مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

فراسة ، يخبرون عن الغائب بقوة ذكائهم ، كأن قد شاهدوه ، يصف لهم الحدس الصائب حال الورد قبل أن يردوه ، ويثبتون أبعد شيء بحدة ألمعيتهم ، كأن ليس ببعيد ، وينظم لهم المجهول صدق فراستهم في سلك المعروف منذ زمان مديد.

بين الفرزدق وجرير :

كما يحكي : أن سليمان بن عبد الملك أتي بأسارى من الروم ، وكان الفرزدق حاضرا فأمره سليمان بضرب واحد واحد منهم ، فاستعفى ، فما أعفي ، وقد أشير إلى سيف غير صالح للضرب ليستعمله ، فقال الفرزدق : بل أضرب بسيف أبي رغوان مجاشع ، يعني سيفه ، وكأنه قال : لا يستعمل ذلك السيف إلا ظالم أو ابن ظالم. ثم ضرب بسيفه الرومي ، واتفق أن نبا السيف ، فضحك سليمان ومن حوله ، فقال الفرزدق (١) :

أيعجب الناس أن أضحكت سيّدهم ...

خليفة الله يستسقى به المطر

لم تنب سيفي من رعب ولا دهش ...

عن الأسير ولكن أخّر القدر

ولن يقدّم نفسا قبل ميتتها ...

جمع اليدين ، ولا الصّمصامة الذّكر

ثم أغمد سيفه ، وهو يقول (٢) :

ما إن يعاب سيد إذا صبا

ولا يعاب صارم إذا نبا

ولا يعاب شاعر إذا كبا

ثم جلس يقول : كأني بابن المراغة قد هجاني ، فقال (٣) :

__________________

(١) الأبيات من البسيط.

(٢) الثلاثة الأشطر من الرجز ، ونبا : حد السيف إذا لم يقطع. ونبا فلان عن فلان : لم ينقد له.

(٣) البيت من الطويل : مجاشع : رجل جشع يجمع جزعا وحرصا وخبث نفس. والجشع : المتخلق بالباطل وما ليس فيه.

٧٠١

بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ...

ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم

وقام وانصرف و [خص](١) جرير فخبر الخبر ولم ينشد الشعر ، فأنشأ يقول :

بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ...

ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم

فأعجب سليمان ما شاهد ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، كأني [بابن القبر](٢) قد أجابني فقال :

ولا [نقتل](٣) الأسرى ولكن نفكّهم ...

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

ثم أخبر الفرزدق بالهجو دون ما عداه ، فقال مجيبا :

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ...

وتقطع أحيانا مناط التمائم

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ...

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

وهل ضربة الروميّ جاعلة لكم ...

أبا عن كليب أو أخا مثل دارم

__________________

(١) في (غ) : حضر.

(٢) في (غ) : بأبي القين.

(٣) في (د) : نعتل.

٧٠٢

بين ذي الرمة وجرير :

وما يحكى أن ذا الرمة استرفد جريرا في قصيدته التي مستهلها (١) :

نبت عيناك عن طلل بحزوى ...

عفته الريح وامتنح القطارا

فأرفده عدة أبيات لها.

وهي هذه (٢) :

يعدّ النّاسبون إلى تميم ...

بيوت المجد أربعة كبارا

يعدّون الرباب وآل بكر ...

وعمرا ثمّ حنظلة الخيارا

ويذهب بينها المرئيّ لغوا ...

كما ألغيت في الدية الحوارا

فضمنها القصيدة ، وهي اثنتان وخمسون قافية ، ثم مر به الفرزدق فاستنشده إياها ، فأخذ ينشدها والفرزدق يستمع ، لا يزيد على الاستماع ، حتى بلغ هذه الأبيات الثلاثة ، استعادها منه الفرزدق مرتين ، ثم قال له : والله علكهنّ من هو أشد لحيّين منك.

نوادر متفرقة :

وما يحكى أن عمر بن لجأ أنشد جريرا شعرا ، فقال : ما هذا شعرك ، هذا : شعر حنظلي.

ولا تسل عن فطانتهم المنتبهة على الزمزمة اللطيفة ، وحدة نظرهم الدراكة للمحة

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لذى الرمة في ديوانه ص ١٣٧١ ، ولسان العرب (١٤ / ١٧٦) (حزا) ، ومقاييس اللغة (٥ / ٢٧٨) ، وأساس البلاغة (منح) ، وتاج العروس (حزا).

حزوى : جبل من جبال الدّهناء لسان اللسان (حزا).

(٢) الأبيات من الوافر وهي لذى الرمة في ديوانه ص ١٣٧٩ ، وشرح المفصل (٦ / ٨) ولسان العرب (١٥ / ٢٥٠) (لفا).

٧٠٣

الضعيفة ، كما يترجم عن ذلك الروايات [المشهورة عنهم](١).

يروى أن فزاريا ونميريا تسايرا ، فقال الفزاري للنميري : غض لجام فرسك ، فقال : إنها مكتوبة. وإنما أراد الفزاري ما قيل في بني نمير (٢) :

فغضّ الطّرف إنّك من نمير ...

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وإنما عنى النميري ما قيل في بني فزارة (٣) :

لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ...

