مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

وقوله (١) :

أولاد جفنة حول قبر أبيهم ...

قبر ابن مارية الكريم المفضل

وقوله (٢) :

قومي هم قتلوا أميم أخي ...

فإذا رميت يصيبني سهمي

وقوله (٣) :

قبائلنا سبع ، وأنتم ثلاثة ...

وللسّبع خير من ثلاث وأكثر

أو مثل أن تتضمن اعتبارا لطيفا مجازيّا ، كقوله (٤) :

إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ...

سهيل أذاعت غزلها في القرائب

__________________

(١) البيت من الكامل وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ١٢٢ ولسان العرب (جفن) ، (مرا) ، وتاج العروس (فضل) (جفن) (مرى) وبلا نسبة في كتاب العين (٦ / ١٤٦). وروى الأعز الأجلل بدل الكريم المفضل.

(٢) البيت من الكامل وهو للحارث بن وعلة في الدرر ٥ / ١٢٣ وسمط اللآلى ص ٣٠٥ ، ٥٨٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٠٤ وشرح شواهد المغنى ١ / ٦٣ والبيت الذي يليه

فلئن عفوت لأعفون جللا

ولئن سطوت لأوهنن عظمى.

(٣) البيت من الطويل وهو للقتال الكلابي في ديوانه ص ٥٠ ، والإنصاف (٢ / ٧٧٢) وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٣٧٠) والكتاب (٣ / ٥٦٥)

(٤) البيت من الطويل وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر (٣ / ١٩٣) وخزانة الأدب (٣ / ١١٢ ، ٩ / ١٢٨) ، وشرح المفصل (٣ / ٨) ، ولسان العرب (غرب). ويروى الغرائب بدل القرائب.

والقرائب : الجمع من النساء اللسان : (قرب).

٢٨١

وقوله (١) :

إذا قال : قدني ، قال بالله حلفة ...

لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا

أو مثل أن تتضمن نوع تعظيم باعتبار ، كما تقول : خ خ عبدي حضر ، فتعظم شأنك أن لك عبدا ، أو كما تقول : خ خ عبد الخليفة حضر ، فتعظم شأن العبد ، أو كما تقول : خ خ عبد الخليفة عند فلان ، فتعظم شأن فلان ، أو نوع تحقير ، كما تقول : خ خ ولد الحجّام عنده ، أو غرضا من الأغراض ممكن التعلق بالإضافة.

المسند إليه معرفة موصوفة :

وأما الحالة التي تقتضي وصف المعرّف : فهي إذا كان الوصف مبينا له كاشفا عنه ، كما إذا قلت : خ خ الجسم الطويل العريض العميق محتاج إلى فراغ يشغله ، أو قلت : خ خ المتقي الذي يؤمن ويصلي ويزكي على هدى من ربه ، فبيّنت بالوصف على ألطف وجه أن المتقي هو الذي يفعل الواجبات بأسرها ، ويجتنب الفواحش والمنكرات عن آخرها ، وكشفته كشفا كأنك حدّدته.

ووجه اللطافة هو أنك ذكرت أساس الحسنات ومنصبها ، وهو : الإيمان ، وعقبته بأمي العبادات البدنية والمالية المستتبعتين لسائر العبادات وهما : الصلاة والزكاة ؛ فأفدت بذلك فعل الواجبات بأسرها ، وذكرت الناهي عن الفحشاء والمنكر ، وهو الصلاة ، فأفدت ذلك اجتناب الفواحش عن آخرها ، ونظيره في تنزيل الوصف منزلة الكاشف للمجرى عليه قول أوس (٢) :

__________________

(١) البيت من الطويل وهو لحريث بن عناب في خزانة الأدب (١١ / ٤٣٤ ، ٤٣٥ ، ٤٣٩ ، ٤٤١ ، ٤٤٣) ، والدرر (٤ / ٢١٧) ومجالس ثعلب ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٠٧ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٥٥٩. ويروى إذا قيل بدل إذا قال. القدن : الكافية والحسب (اللسان : قدن).

(٢) البيت من المنسرح وهو لأوس بن حجر في ديوانه ص ٥٣ ولسان العرب (حظرب) و (لمع) وديوان الأدب (١ / ٢٧٣) ومعاهد التنصيص (١ / ١٢٨) ولأوس أو لبشر بن أبي خازم في تاج العروس (لمع) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة (٥ / ٢١٢).

٢٨٢

الألمعيّ الذي يظنّ بك الظن ...

كأن قد رأى وقد سمعا

حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي ، فأنشده ولم يزد ، ومما تواخى هذا قوله جل وعلا : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)(١) عن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع؟ فقلت : قد فسره الله تعالى.

أو مدحا له كقولك : الله الخالق البارئ المصور ، أو كما إذا قلت : المتقي الذي يؤمن ويصلي ويزكي على هدى ، ولم ترد إلا مدحه ، أو ذمّا له ، كقولك : إبليس اللعين ضال مضل ، أو مخصصا له زيادة تخصيص ، مفيدا غير فائدة الكشف أو المدح كقولك : زيد التاجر عندنا ، أو كما إذا قلت : المتقي الذي يؤمن ويصلي على هدى ، وأنت تريد بالمتقي المجتنب عن المعاصي ، أو تأكيدا له مجردا كقولك : أمس الدابر لا يعود ، وكان ما تعلق بالوصف مطلوبا ، ولما ترى من طلب التمييز بالوصف وامتناع أن تميز شيئا عن شيء بما لا تعرفه له يمكنك أن تتوصل به إلى أن حق الوصف كونه عند السامع معلوم التحقق للموصوف ، ولعلمك بأن تحقق الشيء للشيء فرع تحققه في نفسه ، لا يشتبه عليك أن حق كل وصف هو أن يكون في نفسه ثابتا متحققا ، وأن حق كل ما تقصد ثبوته للغير أن يكون في نفسه ثابتا ، وعندك ، فما لا يكون ثابتا كذلك أو متحققا يمتنع منك جعله وصفا ، وكذا خبرا أيضا ، بحكم عكس النقيض.

