مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

وهم الأعراب الخلص من كل خارش يربوع وضبّ ، تلقاه في بلاغته يضع الهناء مواضع النقب (١) ، دون المولدين الذين قصارى أمرهم في مضمار البلاغة أوان الاستباق ، إذا استفرغوا مجهودهم ، الاقتداء بأولئك.

ومن الشواهد لما نحن فيه ، شهادة غير مردودة ، رواية الأصمعي تقبيل خلف الأحمر بين عيني بشار بمحضر أبي عمرو بن العلاء حين استنشداه قصيدته هذه ، على ما روي من أن خلفا قال لبشار بعد ما أنشد القصيدة : لو قلت يا أبا معاذ ، مكان خ خ إن ذاك النجاح خ خ بكّرا ، فالنجاح في التبكير كان أحسن ، فقال بشار : إنما قلتها ، يعني قصيدته أعرابية وحشية ، فقلت : إن ذاك النجاح في التبكير ، كما يقول الأعراب البدويون ، ولو قلت : خ خ بكرا فالنجاح في التبكير ، كان هذا من كلام المولدين ، ولا يشبه ذلك الكلام ، ولا يدخل في معنى القصيدة التي قلتها. فقام خلف فقبل [بين عينيه](٢).

فهل فحوى ما جرى بين بشار وصاحبيه ، وهم من فحولة هذا النوع ، ومن المهرة المتقنين ، والسحرة المؤخذين (٣) ، إلا راشحة بتحقيق ما أنت منه على ريبة ، وقل لي مثل بشار ، وقد تعمد أن يهدر بشقشقة سكان مهافّي الريح ؛ من كل ماضغ قيصوم (٤) وشيح ، إذا خاطب ، خ خ ببكرا : محرضا صاحبيه على التشمير عن ساق الجد في شأن

__________________

(١) النّقب والنّقب : القطع المتفرقة من الجرب ، الواحدة نقبة ، وقيل : هى أول ما يبدو من الجرب قال دريد ابن الصّمّة :

مبتذلا تبدو محاسنه ..

يضع الهناء مواضع النّقب

وقيل : النّقب : الجرب عامة.

والهناء : ضرب من القطران. [لسان العرب : ٦ / ٤٥١٣] مادة نقب.

(٢) سقطت من النسخ وأثبتناها من دلائل الإعجاز (٢٧٣) (ط) المدني تعليق محمود شاكر.

(٣) المؤخذين : من الأخذة وهى رقية تأخذ العين ونحوها كالسحر. اللسان مادة (أخذ).

(٤) القيصوم : ما طال من العشب وهو كالقيعون (عن كراع) والقيصوم : من نبات السّهل ، قال أبو حنيفة : القيصوم من الذكور ومن الأمرار ، وهو طيب الرائحة من رياحين البر ، وورقه هدب ، وله نورة صفراء وهى تنهض على ساق وتقوم.

وقال جرير :

[نبتت بمنبته فطاب لشمها

ونأت عن الجثجاث والقيصوم]. اللسان (قصم)

٢٦١

السفار ، أفتراه لا يتصورهما حائمين حول : هل التبكير يثمر النجاح ، فيتجانف عن التوكيد ، ولا يتلقاهما (بإن) ، هيهات ، ونظيره (١) :

فغنّها وهي لك الفداء ...

إنّ غناء الإبل الحداء

وفي التنزيل : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(٢) وكذا : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(٣) ، وكذا : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)(٤) وكذا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(٥) وأمثال ذلك كثيرة.

وإذا صادف ما أريناك بصيرة منك ، ووقفت على ما سيأتيك في الفن الرابع ، أعثرك في باب النقد لتركيبات الجمل الخبرية في نحو : اعبد ربك ، إن العبادة حق له ، واعبد ربك فالعبادة حق له ، واعبد ربك العبادة حق له ، على تفاوتها هناك ، واجدا من نفسك فضل الأولى على الثانية بحسب المقام ، ورداءة الأخيرة تارة ، والحكم بالعكس أخرى ، وكنت الحاكم الفيصل بإذن الله تعالى.

وكذلك قد ينزلون منزلة المنكر من لا يكون إياه ، إذا رأوا عليه شيئا من ملابس

__________________

(١) البيت من الرجز بلا نسبة في دلائل الإعجاز لعبد القاهر ٢٧٣ ، ٣١٦ وجمهرة اللغة ص ٩٦٤ ، ١٠٤٧ والإيضاح (١ / ٩٤) (ط) دار الكتاب اللبناني والإشارات للجرجاني ص ٣١ والضمير في قوله :

فغنها للإبل ، أي : فغن لها. والحداء بضم الحاء وكسرها مصدر حدا الإبل إذا ساقها وغنى لها ، والشاهد في أنه حين يقول : غنها ؛ ليشتدّ سيرها ، يفهم السامع أن غناءها هو الحداء الذي تساق به فتستشرف له نفسه.

(٢) المؤمنون الآية : ٢٧.

(٣) سورة يوسف الآية : ٥٣.

(٤) سورة التوبة ، الآية : ١٠٣.

(٥) سورة الحج ، الآية : ١.