على قلوصك ، واكتبها بأسيار

وأن واحدا من بني نمير ، وهو شريك النميري ، لقي رجلا من تميم ، فقال له التميمي : يعجبني من الجوارح البازي. قال شريك : وخاصة ما يصيد القطا.

أراد التميمي بقوله : البازي (٤) :

أنا البازي المطلّ على نمير ...

أتيح من السماء له انصبابا

وعني شريك بذكر القطا : قول الطرماح (٥) :

__________________

(١) في (د ، غ) : عنهم المشهورة.

(٢) البيت من الوافر. وهو لجرير في ديوانه ص ٨٢١ ، وخزانة الأدب (١ / ٧٢ ، ٧٤) ، (٩ / ٥٤٢) والدرر (٦ / ٣٢٢) ، ولسان العرب (٣ / ١٤٢) (حدد) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٦ / ٥٣١) (٩ / ٣٠٦).

(٣) البيت من البسيط ، وهو لسالم بن دارة في لسان العرب (٥ / ١٦٣) (مدر) ، (٩ / ٣٧) (جوف) ، وتهذيب اللغة (١١ / ٢١١) ، وتاج العروس (١٤ / ٩٨) (مدر) ، (٢٣ / ١١٢) (جوف) ، وبلا نسبة في لسان العرب (١ / ٧٠١) (كتب) ، ومقاييس اللغة (٥ / ١٥٨) ، وتاج العروس (٤ / ١٠٣) (كتب) وأساس البلاغة (كتب).

(٤) البيت من الوافر وهو لجرير في ديوانه ص ٨١٩ ، ولسان العرب (١١ / ٤٠٧) (طلل) ، وتاج العروس (طلل) ، التبيان (٢ / ٤٦٨).

البازيّ : واحد البزاة التي تصيد ، ضرب من الصقور.

(٥) البيت من الطويل. وهو للطرماح بن حكيم في معاهد التنصيص (٤ / ٢١٩) ، والتبيان (٢ / ٤٦٩) وفي التبيان : طرق المكارم بدل سبل المكارم

٧٠٤

تميم بطرق اللّؤم أهدى من القطا ...

ولو سلكت سبل المكارم ضلّت

وأن معاوية قال للأحنف : ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال : السخينة. وإنما أراد معاوية قول القائل (١) :

إذا ما مات ميت من تميم ...

فسّرك أن يعيش فجئ بزاد

بخبز أو بتمر أو بسمن ...

أو الشيء الملفّف في البجاد

تراه يطوف في الآفاق حرصا ...

ليأكل رأس لقمان بن عاد

وكان الأحنف من تميم ؛ وإنما أراد الأحنف : بالسخينة ، وهي حساء يؤكل عند غلاء السعر ، وكانت قوم معاوية تقتصر عليه ، [رماهم](٢) بالبخل.

وأن رجلا من بني محارب دخل على عبد الله بن يزيد الهلالي ، فقال عبد الله : ما لقينا البارحة من شيوخ محارب ، ما تركونا ننام. وأراد قول الأخطل (٣) :

تكشّ بلا شيء شيوخ محارب ...

وما خلتها كانت تريش ولا تبري

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ...

فدلّ عليها صوتها حية البحر

فقال : أصلحك الله ؛ أضلوا البارحة برقعا فكانوا في طلبه. أراد قول القائل (٤) :

لكلّ هلاليّ من اللّؤم برقع ...

ولابن يزيد برقع وجلال

__________________

(١) الأبيات من الوافر وهي ليزيد بن عمرو بن الصعق ، أو لأبي المهوس الأسدى في لسان العرب.

(٩ / ٣١٩) لفف ، (١٢ / ٥٤٧) (لقم) ، ولأبي المهوس في تاج العروس (٢٤ / ٣٧٤) لفف ، وبلا نسبة في لسان العرب (٤ / ٥٨٤) (عفر) ومجمع الأمثال (٢ / ٣٩٥).

(٢) في (غ) : وما هم.

(٣) البيتان من الطويل. تكش : كشّت الأفعى تكشّ كشا وكشيشا : وهو صوت جلدها إذا حكت بعضه ببعض لسان. العرب (كشش).

تريش : راش صديقه يريشه ريشا : إذا أطعم وسقاه وكساه.

(٤) البيت من الطويل.

٧٠٥

وأن رجلا وقف على الحسن بن الحسن البصري ، رحمهما‌الله ، فقال : أعتمر أخرج أبادر ، فقال : كذبوا عليك ، ما كان ذلك. فإن السائل أراد : أعثمان أخرج أبا ذر؟ وأن الحسن بن وهب نهض ذات ليلة من مجلس ابن الزيات فقال : سحير ، أي : بت بخير. فقال له ابن الزيات. بنية. أي : بت به.

دهاء نساء العرب وفطنتهن :

وما ظنك بكياسة جيل قد بلغت من الدهاء نساؤهم إلى حد نقدهن للكلام ، وما يحكى أنشدت واحدة ، وكانت الخنساء (١) :

لنا الجفنات الغّر يلمعن بالضحى ...

