مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

أو بما يدرك بالسمع من الأصوات الضعيفة أو القوية ، أو التي بين بين ، أو بما يدرك بالذوق من أنواع الطعوم ، أو بما يدرك بالشم من أنواع الروائح ، أو بما يدرك باللمس من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والخشونة والملاسة ، واللين والصلابة ، ومن الخفة والثقل ، وما ينضاف إليها ؛ وبين أن يكون مستندا إلى العقل.

والعقلي أيضا لما انحصر بين حقيقي : كالكيفيات النفسانية ، مثل الاتصاف بالذكاء والتيقظ والمعرفة ، والعلم ، والقدرة ، والكرم ، والسخاء ، والحلم ، والغضب ، وما جرى مجراها من الغرائز والأخلاق ، وبين اعتباري ونسبي : كاتصاف الشيء بكونه مطلوب الوجود أو العدم عند النفس ، أو بكونه مطموعا فيه ، أو بعيدا عن الطمع ، أو بشيء تصوري وهمي محض.

ومن المعلوم عندك أن الحقائق منقسمة إلى : بسائط وذوات أجزاء مختلفة ، وأن في الصفات ما مرجعها أمر واحد ، وما مرجعها أكثر ، ظهر لك ، مما ذكر ، أن وجه التشبيه يحتمل أن يتفاوت فنقول ، وبالله التوفيق :

وجه التشبيه واحدا :

وجه التشبيه :

إما أن يكون أمرا واحدا أو غير واحد ، وغير الواحد ، إما أن يكون في حكم الواحد لكونه : إما حقيقة ملتئمة ، وإما أوصافا مقصودا من مجموعها إلى هيئة واحدة ، أو لا يكون في حكم الواحد ، فهذه أقسام ثلاثة :

أما الأول : فإما أن يكون : حسيا أو عقليا. ولا بد للحسي من أن يكون طرفاه حسيين لامتناع إدراك الحس من غير المحسوس ، جهة دون العقلي ، فإنه يعم أنواع الطرفين الأربعة المذكورة لصحة إدراك العقل من المحسوس جهة. ولذلك تسمع علماء هذا الفن ، رضوان الله عليهم أجمعين ، يقولون : التشبيه بالوجه العقلى أعم من التشبيه بالوجه الحسي ، فالحسي : كالخد إذا شبه بالورد في الحمرة ، وكالصوت الضعيف إذا شبه بالهمس في الخفاء ، وكالنكهة إذا شبهت بالعنبر في طيب الرائحة ، وكالريق إذا شبه بالخمر في لذة الطعم ، على زعم القوم ، وكالجلد الناعم إذا شبه بالحرير في لين المس.

٤٤١

وها هنا نكتة لا بد من التنبيه لها ، وهي أن التحقيق في وجه الشبه يأبى أن يكون غير عقلي ، وذلك أنه متى كان حسيّا ، وقد عرفت أنه يجب أن يكون موجودا في الطرفين ، وكل موجود فله تعين ، فوجه الشبه مع المشبه متعين ، فيمتنع أن يكون هو بعينه موجودا مع المشبه به ، لامتناع حصول المحسوس المعين ههنا ، مع كونه بعينه هناك ، بحكم ضرورة العقل ، وبحكم التنبيه على امتناعه ، إن شئت ، وهو استلزامه إذا عدمت حمرة الخد دون حمرة الورد أو بالعكس ، كون الحمرة معدومة ، موجودة معا ، وهكذا في أخواتها ، بل يكون مثله مع المشبه به ، لكن المثلين لا يكونان شيئا واحدا ، ووجه الشبه بين الطرفين ، كما عرفت ، واحد ، فيلزم أن يكون أمرا كليّا مأخوذا من المثلين ، بتجريدهما عن التعين.

لكن ما هذا شأنه فهو عقلي ، ويمتنع أن يقال : فالمراد بوجه الشبه حصول المثلين في الطرفين ، فإن المثلين متشابهان ، فمعهما وجه تشبيه.

فإن كان عقليّا ، كان المرجع في وجه الشبه العقل في المآل ، وإن كان حسيّا ، استلزم أن يكون مع المثلين مثلان آخران ، وكان الكلام فيهما ، كالكلام فيما سواهما ويلزم التسلسل ؛ وتمام التحقيق موضعه علوم أخر.