٢٦٢

الإنكار ، فيحوكون حبير الكلام لهما على منوال واحد ، كقولك لمن تصدى لمقاومة مكاوح (١) أمامه ، غير متدبر ، مغترا بما كذبته النفس من سهولة تأتيها له ، إن أمامك مكاوحا لك.

ومن هذا الأسلوب قوله (٢) :

جاء شقيق عارضا رمحه ...

إنّ بني عمّك فيهم رماح

ويقلبون هذه القضية مع المنكر إذا كان معه ما إذا تأمله ارتدع عن الإنكار ، فيقولون لمنكر الإسلام : الإسلام حق ، وقوله جل وعلا في حق القرآن : (لا رَيْبَ فِيهِ)(٣) وكم من شقي مرتاب فيه ، وارد على ذا.

وهذا النوع ، أعني نفث الكلام لا على مقتضى الظاهر ، متى وقع عند النظار موقعه استهش الأنفس ، وأنق الأسماع ، وهز القرائح ، ونشّط الأذهان ، ولأمر ما تجد أرباب البلاغة ، وفرسان الطراد في ميدانها الرامية في حدق البيان ، يستكثرون من هذا الفن في محاوراتهم ، وأنه في علم البيان يسمى : بالكناية ، وله أنواع تقف عليها وعلى وجه حسنها بالتفصيل هناك ، بإذن الله تعالى.

وأن هذا الفن ، فن لا تلين عريكته ، ولا تنقاد قرونته بمجرد استقراء صور منه ، وتتبع مظان أخوات لها ، وإتعاب النفس بتكرارها ، واستيداع الخاطر حفظها وتحصيلها ، بل لا بد من ممارسات لها كثيرة ، ومراجعات فيها طويلة ، مع فضل إلهي من سلامة فطرة ، واستقامة طبيعة ، وشدة ذكاء ، وصفاء قريحة ، وعقل وافر.

__________________

(١) مكاوح : مقاتل.

(٢) البيت لحجل بن نضلة الباهلي وهو شاعر جاهلى ، دلائل الإعجاز للجرجاني ص ٣٠٤ ، ٣١٢ والمصباح (٦) والإيضاح للقزويني (١ / ٢٠).

وبعده : هل أحدث الدهر لنا ذلة أم هل رنت أم شقيق سلاح.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢.

٢٦٣

ومن أتقن الكلام في اعتبارات الاعتبارات ، وقف على اعتبارات النفي. واعلم أنك إذا حذقت في هذا الفن ؛ لصدق همتك ، واستفراغ جهدك فيه ، وبالحري ، أمكنك التسلق به إلى العثور على السبب في إنزال رب العزة قرآنه المجيد على هذه المناهج ، إن شاء الله تعالى.

٢٦٤

الفن الثاني

في تفصيل اعتبارات المسند إليه (١)

لما تقرر أن مدار حسن الكلام وقبحه على انطباق تركيبه على مقتضى الحال ، وعلى لا انطباقه ، وجب عليك أيها الحريص على ازدياد فضلك ، المنتصب لاقتداح زناد عقلك ، المتفحص عن تفاصيل المزايا التي بها يقع التفاضل ، وينعقد بين البلغاء في شأنها التسابق والتناضل ـ أن ترجع إلى فكرك الصائب ، وذهنك الثاقب ، وخاطرك اليقظان ، وانتباهك العجيب الشان ، ناظرا بنور عقلك ، وعين بصيرتك ، في التصفح لمقتضيات الأحوال في إيراد المسند إليه على كيفيات مختلفة ، وصور متنافية ، حتى يتأتى بروزه عندك لكل منزلة في معرضها ، فهو الرهان الذي يجرب به الجياد ، والنضال الذي يعرف به الأيدي الشداد ، فتعرف أيما حال يقتضي طي ذكره ، وأيما حال يقتضي خلاف ذلك ، وأيما حال يقتضي تعرفه : مضمرا ، أو علما ، أو موصولا ، أو اسم إشارة ، أو معرفا باللام ، أو بالإضافة ؛ وأيما حال يقتضي تعقيبه بشيء من التوابع الخمسة ، والفصل ، وأيما حال يقتضي تنكره ، وأيما حال يقتضي تقديمه على المسند ، وأيما حال يقتضي تأخيره عنه ، وأيما حال يقتضي تخصيصه أو إطلاقه حال التنكير ، وأيما حال يقتضي قصره على الخبر.

طيّ ذكر المسند إليه :

أما الحالة التي تقتضي طي ذكر المسند إليه فهي : إذا كان السامع مستحضرا له ، عارفا منك القصد إليه عند ذكر المسند ، والترك راجع إما لضيق المقام ، وإما للاحتراز عن العبث بناء على الظاهر ، وإما لتخييل أن في تركه تعويلا على شهادة العقل ، وفي ذكره تعويلا على شهادة اللفظ من حيث الظاهر ، وكم بين الشهادتين ، وإما لإيهام أن

__________________

(١) المسند اصطلاحا : المتحدث به ، أو المحمول أو الخبر.

والمسند إليه : هو موضوع الكلام أو المتحدث عنه. ويسمى أيضا : المحكوم عليه.

