من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

وما أمر فرعون برشيد

هدى من الآيات :

لقد أرسل الله موسى بآياته البينات وبسلطان مبين. الآيات كانت تلك القيم التي دعا إليها موسى ، وتلك الحقائق التي ذكر بها ، وتلك الفطرة المنسية التي استثارها في قلوبهم. وتلك المعرفة التي جهلوها ، فأعادها الى ذاكرتهم ..

وجاء موسى فرعون وملأه بسلطان مبين ، الا أن الملأ لم يتبعوا ذلك السلطان ، بل اتبعوا امر فرعون غير الكامل ، وغير البالغ مستوى الرشد ، لأنه يقود قومه الى بئس المقام وهو النار كما ان اللعنة تلاحقهم ، في الدنيا والآخرة ، بئس العطاء ، وبئست الضيافة والقرى.

هل ظلمهم الله؟ كلا .. انما ظلموا أنفسهم حيث اتبعوا فرعون وسائر الآلهة من دون الله سبحانه ، فلم تنصرهم الآلهة حين نزل عليهم عذاب الله ، وكان أخذ الله شديدا وأليما.

١٢١

فمن خاف عذاب الآخرة اعتبر بأبناء القرى ، ومن لم يخف يوم القيامة حيث يجمع الناس وتشهده الملائكة فما عسى تنفعه الآيات والعبر؟

بينات من الآيات :

[٩٦] الأنبياء «عليهم أفضل الصلاة والسلام» يأتون الى الناس لكي يستأدوهم ميثاق فطرتهم ، ويثيروا في أنفسهم دفائن العقول. ولا يحتاج الأنبياء الى أن يأتوا الى الناس بسلطان مبين ، اي معجز خارق ، ولكنه مع ذلك ترى ان رحمة ربنا سبحانه وتعالى ، تأبى إلّا ان تتم الحجة على العباد بصورة قاطعة. ولا يعذبهم الا بعد ان تتم الحجة عليهم كاملة. ولذلك يقول ربنا :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ)

ذلك السلطان كان الثعبان الذي ابتلع حبال أولئك السحرة ، مما دعا السحرة أصحاب الحبال ، الى ان يسجدوا الى رب العالمين ، ويؤمنوا باله موسى وهارون كما كان السلطان أيضا ، اليد البيضاء التي كانت لموسى «عليه الصلاة والسلام» معجزة خارقة.

ولكن فرعون الذي أرسل اليه موسى والى ملأه الذين أحاطوا به ، رفض الرسالة.

[٩٧] (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ)

اتبع أولئك القوم أمر فرعون الذي كان يعبد من دون الله ولم يكن امر فرعون قائما على أساس العقل ولا على أساس التجربة ، انما كان قائما على أساس الهوى والشهوات. وكم يكون الإنسان ظالما لنفسه حين يتبع من لا يتبع إلّا شهواته. فإذ كانت الشهوات هي مقياس الطاعة ، فاولى بك ان تتبع شهواتك من ان تتبع أهواء الآخرين.

١٢٢

المقياس في الطاعة للغير هو ان يكون ذلك الغير أكمل عقلا ، وأفضل تجربة. اما إذا كانت أوامره طائشة ، قائمة على أساس الانعكاسات المرحلية الآنية ، ولم تكن قائمة على خطة عقلانية ايمانية سليمة ، فكيف يمكننك ان تطيعه.

يقول ربنا :

(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)

[٩٨] لماذا؟ ..

لأن فرعون لم يكن يرى الحياة إلا محدودة باطار الدنيا ، لم يكن يعلم شيئا عن الحياة الآخرة ، لذلك فان كل أفكاره ، وكل قرارته كانت خاطئة. لان فهمه الاساسي للحياة كان فهما خاطئا.

لذلك تراه يقود قومه الضالين الى النار ، وبئس ما يقودهم اليه.

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)

[٩٩] أوردهم في نار لا رحمة فيها ولا نعمة فيها ولا راحة فيها ولا نهاية لها. نار حرها شديد وقعرها بعيد ونورها ظلام والواردون فيها حطبها ووقودها.

