من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

في بيت العزيز وليس العزيز أو امرأته. لذلك لا ينبغي له أن يكفر بنعمة الله ، ويفعل الفاحشة ، كما انه لا يفلح من يفعل الفاحشة ، لأنه ظالم لنفسه ، منحرف عن الرشاد.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)

فبالرغم من إغراء الفاحشة في الظاهر فانها سيئة العاقبة.

ان التحرر من سلطة المالك ذي القوة كان عظيما عند يوسف بقدر التحرر من إغراء جمال زليخا ودعوته الى نفسها بذلك الإصرار ، ولكن الاستعاذة بالله وتذكر نعم الله الواسعة على الفرد ، كما ان تذكر العاقبة يعطي القدرة على مقاومة كل إغراء وكل تهديد.

وهذا ـ أفضل عبرة نستفيدها من هذا الدرس ـ.

١٨١

سورة يوسف

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)

____________________

٢٥ [قدّت] : القد شق الشيء طولا.

[من دبر] : من الخلف.

[ألفيا] : وجدا. [من قبل] : من المقدمة.

١٨٢

مراحل التحدي

هدى من الآيات :

انتهى بنا السياق عند رفض يوسف طلب امرأة العزيز ، ولكن لماذا رفض بعد أن هيأت له الظروف؟

لأنه رأى برهان ربه فتذكر نعم الله عليه ، وانه لا يفلح الظالمون ، ويد الله أنقذت يوسف من عواقب الزنا المادية والمعنوية لأنه كان قد أخلص لله نفسه ، فأخلصه الله لنفسه ، وأراد يوسف الهرب وأرادت زليخا امرأة العزيز منعه ، وتعلقت بقميص يوسف من الخلف فانشق القميص ، وإذا بزوجها على الباب فافتعلت تهمة ، وادعت ان يوسف أراد بها سوء ، وطالبته بأن يسجنه أو يعذبه ، وقال يوسف : انها هي التي طلبت مني الفاحشة فرفضت ، وجاءت الشهادة من داخل بيتها ومن أهلها أن شقّ القميص إن كان من الخلف فهي التي لحقت به وشقته ، وان كان من الامام فانه ـ أي يوسف ـ الذي حاول الاعتداء عليها ، فشقت قميصه دفاعا عن نفسها ، فلما نظر العزيز وجد القميص مشقوقا من الخلف وحكم عليها بالخيانة ،

١٨٣

وامر يوسف بأن يبتعد عن السوء ، وأمرها بأن تستغفر لذنبها لأنها هي الخاطئة.

وهكذا أنقذ الله يوسف مرة اخرى من السوء ، ولو كان يوسف فرضا قد استجاب لها ، ودخل زوجها عليهما فما ذا كان مصيرهما ، أو ليس القتل ..؟

بينات من الآيات :

ما هي العصمة؟

[٢٤] هل الأنبياء معصومون بذاتهم أم بإرادة الله وروح الارادة؟

لأن الأنبياء بشر يميلون بطبعهم نحو الرذيلة كأي بشر آخر ، يذوق جسدهم ألم الجوع والارهاق والضرب والعذاب ، كما تتحسس قلوبهم بالم الغربة وبضغط الشهوات المكبوتة ، ولكن لأنهم موقنون. ويعصمهم الله بروحه فإنهم يتجاوزون أنفسهم بسرعة ، وآيات القرآن التي تعكس هذه المفارقة في حياة الأنبياء كثيرة ، ولا يكاد نبي مذكور اسمه في الكتاب يخلو عن حالة صعبة اجتازها بتوفيق الله ، ولولاه ولو لا روح الايمان لتردى كأي بشر آخر ـ حاشا لله ـ ويوسف واحد من هؤلاء البشر الكرام ، المعصومين بروح الله ، فلأنه إنسان مكتمل الشخصية البشرية كان يهم بها ، ولأنه موقن ومعصوم فقد رأى برهان ربه.

ومن هنا نعلم ان همّ يوسف لم يتم عمليا بل كان همّا بالقوة ، فلو لا برهان ربه المانع من همّه بالمعصية لكان قد همّ بها ، والتعبير القرآني يبين بلطف عجيب هذه المفارقة في آية اخرى حيث يقول ربنا عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله : «وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً» (١).

__________________

(١) الإسراء / ٧٤.