وعسى إذا استوضحت ما أريناكه أن تجذب بضبعك ، في تزييف رأي من لا يرى الصفة معلومة ، وأن تتحقق أن محاولة إثبات الثابت في نفسه لشيء آخر يستدعي ثبوت ذلك الشيء الآخر في نفسه لا محالة ، ثم لعلمك أن الطلب سعي في التحصيل ، وأن تحصيل الحاصل ممتنع ، كما سيأتيك كل ذلك في قانون الطلب ، تعلم أن مطلوبك مثله في نحو : هل رأيت كذا؟ وفي نحو : اضرب ، يمتنع أن يكون ثابتا عندك ومتحققا ، فيمتنع

__________________

(١) سورة المعارج ، الآيات : ١٩ ـ ٢١.

٢٨٣

أن تجعل مثله وصفا له أو خبرا ، ولذلك تسمعنا في مثل قوله (١) :

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قطّ

نقول : تقديره جاءوا بمذق مقول عنده هذا القول ، أي يحمل المذق رائيه أن يقول لمشاهده : هل رأيت الذئب قط ، لإيراده في خيال الرائي لون الذئب بورقته (٢) لكونه سمارا ، وفي مثل : زيد اضربه ، أو لا تضربه ، أنه محمول على يقال ، أي يقال في حقه : اضربه أو لا تضربه ، ونفسر قراءة ابن عباس ، رضي‌الله‌عنه : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ)(٣) على لفظ (من) الاستفهاميّ ورفع فرعون ، بأنه لما وصف الله تعالى العذاب بكونه مهينا ، بيانا لشدته وفظاعة أمره ، وأراد أن يصور كنهه ، قال : من فرعون؟ هل تعرفونه من هو في فرط عتوه وشدة شكيمته في تفرعنه؟ ما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله؟ ثم عرف حاله في ذلك قائلا : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ)(٤) وسيطلع من كتابنا هذا من خدمه حق خدمته على ثمرات محتجبة في أكمام.

تأكيد المسند إليه :

وأما الحالة التي تقتضي تأكيده : فهي إذا كان المراد أن لا يظن بك السامع في

__________________

(١) الرجز للعجاج في ملحق ديوانه (٢ / ٣٠٤) وخزانة الأدب (٢ / ١٠٩) والدرر (٦ / ١١٠). قال :

حتى إذا جنّ الظلام واختلط ...

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قطّ

المذق : المزج والخلط ، المذقة : الشربة من اللبن الممذوق اللسان (مذق).

(٢) الورقة بضم الواو : سواد في غبرة. والأورق : اللبن الذي ثلثاه ماء وثلثه لبن. اللسان مادة (ورق).

وقال في اللسان مادة (مذق) : وأبو مذقة : الذئب ؛ لأن لونه يشبه لون المذقة ؛ ولذلك قال : جاءوا بضيح هل رأيت الذئب قط؟ شبه لون الضيح ، وهو اللبن المخلوط ، بلون الذئب.

(٣) سورة الدخان ، الآيات : ٣٠ ـ ٣١.

(٤) سورة الدخان الآية : ٣١.

٢٨٤

حملك ذلك تجوزا أو سهوا أو نسيانا ، كقولك : عرفت أنا ، وعرفت أنت ، وعرف زيد زيد ، أو نفسه ، أو عينه ، وربما كان القصد مجرد التقرير ، كما يطلعك عليه فصل اعتبار التقديم والتأخير مع الفعل ، أو خلاف الشمول والإحاطة ، كقولك : عرفني الرجلان كلاهما ، والرجال كلهم ، ومنه كل رجل عارف ، وكل إنسان حيوان.

بيان وتفسير المسند إليه :

وأما الحالة التي تقتضي بيانه وتفسيره ، فهي إذا كان المراد زيادة إيضاحه بما يخصه من الاسم ، كقولك : صديقك خالد قدم ، وقوله علت كلمته : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ)(١) من هذا القبيل ، شفع إلهين باثنين ، و (إله) بواحد ؛ لأن لفظ إلهين يحتمل معنى الجنسية ومعنى التثنية ، وكذا لفظ : (إله) يحتمل الجنسية والوحدة ، والذي له الكلام مسوق هو العدد في الأول والوحدة في الثاني ، ففسر إلهين باثنين ، و (إله) بواحد ؛ بيانا لما هو الأصل في الغرض.

ومن هذا الباب من وجه قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(٢) ذكر (فِي الْأَرْضِ) مع دابة ، (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) مع طائر ، لبيان أن القصد من لفظ (دابة) ولفظ (طائر) إنما هو إلى الجنسين وإلى تقريرهما.

البدل عن المسند إليه :

وأما الحالة التي تقتضي البدل عنه فهي : إذا كان المراد نية تكرير الحكم ، وذكر المسند إليه بعد توطئة ذكره ؛ لزيادة التقرير والإيضاح ، كقولك : سلب زيد ثوبه ، وجاء القوم أكثرهم ، وحق عليك الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم ، في الأنواع الثلاثة من البدل دون الرابع ، فليتأمل.

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ٥١.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٣٨.

٢٨٥

عطف المسند إليه :

وأما الحالة التي تقتضي العطف فهي : إذا كان المراد تفصيل المسند إليه مع اختصار ، كقولك : جاء زيد وعمرو وخالد ، أو تفصيل المسند مع اختصار ، كقولك : جاء زيد فعمرو فخالد ، أو ثم عمرو ثم خالد ، أو جاء القوم حتى خالد ، ولا بد في (حتى) من التدريج ، كما ينبئ عنه قول من قال (١) :

وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ...