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

فقالت : أي فخر يكون في : أن له ولعشيرته ولمن ينضوي إليهم ، من الجفان ما نهايتها في العدد عشر ، وكذا من السيوف؟ ألا استعمل جمع الكثرة : الجفان ، والسيوف؟ وأي فخر في أن تكون جفنة ، وقت الضحوة ؛ وهو وقت تناول الطعام ، غراء لامعة ، كجفان البائع؟ أما يشبه أن قد جعل نفسه وعشيرته بائعي عدة جفنات؟ ثم أنى يصلح للمبالغة في التمدح بالشجاعة ، وأنه في مقامها : يقطرن دما؟ كان يجب أن يتركها إلى أن : يسلن أو يفضن أو ما شاكل ذلك.

وقد اجتمع راوية جرير ، وراوية كثير ، وراوية جميل ، وراوية نصيب ، وأخذ يتعصب كل واحد لصاحبه ، ويجمع له في البلاغة قصب الرهان ، فحكموا واحدة ، وكانت : سكينة ، فقالت لراوية جرير : أليس صاحبك القائل :

__________________

(١) البيت من الطويل. وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ١٣١ ، وأسرار العربية ص ٣٥٦ وخزانة الأدب (٨ / ١٠٦ ، ١٠٧ ، ١١٠ ، ١١٦) ، ولسان العرب (١٤ / ١٣٦) (جدا) ، والمحتسب (١ / ١٨٧) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر (١ / ١٣٥).

الجفن : غمد السيف والجفن : أعظم ما يكون من القصاع.

والجفن : غطاء العين من أعلى وأسفل.

٧٠٦

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ...

حين الزيارة فارجعي بسلام

وأي ساعة أولى بالزيارة من الطروق؟ قبح الله صاحبك! وقبح شعره.

ثم قالت لراوية كثير : أليس صاحبك الذي يقول :

يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها ...

وأحسن شيء ما به العين قرت

وليس شيء أقر لعيونهن من النكاح ، فيحب صاحبك أن ينكح؟ قبح الله صاحبك! وقبح شعره!.

ثم قالت لراوية جميل : أليس صاحبك الذي يقول :

فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ...

وإنّ طلابيها لما فات من عقلي

فما أرى لصاحبك هوى ، إنما طلب عقله. قبح الله صاحبك ؛ وقبح شعره.

ثم قالت لراوية نصيب : أليس صاحبك الذي يقول :

أهيم بدعد ما حييت ، فإن أمت ...

فيا ويح نفسي من يهيم بها بعدي

أما كان لصاحبك الديوث همّ إلا هم من يهيم بها؟ قبح الله صاحبك! وقبح شعره! ألا قال :

أهيم بدعد ما حييت ، فإن أمت ...

فلا صلحت دعد لذي خلة بعدى

وفي الحكايات كثرة ، والمقصود مجرد التنبيه وليس الري عن التشاف.

هذا وإن ارتكبتم ، حيث انتهيتم من السفه ، ويبس الثرى بينكم وبين نظر العقل ، إلى هذه الغاية أن قد احتاط ، لكن لم يجد عليه ، كان الفضل للبهائم عليكم ، حيث ترون أضل الخلق عن الاستقامة في الكلام ، إذا اتفق أن يعاود كلامه مرة بعد أخرى ، لا يعدم أن يتنبه لاختلاله فيتداركه ، ثم لا ترون أن تنزلوا ، [إلا](١) أقل ، تلاوة النبي عليه

__________________

(١) في (د ، غ): (لا).

٧٠٧

الصلاة والسّلام للقرآن ، نيفا وعشرين سنة ، منزلة معاودة جهول لكلامه ، فتنظموا القرآن في سلك كلام متدارك الخطأ ، فتمسكوا عن هذيانكم؟ ثم إذ مسخكم الجهل هذا المسخ ، وبرقع عيونكم إلى هذا الحد وملك العمى بصائركم وأبصاركم على ما نرى ، فقدروا ما شئتم. قدروا إن لم يكن نبيا ، وقدروا أن كان نازل الدرجة في الفصاحة والبلاغة ، وقدروا أن لم يكن يتكلم إلا أخطأ ، وقدروا أنه ما كان له من التمييز ما لو زجى عمره على خطأ لا يشتبه عليكم أنتم ، لما تنبه لذلك الخطأ ، ولكن قولوا في هذه الواحدة ، وقد ختمنا الكلام معكم ، إذ لا فائدة. أو قد بلغتم من العمى إلى حيث لم تقدروا ، أن يتبين لكم أن عاش مدة مديدة بين أولياء وأعداء ، في زمان أهله من سبق ذكرهم ، فقدرتموه لم يكن له ولي [فينبه](١) ، فعل الأولياء ، إبقاء عليه أن ينسب إلى نقيصة ، ولا عدو فينص عليه تليله من جانب المغمز وضعا منه ، فعل الأعداء فيتداركه من بعده ، بتغيير.