والعقلي ، كوجود الشيء العديم النفع إذا شبه بعدمه في العراء عن الفائدة ، أو كالعلم إذا شبه بالحياة في كونهما جهتي إدراك فيما طرفاه معقولان ، وكالرجل إذا شبه بالأسد في الجراءة ، وكأصحاب النبي ، عليه الصلاة والسّلام ، ورضي‌الله‌عنهم ، إذا شبهوا بالنجوم (١) ، في مطلق الاهتداء بذلك فيما طرفاه محسوسان ، وكالعلم إذا شبه بالنور في الهداية ، أو كالعدل إذا شبه بالقسطاس في تحصيل ما بين الزيادة والنقصان فيما المشبه معقول والمشبه به محسوس ، وكالعطر إذا شبه بخلق كريم في استطابة النفس

__________________

(١) يعني حديث : إنما أصحابي مثل النجوم ، فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم وهو حديث موضوع ، والمتهم به حمزة بن أبي حمزة قال الدارقطني : متروك. وقال ابن عدي : عامة مروياته موضوعة. وانظر السلسلة الضعيفة للشيخ الألباني : (١ / ١٤٩ / ح ٦١).

٤٤٢

إياهما ، أو كالنجوم إذا شبهت بالسنن في عدم الخفاء ، فيما المشبه محسوس ، والمشبه به معقول ، وفي أكثر هذه الأمثلة في معنى وحدتها تسامح ، فاعرف.

وجه التشبيه غير واحد :

وأما القسم الثاني وهو أن يكون : وجه التشبيه غير واحد ، لكنه في حكم الواحد ، فهو على نوعين : إما أن يكون مستندا إلى الحس : كسقط النار إذا شبه بعين الديك في الهيئة الحاصلة من الحمرة ، والشكل الكري ، والمقدار المخصوص ، وكالثريا إذا شبهت بعنقود الكرم المنور في الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرة الصغار المقادير في المرأى على كيفية مخصوصة إلى مقدار مخصوص ، وكالشاة الجبلي إذا شبه بحمار أبتر مشقوق الشفة والحوافر ، نابت على رأسه شجرتا غضا (١) ، وكالشمس ، إذا شبهتها بالمرآة في كف الأشل ، في الهيئة الحاصلة التي تؤديها من الاستدارة مع الإشراق ، والحركة السريعة المتصلة ، وشبه تموج الإشراق ، أو إذا شبهتها بالبوتقة فيها ذهب ذائب ، كما قال (٢) :

والشمس من مشرقها قد بدت ...

مشرقة ليس لها حاجب

كأنها بوتقة أحميت ...

يجول فيها ذهب ذائب

في الهيئة الحاصلة ، من الاستدارة مع صفاء اللون ، واتصال الحركة ، وشبه مراوحة المتحرك بين انبساط وانقباض ، وذلك لأن البوتقة إذا أحميت وذاب فيها الذهب وأخذ يتحرك فيها بجملته من غير غليان ، متشكلا بشكل البوتقة في الاستدارة ، تلك الحركة العجيبة ، كأنه يهم بأن ينبسط ، حتى يفيض من جوانب البوتقة لما في طبعه من النعومة ، ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض ؛ لما بين أجزائه من كمال التلاحم وقوة الاتصال ،

__________________

(١) الغضا : شجر. وقيل : نبات الرّمل له هدب كهدب الأرطى.

(٢) أورده عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص (١٤٦) وعزاه للمهلبى الوزير ، والرازي في نهاية الإيجاز ص (٢٢٥) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (١٨١) ، والقزوينى في الإيضاح ص ٣٤٧ ، والعلوى في الطراز (١ / ٣٥٥).

٤٤٣

والبوتقة في ضمن ذلك متحركة تبعا ، مؤدية مع الذهب الذائب فيها الهيئة المذكورة ، فإن الشمس إذا أحد الإنسان النظر إليها ليتبين جرمها ، وجدها مؤدية للهيئتين ، وكوجه الشبه في قوله (١) :

كأن مثار النّقع فوق رءوسنا ...

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه.

فليس المراد من التشبيه تشبيه النقع بالليل ، ثم تشبيه السيوف بالكواكب ، إنما المراد تشبيه الهيئة الحاصلة من النقع الأسود ، والسيوف البيض ، متفرقات فيه ، بالهيئة الحاصلة من الليل المظلم والكواكب المشرقة في جوانب منه. وفي قوله (٢) :

وكأنّ أجرام النجوم لوامعا ...

درر نثرن على بساط أزرق

فليس المراد تشبيه النجوم بالدرر ، ثم تشبيه السماء بالبساط الأزرق ، إنما المراد تشبيه الهيئة الحاصلة من النجوم البيض المتلألئة في جوانب من أديم السماء ، الملقية قناعها عن الزرقة الصافية ، بالهيئة الحاصلة المستطرفة من درر منثورة على بساط أزرق ، دون شيء آخر مناسب للدرر في الحسن والقيمة.

وفي قوله (٣) :

__________________

(١) ذكره الطيبى في التبيان (١ / ٢٧٨) بتحقيقى وعزاه لبشار ، وأورده أيضا في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٠٦) بتحقيقى ، وعبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ص ٩٦ ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٠٦ ، والقزويني في الإيضاح ص ٣٤٦ ، والعلوى في الطراز (١ / ٢٩١).