بالاضافة الى العذاب المادي المباشر الذي كان فرعون سببا له ، عرض قومه الى عذاب أخر هو عذاب السمعة المفقودة ، واللعنة التي ظلت تلاحقهم الى الأبد ، وها هو القرآن نقرأه بعد ألوف السنين من هلاك فرعون وقومه ، وهو يلعنهم.

أفليس في ذلك عبرة ..

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً)

١٢٣

في الحياة الدنيا.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ)

أيضا ، اللعنة تلاحقهم ، بالاضافة الى العذاب.

(بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)

تلك كانت الآثار المادية «الورد المورود».

هذه هي الآثار المعنوية «الرفد المرفود».

اذن ينبغي ان لا يطيع أحد امر من لا يرشد بل يغويه ويضله.

[١٠٠] (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ)

هذه القرى التي لا تزال قائمة ، سوف لا تبقى إن كانت ظالمة لنفسها. أما تلك القرى التي حصدت وانتهت ، حصدت كما يحصد الحقل فلا يبقى منها شيء ، تلك القرى ذهبت لتورثنا عبرتها.

عبرة القرى :

[١٠١] عبرة القرى التي حصدت هي ما يقول تعالى في الآية التالية :

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)

عبرة تلك القرى ان ربنا سبحانه وتعالى ، وفرّ الحياة الكريمة السعيدة لهم. وفر فرصة الهداية ، وفي المنعطفات الخطيرة التي كانت تهددهم ، أرسل ربنا إليهم المصلحين ، وبذل هؤلاء المصلحون كل ما بوسعهم ، فبشروا وانذروا وحذروا وذكروا

١٢٤

بالآيات وأثاروا فيهم دفائن العقول .. وكل شيء كان بامكانهم فعلوه الا إجبارهم على الهداية ، فلم يستجب أولئك لفرصة الهداية ، فعاندوا وتحدوا واستكبروا وظلموا أنفسهم.

وأساس ظلمهم وانحرافهم هو انهم اتبعوا الآلهة التي تعبد من دون الله ، وهذه الآلهة لم تغن عنهم في لحظة الحسم وساعة العذاب الشديد شيئا ..

(فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ)

أمر الله لم يكن مدفوعا ولا مرفوعا عنهم بسبب الآلهة.

(وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)

أنما زادت الآلهة الطيب بلة والعذاب شدة .. هلاكا وتبابا.

[١٠٢] (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)

وكانت عبرة القصة كلها تتلخص في أمرين :

الاول : ان أخذ الله شديد. في قوته ، اليم ي مدى تأثيره ، ولا يجوز لنا ان نستهين بأوامر الله ، ونستخف بعقابه.

[١٠٣] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)

الثاني : ان عذاب الدنيا على شدته وعظيم ألمه ، دليل المؤمنين الى عذاب

١٢٥

الآخرة ، الأشد والآلم.

وإن المؤمن يهتدي بما في الدنيا من ألم الى يوم الجزاء الأكبر حيث يجمع الناس ، كلهم ، ويشهده الناس والملائكة وعلينا ان نعيش بوعينا ذلك اليوم الرهيب لنتقيه أشد التقوى.

١٢٦

سورة هود

وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ

____________________

١٠٦ [زفير وشهيق] : الزفير إخراج النفس من الصدر ، والزفير ترديد النفس مع الصوت من الحزن ، وأصل الزفير الشدة ، وزفرت النار إذا سمع لها صوت من شدة توقدها ، والشهيق ردّ النفس الى الصدر ، والشهيق صوت فظيع يخرج من الجوف بمد النفس ، وأصله الطول المفرط.

وقيل الزفير أول نهاق الحمار والشهيق آخر نهاقه وهما من أصوات المكروبين المحزونين ، والزفير من شديد الأنين وقبحه بمنزلة إبقاء صوت الحمار ، والشهيق الأنين الشديد المرتفع جدا بمنزلة صوت الحمار.

١٠٧ [ما دامت] : الدوام البقاء.