بي الحال حتّى صار إبليس من جندي

أو كان المراد رد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب ، كقولك : جاءني زيد لا عمرو ، لمن في اعتقاده أن عمرا جاءك دون زيد ، أو أنهما جاآك معا ، وكقولك : ما جاءني زيد لكن عمرو ، لمن في اعتقاده أن زيدا جاءك دون عمرو ، أو كان المراد صرف حكمك عن محكوم له إلى آخر ، كقولك : جاءني زيد بل عمرو ، وما جاءني زيد بل عمرو ، أو كان المراد الشك فيه أو التشكيك ، كقوله : جاءني زيد أو عمرو ، أو إما زيد وإما عمرو ، أو كان المراد التفسير ، كقولك : جاءني أخوك أي زيد ، على قولي ، وفي العطف لا سيما العطف بالواو كلام يأتيك في الفن الرابع ، إن شاء الله تعالى.

فصل المسند إليه :

وأما الحالة التي تقتضي الفصل فهي : إذا كان المراد تخصيصه للمسند بالمسند إليه ، كقولك : زيد هو المنطلق ، زيد هو أفضل من عمرو ، أو خير منه ، زيد هو يذهب.

تنكير المسند إليه :

وأما الحالة التي تقتضي تنكيره فهي : إذا كان المقام للإفراد شخصا أو نوعا ، كقولك : جاءني رجل : أي فرد من أشخاص الرجال ، وقوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَ كُلَ

__________________

(١) البيت من الطويل. وهو لأبي نواس الحسن بن هانئ. الإيضاح (١ / ١٣٤) ويروى فارتمى بدل فارتقى.

٢٨٦

دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)(١) أي : من نوع من الماء مختص بتلك الدابة ، أو من ماء مخصوص ، وهي : النطفة ، أو كان المقام غير صالح للتعريف ، إما لأنك لا تعرف منه حقيقة إلا ذلك القدر ، وهو أنه رجل ، أو تتجاهل وترى أنك لا تعرف منه إلّا جنسه ، كما إذا سمعت شيئا في اعتقادك فاسدا عمن هو مفتر كذاب ، وأردت أن تظهر لأصحاب لك سوء اعتقادك به ، قلت : هل لكم في حيوان على صورة إنسان يقول : كيت وكيت؟ متفاديا أن تقول في فلان فتسميه ، كأنك لست تعرف منه ، ولا أصحابك ، إلا تلك الصورة ، ولعله عندكم أشهر من الشمس ، وعليه ما يحكيه ، جل وعلا ، عن الكفار في حق النبي عليه‌السلام : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(٢) كأن لم يكونوا يعرفون منه إلا أنه رجل ما.

وباب التجاهل في البلاغة ، وإلى سحرها ، وإن شئت فانظر لفظ (كأن) في قول الخارجية (٣) :

أيا شجر الخابور مالك مورقا ...

كأنك لم تجزع على ابن طريف

ماذا ترى؟ أو الاستخبار في قول علام الغيوب (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ)(٤).

متضمنا للتوبيخ لهم على تمريضهم (٥) ، ورخاوة عقدهم في الإيمان ، ناعيا عليهم أن يتوقع من أمثالهم ، إن تولوا أمور الناس وتأمروا عليهم ، أن يفسدوا في الأرض ويقطعوا

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٤٥.

(٢) سورة سبأ ، الآية : ٧.

(٣) البيت من الطويل وهو لليلى بنت طريف في الأغاني (١٢ / ٨٥) ، ٨٦) ، والحماسة الشجرية (١ / ٣٢٨) والدرر (٢ / ١٦٣) ولليلى أو لمحمد بن بجرة في سمط اللآلى ص ٩١٣ وللخارجية في الأشباه والنظائر (٥ / ٣١٠) ، وديوان الخوارج (٢٣٩) وبلا نسبة في لسان العرب (خبر).

(٤) سورة محمد الآية : ٢٢.

(٥) تمريض الأمور ، توهينها وأن لا تحكمها ، ورأى مريض ، فيه انحراف عن الصواب. اللسان (مرض).

٢٨٧

أرحامهم ؛ تناحرا في الملك ، وتهالكا على الدنيا ؛ ليهجم بهم التأمل في المتوقع على ما يثمر من : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ)(١) لئلا يلبسوا ، لمن إذا عرض لهم بذلك ، على سبيل النصيحة ، جلد النمر ، وأن لا تنقلب له حماليقهم (٢) ، وإما لأنه لا طريق لك إلى تعريف الزائد على هذا القدر لسامعك ، وإما لأن في تعيينه مانعا يمنعك ، وإما لأنه في شأنه ارتفاعا أو انحطاطا واصل إلى حد يوهم أنه لا يمكن أن يعرف ، فتقول في جميع ذلك : عندي رجل ، أو حضر رجل. وقولهم : شرّ أهرّ ذا ناب (٣) من الاعتبار الأخير ، وستسمع في مثل هذا التركيب ، أعني نحو : رجل جاء ، وامرأة حضرت ، فوائد. وكذا قولك ، في حق من يحقر مقداره في نوع من الأنواع : عنده شمة ، قال تعالى : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ)(٤) ومنه : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)(٥)

__________________

(١) سورة محمد الآية ٢٣.

(٢) حماليقهم : جمع : حملاق : ماغطت الجفون من بياض المقلة ، وبياض العين.

