من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

واللعنة هي الأبعاد من رحمة الله ، ويوم الدين هو يوم الجزاء.

المرحلة الأخيرة :

[٣٦] وانتهت المرحلة الثانية من قصة الخليقة ، وبقيت المرحلة الأخيرة التي هي عبرتها ، وما يلتصق بحياتنا أكثر فأكثر ، ذلك ان إبليس طلب من الله فرصة الى يوم البعث ، فأعطاه الله فرصة معينة الى يوم معلوم ، قد يكون قبل يوم البعث أو هو يوم البعث ذاته.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)

وهنا كشف القرآن عن فلسفة المسافة الزمنية التي تفصل بين الجزاء وبين العمل في الدنيا.

[٣٧] (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)

والبشر بدوره يعطى مهلة الى أجل محدود.

[٣٨] وينتهي الأجل الى وقت معلوم عند الله. مجهول عند صاحبه.

(إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)

قال البلخي : «فأبهم ولم يبين لأن في بيانه إغراء بالمعصية» (١).

[٣٩] أخذ يهدد إبليس بني آدم الذي كان سبب اختباره وبالتالي لعنته.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي)

__________________

(١) المصدر ص ٣٣٨

٤٦١

لم يضل الله إبليس إلا بعد أن أختار بكامل وعيه وبسابق قصده عصيان أمر الرب ويكفي في معنى السبب الذي توحيه كلمة «باء» ، هذا القدر من العلاقة وخلاصة معناه رب كما انك اختبرتني ففشلت ، فاني سوف أهيئ لهم وسائل الاختبار فيفشلون ، وهكذا أنتقم منهم ـ وكان الله يريد ان يختبر عباده ـ وهذا إبليس رشح نفسه لهذه المهمة ، كما ان الله يريد ان يعذب القوم الظالمين فيرشح من هو أظلم منهم نفسه للانتقام فيتركه الله ـ بينه وبينهم – فيصدق الحديث القدسي : «الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه.

» أما كيف وبأية وسيلة أراد إبليس إغواء البشر؟ فلقد كشفها لنا قائلا :

(لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)

أي سوف أجعل الأرض جميلة في أفئدتهم حتى تستهويهم.

[٤٠] إغواء إبليس كاغواء الله لإبليس. مجرد اختبار وليس إجبار ، ويشهد عليه ان عباد الله المخلصين يتمردون عليه.

(إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)

[٤١] وصراط الله مستقيم وهو الى الله ، وعلى الله المحافظة عليه مستقيما ، والّا يدع التشويه والانحراف يصيبه كما قال سبحانه في الآية العاشرة من هذه السورة : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ».

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ)

فمهما كان لإبليس من قوة الإغراء ومن جمال التزيين ، فان الله لن يدع له المجال لتحويل الحق الى الباطل ، وبطمس معالم الدين كليا.

٤٦٢

[٤٢] وأنه لن يدعه يجبر الإنسان على اتباعه ، نعم من تبعه يضله الله ، ولا يعينه على الشيطان الغوي.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)

وهم اختاروا سلطة إبليس اختيارا ولم يجبرهم عليها الله ، فحرام تبرير البعض خطأهم وانحرافهم بأنهم كانوا مجبورين.

[٤٣] أما الغاوون فان الله أجل عذابهم الجماعي إلى جهنم.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)

[٤٤] حيث تختلف أبواب الضلالة ولكنها بالتالي تنهي الى ذات المصير الواحد.

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)

٤٦٣

سورة الحجر

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣)

____________________

٤٧ [غل] : الغل الحقد الذي ينغل في القلب ، والغلول الخيانة التي يطوق عارها صاحبها.

[سرر] : السرير المجلس الرفيع موطأ للسرور وجمعه الأسرة.

٥٢ [ووجلون] : خائفون

٤٦٤

قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)

____________________

٥٥ [القانطين] الذين يقنطون من رحمة الله والقنوط هو اليأس.

٤٦٥

النهاية بين المتقين والمجرمين

هدى من الآيات :

تلك كانت البداية أما نهاية البشرية ، فان من اتقى فان مقامه جنات تظلله وعيون ترويه ، وسلام أبدي ووئام مع اخوان الصفا ، وراحة بلا نصب ، واقامة بلا إخراج ، وغفران من الله الغفور الرحيم. أما من أجرم فان له عذابا أليما.