١٨٤

وهنا يشير التعبير بدقة الى ذلك حيث يقول ربنا :

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ)

فبرهان ربه الذي رآه ببصيرته منعه من إرادة المعصية ، ولكنه من دون هذا البرهان كان يهم بها ويريدها وأساسا الهمّ : هو العزم على الفعل ، كما قال ربنا : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ). (١)

وربما يستخدم الهمّ في الأمر الذي يريده الإنسان ويجد امامه مانع منه ، كما قال الشاعر :

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

ومنه قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما). (٢)

ويبقى السؤال : ماذا رأى يوسف حتى تجاوز الفحشاء ، وبتعبير آخر : ما هو برهان ربه؟

أولا : البرهان هو السلطان ، ويراد به السبب المقيد لليقين لتسلطه على القلوب كالمعجزة قال تعالى : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ). (٣)

وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ). (٤)

__________________

(١) المائدة / ١١.

(٢) آل عمران / ١٢٢.

(٣) القصص / ٣٢.

(٤) النساء / ١٧٤.

١٨٥

وقال : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). (١)

وهو الحجة اليقينية التي تجلي الحق ولا تدع ريبا لمرتاب على حد تعبير تفسير الميزان.

ثانيا : ان يوسف عليه السّلام ، كان صديقا أيقن قلبه ان جماله من الله ، وهو الذي أعطاه القوة ومكنه في الأرض ، وأن من كفر بأنعم الله لا يفلح ، وبسبب إيمانه الصادق بهذه الحقائق أدركه في ساعة المحنة ايمانه ، وبلورت المعاناة شخصيته التي عجنت بروح الايمان والتقوى ، فظهر له برهان ربه وحجته البالغة في تلك اللحظة الشديدة من صراعه مع طبيعته ومع مجتمعة المتمثل في قوة ربة بيته ، فكان كمن قد رأى البرهان واضحا أمامه.

وهكذا المؤمنون الصادقون يتذكرون ربهم كلما مرّ بهم طائف من الشيطان ، وتعرضوا لتجربة صعبة فيتركون المعصية ، بينما يغط غيرهم في غفلة شاملة.

ان اللحظات الصعبة في حياة الفرد تستخرج دفائن نفسه ، وخبايا ذاته ، وسرائر عزيمته ، فالمؤمن يزداد ايمانا ، بينما غيره يفشل في التجربة.

ومن هنا كان على الفرد ان يعمل عملا صالحا ليزداد ايمانا فينتفع به في ساعات صراعه الحاسم مع الشهوات أو ضغوط المجتمع حيث لا ينفع المرء إلّا ذخائر إيمانه.

(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)

وقد جاء في الحديث : «ان برهان ربه كانت النبوة» كما جاء في حديث

__________________

(١) النمل / ٦٤.

١٨٦

آخر : «ان زليخا قامت وألقت ثوبا على صنم كان في البيت استعدادا لفعل الفحشاء ، فقال يوسف لها : ان كنت تستحين من الصنم ، فانا أحقّ أن أستحي من الواحد القهّار» (١)

المفاجأة :

[٢٥] وتسابقا نحو الباب ، وأخذت زليخا قميص يوسف تمنعه ، واشتد يوسف فشقّ قميصه من خلفه ، وعند الباب كانت المفاجأة حيث دخل العزيز وهو سيدها المفروض عليها طاعته كزوج ، فاختلقت تهمة ونسبتها اليه.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

أي هل جزاء المعتدي على شرف أهلك غير السجن والتعذيب.

[٢٦] وردّ يوسف التهمة بقوة.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).

فهي التي طلبت مني الفاحشة فلم استجب ، وكان هناك شخص ثالث من أهل المرأة عرف القصة وقضى بأنه لو كان شقّ القميص من خلف فهي المسؤولة لأنها التي أخذت قميصه من الخلف والا فهو المسؤول.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ)

__________________

(١) البرهان ج ٢ ص ٤٢١.

١٨٧

[٢٧] (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

أي انها هي الكاذبة وهو الصادق.

[٢٨] ونظر السيد فاذا القميص قد شق من خلف.

(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)

أي ان الذي حدث ابتدأ من النساء باعتبار انهن ذوات كيد عظيم.

والكيد هو طلب الشيء بما يكرهه ، كما طلبت المرأة يوسف بما يكرهه ويبدو أن في الآية إشارة الى أن ابتداء الفاحشة من المرأة ، إذ أنها فتنة للرجل ، وعليها ألا تظهر فتنتها عليه.