٢٦٥

في تركه تطهيرا للسان عنه ، أو تطهيرا له عن لسانك ، وإما للقصد إلى عدم التصريح ؛ ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مست إليه حاجة ، وإما لأن الخبر لا يصلح إلا له حقيقة ، كقولك : خالق لما يشاء ، فاعل لما يريد ، أو ادعاء ، وإما لأن الاستعمال وارد على تركه ، أو ترك نظائره ، كقولهم : خ خ نعم الرجل زيد ، على قول من يرى أصل الكلام : خ خ نعم الرجل هو زيد ، وإما لأغراض سوى ما ذكر ، مناسبة في باب الاعتبار بحسب المقامات لا يهتدي إلى أمثالها إلا العقل السليم ، والطبع المستقيم ، وقلما ملك الحكم هناك شيء غيرهما ، فراجعهما في مثل (١) :

قال لي كيف أنت قلت عليل ...

سهر دائم وحزن طويل

كيف تجد الحكم إذ لم يقل : أنا عليل ، وفي مثل قوله ، حين شكا ابن عمه فلطمه ، فأنشأ يقول (٢) :

سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه ...

وليس إلى داعي النّدا بسريع

حريص على الدنيا مضيع لدينه ...

وليس لما في بيته بمضيع

حيث لم يقل : هو سريع ، وفي مثل قوله (٣) :

سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي ...

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

__________________

(١) البيت من الخفيف ، ولم أعثر على قائله ، وهو في دلائل الإعجاز غير منسوب ١٨٤ ، والمعاهد (١ / ١٠٠) والإيضاح (١ / ٣٢ ، ٥٦).

(٢) البيتان من الطويل وهما للمغيرة بن عبد الله الملقب بالأقيشر الأسدي ؛ لحمرة وجهه ، شاعر ماجن وصّاف للخمر ، مدمن لها ، توفى سنة ٨٠ ه‍ وهما في المعاهد (٣ / ٢٤٢) والإيضاح (١ / ٣٣) بلا عزو ، ودلائل الإعجاز ٩٩.

(٣) البيتان من الطويل وهما لعبد الله بن الزبير الأسدي يمدح عمرو بن عثمان بن عفان في شعره (١٤٢) ، ونسبهما في الحماسة البصرية (١ / ١٣٥) إلى عمرو بن كميل ، وهما في ديوان إبراهيم بن العباس الصولي في الطرائف الأدبية (١٣٠) وفي التبيان للإمام الطيبي (١ / ١٤٧).

٢٦٦

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ...

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّت

إذ لم يقل : هو فتى ، وفي مثل قوله (١) :

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ...

دجى الليل حتّى نظم الجزع ثاقبه

نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب ...

بدا كوكب تأوي إليه كواكبه

حين لم يقل : هم نجوم سماء ، وقوله عز قائلا : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها)(٢) إذ لم يقل : هذه سورة أنزلناها ، وقوله : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ)(٣). إذ لم يقل : هي نار حامية ، وقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٤). وقوله : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)(٥). على أحد الاعتبارين فيهما. وهو : فأمري صبر جميل ، وأمركم ، أو الذي يطلب منكم ، أو طاعتكم طاعة معروفة ، بحسب تفسير (المعروفة).

إثبات المسند إليه :

وأما الحالة التي تقتضي إثباته فهي : أن يكون الخبر عام النسبة إلى كل مسند إليه ، والمراد تخصيصه بمعين كقولك : خ خ زيد جاء ، وعمرو ذهب ، وخالد في الدار ، وقوله (٦) :

__________________

(١) البيتان من الطويل وينسبان لأكثر من شاعر ، فينسبان لحنظلة بن الشرفى المعروف بأبي الطميحان القينى ، وقيل : هما للقيط بن زرارة بن عدس من تميم ، وصحح ابن قتيبة نسبتهما إليه.

انظر قواعد الشعر ٤٥ ، وديوان المعاني ٢٣ ، والحيوان ٣ / ٩٣ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٠٠ ،

(٢) سورة النور ، الآية : ١.

(٣) سورة القارعة ، الآيتان : ١٠ ـ ١١.

(٤) سورة يوسف ، الآية : ١٨.

(٥) سورة النور ، الآية : ٥٣.

(٦) البيت من الكامل ، وهو لامرئ القيس بن جندح بن حجر في ديوانه ص ٢٣٨ وأساس البلاغة (حقب) وتاج العروس ٢ / ٣٠٠ (حقب) المعجم المفصل (٦ / ٤٨٠).

٢٦٧

الله أنجح ما طلبت به ...

والبرّ خير حقيبة الرّحل

وقوله (١) :

النفس راغبة إذا رغّبتها ...

وإذا تردّ إلى قليل تقنع

أو يذكر احتياطا في إحضاره في ذهن السامع لقلة الاعتماد بالقرائن ، أو للتنبيه على غباوة السامع ، أو لزيادة الإيضاح والتقرير ، أو لأن في ذكره تعظيما للمذكور ، أو إهانة له ، كما يكون في بعض الأسامي ، والمقام مقام ذلك ، أو يذكر تبركا به واستلذاذا له ، كما يقول الموحد : خ خ الله خالق كل شيء ، ورازق كل حي ، أو لأن إصغاء السامع مطلوب فيبسط الكلام افتراضا بسط موسى إذ قيل له : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ)(٢) وكان يتم الجواب بمجرد أن يقول : عصا ، ثم ذكر المسند إليه وزاد : فقال (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى)(٣) ، ونظيره في البسط : (نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ)(٤) قد بسطوا الكلام ابتهاجا منهم بعبادة الأصنام ، وافتخارا بمواظبتها ، منحرفين عن الجواب المطابق المختصر ، وهو أصناما. أو لأن الأصل في المسند إليه هو كونه مذكورا أو ما جرى هذا المجرى.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لخويلد بن خالد المعروف بأبى ذؤيب الهذلي في الدرر (٣ / ١٠٢) ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٦٩٣ ، وشرح أشعار الهذليين (١ / ٧) وبلا نسبة في همع الهوامع (١ / ٢٠٦).