(٢) أورده القزوينى في الإيضاح ص ٣٤٦ وعزاه لأبي طالب الرقى ، وعبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغه ص ١٣٩ ، والطيبى في التبيان ص ٢٨١ وفيه [نشرن] بدلا من [نثرن] ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٠٧) ، والعلوى في الطراز (١ / ٢٨١).

(٣) أورده عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص ١٥٩ ، والرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٠٥ للقاضي التنوخي ، والقزوينى في الإيضاح ص ٣٦٨ ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٠٦) بتحقيقى.

٤٤٤

كأنما المرّيخ والمشترى ...

قدّامه في شامخ الرّفعه

منصرف بالليل عن دعوة ...

قد أسرجت قدّامه شمعه

فالمراد تشبيه الهيئة الحاصلة من المريخ والمشترى قدامه بالهيئة الحاصلة من المنصرف عن الدعوة مسرج الشمع من دونه.

وتسمى أمثال ما ذكر من الأبيات تشبيه المركب بالمركب. والمذكور قبلها تشبيه المفرد بالمفرد ، وهذا فن له فضل احتياج إلى سلامة الطبع وصفاء القريحة ، فليس الحاكم في تمييز البابين ، إذا التبس أحدهما بالآخر ، سوى ذلك. ومن تشبيه المفرد بالمفرد قوله (١) :

كأن قلوب الطّير رطبا ويابسا ...

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

وإما أن يكون مستندا إلى العقل ، كما إذا شبهت أعمال الكفرة بالسراب في المنظر المطمع مع المخبر المؤيس (٢) ، وكما إذا شبهت الحسناء من منبت السوء بخضراء الدمن (٣) ، في حسن المنظر المنضم إلى سوء المخبر ، والتعري عن أثمار خير ، أو الجماعة المتناسبة في الخصال ، الممتنعة لذلك عن تعيين فاضل بينهم ومفضول ، بالحلقة المفرغة

__________________

(١) أورده فخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٠٨ وعزاه لامرئ القيس ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٠٨ ، والقزويني في الإيضاح ص ٣٦٧ ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٠٧) ، والعلوى في الطراز (١ / ٢٩١)

والعناب : شجر حبه كحب الزيتون ، أحمر حلو واحدته عنابة. والحشف : من التمر : ما لم ينو.

(٢) كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) النور : ٣٩.

(٣) كما في حديث : إياكم وخضراء الدمن قالوا : وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في المنبت السوء ، وهو حديث ضعيف جدا ، رواه القضاعى في مسند الشهاب ، والدارقطني في الأفراد وقال : تفرد به الواقدى وهو ضعيف. قال الشيخ الألباني : بل هو متروك ، فقد كذبه الإمام أحمد والنسائي وابن المديني وغيرهم. وانظر السلسلة الضعيفة للشيخ الألباني (١ / ٦٩ / ح ١٤).

٤٤٥

الممتنعة عن تعيين بعضه طرفا وبعضه وسطا.

وجه التشبيه ليس واحدا وليس في حكم الواحد :

وأما القسم الثالث وهو : أن لا يكون وجه التشبيه أمرا واحدا ولا منزلا منزلة الواحد ، فهو على أقسام ثلاثة : أن يكون تلك الأمور : حسية أو عقلية ، أو البعض حسيا والبعض عقليا.

فالأول : كما إذا شبهت فاكهة بأخرى : في لون وطعم ورائحة.

والثاني : إذا شبهت بعض الطيور بالغراب ، في حدة النظر ، وكمال الحذر ، وإخفاء السفاد.

والثالث : كما إذا شبهت إنسانا بالشمس ، في حسن الطلعة ، ونباهة الشأن ، وعلو الرتبة.

أحكام التصريح بوجه التشبيه أو عدمه :

واعلم أنه ليس بملتزم فيما بين أصحاب علم البيان أن يتكلفوا التصريح بوجه التشبيه على ما هو به ، بل قد يذكرون على سبيل التسامح ما إذا أمعنت فيه النظر ، لم تجده إلّا شيئا مستتبعا لما يكون وجه التشبيه في المآل ، فلا بد من التنبيه عليه.

من ذلك قولهم في الألفاظ ، إذا وجدوها لا تثقل على اللسان ، ولا تكده بتنافر حروفها أو تكرارها ، ولا تكون غريبة وحشية تستكره ؛ لكونها غير مألوفة ، ولا مما تشتبه معانيها وتستغلق ، فتصعب الوقوف عليها ، وتشمئز عنها النفس ، هي كالعسل في الحلاوة ، وكالماء في السلاسة ، وكالنسيم في الرقة. وقولهم في الحجة المطلوب بها قلع الشبهة ، متى صادفوها ، معلومة الأجزاء ، يقينية التأليف ، قطعية الاستلزام : هي كالشمس في الظهور. فيذكرون الحلاوة ، والسلاسة والرقة ، والظهور ، لوجه الشبه ، على أن وجه الشبه في المآل هناك شيء غيرها.