(٣) قال ابن منظور : قال سيبويه : وحسن الابتداء بالنكرة لأنه في معنى : ما أهرّ ذا ناب إلا شرّ أعنى أن الكلام عائد إلى معنى النفي ، وإنما كان المعنى هذا ؛ لأن الخبرية عليه أقوى ، قال : وإنما احتيج في هذا الموضع إلى التوكيد من حيث كان أمرا مهما ، وذلك أن قائل هذا القول سمع هرير كلب فأضاف منه وأشفق لاستماعه أن يكون لطارق شر ، فقال : شر أهر ذا ناب ، أي : ما أهر ذا ناب إلا شر ، تعظيما للحال عند نفسه ، وعند مستمعه ، وليس هذا في نفسه ، كأن يطرقه ضيف أو مسترشد ، فلما عناه وأهمه أكد الإخبار عنه ، وأخرجه مخرج الإغلاظ به. اه. اللسان (هرر).

(٤) سورة الأنبياء ، الآية ٤٦.

(٥) سورة الجاثية ، الآية : ٣٢.

٢٨٨

وقول ابن أبي السمط (١) :

له حاجب في كلّ أمر يشينه ...

وليس له عن طالب العرف حاجب

منه أيضا ، انظر إليه ، كيف تجد الفهم والذوق يقتضيانك كمال ارتفاع شأن حاجب الأول ، وكمال انحطاط حاجب الثاني ، وقال تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)(٢) فنكر لتهويل أمرها ، وقال : (لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(٣) على معنى ، ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، لمنعه عما كانوا عليه من قتل الجماعة بواحد متى اقتدروا ، أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لمكان العلم بالاقتصاص ، أو ما ترى إذا همّ بالقتل فتذكر الاقتصاص ، فأورثه أن يرتدع ، كيف يسلم صاحبه من القتل ، وهو من القود ، فيتسبب لحياة نفسين.

ولمعنى طلب التعظيم والتهويل بالتنكير قال تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)(٤) دون أن يقول : بحرب الله ورسوله ، ولخلاف ذلك قال : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)(٥) دون أن يقول : رضوان الله ، قصدا إلى إفادة : وقدر يسير من رضوانه خير من ذلك كله ؛ لأن رضاه سبب كل سعادة وفلاح ، وأما

__________________

(١) البيت من الطويل وهو لأبي الطمحان القينى في ديوان المعاني (١ / ١٢٧) ولابن أبي السمط في معاهد التنصيص (١ / ١٢٧) والمصباح (٢٥) وزهر الآداب (١ / ٥٥١) ولمروان بن أبي حفصة في شرح شواهد المغنى ص ٩٠٩ وبلا نسبة في أمالي القالى (١ / ٢٣٨) والتبيان (١ / ١٧١) (العرق ـ عرق كل شئ : أصله ، والجمع أعراق وعروق ورجل معرق في الحسب والكرم ، ويستعمل في اللؤم أيضا. اللسان (عرق).

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٧.

(٣) سورة البقرة الآية : ١٧٩.

(٤) سورة البقرة الآية : ٢٧٩.

(٥) سورة التوبة : الآية : ٧٢.

٢٨٩

قوله : (أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ)(١) بالتنكير ، دون عذاب الرحمن بالإضافة ، فإما للتهويل (٢) ، وإما بخلافه ، بمعنى : أخاف أن يصيبك نفيان (٣) من عذاب الرحمن ، وقال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ)(٤) المعنى رسل أي رسل ، ذوو عدد كثير ، وأولو آيات ونذر ، وأهل أعمار طوال ، وأصحاب صبر وعزم ، وما أشبه ذلك.

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٤٥.

(٢) قال الألوسى : وفي الكشف أن الحمل على التفخيم في عذاب كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام ، أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة. قال : ويلقى في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق. اه. روح المعاني (١٦ / ٩٨).

(٣) نفىّ القدر : ما جفأت به عند الغلى ، ونفى الريح : ما نفى من التراب من أصول الحيطان ونحوه ، وكذلك نفى المطر ، ونفى القدر ، والنفيان مثله. اللسان (نفى).

(٤) سورة فاطر الآية ٤.

٢٩٠

تقديم المسند إليه على المسند :

وأما الحالة التي تقتضي تقديمه على المسند فهي : متى كان ذكره أهم ، ثم إن كونه أهم ، يقع باعتبارات مختلفة : إما لأن أصله التقديم ، ولا مقتضى للعدول عنه ، وستسمع كلاما في هذا المعنى في آخر الفن الثالث ، إن شاء الله تعالى ، وإما لأنه متضمن للاستفهام ، كقولك : أيهم منطلق ، وسيقرر في القانون الثاني.

وإما لأنه ضمير الشأن والقصة ، كقولك : هو زيد منطلق ، وعن قريب تعرف السر في التزام تقدمه ، وإما لأن في تقديمه تشويقا للسامع إلى الخبر ؛ ليتمكن في ذهنه إذا أورده ، كما إذا قلت : صديقك فلان الفاعل الصانع رجل صدوق ؛ وهو إحدى خواص تراكيب الأخبار في باب الذي ، كما إذا قلت بدل قولك : زيد منطلق ، الذي زيد هو منطلق ، أو بدل قولك : خبر مقدمك سرني ، الذي هو سرني خبر مقدمك. أو الذي خبره سرني مقدمك ، وهو السبب في التزام تأخير الخبر في هذا الباب ، وامتناع الإخبار عن ضمير الشأن ، والمراد بالإخبار في عرف النحويين في هذا الباب ، هو أن تعمد إلى أي اسم شئت فتزحلقه إلى العجز ، وتصير ما عداه صلة للذي ، إن كانت الجملة اسمية.