(٢) سورة طه ، الآية : ١٧.

(٣) سورة طه ، الآية ١٨. وفي ذكر المسند إليه هنا نكتة أخرى ، وهى أنه لما كان السؤال عن العصا وهى شىء معلوم لا يرتاب فيه ولا يحتاج إلى السؤال عنه ، فكأن ذلك أوقع في نفس موسى تشكيك السائل ، سبحانه ، له في حقيقة المسئول عنه ، فلجأ موسى إلى التأكيد بذكر المسند إليه. وهنا أمر آخر ينبغي الالتفات إليه ، وهو مراعاة حال المتكلم ، حيث يدل ذلك الإطناب من موسى ، عليه‌السلام ، ما كان عليه من أريحية وائتناس بمخاطبة الذات العلية ورغبته في إطالة المقام. والله تعالى أعلم.

(٤) سورة الشعراء ، الآية : ٧١.

٢٦٨

المسند إليه معرفة :

وأما الحالة التي تقتضي تعرفه : فهي إذا كان المقصود من الكلام إفادة السامع فائدة يعتد بمثلها ، والسبب في ذلك هو أن فائدة الخبر لما كانت هي الحكم ، أو لازمه كما عرفت في أول قانون الخبر ، ولازم الحكم وهو أنك تعلم الحكم (١) أيضا ، ولا شبهة أن احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد ، كانت الفائدة في تعريفه أقوى ، ومتى كان أقرب ، كانت أضعف ، وبعد تحقق الحكم بحسب تخصيص المسند إليه ، والمسند كلما ازداد تخصصا ازداد الحكم بعدا ، وكلما ازداد عموما ازداد الحكم قربا ، وإن شئت فاعتبر حال الحكم في قولك : شيء ما موجود ، وفي قولك : فلان ابن فلان حافظ للتوراة والإنجيل ، يتضح لك ما ذكرت ، ثم إن تخصص المسند إليه ، إما أن يكون لكونه أحد أقسام المعرفات فحسب ، وهي : المضمرات ، الأعلام ، المبهمات ، أعني : الموصولات ، وأسماء الإشارة المعرفات باللام ، المضافات إلى المعارف إضافة حقيقية ، مع القيد المذكور في علم النحو ، أو لما زاد على ذلك : من كونه مصحوبا بشيء من التوابع الخمسة ، والضمير المسمى فصلا ، وإما أن يكون لا لما ذكرنا ، كما ستقف عليه ، ولكل من ذلك حالة تقتضيه.

المسند إليه ضميرا :

وأما الحالة التي تقتضي كونه مضمرا ، فهى : إذا كان المقام مقام حكاية كقوله (٢) :

أنا الذي يجدوني في صدورهم ...

لا أرتقي صدرا منها ولا أرد

وقوله (٣) :

أنا المرعث لا أخفى على أحد ...

ذرت بي الشمس للقاصى وللداني

__________________

(١) في (ط) و (د): (حكم).

(٢) البيت من البسيط ولم أعثر على قائله.

(٣) البيت من البسيط ، وهو في الإيضاح (١ / ١١٣) لبشار بن برد الملقب بالمرعّث ، وفي ديوانه ص ٢٤٠.

٢٦٩

وقوله (١) :

ونحن التاركون لما سخطنا ....

ونحن الآخذون لما رضينا

وقوله (٢) :

ونحن بنو عمّ على ذاك بيننا ....

زرابيّ فيها بغضة وتنافس

ونحن كصدع العسّ إن يعط شاعبا ...

يدعه وفيه عيبه متناحس

أو مقام خطاب كقوله (٣) :

يا بن الأكارم من عدنان قد علموا ...

وتالد المجد بين العمّ والخال

أنت الذي تنزل الأيّام منزلها ...

وتمسك الأرض من خسف وزلزال

وقوله (٤) :

قد كان قبلك أقوام فجعت بهم ...

خلى لنا هلكهم سمعا وأبصارا

أنت الذي لم تدع سمعا ولا بصرا ...

إلا شفا ، فأمرّ العيش إمرارا

__________________

(١) البيت من الوافر ، لعمرو بن كلثوم شاعر جاهلي معروف ، والبيت من معلقته. شرح المعلقات للزوزني (٢٥٣ ، ٢٥٨) ، وديوان المعاني ١١٠ ، والتبيان (١ / ١٤٩) بتحقيقى ولا يخفى ما يدل عليه ذكر المسند إليه مضمرا في هذا الشاهد وسابقه من الدلالة على الفخر.

(٢) البيتان من الطويل لأرطأه بن سهية المري ، الحماسة (١ / ٣٩٧ ، ٣٩٨) وزرابي : واحدها زربية وهى البسط. والعس : القدح الكبير. وشاعبا : هو من يصلح القداح. ومتناحس : متباعد فاسد.