سبحان الحكيم ، الذي يسع حكمته أن يخلق في صور الأناسي بهائم أمثال الطامعين أن يطعنوا في القرآن ، ثم الذي يقضي منه العجب ، أنك إذا تأملت هؤلاء ، وجدت أكثرهم لا في العير ولا في النفير ، ولا يعرفون قبيلا من دبير ، أين هم عن تصحيح نقل اللغة؟ أين هم عن علم الاشتقاق؟ أين هم عن علم التصريف؟ أين هم عن علم النحو؟ أين هم عن علم المعاني؟ أين هم عن علم البيان؟ أين هم عن باب النثر؟ أين هم عن باب النظم؟ ما عرفوا أن الشعر ما هو؟ ما عرفوا أن الوزن ما هو؟ ما عرفوا ما السجع؟ ما القافية؟ ما الفاصلة؟ أبعد شيء عن نقد الكلام جماعتهم ، لا يدرون ما خطأ الكلام وما صوابه ، ما فصيحه وما أفصحه ، وما بليغه وما أبلغه ، ما مقبوله وما مردوده ، وأين هم عن سائر الأنواع؟.

إذا جئتهم من علم الاستدلال ، وجدت فضلاءهم غاغة ، ما تعلك إلا أليفاظا! وإذا جئتهم من علم الأصول ، وجدت علماءهم مقلدة ، ما حظوا إلا بشم الروائح! وإذا

__________________

(١) في (د) : فينبهه.

٧٠٨

جئتهم من نوع الحكمة ، وجدت أئمتهم حيوانات ، ما تلحس إلا فضلات الفلسفة! وهلم جرا ، من آخر وآخر ، لا إتقان لحجة ، ولا تقرير لشبهة ، ولا عثور على دقيقة ، ولا اطلاع على شيء من أسرار ، ثم ها هم أولاء كم قد سودوا من صفحات القراطيس ، بفنون هذيانات.

ولربما ابتليت بحيوان من أشياعهم يمد عنقه مد اللص المصلوب ، وينفخ خياشيمه شبه الكير المستعاد ، ويطيل لسانه كالكلب عند التثاؤب ، آخذا في تلك الهذيانات الملوثة لصماخ المستمع ، ما أحلم إله الخلق : لا إله إلا أنت ، تعاليت عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

هذا لبيان ضلالهم على سبيل الإطلاق ، فيما يوردون من المطاعن في القرآن ولقد حان أن نشرع في الكلام المفصل ، فنقول وبالله التوفيق.

مطاعن الضالين والرد عليهم :

إن هؤلاء ربما طعنوا في القرآن من حيث اللفظ قائلين : فيه (مقاليد) ، جمع إقليد ، وهو معرب : كليد. وفيه : (إستبرق) ، وهو معرب : اسطبر. وفيه : (سجيل) وأصله :

سنك كل. فأنّى يصح أن يكون فيه هذه المعربات ، ويقال : خ خ قرآن عربيّ مّبين.

فنقول : قدروا ، لجهلكم بطرق الاشتقاق ، وأصول علم الصرف ، أن لا مجال لشيء مما ذكرتم في علم العربية. أفجهلتم نوع التغليب؟ فما أدخلتموها في جملة كلم العرب من باب إدخال الأنثى في الذكور ، وإبليس في الملائكة على ما سبق.

وربما طعنوا فيه من حيث الإعراب قائلين فيه : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ)(١) وصوابه : إن هذين ، لوقوعه اسما لإن ، وفيه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ)(٢) وصوابه : والصابئين ، لكونه معطوفا على اسم (إن) قبل مضي الجملة ،

__________________

(١) سورة طه : ٦٣.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٦٩.

٧٠٩

وفيه : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ)(١) وصوابه : والمقيمون ، لكون المعطوف عليه مرفوعا لا غير. وفيه : (قَوارِيرَ) * (قَوارِيرَا)(٢)(سَلاسِلَ وَأَغْلالاً)(٣) وصوابهما : قوارير وسلاسل ، غير منونين لامتناعهما عن الصرف. وهذه وأمثالها مما يقال فيها لصاحبها (٤) :

سمعت شيئا وغابت عنك أشياء

اخدم علم النحو يطلعك على استقامة جميع ذلك.

وربما طعنوا فيه من جهة المعنى بأنحاء مختلفة ، منها أنهم يقولون : أنتم تدعون أن القرآن معجز بنظمه ، وأن نظمه غير مقدور للبشر ، وتعتقدون : أن الجن والإنس لئن اجتمعوا على أن يأتوا بثلاث آيات ، لا يقدرون على ذلك ، و [تحتجون](٥). لذلك ، بأن أهل زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا الغاية في الفصاحة والبلاغة ، ثم تحدوا تارة بعشر سور ، وأخرى بواحدة بالإطلاق ، وفي السور : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ)(٦) فلو أنهم قدروا على مقدارها ، وهي ثلاث آيات ، لكانوا قد أتوا بالمتحدى به. وقرآنكم يكذبكم في ذلك ، ويشهد أن نظم الآيات الثلاث ؛ بل الثلاثون ، بل الأكثر ، لا يعوز الفصيح ، فضلا أن يعوز الأفصح ، ولو كان وحده ، فضلا إذا ظاهره الإنس والجن ؛ فأما دعواكم باطلة ، وأما شهادة قرآنكم كاذبة ، ووجه شهادته لما ذكرنا أن في قرآنكم حكاية عن موسى :

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٦٢.

(٢) سورة الإنسان ، الآيتان : ١٥ ـ ١٦.

(٣) سورة الإنسان ، الآية : ٤.