وكمثل على ذلك في الدنيا ، جزاء الله لإبراهيم إذ دخل عليه ضيوف مكرمون فسلّموا عليه ، ولكنه أبدى خوفه منهم فطمأنوه بألّا يخاف لأنهم جاؤوا يبشرونه بغلام عليم ، فاستغرب فرحا وقال : كيف وأنا كبير السن فهل تبشروني بحق؟! قالوا بلى ولا تكن آيسا من رحمة الله ، فاستدرك إبراهيم قائلا كيف أقنط ولا ييأس من رحمة ربه إلّا الضالون ، وهذا جانب من فضل الله.

ثم سألهم عن وجهة سيرهم؟ قالوا : نحن مبعوثون الى أناس مجرمين ـ هم قوم لوط ـ حيث نهلكهم ، إلّا آل لوط المؤمنين الذين سوف ننجيهم أجمعين ، باستثناء امرأته التي ستكون من الهالكين ، وهذا جانب من عذاب الله.

٤٦٦

بينات من الآيات :

[٤٥] من هم المتقون وما هو جزاءهم؟

المتقون هم الذين لا يستجيبون لإغواء إبليس ، ويتجنبون مصائده ، ويعرفون كيف يزين لهم في الدنيا ، وجزاءهم كالتالي :

أولا : يأكلون ويشربون بلا تعب.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)

[٤٦] ثانيا : يشعرون بسلام أبدي.

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ)

وكلّ الناس يبحثون عن عاقبة أجسادهم وأعراضهم ، وعن ضمان مستقبلهم ، ولكن المتقين هم وحدهم الذين يدركون كلّ ذلك.

[٤٧] ثالثا : بعد أن يشعر الفرد باطمئنان كاف ، يبحث عن مؤمنين يتقاسم معهم النعماء ، فالمؤانسة غذاء الروح ، والعطاء راحة القلب ، ويوفر الله للمتّقين هذا الطموح ، فينزع كلما في صدورهم من مرض قلبي ـ كالحسد والبخل والطمع. و. و. ـ حتى تكون نفوسهم متلاقية متسامية عن الحجب ، ثم يجلسون على سرر متقابلين ، وما أحلى مقعدهم (!).

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ)

[٤٨] رابعا : ليسوا بحاجة الى إتعاب أنفسهم أو الخوف من المستقبل.

(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)

٤٦٧

النصب : التعب ، وربما ارتبط التعب بالخوف من المستقبل في الآية ، بسبب ان أكثر تعب الناس في الدنيا أنما هو للحرص على الدنيا ، والخوف من المستقبل.

[٤٩] كم يبعث السكينة في النفس البشرية التي تعيش القلق على المستقبل المجهول ، والخوف من آثار الأخطاء والذنوب حين يطمأنه رب العالمين بأنه هو الغفور الرحيم ، بكلمات ملؤها الحنان فيقول :

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

لقد أعلن الرب رسميا لمن وصفهم بأنهم عباده قد خلقهم رحمة بهم لأنه هو الغفور. يمحي آثار الذنوب الماضية ، الرحيم يزيد من يتوب من رحمته.

[٥٠] ولكنه في ذات الوقت ينبغي أن يكون مرهوب الجانب.

(وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)

ضيف إبراهيم :

[٥١] وكشاهد على ذلك ، قصة ضيف إبراهيم ، حيث جاءت الملائكة إبراهيم بالبشرى بينما حملت الى قوم لوط ، العذاب الأليم.

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ)

[٥٢] (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)

ربما لأنهم جاؤوا في وقت غير مناسب ، أو لأنّهم لم يأكلوا من طعامه ، وكانت العادة تقضي بان من يأكل طعاما في بيت لا يلحق بأهله أذى احتراما للزاد والملح ، فاذا لم يأكل يعتقد انه ينوي شرا.

٤٦٨

[٥٣] (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)

فلقد جئناك مبشرين لا منذرين ، ونحن ملائكة ربك ، والملائكة كما نعرف تتمثل في صورة بشر سوي كما تمثل لمريم.

[٥٤] وكان إبراهيم ينتظر بفارغ الصبر هذا الحدث السعيد ، وقد أشرف على اليأس بسبب طول الانتظار ، وها هو الرب يبشره ليس بالغلام فقط وإنما أيضا بأنه صاحب فضل وعلم ، وبالتالي هو الولي الذي ينتظره منذ وقت ليكون وارث علمه وهداه ، ولأن إبراهيم فوجئ بالأمر فقد كان رد فعله الأولى التعجب والاستغراب.

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ)

فانا قد احتواني عمري الطويل ، وقد شارفت على مرحلة الشيخوخة التي لا تقل عن المرض الذي يمس صاحبه. فكيف تبشروني؟!