والبيت الثاني في لسان العرب (٤ / ٢٢١١) (شخس) منسوب لأرطأة راويه عن ابن الأعرابي.

(٣) البيتان من البسيط ، وهما لعلى بن جبلة الملقب بالعكوّك ، وهما في ديوانه (٣٣).

(٤) البيتان من البسيط ولم أعثر على قائلهما ، والشفا : القليل ، يقال : ما بقى من الشمس والقمر إلا شفى أي قليل. اللسان مادة : (شفى).

٢٧٠

وقوله (١) :

وأنت الذي كلّفتني دلج السرى ...

وجون القطا بالجهلتين جثوم

وقولها (٢) :

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ...

وأشمتّ بي من كان فيك يلوم

وحق الخطاب أن يكون مع مخاطب معين ، ثم يترك إلى غير معين ، كما تقول : خ خ فلان لئيم ، إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه ، أساء إليك.

فلا تريد مخاطبا بعينه ، كأنك قلت : خ خ إن أكرم أو أحسن إليه ، قصدا إلى أن سوء معاملته لا يختص واحدا دون واحد ، وأنه في القرآن كثير يحمل قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ)(٣) على العموم ؛ قصدا إلى تفظيع حال المجرمين ، وأن قد بلغت من الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها ألبتة ، فلا تختص رؤية راء دون راء دون راء ، بل كل من يتأتى منه الرؤية فله مدخل في هذا الخطاب ، وكذا أمثال له. أو كان المسند إليه في ذهن السامع لكونه مذكورا ، أو في حكم المذكور ، لقرائن الأحوال ، ويراد الإشارة إليه ؛ كنحو قوله (٤) :

من البيض الوجوه بني سنان ...

لو انّك تستضىء بهم أضاءوا

__________________

(١) البيت من الطويل ، لابن الدمينة عبد الله بن عمر الخثعمي في ديوانه (٤٢).

الدّلجة : سير السحر. والسّرى : سير الليل.

(٢) البيت من الطويل وهو لمعشوقة ابن الدمينة في ديوانه ص ٢٤ تجيبه به ، ولأميمة امرأته في الأغاني ١٧ / ٥٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٣٨١ ، وبلا نسبة في البيان والتبيين ٣ / ٣٧٠ وفي الحيوان (٣ / ٥٥).

(٣) سورة السجدة : الآية : ١٢.

(٤) البيتان من الوافر ، وهما لأبي البرج القاسم بن جبل الذبياني ؛ شاعر إسلامي. شرح الحماسة ١٦٥٨ ، الإيضاح ١ / ١١٤ بلا عزو ، وقبلهما : أرى الخلان بعد أبي حبيب بحجر في جنابهم خفاء.

٢٧١

هم حلّوا من الشّرف المعلّى ...

ومن حسب العشيرة حيث شاءوا

وقوله (١) :

بيمن أبي إسحاق طالت يد العلى ...

وقامت قناة الدين واشتدّ كاهله

هو البحر من أيّ النّواحي أتيته ...

فلجّته المعروف والبرّ ساحله (٢)

وقوله (٣) :

أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ...

فكيف إذا لم يكن عنه مذهب

هو المهرب المنجي لمن أحدقت به ...

مكاره دهر ليس عنهنّ مهرب

المسند إليه علما :

وأما الحالة التي تقتضي كونه علما ، فهي إذا كان المقام مقام إحضار له بعينه في ذهن السامع ابتداء بطريق يخصه. كنحو : زيد صديق لك ، وعمرو عدو لك ، وفي قوله (٤) :

أبو مالك قاصر فقره ...

على نفسه ومشيع غناه

وقوله (٥) :

__________________

(١) البيتان من الطويل وهما لأبي تمام في ديوانه (٢ / ٢٠٣) والتبيان (١ / ١٤٩).

(٢) في (غ): (ساحه).

(٣) البيتان من الطويل وهما لابن الرومى في ديوانه ص ٣١٥.

(٤) البيت من المتقارب وهو لمالك بن عويمر المعروف بالمتنخل الهذلي من قصيدة له في رثاء أبيه وكان يكنى أبا مالك. الحماسة ص ٥٥٢ ، ١٠٧٩ وديوان الهذليين (٣ / ٢٧٧).

(٥) البيت من الكامل وهو للحارث بن هشام في الاعتذار عن فراره عن أخيه أبي جهل يوم بدر ، شرح الحماسة (١ / ١٨٨).

٢٧٢

الله يعلم ما تركت قتالهم

حتّى علوا فرسي بأشقر مزبد

قال تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ)(١) أو مقام تعظيم ، والاسم صالح لذلك ، كما في الكنى والألقاب المحمودة ؛ أو إهانة والاسم صالح كالأسامي المذمومة ، أو كناية مثل قوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ،) أي يدا جهنمي. أو مقام إيهام أنك تستلذ اسمه العلم ، أو تتبرك به ، أو ما شاكل ذلك (٢) مما له مدخل في الاعتبار.