(٤) وتمام بيت الشعر :

وقل لمن يدعي في العلم معرفة ...

عرفت شيئا وغابت عنك أشياء

(٥) في (د): (يحتجون).

(٦) سورة الكوثر : الآية : ١.

٧١٠

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً)(١) ، ثم فيه حكاية عن موسى : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي)(٢) إلى قوله : (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)(٣) وهذه إحدى عشرة آية ، فإذا قدر فصيح واحد على نظم إحدى عشرة آية في موضع واحد ، أفلا يكون الأفصح أقدر ؛ وإن كان واحدا على أكثر فكيف إذا ظاهره في ذلك الإنس والجن.

فيقال لهم : متى صح أن ينزل ما تقوله على لسان صاحبك من معنى ، على نسق مخصوص ، إذا سمعه قال : كنت أريد أن أقول هكذا ، وما كان يتيسر لي منزلة قوله المقول ، اندفع الطعن على أن القول المنصور عندنا في المتحدى به. إما سورة من الطوال ، وإما عشر من الأوساط.

ومنها أنهم يقولون : إنا نرى المعنى يعاد في قرآنكم في مواضع ، إعادة على تفاوت في النظم بين : حكاية وخطاب وغيبة ، وزيادة ونقصان وتبديل كلمات ، فإن كان النظم الأول حسنا ، لزم في الثاني ، الذي يضاد الأول بنوع من الزيادة والنقصان أو غير ذلك ، أن يكون دونه في الحسن ، وفي الثالث ، الذي يضاد الأولين بنوع مضادة ، أن يكون أدون. وقرآنكم مشحون بأمثال ما ذكر ، فكيف يصح أن يدعى في مثله أن كله معجز؟ والإعجاز يستدعي كونه في غاية الحسن لا أن يكون دونها بمراتب؟ من ذلك ما ترى في سورة آل عمران : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٤). وفي سورة الأنفال : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٥) وبعده : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٣٤.

(٢) سورة طه ، الآيتان : ٢٥ ـ ٢٦.

(٣) سورة طه ، الآية : ٣٥.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١١٠.

(٥) سورة الأنفال ، الآية : ٥٢.

٧١١

فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ)(١).

فنقول لهم : الذي ذكرتموه ، من لزوم التفاوت في الحسن ، يسلم لكم إذا فرض ذلك التفاوت في المقام الواحد ؛ لامتناع انطباق المتضادين على شيء واحد ، أما إذا تعدد المقام فلا ؛ لاحتمال اختلاف المقامات ، وصحة انطباق كل واحد على مقامه. ونحن نبين لكم انطباق ما أوردتموه من [الصور](٢) الثلاث على مقاماتها ، بإذن الله تعالى ، ليكون ذلك للمتدبر مثالا ، فيما سواه ، يحتذيه ، ومنارا ينتحيه. فنقول : كان أصل الكلام يقتضي أن يقال : (خ خ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم منا شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذناهم بذنوبهم ونحن شديدو العقاب) لأن الله تعالى يخبر عن نفسه ، والإخبار عن النفس كذا يكون ، وكذلك كان يقتضي أن يقال في سورة الأنفال ، المنزلة عقيب هذه السورة : سورة آل عمران : خ خ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا (بآياتنا فأخذناهم) بذنوبهم (إننا أقوياء شديدو) العقاب ذلك (بأننا لم نكن مغيري) نعمة (أنعمناها) على (قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ*) (وأننا سميعون عليمون) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا (بآياتنا) فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون لكن تركت الحكاية في لفظ (منا) ، إلى لفظ الغيبة في : من الله تعالى ، على سبيل التغليظ وزيادة تقبيح الحال ، ثم تركت الغيبة في : (كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) *) إلى الحكاية في لفظ : (بآياتنا) تطبيقا لجميع ذلك على قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) متروك المفعول ، وذلك أنه حين ترك المفعول احتمل الغيبة ، وهو أن يكون المراد : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ، على سبيل إظهار التعظيم في لفظ الغيبة ، كما تقول الخلفاء : يشير الخليفة إلى كذا ، ويشير أمير المؤمنين. واحتمل أيضا الحكاية ؛ لأن أصل الكلام يقتضيها ، وأن تكون بلفظ الجماعة لإظهار التعظيم أيضا ، ويكون المراد : (خ خ كَفَرُوا بِآياتِنا ، *) فلما احتمل الوجهين ، طبق عليهما من بعد ذلك. ولما كان لفظة : خ خ الله مع لفظة : خ خ الكفر ، حال إرادة التغليظ ، آثر : قيل ، بعد قوله : (كَفَرُوا

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٥٤.

(٢) في (غ) : السور.