وذلك لازم الحلاوة ، وهو ميل الطبع إليها ، ومحبة النفس ورودها عليها.

ولازم السلاسة والرقة وهو إفادة النفس نشاطا ، والإهداء إلى الصدر انشراحا ، وإلى

٤٤٦

القلب روحا ، فشأن النفس مع الألفاظ الموصوفة بتلك الصفات ، كشأنها مع العسل الشهي الذي يلذ طعمه ، فتهش النفس له ، ويميل الطبع إليه ، ويحب وروده عليه ، أو كشأنها مع الماء الذي ينساغ في الحلق ، وينحدر فيه أجلب انحدار للراحة ، ومع النسيم الذي يسري في البدن ، فيتخلل المسالك اللطيفة منه ، فيفيدان النفس نشاطا ، ويهديان إلى الصدر انشراحا ، وإلى القلب روحا.

ولازم الظهور وهو إزالة الحجاب ، فشأن البصيرة مع الشبهة كشأن البصر مع الظلمة ، في كونهما معهما كالمحجوبين ، وانقلاب حالهما إلى خلاف ذلك ، مع الحجة إذا بهرت ، والشمس إذا ظهرت ، وتسامحهم هذا لا يقع إلا حيث يكون التشبيه في وصف اعتباري كالذي نحن فيه ، وأقول : يشبه أن يكون تركهم التحقيق في وجه التشبيه ، على ما سبق التنبيه عليه من تسامحهم هذا ، وقد جاريناهم نحن في ذلك كما ترى.

حق وجه التشبيه شمول الطرفين :

واعلم أن حق وجه التشبيه شموله الطرفين ، فإذا صادفه صح وإلا فسد ، كما إذا جعلت وجه التشبيه في قولهم : النحو في الكلام كالملح في الطعام ، الصلاح باستعمالهما والفساد بإهمالهما ؛ صح لشمول هذا المعنى المشبه والمشبه به ، فالملح إن استعمل في الطعام صلح الطعام وإلا فسد والنحو كذلك : إذا استعمل في الكلام ، نحو : عرف زيد عمرا ، برفع الفاعل ونصب المفعول صلح الكلام ، وصار منتفعا به في تفهم المراد منه ، وإذا لم يستعمل فيه : فلم يرفع الفاعل ولم ينصب المفعول فسد ، لخروجه عن الانتفاع به.

وإذا جعلت وجه التشبيه ، ما قد يذهب إليه ذوو التعنت من أن : الكثير من الملح يفسد الطعام والقليل يصلحه ، فالنحو كذلك ، فسد لخروجه إذ ذاك عن شمول الطرفين إلى الاختصاص بالمشبه به ، فإن التقليل أو التكثير إنما يتصور في الملح بأن يجعل القدر المصلح منه للطعام مضاعفا مثلا ، أما في النحو فلا ؛ لامتناع جعل رفع الفاعل أو نصب المفعول مضاعفا. هذا ، وربما أمكن تصحيح قول المتعنتين ، ولكنه ليس مما يهمنا الآن.

٤٤٧

النوع الثالث : النظر في الغرض من التشبيه :

الغرض من التشبيه في الأغلب يكون عائدا إلى المشبه ، ثم قد يعود إلى المشبه به.

أـ الغرض العائد إلى المشبه :

فإذا كان عائدا إلى المشبه ، فإما أن يكون :

١ ـ لبيان حاله ، كما إذا قيل لك : ما لون عمامتك؟ قلت : كلون هذه. وأشرت إلى عمامة لديك.

٢ ـ وإما أن يكون : لبيان مقدار حاله ، كما إذا قلت : هو في سواده كحلك الغراب.

٣ ـ وإما أن يكون لبيان إمكان وجوده ، كما إذا رمت تفضيل واحد على الجنس إلى حد يوهم إخراجه عن البشرية إلى نوع أشرف ، وأنه في الظاهر كما ترى أمر كالممتنع ، فتتبعه التشبيه لبيان إمكانه ، قائلا : حاله كحال المسك ، الذي هو بعض دم الغزال (١) ، وليس يعد في الدماء ، لما اكتسب من الفضيلة الموجبة إخراجه إلى نوع أشرف من الدم.