المسند إليه اسما موصولا :

وأما الحالة التي تقتضي كونه موصولا : فهي متى صح إحضاره في ذهن السامع بوساطة ذكر جملة معلومة الانتساب إلى مشار إليه ، واتصل بإحضاره بهذا الوجه غرض مثل : أن لا يكون لك منه أمر معلوم سواه ، أو لمخاطبك ، فتقول : خ خ الذي كان معك أمس لا أعرفه ، خ خ والذي كان معنا أمس رجل عالم فأعرفه ، أو خ خ الذين في بلاد الشرق لا أعرفهم ، أو لا تعرفهم ، أو لا نعرفهم.

أو أن تستهجن التصريح بالاسم ، أو أن يقصد زيادة التقرير كما في قوله عز وعلا : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ)(٣). والعدول عن التصريح باب من البلاغة يصار إليه كثيرا ، وإن [أورث](٤) تطويلا.

__________________

(١) سورة المسد ، الآية ١.

(٢) في (ط) (أو ما شاكل كل ذاك).

(٣) سورة يوسف ، الآية : ٢٣ ، قال الألوسي : والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على الستر ما أمكن. أو للاستهجان بذكره وإيراد الوصول دون امرأة العزيز مع أنه أخصر وأظهر لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك ولإظهار كمال نزاهته عليه‌السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت يدها ينادي بكونه عليه‌السلام في أعلى مدارج العفة. روح المعاني (١٢ / ٢١١).

(٤) في (ط) و (غ): (أردت) ، وهو خطأ بلا شك ، ومخالف لما في (د) و (ك).

٢٧٣

يحكى عن شريح : أن رجلا أقر عنده بشيء ، ثم رجع ينكر ، فقال له شريح : خ خ شهد عليك ابن أخت خالتك ، آثر شريح التطويل ليعدل عن التصريح بنسبة الحماقة إلى المنكر ، لكون الإنكار بعد الإقرار إدخالا للعنق في ربقة الكذب لا محالة ، أو للتهمة.

وكذا ما يحكى عنه : أن عدي بن أرطاة أتاه ومعه امرأة له من أهل الكوفة يخاصمها ، فلما جلس بين يدي شريح قال عدي : أين أنت؟ قال : بينك وبين الحائط. قال : إني امرؤ من أهل الشام. قال : بعيد سحيق. قال : وإني قدمت العراق. قال : خير مقدم. قال : وتزوجت هذه. قال : بالرفاء والبنين. قال : وإنها ولدت غلاما. قال : ليهنك الفارس. قال : وأردت أن أنقلها إلى داري. قال : المرء أحق بأهله. قال : قد كنت شرطت لها وكرها. قال : الشرط أملك. قال : اقض بيننا. قال : فعلت. قال : فعلى من قضيت؟ قال : على ابن أمك.

عدل شريح عن لفظ عليك لئلا يواجهه بالتصريح على ما يشق على المخاصم من القضاء عليه.

أو أن تومىء بذلك إلى وجه بناء الخبر الذي تبنيه عليه ، فتقول : خ خ الذين آمنوا لهم درجات النعيم ، والذين كفروا لهم دركات الجحيم ، ثم يتفرع على هذا اعتبارات لطيفة ربما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم ، كقولك : خ خ الذي يرافقك يستحق الإجلال والرفع ، والذي يفارقك يستحق الإذلال والصفع ، ومنه قولهم : خ خ جاء بعد اللتيا والتي (١).

وسيأتيك في فصل الإيجاز معناه ، أو بالإهانة ، كما إذا قلبت الخبر في الصورتين ، وربما جعل ذريعة إلى تعظيم شأن الخبر ، كقوله (٢) :

__________________

(١) اللتيا : تصغير التي ، وهي الداهية الصغيرة والتي الداهية الكبيرة.

(٢) البيت من الكامل. وهو للفرزدق همام بن غالب ، يفتخر ببيته في تميم على جرير ، المعاهد (١ / ١٠٣ ـ ١٠٤) والتبيان (١ / ١٥٦).

٢٧٤

إنّ الذي سمك السّماء بني لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول

وربما جعل ذريعة إلى تحقيق الخبر ، كقوله (١) :

إنّ التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول

وربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على خطأ ، كقوله :

إنّ الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا (٢)

أو على معنى آخر ، كقوله (٣) :

إنّ الذي الوحشة في داره

يؤنسه الرحمة في لحده

وربما قصد بذلك أن يتوجه ذهن السامع إلى ما سيخبر به عنه منتظرا لوروده عليه ، حتى يأخذ منه مكانه إذا ورد ، كقوله (٤) :

والذي حارت البرية فيه

حيوان مستحدث من جماد

وفي هذه الاعتبارات كثرة ، فحم لها حول ذكائك.

المسند إليه اسم إشارة :

وأما الحالة التي تقتضي كونه اسم إشارة : فهي متى. صح إحضاره في ذهن السامع بوساطة الإشارة إليه حسّا ، واتصل بذلك داع ، مثل أن لا يكون لك أو لسامعك طريق

__________________

(١) البيت من البسيط وقائله عبدة بن الطيب واسم أبيه يزيد بن عمرو ، شعره (٥٩) ، التبيان للطيبى (١ / ١٥٥) بتحقيقى وتاج العروس (٢٤ / ٣٤١)

(٢) البيت من الكامل وهو لعبدة بن الطيب وهو شاعر مخضرم. (شعره / ٤٨) ، التبيان (١ / ١٥٦) المفضليات (١٤٧) شرح عقود الجمان ص ٦٧) معاهد التنصيص (١ / ١٠٠).