٧١٢

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) دون أن يقال : خ خ منا ، وحين أوثرت الغيبة هاهنا ، تعينت الحكاية في : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) ثم لما وفّى الكلام حقه في الاعتبارين ، رجع إلى الغيبة ، فقيل : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) دون أن يقال : خ خ فأخذناهم ، لما كان في لفظة : خ خ الله هاهنا من زيادة المطابقة لموضعه ، ألا ترى أنه لو قيل : خ خ فأخذناهم ، لكان تابعا لقوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) وكان ظاهر الكلام : أن الآخذ هو المكذب بآياته. وحيث قيل : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) تبع قوله : (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) فصار ظاهر الكلام أن الآخذ هو المكفور به. ففي الأول المأخوذ ، وصفه : مكذب بآيات الله ، وفي الثاني ، وصفه : كافر بالله. ولا شبهة أن الثاني آكد. ثم قيل : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) وأريد تذييل الكلام طبق على لفظة خ خ الله فقيل : (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) وأما قوله في سورة الأنفال : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) فلم يقل : بآياتنا ، إذ لم يكن قبله ما يحتمل الحكاية ، مثل احتمال ما نحن فيه لها ، ألا ترى أنه ليس هناك إلا قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا) ويكون (الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ)(١) كلاما مستأنفا ، مبنيا على سؤال مقدر ، كأنه قيل : ماذا يكون حينئذ؟ فقيل : الملائكة يضربون ، فلا يحتمل على هذا التقدير إلا الغيبة. وهو : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا)(٢) به ، وإنما يحتمل الحكاية على التقدير الآخر في أحد الوجهين ، فلا يخفى ضعفه ، فلضعف احتمال الحكاية تركت ، وبني الكلام على الغيبة ، وأما اختيار لفظة : خ خ كفروا على لفظ : خ خ كذبوا ، فلأن الآية ، وهي : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ)(٣) لما أعيدت ، دلت إعادتها على أن المراد التأكيد لبيان قبح حالهم ، فكان التصريح بالكفر أوقع. ولما صرح بالكفر ، بعد التأكيد بالإعادة ، لا جرم أكد الكلام بعد ذلك ، فقيل : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٤) وأما قوله تعالى ثالثا : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٥٠.

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٥٠.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١١٠.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٥٢.

٧١٣

مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ)(١) فتركت الحكاية للوجه المذكور في : (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ*)(٢) وأما اختيار لفظة : خ خ كذبوا على : خ خ كفروا ؛ فلأن هذه الآية ، لما بنيت على قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(٣) وكان المعنى : خ خ ذلك العذاب ، أو : ذلك العقاب كان بسبب أن غيروا الإيمان إلى الكفر ، فغير الله الحكم. بل كانوا كفارا قبل بعثة الرسل ، وبعدهم ، وإنما كان تغير حالهم ، أنهم كانوا قبل بعث الرسل كفارا فحسب. وبعد بعثة الرسل صاروا كفارا مكذبين. فبناء هذه الآية على قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً)(٤) اقتضى لفظة : (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ)(٥). وأما اختيار لفظ : خ خ الرب ، على : خ خ الله ؛ فلأنه صريح في معنى النعمة ، فلما غيروا بتضاعف الكفر ، وهو التكذيب ، اقتضى التصريح بما يفيد زيادة التشنيع.

وأما الحكاية في : (فَأَهْلَكْناهُمْ) فللتفنن في الكلام ، ولئلا يخلو عما هو أصل الكلام ، ومنها أنهم يقولون : أدنى درجات كون الكلام معجزا أن لا يكون معيبا ، وقرآنكم معيب ، فأنى يكون صالحا للإعجاز.

ويقولون في الآيات المتشابهة : قدروا أنها تستحسن فيما بين البلغاء لمجازاتها ، واستعاراتها ، وتلويحاتها ، وإيماءاتها ، وغير ذلك. ولكن جهاتها في الحسن هناك ، إذا استتبعت ، مضادة المطلوب ، بتنزيله إغواء الخلق ، بدل الإرشاد ، أفلا يكون هذا عيبا ، واستتباعها للإغواء ظاهر؟ وذلك أنكم تقولون : إن القرآن كلام مع الثقلين ، وتعلمون أن فيهم المحق والمبطل ، والذكي والغبي ، [فيقولوا](٦) : إذا سمع المجسم : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(٧) أليس يتخذه عكازة يعتمد عليها في باطله. فينقلب الإرشاد

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٥٤.

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٥٤.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ٥٣.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٥٤.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٥٤.

(٤) كذا في الأصول.

(٥) سورة طه ، الآية : ٥.

٧١٤

المطلوب به معونة في الغواية ، ومددا للضلال ، ونصرة للباطل؟ وكذا غير المجسم ، إذا صادف ما يوافق بظاهره باطله؟.

فيقال لمثل هذا القائل : حبك الشيء يعمي ويصم. أليس إذا [أخذه](١) المجسم يستدل به لمذهبه ، فقيل له : لعل الله كذب ، يقول : كيف يجوز أن يكذب الله تعالى؟ فيقال : لحاجة من الحاجات تدعوه إلى الكذب ، فيقول : كيف تجوز الحاجة على الله تعالى؟ فيقال له : أليس الله بجسم عندك؟ وهل من جسم لا حاجة له؟ فيتنبه لخطئه ، ويعود ألطف [إرشادا](٢) وأبلغ هداية ، كما ترى ، هذا في حق المبطل.

وأما المحق ، فمن سمعه دعاه إلا النظر ، فأخذ في اكتساب المثوبة بنظره ، ثم إذا لم يف نظره دعاه إلى العلماء ، فيتسبب ذلك لفوائد لا تعد ولا تحد.