[٢٩] ثم وجه العزيز خطابه الى يوسف (ع) وأمره بالسكوت والاعراض عن القضية وعدم فضح امرأته بما فعلت ، واكتفى بدعوتها بالاستغفار لخطئها.

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)

ويبدو من هذه الآيات ان الفاحشة كانت شائعة في ذلك البلد ، وانها لم تكن قبيحة الى تلك الدرجة بسبب سلب الغيرة منهم ، وإلّا فكيف يسكت الزوج عما رآه من زوجته رأي العين من مراودة فتاها ، بل يأمر الفتى بالاعراض عن الأمر وعدم مطالبتها بعقابها.

١٨٨

سورة يوسف

وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ

____________________

٣١ [واعتدت] : اعتدّى مأخوذ من العتاد ، ومثله اعدّت.

٣٣ [أصب] : الصبا دقة القلب.

١٨٩

مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)

١٩٠

وكبرت دائرة التحدي

هدى من الآيات :

كنا مع يوسف وقد افتضح أمر ربة بيته عند زوجها ، وها نحن نجد قصة حبها ليوسف قد شاعت في المدينة ، وصارت النساء يعاتبن امرأة العزيز على عشقها ليوسف لضلالها ، وسمعت بالإشاعات ، وبادرت بدعوتهن الى مائدة ، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ، وأمرت يوسف بالخروج عليهن ، فأدهشهن يوسف بجماله وجلاله ، فاكبرنه وقطعن أيديهم بالسكاكين ، وابعدن يوسف عن الفاحشة ، وقلن بأنه ليس بشرا بل هو ملك كريم ، وتدخلت في الحديث وأجابت عن عتابهن بقولها : ان ذلكن هو ما لمتننّي فيه ، وانني فعلا قد راودته عن نفسه لجماله الخارق ولكنه استعصم وامتنع بالله عن الفاحشة ، وليسجن لو لم يفعل وليهان ، وعاد يوسف يرد التهديد بان السجن أحب اليه من الفاحشة ، واعتصم بالله من كيدهن ، واعترف بضعفه البشري امام فتنتهن ، وانه لا يقاومها من دون عصمة الله ودفع الله عنه كيدهن وهو السميع لدعاء عباده العليم بما يضمرون.

١٩١

وهكذا اعتصم يوسف عن فتنة نساء أهل مصر في تلك الحقبة التي يبدو انهن قد تعرضن فيها للفساد الخلقي.

بينات من الآيات :

في مهب الفساد :

[٣٠] يبدو ان المجتمع المصري كان قد تعرض آنئذ لموجة فساد عريضة وجاءت قضية يوسف تفضح الحالة المتردية التي بلغها المجتمع ، وكانت كالقشة التي قصمت ظهر بعير الفساد المثقل بالذنوب.

لقد كان حديث المجالس عندهم الفساد الخلقي. إذ انتشر نبأ مراودة امرأة العزيز ليوسف فتاها ، والعامل في بيتها كالنار في الهشيم.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ)

أي تطلب ممن يعمل عندها الفاحشة ليفجر بها.

(قَدْ شَغَفَها حُبًّا)

اي دخل حب يوسف شغاف قلبها ، واستولى على فؤادها ، وإذا كان المجتمع سليما من الناحية الخلقية إذا لم يرض بإشاعة الفاحشة ، ونشر أنباء الفساد.

(إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

يبدو ان النسوة كن يرين ضلالة امرأة العزيز لا لأنها تفعل الفاحشة ، بل بسبب هبوطها الى مستوى فعل الفاحشة مع فتاها وهو من عنصر آخر غير عنصرهم.

[٣١] وعرفت امرأة ملك مصر ان النسوة يتآمرن ضدها ، ويتخذن من قصة

١٩٢

عشقها وسيلة للحطّ من شأنها ، فأرادت أن تورطهن في حب يوسف لتنقذ نفسها من المشكلة ، فأرسلت إليهن وهيأت لهن مائدة ، واعطت لكل واحدة منهن سكينا ، وأمرت يوسف بأن يدخل عليهن.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً)

المكر لغة : هو الفتل بالحيلة الى ما يراد ، وانما سميت الاشاعة التي بثتها النسوة حولها مكرا لأنهن أردن شيئا آخرا من الاشاعة. ربما إسقاط هيبتها أو محاولة الوصول الى يوسف ، ومعرفة سبب ولهها به.