٤ ـ وإما أن يكون لتقوية شأنه في نفس السامع ، وزيادة تقرير له عنده ، كما إذا كنت مع صاحبك في تقرير أنه لا يحصل من سعيه على طائل ، ثم أخذت ترقم على الماء ، وقلت : هل أفاد رقمي على الماء نقشا ما : إنك في سعيك هذا كرقمي على الماء ، فإنك تجد لتمثيلك هذا من التقرير ما لا يخفى.

٥ ـ وإما أن يكون لإبرازه إلى السامع في معرض التزيين ، أو التشويه ، أو الاستطراف وما شاكل ذلك ، كما إذا شبهت وجها أسود بمقلة الظبي ، إفراغا له في قالب الحسن ، وابتغاء تزيينه ، أو كما إذا شبهت وجها مجدورا بسلحة (٢) جامدة وقد

__________________

(١) قال المتنبي :

فإن تفق الأنام وأنت منهم ...

فإن المسك بعض دم الغزال

(٢) السّلحة : اسم لذى البطن ، وقيل : لما رقّ منه من كل ذي بطن ، وجمعه سلوح وسلحان.

٤٤٨

نقرتها الديكة ؛ إظهارا له في صورة أشوه ؛ إرادة ازدياد القبح والتنفير ، أو كما إذا شبهت الفحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجه الذهب ، نقلا له عن صحة الوقوع إلى امتناعه عادة ليستطرف.

وللاستطراف وجه آخر ، وهو أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن ، إما في نفس الأمر كالذي نحن فيه ، فإذا أحضر استطرف استطراف النوادر عند مشاهدتها ، واستلذ استلذاذها لجدتها ، فلكل جديد لذة. وإما مع حضور المشبه في أوان الحديث فيه ، مثل حضور النار والكبريت مع حديث البنفسج والرياض ، كما في قوله (١) :

ولا زورديّة تزهو بزرقتها ...

بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها فوق قامات ضعفن [بها](٢) ...

أوائل النّار في أطراف كبريت

فإن [صورة](٣) اتصال النار بأطراف الكبريت ليست مما يمكن أن يقال : إنها نادرة الحضور في الذهن ، ندرة صورة بحر من المسك موجه الذهب ، وإنما النادر حضورها مع حديث البنفسج ، فإذا أحضر إحضارا مع الشبه استطرف لمشاهدة عناق بين صورتين لا تتراءى ناراهما ، وهل الحكاية المعروفة في حديث حسد جرير (٤) لعدي [بن](٥) الرقاع إلا لعين ما نحن فيه؟

__________________

(١) أورده الطيبى في التبيان (١ / ٢٧٣) بتحقيقى وعزاه لابن المعتز ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ١٨٨ ، والقزوينى في الإيضاح ص ٣٥٩ ، والعلوى في الطراز (١ / ٢٦٧).

اللازوردية : البنفسجية. نسبة إلى اللازورد ، وهو حجر نفيس.

(٢) ليست في (غ).

(٣) ليست في (غ).

(٤) جرير بن عطية الخطفي ، من بني كلب بن يربوع أحد فحول الشعراء في العصر الأموي. في : الأغاني ، الشعر والشعراء ، شرح شواهد المغني ، الموشح ، خزانة الأدب ، وغيرها.

(٥) ليست في (د).

٤٤٩

يحكى أن جريرا قال : أنشدني عدي (١) :

عرف الدّيار توهّما فاعتادها

فلما بلغ إلى قوله :

تزجى أغنّ كأن إبرة روقه

رحمته ، وقلت : قد وقع ، ما عساه يقول ، وهو أعرابي جلف جاف ، فلما قال :

قلم أصاب من الدّواة مدادها

استحالت الرحمة حسدا.

ب الغرض العائد إلى المشبه به :

وأما الغرض العائد إلى المشبه به ، فمرجعه إلى إيهام كونه أتم من المشبه في وجه التشبيه ، كقوله (٢) :

__________________

(١) عدي بن الرقاع ، من عاملة ، وهي حي من قضاعة ، نزل الشام. كان له بنت تقول الشعر. كان شاعرا محسنا ، جعله ابن سلام في عداد شعراء الطبقة السابعة من الإسلاميين. ترجمته في : الشعر والشعراء : ٦٢٢ (برقم ١١٤) ، طبقات الشعراء : (١٩٢ ـ ١٩٥) المؤتلف والمختلف ١٦ ، معجم الشعراء : ٢٠٣ ، الأغاني ، واللآلىء.

والبيت أورده الطيبى في التبيان (١ / ٢٧٣) بتحقيقى وعزاه إليه ، والقزويني في الإيضاح ص ٣٦٠.

تزجى : تسوق. أغن : ظبى. أغن : يخرج صوته من خيشومه.

الروق : القرن. إبرته : طرفه.

(٢) أورده عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص ١٨١ وعزاه لمحمد بن وهيب ، وفخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٢٠ ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ١٩١ ، والقزويني في الإيضاح ص ٣٦١ ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٠٨) بتحقيقى.