وأما إن كانت فعلية ، فله أو للألف واللام بمعناه ، واضعا مكان المزحلق ضميرا عائدا إلى الموصول ، مراعيا في ذلك ما أفادك علم النحو ، مثل : إن ضمير الشأن ملتزم التقديم ، وإن الضمير لا ينصب مفعولا ، وإن الحال لا يكون معرفا ، وإن ربط المعنى بالمعنى إذا كان بسبب عود الضمير ، فلا بد منه.

وأنا أضرب لك أمثلة لتتحقق جميع ذلك. قل في الإخبار عن ضميرك في : أظن الذباب يطير في الجو فيغضب أبا زيد ، الذي يظن الذباب يطير في الجو ، فيغضب أبا زيد ، أنا ، أو الظان الذباب ، وعن الذباب الذي أظنه يطير في الجو فيغضب أبا زيد الذباب ، وعن الجو الذي أظن الذباب يطير فيه فيغضب أبا زيد الجو ، وعن أبي زيد الذي أظن الذباب يطير في الجو فيغضبه أبو زيد ، وعن زيد الذي أظن الذباب يطير في الجو فيغضب أباه زيد ، ولا تخبر في قولك : هو إكرامي زيدا قادما ، واجب عن ضمير الشأن ؛ لئلا يلزم تأخيره الممتنع ، ولا عن الإكرام لئلا يلزم إعمال الضمير الذي يقع موقعه في زيدا ، ولا عن : قادما ؛ لئلا يلزم وقوع الضمير الذي هو معرفة ، موقع الممتنع

٢٩١

عن التعريف ، وهو الحال ، ولا عن الضمير في : واجب ، لئلا يلزم من عود الضمير القائم مقامه إذا عاد إلى الموصول ، كما يجب ترك ربط الخبر بالمبتدأ.

وإما لأن يتقوى استناد الخبر إليه على الظاهر ، كما ستعرفه في الفن الثالث ، وإما لأن اسم المسند إليه يصلح للتفاؤل ، فتقدمه إلى السامع لتسره أو تسوءه ، مثل أن تقول : سعيد بن سعيد في دار فلان ، وسفاك بن الجراح في دار صديقك.

وإما لأن كونه متصفا بالخبر يكون هو المطلوب ، كما إذا قيل لك : كيف الزاهد؟

فتقول : الزاهد يشرب ويطرب ، وإما لتوهم أنه لا يزول عن الخاطر ، أو أنه يستلذ ، فهو إلى الذكر أقرب ، وإما لأن تقديمه ينبىء عن التعظيم ، والمقام يقتضي ذلك ، وإما لأنه يفيد زيادة تخصيص ، كقوله (١) :

متى تهزز بني قطن تجدهم ...

سيوفا في عواتقهم سيوف

جلوس في مجالسهم رزان ...

وإن ضيف ألمّ فهم خفوف

والمراد هم خفوف ، وقوله (٢) :

بحسبك في القوم أن يعلموا ...

بأنك فيهم غنىّ مضر

مسيخ مليخ كلحم الحوار ...

لا أنت حلو ، ولا أنت مرّ

__________________

(١) البيتان من الوافر ولا يعلم قائلهما ، وينسبان إلى النابغة الذبياني في ديوان المعاني (٣٤). وبلا عزو في الإيضاح (١ / ١٣٦) والمصباح (٢٧).

(٢) البيتان من المتقارب ، وهما للأشعر الرقبان في تذكرة النحاة (٤٤٣ ـ ٤٤٤) ولسان العرب (مسخ) ، (ضرر) والمعاني الكبير (٤٩٦) ونوادر أبي زيد (٧٣) وبلا نسبة في الإنصاف (١ / ١٧٠) ، وديوان المعاني (١ / ٣٥) وشرح ديوان الحماسة ص ١٤٦٩ ، وشرح المفصل (٢ / ١١٥) ، (٨ / ٢٣ ـ ١٣٩).

والحوار والحوار : ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم ويفصل.

المسيخ : من اللحم الذي لا طعم له. والمليخ : الضعيف ، والذي لا طعم له.

٢٩٢

وأشباه ذلك.

تأخير المسند إليه عن المسند

وأما الحالة التي تقتضي تأخيره عن المسند فهي : إذا اشتمل المسند على وجه من وجوه التقديم ، كما سترد عليك في الفن الثالث ، إن شاء الله تعالى.

إطلاق المسند إليه ، أو تخصيصه ، حال التنكير :

وأما الحالتان المقتضيتان لإطلاق المسند إليه أو تخصيصه حال التنكير ، فأنت إذا مهرت فيما تقدم استغنيت عن التعريف فيهما.

قصر المسند إليه على المسند :

وأما الحالة المقتضية لقصر المسند إليه على المسند ، فهي : أن يكون عند السامع حكم مشوب بصواب وخطأ ، وأنت تريد تقرير صوابه ونفي خطئه ، مثل أن يكون عند السامع : أن زيدا متمول وجواد ، فتقول له : زيد متمول لا جواد ، ليعرف أن زيدا مقصور على التمول ، لا يتعداه إلى الجود ، أو تقول له : ما زيد إلا متمول ، أو إنما زيد متمول ، وعليه ما يحكي عزوجل في حق يوسف عن النسوة : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(١) أي أنه مقصور على الملكية ، لا يتخطاها إلى البشرية ، وما يحكى عن اليهود في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(٢) أي : يقولون : نحن مقصورون على الصلاح لا يتأتى منا أمر سواه.

واعلم أن القصر كما يكون للمسند إليه على المسند يكون أيضا للمسند على المسند إليه ، ثم هو ليس مختصّا بهذا البين ، بل له شيوع وله تفريعات ، فالأولى أن نفرد للكلام في ذلك فصلا ، ونؤخره إلى تمام التعرض لما سواه في قانوننا هذا ؛ ليكون إلى الوقوف عليه أقرب.