ومنها أنهم يقولون : لا شبهة في أن التكرار شيء معيب ، خال عن الفائدة ، وفي القرآن من التكرار ما شئت ، ويعدون قصة فرعون ونظائرها ونحو : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣) و (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٤) وغير ذلك مما ينخرط في هذا السلك.

فيقال لهم : أما إعادة المعنى بصياغات مختلفة ، فما أجهلكم في عدها تكرارا ، وعدها من عيوب الكلام.

إذا محاسني اللاتي أدلّ بها ...

كانت ذنوبي ، فقل لي كيف أعتذر؟

أليس لو لم يكن في إعادة القصة فائدة ، سوى تبكيت الخصم ، لو قال عند التحدي لعجزه : قد سبق إلى صوغها الممكن فلا مجال للكلام فيها ثانيا لكفت؟

وأما نحو : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) و (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) فمذهوب

__________________

(١) في (د ، غ) : أخذ.

(٢) في (د ، غ) إرشاد.

(٣) سورة الرحمن : في كثير من الآيات.

(٤) سورة المرسلات : في كثير من الآيات ، والمطففين : ١٠.

٧١٥

به : مذهب رديف ، يعاد في القصيدة مع كل بيت ، أو مذهب ترجيع القصيدة ، يعاد بعينه مع عدة أبيات ، أو ترجيع الأذكار.

وعائب الرديف أو الترجيع : إما دخيل في صناعة تفنين الكلام ، ما وقف بعد على لطائف أفانينه ، وإما متعنت ذو مكابرة.

ومنها أنهم يقولون : إن قرآنكم ينادي بأن ليس من عند الله ، وأنتم تدعون أنه من عند الله ، ونداه بأن ليس من عند الله من وجوه منها أن : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(١) وفيه من الاختلافات ما يربي على اثني عشر ألفا ، كما تسمع أصحاب القراات ينقلونها إليك ، وهل عدد مثله لا يكثر؟.

ومبنى هذا الطعن جهلهم بالمراد من الاختلاف ، وذلك أن المراد به هو التفاوت في مراتب البلاغة ، التي سبق ذكرها في علم البيان عند تحديد البلاغة ، فإنك إذا استقريت ما ينسب إلى كل واحد من البلغاء ، أشعارا كانت أو خطبا أو رسائل ، لم تكد تجد قصيدة من المطلع إلى المقطع ، أو خطبة ، أو رسالة ، على درجة واحدة في علو الشأن ، فضلا أن تجد مجموع المنسوب على تلك الدرجة ، بل لا بد يختلف. فمن بعض فوق سماك السماك علوّا ، ومن بعض تحت سمك الأرض نزولا فيها ، ما [ذلك](٢) على من به طرف بخاف.

وقل لي ، والحال ما قرئ من الروايات عن النبي عليه‌السلام ، صلوات الله وسلامه عليه : خ خ إن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف فاقرءوا كيف شئتم. هل من عاقل يذهب وهمه إلى نفي اختلاف القراآت ، لا سيما إذا انضم إلى ذلك ما يروى عن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، أنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها ، وقد كان النبي ، عليه‌السلام ، أقرأنيها ، فأتيت به النبي ، عليه‌السلام ، فأخبرت ، فقال له : خ خ اقرأ : فقرأ تلك القراءة ، فقال النبي ، عليه‌السلام : خ خ هكذا

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٨٢.

(٢) في (د) : دلك.

٧١٦

نزلت ، ثم قال لي : خ خ اقرأ ، فقرأت ، فقال : خ خ هكذا نزلت ، ثم قال لي : خ خ إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف. وأصوب محمل يحمل عليه قوله ، عليه‌السلام : على سبعة أحرف ، ما حام حوله الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة الهمذاني ، قدس الله روحه ، من أن المراد بسبعة الأحرف : سبعة أنحاء من الاعتبار متفرقة في القرآن ، وحق تلك الأنحاء عندي أن ترد إلى اللفظ والمعنى ، دون صورة الكتابة ، لما أن النبي ، عليه‌السلام ، كان أميا ، ما عرف الكتابة ، ولا صور الكلم ، فيتأتى منه اعتبار صورتها راجعا إلى إثبات كلمة وإسقاطها ، وأنه نوعان : أحدهما أن لا يتفاوت المعنى مثل : خ خ وما عملت أيديهم ، في موضع ، (وَما عَمِلَتْهُ)(١) ، لاستدعاء الموصول الراجع. وثانيهما : أن يتفاوت مثل قراءة بعض : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها)(٢) من نفسي.

وإما أن يكون راجعا إلى تغيير نفس الكلمة ، وأنه ثلاثة أنواع :

أحدها : أن تتغير الكلمتان والمعنى واحد مثل : (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ)(٣) وبالبخل ، (بِرَأْسِ أَخِيهِ)(٤) وبرأس ، و: (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ)(٥) وميسرة. ومثل : (إِنْ كانَتْ إِلَّا) (زقية) (واحِدَةً)(٦) في موضع إلّا (صيحة).

وثانيها : أن تتغير الكلمتان ، ويتضاد المعنى مثل : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها)(٧) بضم الهمزة ، بمعنى : أكتمها ، وأخفيها بفتح الهمزة ، بمعنى : أظهرها.