(٣) البيت من السريع وقائله أبو العلاء المعرى ، سقط الزند (٢٨) والتبيان للطيبى (١ / ١٥٦).

(٤) البيت من الخفيف وصاحبه أبو العلاء المعرى سقط الزند (٢ / ١٠٠٤) والإيضاح ص ١٣٥ ، ومعاهد التنصيص (١ / ١٣٥) وعقود الجمان (١ / ٦٨).

٢٧٥

إليه سواها ، أو أن تقصد بذلك أكمل تمييز له وتعيين ، كقوله (١) :

هذا أبو الصّقر فردا في محاسنه

من نسل شيبان بين الضّال والسّلم

وقوله (٢) :

وإذا تأمّل شخص ضيف مقبل

متسربل سربال ليل أغبر

أومى إلى الكوماء : هذا طارق

نحرتني الأعداء إن لم تنحري

وقوله (٣) :

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلّا الأذلّان : عير الحيّ والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ ، فلا يرثى له أحد

وقوله (٤) :

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

وإن عاهدوا أوفوا ، وإن عقدوا شدّوا

أو أن يقصد بيان حاله في القرب والبعد والتوسط ، كقولك : هذا وذلك وذاك ، ثم تتفرع على ما ذكر وجوه من الاعتبار ، مثل : أن تقصد بذلك كمال العناية بتمييزه

__________________

(١) البيت من البسيط ينسب إلى ابن الرومي أبي الحسن علي بن العباس بن جريج الشاعر الهجاء ت (٢٨٣ ه‍) يمدح به أبا الصقر الشيباني وزير الخليفة العباسى المعتمد. المعاهد (١ / ١٠٧) والإيضاح (١ / ١١٨) بلا عزو.

(٢) البيتان من الكامل وردا في أمالي أبي علي القالي (١ / ٤٣) بلا عزو وفي ديوان حسان ص ٣٨٧ ، وينسبان لابن المولى محمد بن عبد الله بن مسلم ، الإيضاح (١ / ١١٨ ـ ١١٩) بلا عزو.

(٣) البيتان من البسيط. وهما للمتلمس ديوانه ص ٢٠٨ ، وبلا نسبة في تاج العروس (٩ / ٢٤٩) (وتد) ، وجمهرة الأمثال (١ / ٩٠) والدرة الفاخرة (١ / ٢٠٣) ، والتبيان للطيبي (٢ / ٤٤٣).

(٤) البيت من الطويل وهو للحطيئة في ديوانه ص ١٤١ ، ولسان العرب (٣ / ٢٩٧) (عقد) (١٤ / ٨٩ ، ٩٤) وتاج العروس (بنى).

٢٧٦

وتعيينه ، كقوله عز من قائل : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١) ، أو أن تقصد بذلك أن السامع غبي لا يتميز الشيء عنده إلا بالحس ، كقول الفرزدق في خطابه جريرا (٢) :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

أو أن تقصد بقربه تحقيره واسترذاله ، كما قالت عائشة : يا عجبا لابن عمرو هذا!! محقرة له ، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص ، وكما يحكيه عز وعلا عن الكفار : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)(٣). وفي موضع آخر : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)(٤) وفي موضع آخر : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)(٥). ومنه : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)(٦). وكما يحكيه القائل عن امرأته (٧) :

تقول ودقّت نحرها بيمينها

أبعلي هذا بالرّحا المتقاعس؟

وببعده تعظيمه ، كما تقول في مقام التعظيم : ذلك الفاضل ، وأولئك الفحول.

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ٥.

(٢) البيت من الطويل وهو للفرزدق في ديوانه (١١ / ٤١٨) ، وأساس البلاغة (جمع) ، والإشارات والتنبيهات ١٨٤ ، والإيضاح (١ / ٩ / ١) ، (والتبيان ١ / ١٥٧).

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٦ وسورة المدثر الآية : ٣١.

(٤) سورة الفرقان ، الآية : ٤١.

(٥) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٦.

(٦) سورة العنكبوت ، الآية : ٦٤.

(٧) البيت من الطويل وهو لهذلول بن كعب العنبري في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٦٩٦ وبلا نسبة في خزانة الأدب ٨ / ٤٣٠ ، والخصائص (١ / ٢٤٥) والدرر (١ / ٢٩٣) وورد في بعض الروايات : وصكت بدل (ودقت).

٢٧٧

وكقوله عز وعلا : (الم ذلِكَ الْكِتابُ)(١) ، ذهابا إلى بعده درجة ، وقولها فيما يحكيه جل وعلا : (قالَتْ فَذلِكُنَ)(٢).

ولم تقل : فهذا ، ويوسف حاضر ؛ رفعا لمنزلته في الحسن ، واستحقاق أن يحب ويفتتن به ، واستبعادا لمحله.

ومن التبعيد لقصد التعظيم قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها)(٣) أو خلاف تعظيمه ، كما تقول : خ خ ذلك اللعين ، أو ما سوى ذلك مما له انخراط في هذا السلك ، ولطائف هذا الفصل لا تكاد تنضبط.