__________________

(١) سورة يوسف الآية : ٣١.

(٢) سورة البقرة الآية ١١.

٢٩٣

واعلم أن جميع ذلك هو مقتضى الظاهر ، ثم قد يخرج المسند إليه ، لا على مقتضى الظاهر ، فيوضع اسم الإشارة موضع الضمير ، وذلك إذا كملت العناية بتمييزه ، إما لأنه اختص بحكم بديع عجيب الشأن ، كقوله (١) :

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ...

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة ...

وصيّر العالم النّحرير زنديقا

وإما لأنه قصد التهكم بالسامع والسخرية منه ، كما إذا كان فاقد البصر ، أو لم يكن ، ثم مشار إليه أصلا ، أو النداء على كمال بلادته بأنه لا يميز بين المحسوس بالبصر وغيره ، أو على كمال فطانته ، وبعد غور إدراكه بأن غير المحسوس بالبصر عنده كالمحسوس عند غيره ، أو قصد ادعاء أنه ظهر ظهور المحسوس بالبصر كقوله (٢) :

تعاللت كي أشجى ، وما بك علة ...

تريدين قتلي ، قد ظفرت بذلك

وما شاكل ذلك ، ويوضع المضمر موضع المظهر ، كقولهم ابتداء من غير جري ، ذكر لفظا أو قرينة حال : رب رجلا ، ونعم رجلا زيد ، وبئس رجلا عمرو ، مكان رب رجل ، ونعم الرجل ، وبئس الرجل ، على قول من لا يرى الأصل : زيد نعم رجلا ، وعمرو بئس رجلا ، وقولهم : هو زيد عالم ، وهي هند مليحة ، مكان الشأن : زيد عالم ، والقصة هند مليحة ، ليتمكن في ذهن السامع ما يعقبه ، وذلك أن السامع متى لم يفهم

__________________

(١) البيتان من البسيط وهما لأحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندى المتوفى سنة ٢٥٠ ه‍ الإيضاح (١ / ١٥٥) معاهد التنصيص (١ / ١٤٧) ، شرح عقود الجمان (١ / ١٠٤).

والبيتان ذكرهما الطيبى في التبيان ثم قال بعدهما : أذهب الله عمى قلبه فهلا قال :

كم من أديب فهم قلبه ...

مستكمل العقل مقلّ عديم

ومن جهول مكثر ماله ...

ذلك تقدير العزيز العليم

البيتان (١ / ١٥٨) بتحقيقى.

(٢) البيت من الطويل : وهو لابن الدمينة ، شعره (ص ١٦) الإيضاح (١ / ١٥٥) نهاية الإيجاز ص ١١٠ معاهد التنصيص (١ / ١٥٩).

٢٩٤

من الضمير معنى ، بقي منتظرا لعقبى الكلام كيف تكون ، فيتمكن المسموع بعده فضل تمكن في ذهنه ، وهو السر في التزام تقديمه ، قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(١) وقال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ)(٢) كما يوضع المظهر موضع المضمر إذا أريد تمكين نفسه زيادة تمكين ، كقوله (٣) :

إن تسألوا الحقّ نعط الحقّ سائله

وقوله عز قائلا : (اللهُ الصَّمَدُ) بعد قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ونظيره ، خارج باب المسند إليه : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)(٤) وكذا : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٥) وتترك الحكاية إلى المظهر ، إذا تعلق به غرض فعل الخلفاء حيث يقولون : أمير المؤمنين يرسم لك ، مكان : أنا أرسم ، وهو إدخال الروعة في ضمير السامع ، وتربية المهابة أو تقوية داعي المأمور ، وعليه قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٦) ، أو فعل المستعطف حيث يقول : أسيرك يتضرع إليك ، مكان : أنا أتضرع إليك ، ليكون أدخل في الاستعطاف ، وعليه قوله (٧) :

إلهي عبدك العاصي أتاكا

__________________

(١) سورة الإخلاص ، الآية ١ ، ٢.

(٢) سورة الحج الآية ٤٦.

(٣) البيت من البسيط وهو لعبد الله بن عنمة الضبى الشاعر المخضرم. الإيضاح (١ / ١٥٦) وشرح ديوان الحماسة (٥٨٥) والمفضليات (ص ٣٨٢) وتمامه : والدرع محقبة والسيف مقروب.

(٤) سورة الإسراء ، الآية : ١٠٥.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٥٩.

(٦) سورة آل عمران الآية : ١٥٩.

(٧) البيت من الوافر وهو لإبراهيم بن أدهم ؛ الإيضاح (١ / ١٥٦) ، الإشارات ص ٥٥ معاهد التنصيص (١ / ١٧٠) ، شرح عقود الجمان (١ / ١٠٥).

وتتمة البيت :

مقرا بالذنوب وقد دعاكا.

وبعده :

فإن تغفر فأنت لذاك أهل ...

وإن تطرد فمن يرحم سواكا

٢٩٥

وما جرى مجرى هذا الاعتبار.