(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ)

هل هذه مجرد أماني وكلمات ترحاب يتبادلها الناس ، أم وعد مؤكد من الله.

[٥٥] (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ)

وبأمر من الله ، وليس مجرد أمنية حلوة نتمنى لك تحقيقها.

(فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ)

ذلك ان رحمة الله واسعة ، وتنزل على البشر بقدر أملهم في الله ، وثقتهم فيه ، فلما ذا اليأس.

٤٦٩

[٥٦] ونفى إبراهيم أن يكون تساؤله بسبب قنوطه ويأسه من رحمة الله ، بل ربما كان بسبب عدم معرفة جدية البشارة ، لذلك نراه يؤكد ان الضالين الذين لا يعرفون إحاطة الله بقدرته وعلمه ورحمته على الكون ، هم وحدهم الذين يقنطون ، فما دام ربك واسع الرحمة ، قريب مجيب الدعاء ، وقادر على كلّ شيء. فلما ذا القنوط؟!

(قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)

[٥٧] ولما اطمأنت نفس إبراهيم الى أن ضيوفه ملائكة الله سألهم عن وجهتهم؟ لماذا هبطوا الى الأرض هل لمجرد بشارته ، أم لأمر جلل.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)

الخطب : الأمر العظيم.

[٥٨] (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)

[٥٩] وعرف إبراهيم انهم ملائكة العذاب مبعوثون الى قوم لوط وتساءل عن مصير لوط ، فقالوا له :

(إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ)

هو ومن آمن معه من أهله وقومه.

[٦٠] وليس النجاة لآل لوط لأنهم ينتسبون اليه ـ لان عذاب الله أليم ، ولا تحيد عن الظالمين ـ لذلك فان امرأته جزاءها الله الهلاك.

(إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)

أيّ الهالكين.

٤٧٠

سورة الحجر

فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩)

____________________

٦٢ [منكرون] : غير معروفين.

٦٥ [فأسر] : الإسراء سير الليل.

٤٧١

قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)

____________________

٧٢ [يعمهون] : من العمه وهو أشد العمى.

٧٥ [للمتوسمين] : المتوسم الناظر في السمة الدالة وهي العلامة.

٧٦ [لبسبيل مقيم] : في طريق ثابت.

٧٨ [الأيكة] : الشجر الملتف وجمعها أيك.

٤٧٢

العذاب حصاد الظالمين

هدى من الآيات :

وجاء ضيوف إبراهيم الى قرى لوط ، فلما شاهدهم لوط لم يعرفهم فقالوا نحن جئنا لتحقيق وعد الله الذي كانوا يشكون فيه ، وهذا هو الحق ونحن صادقون فيه ، وأمروه بان يخرج من قريته ليلا هو وأهله وليكن خلف أهله يشيعهم ، ولا يلتفت أحد منهم الى ما وراءه ، وليمضوا الى حيث يأمرهم الله دون تردد ، وقد نزل بقومه قضاء الله الذي قرر أن يهلكهم دون أن يبقى منهم أحد يحفظ سلالتهم. هذا من جهة ، ومن جهة ثانية حين اكتشف أهل القرية وجود الضيوف ، جاؤوا يستبشرون ليفجروا بهم تصدى لهم لوط وقال : بان هؤلاء ضيفي فلا تفضحوني في ضيفي ، واتقوا عذاب الله ، ولا تجلبوا الخزي عليّ. أمّا هم فقد استمروا في غيهم ، وقالوا : نحن لا نقبل جوارك لأننا قد نهيناك سابقا عن استقبال الضيوف وإجارتهم ، فعرض عليهم النكاح من بناته والاستعفاف بهن عن الفاحشة ، ولكنهم كانوا لا يزالون في سكرتهم يعمهون.

٤٧٣

وهكذا أخذتهم الصيحة في وقت الشروق ، وجعل الله عالي القرية سافلها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل ، وان قصة هؤلاء عبرة لمن ينتفع بالعبر ، وانها لعبرة قائمة ولكن ليس كلّ شخص يستفيد من العبرة إلّا المؤمنون!.

ومثل لوط قوم شعيب وهم أصحاب حقول مزروعة انتقم الله منهم ، وكانت قريتهما في موضع يؤمه الناس.

وأصحاب الحجر كذبوا بدورهم المرسلين ، وكلما أتاهم الله من آياته أعرضوا عنها ، وأخذوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فيها ، فنزل عليهم عذاب الله حيث أخذتهم الصيحة في وقت الصباح ، فهل منعت بيوتهم عنهم شيئا من العذاب. كلا ..