تعريف المسند إليه باللام :

وأما الحالة التي تقتضي التعريف باللام : فهي متى أريد بالمسند إليه نفس الحقيقة كقولك : خ خ الماء مبدأ كل حي. قال عز من قائل (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ)(٤) أي جعلنا مبدأ كل شيء حي ، هذا الجنس الذي هو جنس الماء ، يأتي في الروايات أنه جل وعلا خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجن من نار ، خلقها منه ، وآدم من تراب خلقه منه ، وكقولك : خ خ الرجل أفضل من المرأة ، وخ خ الدينار خير من الدرهم ، وخ خ الكل أعظم من الجزء ، وخ خ نعم الرجل ، وخ خ بئس الرجل ، ومن تعريف الجنس ، قوله (٥) :

والخلّ كالماء يبدي لي ضمائره ...

مع الصّفاء ويخفيها مع الكدر

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيات : ١ ـ ٢.

(٢) سورة يوسف الآية : ٣٢.

(٣) سورة الزخرف ، الآية : ٧٢.

(٤) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠.

(٥) البيت من الطويل وهو لأبي العلاء المعرى. سقط الزند (٥٨) وسر الفصاحة (٢٣٨) والتبيان للطيبى (١ / ١٦٠ ـ ٢٦٩).

٢٧٨

وقوله (١) :

الناس أرض بكلّ أرض ...

وأنت من فوقهم سماء

وقوله عز قائلا : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)(٢). ولقرب المسافة إذا تأملت بين أن يعرف الاسم هذا التعريف ، وبين أن يترك غير معرف به يعامل معرفة كثيرا ، معاملة غير المعرف قال (٣) :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ...

فمضيت ثمّت قلت : لا يعنيني

فعرف اللئيم ، والمعنى : ولقد أمر على لئيم من اللئام ، ولذلك تقدر يسبني وصفا ، لا حالا (٤) ، وله في القرآن غير نظير ، أو العموم والاستغراق كقوله عز وعلا : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)(٥). وقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٦) وقوله : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى)(٧).

__________________

(١) البيت من مخلع البسيط. انظر ديوان المعاني (٢٦).

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٨٩.

(٣) البيت من الكامل وهو لرجل من سلول في الدرر (١ / ٧٨) ، وشرح التصريح (٢ / ١١) وشرح شواهد المغني (١ / ٣١٠) ، ولشمّر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات ص ١٢٦ ، ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري ص ١٧١ ، وبلا نسبة في الأزهية ص ٢٦٣) والأشباه والنظائر (٣ / ٩٠) ، وجواهر الأدب ص ٣٠٧. والبيت في لسان العرب مادة (ثمم) قال : والعرب تزيد في ثم ثاء تقول : فعلت كذا وكذا ثمّت فعلت كذا ، ثم استشهد بالبيت.

(٤) تأمل هذا الموضع فإنه من لطائف الإعراب التي تستفاد بعلم المعاني ولا يتوصل إليها بمجرد التمهر في علم النحو وحده.

(٥) سورة العصر الآيات : ٢ ـ ٣.

(٦) سورة المائدة ، الآية : ٣٨.

(٧) سورة طه ، الآية : ٦٩.

٢٧٩

أو كان المسند إليه حصة معهودة من الحقيقة ، كما إذا قال لك قائل : خ خ جاءني رجل من قبيلة كذا ، أو رجلان أو رجال ، فتقول له : خ خ الرجل الذي جاءك أعرف ، أو الرجلان اللذان جاآك ، أو الرجال الذين جاءوك. وفي التنزيل : (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ)(١) ، وفي موضع آخر : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(٢).

وتقرير ما ذكرنا من إفادة اللام الاستغراق أو العهد ، يذكر في الفن الثالث ، إن شاء الله تعالى.

تعريف المسند إليه بالإضافة :

وأما الحالة التي تقتضي التعريف بالإضافة ، فهي متى لم يكن للمتكلم إلى إحضاره في ذهن السامع طريق سواها أصلا ، كقولك : خ خ غلام زيد.

إن لم يكن عندك منه شيء سواه ، أو عند سامعك ، أو طريق سواها أخصر ، والمقام مقام اختصار ، كقوله (٣) :

هواي مع الركب اليمانين مصعد ...

جنيب وجثماني بمكّة موثق

أو لأن في إضافته حصول مطلوب آخر ، مثل أن تغني عن التفصيل المتعذر ، أو الأولى تركه بجهة من الجهات ، كقوله (٤) :

بنو مطر يوم اللقاء كأنّهم ...

أسود لها في غيل خفّان أشبل

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآيات ٣٦ ـ ٣٨.

(٢) سورة المزمل ، الآيات ١٥ ـ ١٦.

(٣) البيت من الطويل وهو لجعفر بن علبة في معاهد التنصيص (١ / ١٢٠) وبلا نسبة في تاج العروس (١٢ / ١٨٢) (شعر)

(٤) البيت من الطويل وهو لمروان بن أبي حفصة يمدح معن بن زائدة الشيباني ، وبنو مطر قومه بطن من شيبان ، انظر ديوانه (٢٥٧) والإيضاح (١ / ١٢٥) والتبيان (١ / ١٤٨). وبعده :

هم المانعون الجار حتى كأنما ...

لجارهم فوق السماكين منزل

هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ...

أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا

٢٨٠