أما المتكأ : فهو الوسادة وهي كناية عن المائدة أو لا أقل المجلس الطويل الذي يستراح اليه ، وتدل الآية على وجود شيء يؤكل ويهيء قبل الأكل بالسكين.

(وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ)

وهكذا خرج يوسف على النسوة في وقت انشغالهن عنه بالطعام.

(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ)

أي عظّمن يوسف أيما تعظيم ، بجلاله وجماله.

(وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ)

فأخذن يجرحن أيديهن بسبب الانشغال بجمال يوسف.

(وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً)

أي ان يوسف منزه عما ينسب اليه ، ونزاهته انما هي لله بل انه ليس ببشر.

١٩٣

(إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)

إذا فالتعيير الذي تعرضت له امرأة العزيز بسبب مراودتها لفتاها حتى قالت عنها النسوة انها في ضلال مبين. لم يكن في موقعه أبدا. إذ انه أرفع من مستوى البشر ، فكيف يحسب فتى عاملا في بيت العزيز ـ كما كانوا يزعمون ـ.

[٣٢] واستفادت امرأة العزيز من الوضع وأجابت عن تعييرهن لها.

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)

ان هذا هو سبب تعييركن لي ، فهل يعيّر من يعشق مثل هذا الفتى.

(وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ)

أي انه طلب العصمة من الله حتى لا يفعل ما يؤمر به.

(وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)

وهنا أرادت زليخا ان تأخذ الشرعية من النسوة لفعلها ، ويبدو ان النسوة قد أعطينها تلك الشرعية مما دلّ على مدى الفساد المنتشر في ذلك المجتمع الجاهلي ، حيث انه يسمح لامرأة تحب الفجور أن تسجن فتى بريئا لمجرد طهارته واستعصامه بالله عن الفحشاء.

السجن أحب الى :

[٣٣] ويبدو أن النسوة اختلين بيوسف الواحدة تلو الاخرى بحجة السعي وراء اقناعه بقبول كلام سيدته ، ولكنهن عرضن ليوسف الفجور بهن ، والشاهد هو قول يوسف الذي ضاق بهن ذرعا ، وتوسل بالله أن ينقذه من أيديهن ولو كان بالسجن.

١٩٤

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)

وبدل ان كانت المشكلة واحدة فقط أصبحت الآن متعددة ، حيث ان الفساد الذي كان شائعا في تلك البيئة قد أحاط بشخص يوسف (ع) ، ولكن كانت تلك حكمة بالغة لله حيث ان تحدي يوسف (ع) وهو فتى اشتري للخدمة ، وطالبته سيدات مصر للفاحشة بما فيهن من جمال وشهرة ، ان تحديه للفساد ، وللضغوط المختلفة هز المجتمع الجاهلي من الاعماق وأثار فيهم التساؤلات إذا فوق قيمة المادة. قيمة اسمى هي قيمة الايمان. إذا فنحن على خطأ. إذ كيف يرفض هذا الفتى هذا العرض المغري ، أم كيف يتحدى هذه الضغوط الهائلة ، فيعرض نفسه للسجن والإهانة؟

لقد كانت الإغراءات كبيرة إلى درجة نرى يوسف (ع) ذلك الفتى الصديق يستعين بالله منها ويقول :

(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ)

اي : ان لم تدركه رحمة الله وعصمته يكاد يميل إليهن ويصبح جاهلا بذلك ، أو يفعل الفحشاء.

[٣٤] وأنقذه الله تعالى في الوقت المناسب وأعطاه القوة الكافية لمقاومة جاذبية المادة الثقيلة ومن ثم التحليق في سماء القيم.

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

وهكذا يصرف الله تعالى عن المؤمنين الصادقين كيد شياطين الأنس والجن ، ويعطي الفرد عصمة عن الذنوب بعد ان يطلب الفرد ذلك من ربه.