بينات من الآيات :

وجاء الضيوف :

[٦١] جاء ضيف إبراهيم الى قرى لوط حيث كان يقطنها مجموعة من المجرمين ، وقطاع الطرق.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ)

والتعبير بكلمة «آل» يدل على أن نظامهم كان عشائريا. شأن سائر القبائل العربية آنئذ.

[٦٢] فلما رآهم وقد جاؤوا اليه ، بهيئة شباب عليهم مسحة من الجمال والجلال فسألهم بعد أن استضافهم.

(قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)

٤٧٤

فلستم من أهل المنطقة ، ولكي لا يمسهم قومه بسوء لذلك أجارهم على عادة القوانين الشائعة في قومه التي ينبغي أن يأخذ المؤمن الرسالي بأفضلها وأنفعها.

[٦٣] افصحوا عن أنفسهم وبينوا أنهم ملائكة الله ، وقد جاؤوا بالعذاب الذي شكك قومه فيه أنفسهم طويلا. فها هو العذاب يأتيهم.

(قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ)

[٦٤] وكانت المفاجأة ، وارتسمت على وجه لوط علائم الاستغراب وعاد الملائكة يؤكدون على أن ميعاد العذاب قد حان اليوم بلا شك.

(وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)

[٦٥] ثم أمروه بالرحيل ، وهجرة الصالحين نذير العذاب على الآخرين وكانت الهجرة سرية ربما خوفا من منع الناس لهم ، وكان المفروض على لوط أن يسير خلفهم ويشهد تحركهم لكي لا يبقى أحد منهم.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)

يبدو أن لوط أثّر فقط في أهله بينما بقي الآخرون على فسادهم.

(وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ)

أي اقتفي أثرهم ولان الهجرة كانت صعبة لذلك جاءهم الأمر.

(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)

أي لا ينظر الى ما وراءه.

٤٧٥

(وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ)

واستمروا من دون تردد أو تراجع ، وهكذا ينبغي ان يهاجر الرسالي قومه بعد يأسه منهم دون شفقة عليهم أو حنان ، أو ميل الى ما يخلفه فيهم من مال أو أقارب.

[٦٦] وقضى الله ، وأخبر لوطا بقضائه بذلك الأمر الخطير ، وهو الحكم بالأعدام الكامل لسلالة تلك العشيرة الفاسدة.

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)

فلا أحد يبقى منهم ليستمر نسلهم فيه حتى زوجة لوط التي كانت منهم هلكت معهم حيث حنّت على قومها ، والتفت الى ما ورائها من أهل ومتاع.

وهكذا تجسد الحق في انتقام شديد من قوم فسدوا ولم ينفعهم الإصلاح شيئا.

[٦٧] هذه صورة من المشهد ، أما الصورة الثانية فإنّ أهل المدينة استبشروا بالضيوف ، لأنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمرّ عليهم ، وكان موقعهم الجغرافي يساعد على هذه الفعلة حيث كانوا على الطريق الرئيسي الذي يربط المدينة بالشام على ما نقل عن قتادة.

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ)

المسؤولية الاجتماعية :

[٦٨] فتلقاهم لوط بالنصيحة ، وأجار الضيوف.

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ)

٤٧٦

وكان الاعتداء على الضيف بمثابة الاعتداء على من هو في بيته في عرف تلك القبيلة الصحراوية.

[٦٩] ثم نصحهم أكثر فأكثر ودعاهم إلى الحذر من عذاب الله ، وبين أن الاعتداء على ضيوفه يلحق الخزي به ، وهو لذلك يدافع عن شرفه إذا تعرض ضيوفه لأذى.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ)

[٧٠] أما هم فقد رفضوا قبول إجارة لوط ، لأنه كان يفعل ذلك دائما ، فكلما دخل قريته غريب استضافه حتى لا يصاب بأذى من قبل قومه ، وكانوا قد أكدوا عليه ألا يقبل بعدئذ أيّ ضيف.

(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ)

ونستوحي من هذه الآية أمرين :

الأول : ان القبيلة العربية فقدت مع الزمن خصائصها الانسانية كاجارة الضيف ، ولم تبق فيها بقية من قيم يتشبث بها الضعيف والغريب.

الثاني : ان لوطا عليه السّلام ضحى بكلّ ما يملك من أجل الضعفاء ، فبذل شرفه وكرامته من أجلهم ، وهكذا ينبغي ألّا يكتفى بترداد شعار الدفاع عن المحرومين ، بل لا بدّ أن يدعم بالعمل الواقعي.