١٠٨ [مجذوذ] : الجذ القطع.

١٢٧

ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)

____________________

١٠٩ [مرية] : الشك مع ظهور الدلالة للتهمة.

١٢٨

عاقبة البشر

بين شقاء النار وسعادة الجنة

هدى من الآيات :

انتهى الدرس السابق بالتحذير من يوم القيامة المشهود ، وتأكيدا لذلك يبين هذا الدرس بأن تأخير يوم القيامة ليس بلا حدود ، بل هنالك أجل ممدود ينتهي اليه التأخير ، فنحن نقترب اليه على قطار الزمن ، وحينئذ يظهر سلطان الله حيث لا تستطيع اي نفس ان تتحدث الا بأذن الله ، وينقسم الناس الى سعداء وأشقياء ، أما الأشقياء فهم بين الموت والحياة في النار لهم شهيق وزفير ، بسبب سوء حالهم ، ويبقون في النار ما دامت السماوات والأرض ، إلا أن يشاء الله ، أما السعداء فهم في الجنة خالدون ما بقيت السماوات والأرض الا ان يشاء الله ، وتلك الجنة عطاء لا ينقطع من قبل الله.

بينات من الآيات :

فمنهم شقي وسعيد :

[١٠٤] لماذا يؤخر الله العذاب؟ لأنه سبحانه قد حدد سلفا أجلا معدودا ،

١٢٩

واعطى بحكمته ورحمته فرصة الابتلاء للناس ضمن هذا الأجل ، فمن آمن وأصلح عمله. نفعه عمله ولم يخش اجله ومن قصر. خسر فرصته التي لا تعود ، ومتى ما استخرج المرء كل ما عنده من قابليات الخير أو الشر. بسبب تطور الزمان ، فانه ينتهي أجل امتحانه ، ولا بد ان يستعد لمغادرة قاعة الامتحان وهي الدنيا الى حيث جزائه في الآخرة.

(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ)

اي لسبب وجود أجل معدود أخرجه الله للبشر في الدنيا.

[١٠٥] وإذا جاء ذلك اليوم الرهيب يعم الصمت المهيب ويقف الناس امام ربهم ساكتين ، لا يتكلم أحد الا بأذن الله مما يدل على احاطة سلطان الله عليهم.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ)

وينقسم الناس على أنفسهم فريقين شقي استنفذ فرص حسناته في الدنيا فلم يبق له حسنة هناك فتمحض في السيئات بأعماله السيئة فأصبح من أهل النار ، وسعيد من أخلص لله عمله حتى تمحض في الخير فأصبح من أهل الجنة.

(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)

[١٠٦] أما جزاء الأشقياء فهم في نار لا يموتون فيها ولا يحيون ، بل يكابدون ألوان العذاب ، ولذلك تراهم يجرون الآهات الخفية حينا بسبب ضعفهم ، والعالية حينا بسبب شدة الألم ، فهم بين زفير وهو أول صوت الحمار ، وشهيق وهو آخر.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)

[١٠٧] ويبقى هؤلاء خالدين في النار ما دامت السماوات والأرض التي تحيط

١٣٠

بالنار من فوق ومن تحت.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ)

والسؤال الذي وجهه المفسرون الى أنفسهم هو : لماذا استثنى القرآن بمشيئة الله؟ وتعددت إجاباتهم حولها ، واعتقد ان الجواب الأقرب هو : ان الله يفي بوعده الصادق ولكنه لا يحتم عليه شيء. لا سيما وان عذابه وثوابه للأشقياء ، أما السعداء ، فليسوا بقدر الجريمة بل بالصلاح فحسب ، وأيضا بسبب ارتباط ذلك كله بمقام الربوبية ، فالصلاة لأنها كانت لله فهي ذات ثواب عظيم ، وكذلك ترك الصلاة أصبح عملا قبيحا ذا عقاب شديد بسبب ارتباطه بمقام الله العزيز المتعال. لذلك فهو الذي يحدد مداه وقدره ، ومتى نهايته ، وربما يشير الى ذلك قوله سبحانه :

(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)

[١٠٨] اما السعداء فهم في الجنة ما دامت الجنة موجودة بأرضها وسمائها. ولكن مشيئة الله فوق كل ذلك ، فلربما شاءت إرادته التي لا تحد ان يعطي للجنة استمرارا أكثر ليعطي للمؤمنين فرصة أكبر للبقاء.