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٣٥.

(٢) سورة طه ، الآية : ١٥.

(٣) سورة الحديد ، الآية : ٢٤.

وسورة النساء ، الآية : ٣٧.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ١٥٠.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٠.

(٦) سورة يس ، الآية : ٢٩.

(٧) سورة طه الآية : ١٥.

٧١٧

وثالثها : أن تتغير الكلمتان ، ويختلف المعنى مثل : (كالصوف المنقوش) في موضع : (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)(١) و (طلع منضود) في موضع (طَلْحٍ)(٢).

وإما أن يكون راجعا إلى أمر عارض للفظ : وأنه نوعان :

أحدهما : الموضع مثل : و (جاءت سكرة الحق بالموت) في موضع : (سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ)(٣).

وثانيهما : الإعراب مثل : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ)(٤) (أنا قل) و: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)(٥) وأطهر لكم.

ومنها : أن قرآنكم يكذب بعضه بعضا ؛ لاشتماله على كثير من التناقض ، فإن صدق ، لزم كذبه ، وإن كذب ، لزم كذبه ، والكذب على الله محال ، قائلين : بين قوله :

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)(٦) وقوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)(٧). وبين قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(٨) وقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)(٩) تناقض.

ولو عرفوا شروط التناقض ، على ما سبقت تلاوتها عليك ، لما قالوا ذلك. أليس

__________________

(١) سورة القارعة ، الآية : ٥.

(٢) سورة الواقعة ، الآية : ٢٩.

(٣) سورة ق ، الآية : ١٩.

(٤) سورة الكهف ، الآية : ٣٩.

(٥) سورة هود ، الآية : ٧٨.

(٦) سورة الرحمن ، الآية : ٣٩.

(٧) سورة القصص ، الآية : ٧٨.

(٨) سورة الحجر ، الآيتان : ٩٢ ـ ٩٣.

(٩) سورة الأعراف ، الآية : ٦.

٧١٨

من شروط التناقض : اتحاد الزمان واتحاد المكان ، واتحاد الغرض ، وغير ذلك مما عرفت؟ ومن لهم باتحاد ذلك فيما أوردوا بعد أن عرف أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة على ما أخبر تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(١) وعرف بالأخبار ، أن يوم القيامة مشتمل على مقامات مختلفة ، فإذا احتمل أن يكون السؤال في وقت من أوقات يوم القيامة ، ولا يكون في آخر ، [و](٢) في مقام من مقاماته ولا يكون في آخر؟ أو بقيد من القيود. كالتوبيخ أو التقرير أو غير ذلك مرة ، وبغير ذلك القيد أخرى ؛ فكيف يتحقق التناقض؟ ويقولون بين قوله : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)(٣) وقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)(٤) وقوله : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٥) وقوله : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها)(٦) وبين قوله : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ* وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)(٧) تناقض.

ويقولون بين قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)(٨) وبين قوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ)(٩) تناقض.

والجواب ما قد سبق.

ويقولون قوله : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)(١٠) يناقض قوله : (وَلا طَعامٌ

__________________

(١) سورة المعارج ، الآية : ٤.

(٢) في (د ، غ) : أو.

(٣) سورة ق ، الآية : ٢٨.

(٤) سورة الزمر ، الآية : ٣١.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ١١١.

(٦) سورة النحل ، الآية : ١١١.

(٧) سورة المرسلات : الآيات : ٣٥ ـ ٣٦.

(٨) الصافات : ٢٧.

(٩) سورة المؤمنون ، الآية : ١٠١.

(١٠) سورة الغاشية ، الآية : ٦.

٧١٩

إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)(١) جهلا منهم أن أصحاب النار ، أعاذنا الله منها ، طوائف مختلفون في العذاب ؛ فمن طائفة عذابهم إطعام الضريع لا غير ، ومن طائفة عذابهم إطعام الغسلين وحده ، ويقولون قوله : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً)(٢) يناقض قوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً)(٣) لكون الأحقاب : جمع قلة نهايته العشرة ، وكون مفرد ، وهو الحقب : ثمانين سنة. ورجوع نهاية الأحقاب إلى ثمانمائة سنة.

فيقال لهم : أليس إذا لم يقدر (فحسب) مع قوله : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً)(٤) يرتفع التناقض؟ فمن أنبأكم بتقديره؟

ويقولون قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(٥) يناقض قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)(٦) والجواب أن التناقض إنما يلزم إذا قيل : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(٧) (فحسب).

ويقولون بين قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)(٨) وبين قوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ)(٩). تناقض ؛ لكون عدد

__________________

(١) سورة الحاقة ، الآية : ٣٦.

(٢) سورة النبأ ، الآية : ٢٣.

(٣) سورة النساء ، الآيات : ٥٧ و ١٢٢ و ١٦٩ ومواضع كثيرة في القرآن.

(٤) سورة النبأ الآية : ٢٣.

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠.

(٦) سورة البقرة ، الآية : ٢٦١.

(٧) سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠.

(٨) سورة الفرقان ، الآية : ٥٩ ، وسورة السجدة ، الآية : ٤.

(٩) سورة فصلت ، الآية : ٩ ـ ١٢.

٧٢٠