الغرة : البياض في الجبهة.

٤٥٠

وبدا الصباح كأن غرّته ...

وجه الخليفة حين يمتدح

فإنه تعمد إيهام أن وجه الخليفة في الوضوح أتم من الصباح ، وكقوله (١) :

وكأن النجوم بين دجاها ...

سنن لاح بينهنّ ابتداع

فإن حين رأى ذوي الصياغة للمعاني شبهوا الهدى والشريعة والسنن وكل ما هو علم بالنور ؛ لجعل صاحبها في حكم من يمشي في نور الشمس ، فيهتدي إلى الطريق المعبد ، فلا يتعسف فيعثر تارة على عدو قتال ، ويتردى أخرى في مهواة مهلكة ؛ وشبهوا الضلالة والبدعة وكل ما هو جهل بالظلمة ، لجعل صاحبها في حكم من يخبط في الظلماء ، فلا يهتدي إلى الطريق ، فلا يزال بين عثور وبين ترد ، قصد في تشبيهه هذا تفضيل السنن في الوضوح على النجوم ، وتنزيل البدع في الإظلام فوق الدياجي ، وكقوله (٢) :

ولقد ذكرتك والظلام كأنه ...

يوم النّوى ، وفؤاد من لم يعشق

فإنه أيضا حين رأى الأوقات التي تحدث فيها المكاره وصفت بالسواد ، كقولهم : اسود النهار في عيني ، وأظلمت الدنيا علي ، جعل يوم النوى (٣) كأنه أعرف وأشهر بالسواد من الظلام فشبهه به ، ثم عطف عليه (فؤاد من لم يعشق) تطرفا ، فإن الغزل يدعي القسوة على من لا يعرف العشق ، والقلب القاسي يوصف بشدة السواد ، فنظمه في سلكه. وكقوله (٤) :

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١١٠ وعزاه للتنوخى ، وعبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص ١٨٣ ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١١٠ ، والقزويني في الإيضاح ص ٣٣٦.

(٣) أورده الرازي في نهاية الإيجاز ص ١٩١ وهو للعلوى الأصفهاني ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١١١ ، والقزويني في الإيضاح ص ٣٤٠ ، والعلوى في الطراز (١ / ٢٨٣) وفيه [انصياع بدلا من انتضاء].

انتضاء البدر : انكشافه وخروجه من الغيم.

(٢) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (١٧٦) وعزاه لأبي طالب الرقى ، وعبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص (١٨٥). النوى : البعد ، والتحول من مكان إلى مكان آخر.

(٣) أورده الرازي في نهاية الإيجاز ص ١٩١ وهو للعلوى الأصفهاني ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١١١ ، والقزويني في الإيضاح ص ٣٤٠ ، والعلوى في الطراز (١ / ٢٨٣) وفيه [انصياع بدلا من انتضاء].

انتضاء البدر : انكشافه وخروجه من الغيم.

٤٥١

كأنّ انتضاء البدر من تحت غيمه ...

نجاء من البأساء بعد وقوع

فإنه لما رأى العادة جارية أن يشبه المتخلص من البأساء بالبدر الذي ينحسر عنه الغمام ، قلب التشبيه ليرى أن صورة النجاء من البأساء ، لكونها مطلوبة فوق كل مطلوب ، أعرف عند الإنسان من صورة انتضاء البدر من تحت غيمه ، فشبه هذه بتلك ، وكقوله (١)

وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ...

وقد كحل اللّيل السّماك فأبصرا

فإنه لما رأى استمرار وصف الأخلاق بالضيق وبالسعة ، تعمد تشبيه الأرض الواسعة بخلق الكريم ، ادعاء أنه في تأدية معنى السعة أكمل من الأرض المتباعدة الأطراف.

ومن الأمثلة ما يحكيه جل وعلا عن مستحلّ الربا من قولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا)(٢) في مقام : إنما الربا مثل البيع ؛ لأن الكلام في الربا لا في البيع ؛ ذهابا منهم إلى جعل الربا في باب الحل أقوى حالا وأعرف من البيع ، ومن الأمثلة ما قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)(٣) لمزيد التوبيخ فيه دون أن يقول : أفمن لا يخلق كمن يخلق ، مع اقتضاء المقام بظاهره إياه ؛ لكونه إلزاما للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة ، تشبيها بالله تعالى ، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق.

وعندي أن الذي تقتضيه البلاغة القرآنية هو أن يكون المراد (بمن لا يخلق) : الحي العالم القادر من الخلق لا الأصنام ، وأن يكون الإنكار موجها إلى توهم تشبيه الحي

__________________

(١) أورده عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص ١٨٧ وعزاه لابن بابك.