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ)

ويشير الى هذا المعنى الذي ذكرناه للمشيئة قوله سبحانه.

(عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)

اي ان عطاء ربك غير مقطوع.

ولعل ذلك اشارة الى الخلود في الجنة ولكنه لا بمعنى تبدل ذاتي يحصل في

١٣١

الكون ، فتتحول طبيعته من طبيعة فانية إلى طبيعة خالدة. كلا. بل بمعنى أن الله شاء ان تبقى الجنة خالدة (والله العالم).

[١٠٩] بسبب إصرار الكفار على باطلهم ، وعنادهم في ضلالتهم قد يعتري المؤمن شك في سلامة خطهم ، أو وجود نسبة من الحق الى جانبهم. بيد ان ربنا ينهانا عن هذا الشك ، ويأمرنا بعدم الريب في بطلان عبادتهم.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ)

فعبادتهم باطلة لا ريب في ذلك.

وإنهم يقلدون آباءهم الذين كانوا على ضلالة ، وكما ان الله اعطى جزاء آبائهم بانزال العذاب عليهم ، فانه سوف يعذبهم أيضا.

(ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ)

١٣٢

سورة هود

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)

١٣٣

فاستقم كما أمرت

هدى من الآيات :

انتهى الدرس السابق موضحا ان المقياس هو الشقاء أو الفلاح في يوم البعث ، أما هذا الدرس فقد جاء ليكرس الأيمان بالأخرة في واقع الدنيا ، فنهى الرسول من الشك في ضلالة هؤلاء فيما يعبدونه من آلهة ، وانهم ليسوا أفضل ممن سبق من المشركين ، وان الله سيوفيهم جزاءهم العادل دون نقصان.

ومثل هؤلاء انما هو كمثل الذين اختلفوا في كتاب موسى فأعطاهم الله فرصة الامتحان بكلمة سبقت منه سبحانه ، ولولاها لقضي بينهم بتأييد الصادقين منهم ضد أعدائهم. وذلك بسبب شكهم المريب في صدق الكتاب الذي اختلفوا فيه.

ان هذه الفرصة ليست دائمة بل محدودة بيوم انتهاء فرصتهم ومهلتهم ، حيث يعد عليهم الله أعمالهم وهو خبير بها.

وعليك ايها الرسول ان تستقيم كما أمرت ، وعليكم ايها المؤمنون ان تستقيموا

١٣٤

كما أمرتم ، ولا تطغوا فالله بما تعملون بصير.

بينات من الآيات :

فاختلفوا فيه :

[١١٠] لقد انزل الله الكتاب ليختلفوا اليه ، ويجعلوه قاضيا بينهم ، فاختلفوا فيه ، وحملوه أهواءهم ، والسبب انهم لا يؤمنون حقا بالكتاب بل بأهوائهم ، ولو لا ان الله جعل الدنيا دار ابتلاء وفتنة. إذا لأيد الفريق المؤمن بالكتاب وخذل المفسرين له بأهوائهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)

حيث قضى بتأخير الجزاء يوم البعث ، أو ليوم انتهاء مهلة الفاسقين ونصرة المؤمنين عليهم.

(لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)

اي بأسلوب أخر غير تنزيل الكتاب الذي لم ينفعهم ، ولم يوحدهم على الهدى بسبب طغيانهم واتباع أهوائهم ، والاختلاف في الكتاب دليل الشك فيه.

(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)

[١١١] والله لا ينظر الى التبريرات التي يقدمها البشر لأعماله الضالة ، والتخريجات الدينية التي يتعب نفسه في تركيبها على اهوائه ، وبالتالي لا يعبأ بالتفسير الباطل للكتاب الذي يخدع نفسه وذوقه به ، انما ينظر ربنا سبحانه الى حقيقة اعماله. فيوفيه إياها وهو محيط علما بها وبخلفيتها.