[٧١] وبلغ الأمر بلوط أن عرض على قومه التزوج ببناته لكي لا يتعرضوا لضيوفه بأذى.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)

٤٧٧

ويبدو أن توجيه لوط الى البنات كان يهدف بالاضافة الى ما قلنا : تذكرة قومه ان السبيل القويم لإفراغ الشهوة الجنسية هو السبيل الفطري الذي يحافظ على النسل ، وليس الشذوذ الجنسي ، ومن هنا يكون حديثه شاملا لبناته من صلبه ، وبنات قومه باعتباره شيخا ، أو قائدا يعتبر كل الفتيات بناته.

[٧٢] ولكنهم كانوا مترفين قد أسرفوا في الشهوات حتى أسكرتهم الغريزة الجنسية فلم يعودوا يفرقون بين الإناث والذكران ، ولا بين الغريب والضيف والمستجار وبين قومهم.

(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)

أيّ قسما بحياتك يا رسول الله ، وأنت يا من تتلوا القرآن ان قوم لوط قد فقدوا أبصارهم بسبب سكرة الشهوات ، والعمر ولعمر بمعنى ولكن عند الحلف يستخدم عمر بالفتح.

[٧٣] عند ما لم يبق أمام لوط أيّ حل ، ركن الى الله ذلك الركن الشديد فكشفت الملائكة عن حقيقتهم له ، وطمأنوا لوطا بأنهم لن يصلوا اليه ، وجرى بينهم وبين لوط ، الحوار الذي بيّنه السياق.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ)

عند الصباح ، حين لم يستطيعوا أن يردوا عن أنفسهم البأس.

[٧٤] وقلب الله مدينتهم على رأسهم.

(فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)

والسجيل فارسي معرب ، أيّ سنك وكل (حجارة وطين) وقال أبو عبيدة : هو

٤٧٨

الحجارة الشديدة (١).

[٧٥] وها هي بلادهم مهدمة ، فمن يعتبر منها؟ بالطبع ليس كل الناس بل المتوسمون منهم فقط الذين يكتشفون الحقائق من خلال سماتها وعلائمها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)

أما الذين يجمدون على ظواهر الأمور ، وينظرون الى ركام الصخور دون أن يتفكروا انها كانت في يوم بيوتا معمورة فما الذي جعلها هكذا ، فهم لا يعتبرون من قصص قوم لوط.

[٧٦] (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ)

قال الطبرسي : معناه ان مدينة لوط بطريق يسلكها الناس في حوائجهم ، فينظرون الى آثارها ويعتبرون بها لان الآثار التي يستدل بها مقيمة ثابتة بها وهي مدينة سروم. (٢)

ويبدو إن ضمير «إنها» يعود الى الآيات ، فمعناها إذا : أن الآيات قد وضعت معالم على طريق ثابت ، وثبات الطريق وضوحها ، ولذلك جاء في الحديث المأثور عن أهل البيت (ع): «والسبيل فينا مقيم». (٣)

[٧٧] ولكن لا يسلك هذا الطريق إلّا المؤمنون ، وهم في المتوسمين حقا لأن

__________________

(١) مجمع البيان ـ ج ٥ ـ ص ١٨٣.

(٢) مجمع البيان ـ ج ٦ ـ ص ٣٤٣.

(٣) المصدر.

٤٧٩

الإيمان بصيرة المرء ، من خلالها ينظر الى الحقائق الظاهرة فيؤمن بما ورائها من حقائق واقعية.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)

ومن هنا جاء في الحديث : «اتّقوا فراسة المؤمن فانّه ينظر بنور الله». (١)

أصحاب الأيكة تحت الغمام :

[٧٨] هناك شاهد تاريخي آخر نجده في أصحاب الأيكة الذين أتاهم الله ، حقولا مزروعة فظلموا أنفسهم.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ)

[٧٩] وأصبح ظلمهم ظلمات عليهم ، فعاقبهم الله بالحر سبعة أيام ثم جاءت سحابة استظلوا بها يلتمسون البرد فيها ، فلما تجمعوا تحتها تحولت الى صاعقة أحرقتهم جميعا.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ)

وبقيت لنا عبرتهم ، وعبرة قوم لوط ألّا وهي : ان تدبير الحياة يتم مرة بالرحمة ومرة بالانتقام فلا ينبغي الركون الى النعمة ، أنما يجب الحذر باستمرار من يوم الانتقام وها هي قصص قوم لوط وأصحاب الأيكة ظاهرة ، وآثارها قائمة في طريق واضح يؤمه الناس.

(وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ)

__________________

(١) بح ١٧ ص ٧٥ رقم ٩

٤٨٠