٢١٧

(قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ)

اي الآن ظهر الحق وأبان عن الباطل.

(أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)

فأنا وليس هو الذي طلب منّي الفجور.

[٥٢] وقال يوسف (ع) ـ وهو يؤكد براءته امام عزيز مصر ـ انما اطلب منه التحقيق مجددا ، ليعلم اني بريء ، وأنني لم أخن الملك في بيته وهو غائب عنه.

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)

وان الخائن كانت امرأته التي لم يوفقها الله ، بل أظهر حقيقتها للناس.

(وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ)

والكيد : الحيلة ، والله لا يوفق الخائنين في حيلهم ومكرهم.

[٥٣] ثم أكد يوسف (ع) ان كلامه لا يعني انه من انصاف الآلهة ، وانه ليس من جنس البشر ، وان الذين يعملون السيئات هم من الشياطين. كلا .. بل إن النفس لأمارة بالسوء ، وان السقوط في اوحال الرذيلة ليس بعيدا عن طبيعة البشر ، وانما يعني ان التمسك برسالات الله والتسلح بقوة الايمان والتقوى يمنع من هذا السقوط.

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي)

فرحمة الله تعطي الإنسان قدرة كبيرة للتغلب على النفس الأمارة بالسوء.

(إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)

٢١٨

المؤمن يدركه الله في الظروف التي يتعرض فيها للضغوط الاجتماعية أو النفسية كما فعل سبحانه بيوسف الذي أحاطت به أسباب الرذيلة الاجتماعية. حيث هددته زوجة العزيز بالسجن ، وكذلك عواملها النفسية حيث عرضت امرأة شابة جميلة نفسها عليه وهو في عنفوان شبابه ، حيث الشهوة الجنسية في أوجها ، ولكنه نجا من الرذيلة برحمة الله حيث قال : «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ».

[٥٤] وبعد ان ثبتت براءة يوسف (ع) امام الملك طلبه لكي يصبح من المقربين اليه.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي)

اي اجعله خالصا لنفسي ، أستعين به في اموري ، ويبدو ان الكلمة توحي بمفهوم الوزارة عندنا.

وجاء يوسف (ع) تحدث معه الملك ، فعرف رشد عقله ، واكتمال شخصيته من خلال كلامه.

«فالمرء مخبوء تحت لسانه»

كما جاء في الحديث ، لذلك خوّل اليه المناصب الهامة.

(فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ)

اي ذا مكانة ثابتة ، واننا نثق بك.

[٥٥] ولكن يوسف (ع) لم يكتف بذلك ، ولم يفرح بالتحول الفجائي الذي حدث عنده من السجن ، الى الوزارة ، بل سعى من أجل الوصول الى خطته البعيدة المدى.

٢١٩

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ)

اي طالب بما يسمى بوزارة المالية ، وادارة البنوك لأنه عرف ان المشكلة الاساسية في الدولة هي مشكلة القحط الذي سوف يصابون به ، وعليه من جهة العمل من أجل حل هذه المشكلة ، وان يسعى من جهة اخرى نحو هداية الناس من خلالها.

وبين أنه أفضل فرد تخوّل اليه شؤون المال وهو صاحب علم وامانة ، فبعلمه يخطط وبأمانته يعمل دون فساد.

(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)

[٥٦] وقبل الملك ذلك ، فلما امتلك يوسف (ع) سلطة المال في الدولة نشر سلطته الى سائر المرافق ، وتمكن في الأرض بفضل ربه الذي جازاه على إحسانه.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ)

اي بنشر سلطته فيها في اي مجال يريد بسبب علمه وأمانته وسلطته المالية.

(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ)

ذلك لأن الأمور بيد الله ، والله سبحانه اجرى في الدنيا نوعين من الأنظمة :

النوع الاول : الانظمة الطبيعة ، مثل السعي والحكمة والصبر والاستقامة.

النوع الثاني : الانظمة الغيبية مثل الايمان والتقوى والإحسان ، ويوسف تقدم من خلال تطبيق هذين النوعين من الأنظمة ، فمن جهة عمل بحكمة وأناة واستقامة ، ومن جهة ثانية قاوم الشهوات ، واتقى ربه ، وأحسن الى الناس.

(وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)

٢٢٠