(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

١٣٥

ان التاكيدات المتتالية في هذه الآية لدليل على ان البشر يخدع نفسه بالكتاب كما يخدعها بغيره ، وان الله سبحانه يذكره بأن خداعه سراب ، وان عمله هو الباقي وحده.

فاستقم كما أمرت :

[١١٢] ولماذا يختلف الإنسان في الحياة أساسا؟

لأنه لا يرضى بحدوده وحقوقه ، بل يطغى ويحاول ان يتجاوز حدوده ، ويعتدي على حرمات الآخرين ، وحين يطغى الفرد يجرف بطغيانه القيم الالهية التي وضعت في طريقه ، ويحاول ان يفسرها حسب اهوائه لكي يجعل قيم السماء جزءا من معاملاته الفاسدة.

من هنا كان من الصعب جدا على الناس مقاومة ضغط الأهواء باتجاه تفسير الكتاب حسب اهوائه ، والاستقامة في خط الكتاب ، وتكييف أنفسهم حسب مقاييسه ، وجاءت كلمة القرآن حاسمة لتؤكد هذه الحقيقة.

(فاستقم كما أمرت)

وبعصمة الله ، وبحسن التوكل عليه استقام الرسول ، اما المؤمنون فان معضلات الفتن ضغطت عليهم ، وحرفت مسيرتهم ، ولكنهم سرعان ما تابوا الى الله فاستقاموا.

(ومن تاب معك)

اما سبب الانحراف وتفسير الكتاب حسب الأهواء ، وبالتالي الاختلاف فيه فهو الطغيان.

(وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

١٣٦

ان علينا ان نتبع هدى الله دون زيادة أو نقصان ... فانه طغيان.

وجاء في الحديث عن ابن عباس : ما نزل على رسول الله آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : أسرع إليك الشيب يا رسول الله :

«شيبتني هود والواقعة»

١٣٧

سورة هود

وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ

____________________

١١٣ [ولا تركنوا] الركون الى الشيء هو السكون اليه بالمحبة له ، والإنصات اليه ، ونقيضه النفوذ عنه.

١١٤ [طرفي النهار] : صباحا وعصرا ، فان صلاة الصبح في الطرف الأول من النهار وصلاة الظهرين في الطرف الآخر منه.

[وزلفا] : جمع زلفة وهي المنزلة ، والزلف أول ساعات الليل.

١١٦ [أولوا بقيّة] : البقية ما بقي من الشيء بعد ذهابه ، وهو الاسم من الإبقاء ، ويقال فلان بقيّة أي فضل مما يمدح به وخير ، كأنه قيل بقية خير من الخير الماضي.

١٣٨

وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)

____________________

[أترفوا] : أي تعوّدوا الترف بالنعيم واللذة وذلك ان الترف عادة النعمة ، وانما قيل للمتنعم مترف لأنه مطلق له لا يمنع من تنعمه.

١٣٩

لكي نضمن الاستقامة

هدى من الآيات :

تلك كانت قصص الظالمين من عاد وثمود وأصحاب الأيكة و.. و، وتلك كانت نهايتهم الأليمة بينها القرآن في الدروس السابقة ، وفي هذا الدرس بالذات يبيّن لنا الموقف السليم ، كما يبين العبرة من الدروس السابقة ومن نظائرهم والذي يتلخص في :

أولا : حرمة مودتهم وطاعتهم ، وبالتالي منع الركون إليهم لكي لا يحرق الراكن إليهم بنارهم ، فلا ينصره الله ، ولا يكون منتصرا من قبل غير الله.

ثانيا : الاستعانة بالصلاة والصبر وانتظار الفرج الموعود من الله.

ثالثا : تشكيل جبهة من الصالحين الذين لم يفسدوا بالنظام المنحرف ، والاعتماد عليها في مقاومة الفساد.

ويبين القرآن : ان ما يقود الظالمين في حياتهم هي النعم الوافرة الى أترفوا فيها ،

١٤٠