السّماك : نجم معروف ، وهما سماكان : رامح وأعزل. والرامح : لانوء له وهو إلى جهة الشمال ، والأعزل : من كواكب الأنواء وهو إلى جهة الجنوب.

(٢) سورة البقرة ٢٧٥.

(٣) سورة النحل الآية : ١٧.

٤٥٢

العالم القادر من الخلق به تعالى ، وتقدس عن ذلك علوّا كبيرا ، تعريضا به عن أبلغ الإنكار لتشبيه ما ليس بحي عالم قادر به تعالى ، ويكون قوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ*) تنبيه توبيخ على مكان التعريض ، وقوله عزوجل : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)(١) بدل أرأيت من اتخذ هواه [إلهه](٢) مصبوب في هذا القالب ، فأحسن التأمل تر التقديم قد أصاب شاكلة الرمي.

وإنما جعلنا الغرض العائد إلى المشبه به هو ما ذكرنا ، لأن المشبه به حقه أن يكون أعرف بجهة التشبيه من المشبه ، وأخص بها ، وأقوى حالا معها ، وإلّا لم يصح أن يذكر لبيان مقدار المشبه ، ولا لبيان إمكان وجوده ، ولا لزيادة تقريره على الوجه الذي تقدم ، ولا لإبرازه في معرض التزيين كالوجه الأسود ، إذا شبهته بمقلة [الظبي](٣) ، محاولا لنقل استحسان سوادها إلى سواد الوجه ؛ أو معرض التشويه : كالوجه المجدور إذا شبهته بسلحة جامدة قد نقرتها الديكة ، أراد نقل مزيد استقباحها ونفرتها إلى جدري الوجه ، لامتناع تعريف المجهول بالمجهول ، وتقرير الشيء بما يساويه التقرير الأبلغ ؛ أو معرض الاستطراف : كالفحم فيه جمر موقد ، إذا شبهته ببحر من المسك موجه الذهب ، نقلا لامتناع وقوعه إلى الواقع ليستطرف ، أو للوجه الآخر على ما تقدم لمثل ما ذكر.

وربما كان الغرض العائد إلى المشبه به بيان كونه أهم عند المشبه ، كما إذا أشير لك إلى وجه كالقمر في الإشراق والاستدارة ، وقيل : هذا الوجه يشبه ما ذا؟ فقلت : خ خ الرغيف إظهارا لاهتمامك بشأن الرغيف لا غير ، وهذا الغرض يسمى إظهار المطلوب ، ولا يحسن المصير إليه إلّا في مقام الطمع في تسني المطلوب ، كما يحكى عن الصاحب ، رحمه‌الله ، أن قاضي سجستان دخل عليه فوجده الصاحب متفننا ، فأخذ

__________________

(١) سورة الفرقان الآية : ٤٣.

(٢) ليست في (غ).

(٣) في (د) (الصبى).

٤٥٣

يمدحه حتى قال (١) :

وعالم يعرف بالسّجزي

وأشار للندماء أن ينظموا على أسلوبه ، ففعلوا واحدا بعد واحد ، إلى أن انتهت النوبة إلى شريف في البين ، فقال (٢) :

أشهى إلى النّفس من الخبز

فأمر الصاحب أن يقدم له مائدة.

تساوي طرفي التشبيه : المشبه والمشبه به :

وأما إذا تساوى الطرفان : المشبه والمشبه به في جهة التشبيه ، فالأحسن ترك التشبيه إلى التشابه ، ليكون كل واحد من الطرفين مشبها ومشبها به ، تفاديا من ترجيح أحد المتساويين ، ويظهر من هذا أن التشبيه إذا وقع في باب التشابه ، صح فيه العكس ، بخلافه فيما عداه ، وكان حكم المشبه به إذ ذاك غير ما تلي عليك ، فصح أن يقال : لون هذه العمامة كلون تلك ، وأن يقال : لون تلك كلون هذه ، وأن يقال : بدا الصبح كغرة الفرس ، وبدت غرة الفرس كالصبح ، متى كان المراد بالشبه وقوع منير في مظلم ، وحصول بياض في سواد ، مع كون البياض قليلا ، بالإضافة إلى السواد. وأن يقال : الشمس كالمرآة المجلوة ، أو كالدينار الخارج من السكة ، كما قال (٣) :

وكأنّ الشمس المنيرة دينار ...

جلته حدائد الضّرب

وأن يقال : المرآة المجلوة أو الدينار الخارج من السكة كالشمس ، متى كان القصد من التشبيه إلى مجرد مستدير يتلألأ ، متضمن في اللون ؛ لكون وجه التشبيه في جميع ذلك

__________________

(١) أورده الطيبى في التبيان (١ / ٢٧٥) بتحقيقى وعزاه للصاحب ، والقزوينى في الإيضاح ص ٣٦٣.