[الالتفات](١)

واعلم أن هذا النوع ، أعني نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة ، لا يختص المسند إليه ، ولا هذا القدر ، بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحد منها إلى الآخر ، ويسمى هذا النقل التفاتا عند علماء علم المعاني ، والعرب يستكثرون منه ، ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع ، وأحسن تطرية لنشاطه ، وأملأ باستدرار إصغائه ، وهم أحرياء بذلك. أليس قرى الأضياف سجيتهم ، ونحر العشار للضيف دأبهم وهجّيراهم (٢) ، لا مزقت أيدي الأدوار لهم أديما ، ولا أباحت لهم حريما ، أفتراهم يحسنون قرى الأشباح ، فيخالفون فيه بين لون ولون ، وطعم وطعم ، ولا يحسنون قرى الأرواح ، فلا يخالفون فيه بين أسلوب وأسلوب ، وإيراد وإيراد ، فإن الكلام المفيد عند الإنسان ، لكن بالمعنى لا بالضرورة ، أشهى غذاء لروحه وأطيب قرى لها ، قال ربيعة بن مقروم : (٣)

__________________

(١) هذا العنوان من وضعنا. والالتفات عرفه الطّيبى تعريفا دقيقا في كتابه التبيان فقال : هو الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث ، أعنى الحكاية والخطاب ، والغيبة إلى الأخرى لمفهوم واحد رعاية لنكتة التبيان ٢ / ٣٤٧ بتحقيقى ط المكتبة التجارية بمكة المكرمة ، وقد أفاد الطيبى من تنبيه ابن الأثير في المثل السائر ٢ / ١٦٩ على أن الالتفات لا يكون إلا لفائدة اقتضته ، فالتفت الطيبى إلى ذلك ، ونص في تعريفه للالتفات على أنه إنما يكون رعاية لنكتة ، ويتفرد الطيبى بنصه على ذلك دون عامة البلاغيين المعاصرين له أو السابقين. وانظر في تعريف الالتفات : الزمخشري : الكشاف ١ / ١٠ والقزويني ؛ الإيضاح ص ١٥٧ بتحقيق د / خفاجى ، وابن مالك : المصباح ص ٣٠ ، الرازي : نهاية الإيجاز ص ٢٨٧ ، والعلوى : الطراز ٢ / ١٣٢.

(٢) هجّيراهم : دأبهم وديدانهم وعادتهم.

(٣) ربيعة بن مقروم الضبي : من ضبة ، جاهلي إسلامي ، شهد القادسية وجلولاء ، أسرته عبد القيس ثم منت عليه بعد دهر. والأبيات من البسيط.

الإيضاح (١ / ١٥٧) المفضليات (٣٧٥) الأغاني (١٩ / ٩٣).

٢٩٦

بانت سعاد فأمسى القلب معمودا ...

وأخلفتك ابنة الحرّ المواعيدا

فالتفت كما ترى حيث لم يقل : وأخلفتني ، ثم قال :

ما لم ألاق امرءا جزلا مواهبه ...

سهل الفناء رحيب الباع محمودا

وقد سمعت بقوم يحمدون فلم ...

أسمع بمثلك لا حلما ولا جودا

فالتفت كما ترى حيث لم يقل : بمثله ، وقال (١) :

تذكرت ، والذكرى تهيجك زينبا ...

وأصبح باقي وصلها قد تقضّبا

وحلّ بفلج والأباتر أهلنا ...

وشطت فحلّت غمرة فمثقّبا

فالتفت في البيتين. وقال عوف بن الأحوص (٢) :

لهدّمت الحياض فكم (٣) يغادر ...

بحوض من نصائبه إزاء

لخولة إذ هم مغني وأهلي ...

وأهلك ساكنون وهم رياء

فالتفت في الثاني ، وقال عبد الله بن عنمة (٤) :

ما إن ترى السيد زيدا في نفوسهم ...

كما تراه بنو كوز ومرهوب

إن تسألوا الحقّ نعطي (٥) الحق سائله ...

والدرع محقبة والسيف مقروب

__________________

(١) البيتان من الطويل له ، وهما في الإيضاح (١ / ١٥٧) ، المفضليات (٣٧٥).

(٢) البيتان من الوافر وهما للشاعر عوف بن الأحوص بن جعفر ولم أعثر عليهما.

(٣) في (غ) : فلم.

(٤) البيتان من البسيط وعبد الله بن عنمة الضبي ، شاعر مخضرم. وسبق تخريجهما ، والسيد ، وبنو كوز ، ومرهوب : أحياء من ضبة.

(٥) كذا في (ط) و (غ) بإثبات الياء ، وفي (د) (نعط) وكلاهما صحيح جائز فإن إثبات حرف العلة في مثله جائز ، وقد ذكر ابن مالك شواهد لهذا كثيرة في شرح شواهد التوضيح (ص ١٣) وما بعدها ، وانظر تعليق العلامة أحمد شاكر على الرسالة للإمام الشافعي مكتبة حامد حورى الأحاديث (٧١٢ ، ٧٥٥ ، ٨٥٨ ، ٨٧٣ ، ٨٧٦) وغيرها.

٢٩٧

فالتفت في (تسألوا).

وقال الحارث بن حلزة (١) :

طرق الخيال ، ولا كليلة مدلج ...

سدكا بأرحلنا ولم يتعرج

أنى اهتديت لنا ، وكنت رجيلة ...

والقوم قد قطعوا متان السجسج

فالتفت في الثاني.

وقال علقمة بن عبدة (٢) :

طحا بك قلب في الحسان طروب ...

بعيد الشباب عصر حان مشيب

تكلّفني ليلى وقد شطّ وليها ...

وعادت عواد بيننا وخطوب

فالتفت في البيتين.

وقال امرؤ القيس (٣)

تطاول ليلك بالإثمد ...

ونام الخلّي ولم ترقد

__________________

(١) الحارث بن حلزة أبو ظليم ، اشتهر بمعلقته ، عمر طويلا حتى زعم الأصمعي أنه كان له من العمر خمس وثلاثون ومائة سنة عند إنشاد المعلقة ، والبيتان من الكامل. وهما في ديوانه ص ٤٢ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١١٣٧ ، وشعراء النصرانية ص ٤١٩ والتنبيه والإيضاح ١ / ٢٠٩ وسمط اللآلى ص ٤٩٠ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٦٤٦ ولسان العرب (سجج) ويروى (طاف) بدل (طرق) ، (بأرجلنا) بدل (بأرحلنا) وأني أهتديت وكنت غير رجيلة.