١٩٥

سورة يوسف

ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ

١٩٦

إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١)

١٩٧

رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ

هدى من الآيات :

بعد ان تحدى يوسف (ع) ضلالة المجتمع وفساده العريض لم يسعهم الا سجنه ، ولكن يوسف اتخذ من السجن منطلقا للدعوة ، فحين دخل معه فتيان وجدا عنده مظاهر المحسنين ، فسألاه عن حلمين ترآى لأحدهما : انه يعصر العنب ليصنع منه الخمر لمولاه ، بينما ترآى للآخر : انه وضع على رأسه خبزا تأكل الطير منه ووعدهما يوسف (ع) بتأويل ما رأياه قبل ان يأتيهما طعام ، ولكنه قبلئذ ذكرهم : بأن معرفته بالتأويل هي مما علمه ربه ، وذلك بسبب رفضه لدين المشركين ، ومقاومته لكفرهم بالله واليوم الاخر ، واتباعه لآبائه المؤمنين إبراهيم وإسحاق ويعقوب (ع) ، وهكذا أوضح لهم انه من سلالة النبيين ، وانه أمر الا يشرك بالله شيئا ، والتوحيد فضل من الله عليهم وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ربهم باتباع الرسالة.

ثم ذكرهما بأن التوحيد دين الوحدة ، وان الأرباب المتفرقين ليسوا سوى أسماء ليس وراءها حجة حقيقية ، انما السيادة والحق لله. وانه امر أن تستوي هذه السيادة

١٩٨

على عرش الحياة الاجتماعية ، وان هذا هو الدين القيم الذي لا عوج فيه ، بينما أكثر الناس لا يعلمون.

وهكذا اعطى يوسف (ع) درسا في الرسالة لصاحبيه في السجن قبل ان يفسر لهما الرؤيا.

بينات من الآيات :

قرار السجن :

[٣٥] بعد ان عرفوا ان يوسف (ع) لن يرضخ لفسادهم ، وانه يتحدى ضغوطهم بقوة ايمانه ، وانه يفضح واقعهم الذي تردوا اليه دون ان يشعروا. بعدئذ قرروا سجنه لفترة معينة. ايغالا في الظلم والفساد.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)

برنامج السجن :

[٣٦] وأنقذ الله يوسف (ع) من عذاب الأغراء ليمتحنه هذه المرة بالسجن الذي يقال ان يوسف كتب على بابه يوم خرج منه : (هذا مقبرة الأحياء. اللهم لا تمنعه أخيار الأرض) فلننظر كيف واجه الصديق هذه المحنة؟ لقد دخل معه السجن شخصان آخران يبدوا ان كلا منهما كان أيضا مثله من الفتيان العاملين في بيوت الأشراف من الذين عصوا أوامرهم الجائرة ، فزج بهم في السجن ، ودار بينهما وبين يوسف حوار رسالي.

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً)

اي ارى نفسي وكأني أعصر عنبا ليصبح خمرا.

١٩٩

والسؤال المطروح هو ان الرؤية هذه هل كانت في المنام أم كانت من أحلام اليقظة التي هي الاخرى دليل على إرهاصات الحقيقة التي يشعر بها الفرد أحيانا ، ويسمى عادة بالتفاؤل أو التشاؤم ، أو الحس السادس .. أو ما أشبه.

في بعض الأحاديث ان صاحب الخمر كان صادقا وهو الذي نجى ، بينما كان صاحب الخبز كاذبا في رؤياه ، وسواء صدقا أم لا فان ما رأياه كان صورة عن الحقيقة التي سوف تقع. راها أحدهما في المنام وتخيلها الثاني في اليقظة ، والقرآن سكت عن كيفية الرؤيا واكتفى بقوله : «إِنِّي أَرانِي» الذي ينطبق على حالة الحلم كما في حالة اليقظة.

(وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

لقد استغل يوسف (ع) وجوده في السجن عمليا وقوليا ، فهو يبلغ لرسالته بالقول ، ولكنه لم يكتف بذلك بل جسد رسالة السماء في سلوكه عمليا شأن كل الدعاة الصادقين لقد كان يبكي على امتداد الوقت ، ويجتهد في الضراعة ، ويتبتل الى ربه بصلواته الخاشعة وفي فترات فراغه كان إذا ضاق على رجل مكانه وسع له ، وان احتاج جمع له ، وان مرض قام عليه لذلك انجذب اليه المعتقلون ، واعتقدوا بأنّه صاحب فضل عليهم وقالوا له :

«إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».

[٣٧] قال يوسف (ع) قبل ان يأتيكما الطعام الذي هو مخصص لكم اما من البيت أو من إدارة السجن سوف انبئكما بتأويل رؤيا كما.

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما)

٢٠٠