(٢) علقمة بن عبدة : من تميم ، شاعر جاهلي ، من معاصري امرىء القيس ، واتصل بملوك الغساسنة والمناذرة والبيتان من الطويل.

في ديوانه ص ٣٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٩٢ ، ١١ / ٢٨٩ والإيضاح (١ / ١٥٨) والمصباح ص ٣٢ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٩٩.

(٣) امرؤ القيس : جندح بن حجر الكندي ، أبوه سليل ملوك كندة ، توفي حوالي سنة ٥٦٠ م. والأبيات من المتقارب وهي في ديوانه ص ١٨٥ ، والمستقصى (٢ / ٥٠) والإيضاح (١ / ١٥٩) وسمط اللآلى ص ٥٣١ ، ومعاهد التنصيص (١ / ١٧١) ، وخزانة الأدب (١ / ٢٨٠) والتبيان (٢ / ٣٤٩) وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٧٧٥ ، ومعجم البلدان (إثمد) وتاج العروس (ثمد).

٢٩٨

وبات وباتت له ليلة ...

كليلة ذي العاثر الأرمد

وذلك عن نبأ جاءني ...

وخبرته عن أبي الأسود

فالتفت في الأبيات الثلاثة.

وأمثال ما ذكر أكثر من أن يضبطها القلم ، وهذا النوع قد يختص مواقعه بلطائف معان قلما تتضح إلا لأفراد بلغائهم ، أو للحذاق المهرة في هذا الفن ، والعلماء النحارير ، ومتى اختص موقعه بشيء من ذلك ، كساه فضل بهاء ورونق ، وأورث السامع زيادة هزة ونشاط. ووجد عنده من القبول أرفع منزلة ومحل ، إن كان ممن يسمع ويعقل (وَقَلِيلٌ ما هُمْ)(١) : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ)(٢).

ولأمر ما وقع التباين الخارج عن الحد بين مفسر لكلام رب العزة ومفسر ، وبين غواص في بحر فرائده وغواص ، وكل التفات وارد في القرآن ، متى صرت من سامعيه ، عرفك ما موقعه.

وإذا أحببت أن تصير من سامعيه فأصخ (٣) ، ثم ليتل عليك قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٤) فلعلك [ممن](٥) يشهد له الوجدان بحيث يغنيه عن شهادة ما سواه ، [أليس](٦) أن المرء إذا أخذ في استحضار جنايات جان متنقلا فيها عن الإجمال إلى التفصيل ، وجد من نفسه تفاوتا في الحال بيّنا ، لا يكاد يشبه آخر حاله هناك أولها ، أو ما تراك إذا كنت في حديث مع إنسان ، وقد حضر مجلسكما من له جنايات في حقك ،

__________________

(١) اقتباس من سورة ص ، الآية ٢٤.

(٢) اقتباس من سورة الفرقان ، الآية : ٤٤.

(٣) أصخ : أي استمع وأنصت.

(٤) سورة الفاتحة ، الآية ٤.

(٥) في (ط) وفي (د): (أليس مما).

(٦) من (غ).

٢٩٩

كيف تصنع؟ تحول عن الجاني وجهك ، [وتأخذ في الشكاية عنه إلى صاحبك](١) ، تبثه الشكوى معددا جناياته واحدة فواحدة ، وأنت فيما بين ذلك واجد مزاجك يحمى على تزايد ، يحرك حالة لك غضبية تدعوك إلى أن تواثب ذلك الجاني وتشافهه بكل سوء ، وأنت لا تجيب ، إلى أن تغلب ، فتقطع الحديث مع الصاحب ، ومباثتك إياه ، وترجع إلى الجاني مشافها له : بالله ، قل لي : هل عامل أحد مثل هذه المعاملة؟ [هل يتصور معاملة أسوأ مما فعلت؟](٢) أما كان لك حياء يمنعك؟ أما كانت لك مروءة تردعك [عن](٣) هذا؟ وإذا كان الحاضر لمجلسكما ذا نعم عليك كثيرة ، فإذا أخذت في تعديد نعمه عند صاحبك ، مستحضرا لتفاصيلها ، أحسست من نفسك بحالة كأنها تطالبك بالإقبال على منعمك ، وتزين لك ذلك ، ولا تزال تتزايد ما دمت في تعداد نعمه ، حتى تحملك من حيث لا تدري على أن تجدك ، وأنت معه في الكلام ، تثني عليه ، وتدعو له وتقول : بأي لسان أشكر صنائعك الروائع؟ وبأية عبارة أحصر عوارفك الذوارف؟ وما جرى ذلك المجرى.

وإذا وعيت ما قصصته عليك ، وتأملت الالتفات في : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ،) بعد تلاوتك لما قبله من قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على الوجه الذي يجب وهو : التأمل القلبي ، علمت ما موقعه ، وكيف أصاب المحز ، وطبق مفصل البلاغة ؛ لكونه منبها على أن العبد المنعم عليه بتلك النعم العظام الفائتة للحصر ، إذا قدر أنه ماثل بين يدي مولاه ، من حقه إذا أخذ في القراءة أن تكون قراءته على وجه يجد معها من نفسه شبه محرك إلى الإقبال على من يحمد ، صائر في أثناء القراءة إلى حالة شبيهة بإيجاب ذلك عند ختم الصفات ، مستدعية انطباقها على المنزل على ما هو عليه ، وإلّا لم تكن قارئا.

__________________

(١) من (ط) و (د).

(٢) ليست في (غ).

(٣) في (ط) و (د): (على).

٣٠٠