(٢) أورده الطيبى في التبيان (١ / ٢٧٥) بتحقيقى وعزاه للشريف ، والقزوينى في الإيضاح ص ٣٦٣.

(٣) أورده القزويني في الإيضاح ٣٦٤ ، ورواية الإيضاح الضّراب.

٤٥٤

غير مختص بأحد الطرفين زيادة اختصاص.

التشبيه التمثيلي :

واعلم أن التشبيه متى كان وجهه وصفا غير حقيقي ، وكان منتزعا من عدة أمور ، خص باسم التمثيل ، كالذي في قوله (١) :

اصبر على مضض الحسود ...

فإن صبرك قاتله

فالنار تأكل نفسها ...

إن لم تجد ما تأكله

فإن تشبيه الحسود المتروك مقاولته بالنار التي لا تمد بالحطب ، فيسرع فيها الفناء ليس إلّا في أمر متوهم له ، وهو ما تتوهم إذا لم تأخذ معه في المقاولة ، مع علمك بتطلبه إياها ، عسى أن يتوصل بها إلى نفثة مصدور ، من قيامه إذ ذاك مقام أن تمنعه ما يمد حياته ليسرع فيه الهلاك ، وأنه كما ترى منتزع من عدة أمور ؛ وكالذي في قوله (٢) :

وإنّ من أدّبته في الصّبا ...

كالعود يسقى الماء في غرسه

حتّى تراه مورقا ناضرا ...

بعد الذي أبصرت من يبسه

فإن تشبيه المؤدب في صباه بالعود المسقى أوان الغرس المونق بأوراقه ونضرته ، ليس إلا فيما يلازم كونه : مهذب الأخلاق ، مرضي السيرة ، حميد الفعال ، لتأدية المطلوب بسبب التأديب المصادف وقته من تمام الميل إليه ، وكمال استحسان حاله ، وإنه كما ترى أمر تصوري لا صفة حقيقية ، وهو مع ذلك منتزع من عدة أمور. وكالذي من قوله عز من قائل : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ

__________________

(١) أورده الطيبى في التبيان ١ / ٢٦٧ بتحقيقى وعزاه لابن المعتز ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١١١ ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ١٩٣. المض : الألم والوجع.

(٢) أوردهما القزوينى في الإيضاح ص ٣٧٢ وعزاهما لصالح بن عبد القدوس ، والطيبى في التبيان (١ / ٢٦٨) وفيه [مونقا بدلا من مورقا] ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١١٢.

٤٥٥

بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)(١) فإن وجه تشبيه المنافقين بالذين شبهوا بهم في الآية ، هو رفع الطمع إلى تسني مطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة ، لانقلاب الأسباب ، وأنه أمر توهمى كما ترى منتزع من أمور جمة ؛ وكالذي في قوله تعالى أيضا : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)(٢) وأصل النظم : أو كمثل ذوي صيب ، فحذف خ خ ذوي لدلالة : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) عليه ، وحذف : خ خ مثل لما دل عليه عطفه على قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) إذ لا يخفى أن التشبيه ليس بين مثل المستوقدين ، وهو صفتهم العجيبة الشأن وبين ذوات ذوي الصيب ، إنما التشبيه بين صفة أولئك ، وبين صفة هؤلاء ، ونظيره قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)(٣) فأوقع التشبيه بين : كون الحواريين أنصار [الله](٤) وبين : قول عيسى للحواريين (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ ،) وإنما المراد : كونوا أنصار الله مثل كون الحواريين أنصاره ، وقت قول عيسى : من أنصاري؟ على أن (ما) مصدريّ مستعمل (ما قال) استعمال مقدم [الحاج](٥) ، ثم نظير المذكور في حذف المضاف والمضاف إليه قول القائل (٦) :

أسأل البحّار فأنتحى للعقيق

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٧.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٩.

(٣) سورة الصف ، الآية ١٤.

(٤) في (ط): (الإله) ، وفي (د): (لله).

(٥) كذا في (ط) و (د) وفي (غ) (لحاج).

(٦) البيت من الطويل لأبي دؤاد في صفة البرق.

٤٥٦

وقول الآخر (١) :

وقد جعلتني من [خزيمة](٢) إصبعا

على ما قدر الشيخ أبو علي الفارسي (٣) ، رحمه‌الله ، من أسأل سقيا سحابه ، ومن : ذا مسافة إصبع ، وحذف المضافات من الكلام عند الدلالة سائغ ، من ذلك قوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)(٤) تقديره : فكان مقدار مسافة قرب جبريل ، عليه‌السلام ، مثل قاب قوسين ، وأن قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ)(٥) إلى الآخر ، تمثيل لما أنّ وجه التشبيه بينهم وبين المنافقين هو أنهم في المقام المطمع في حصول المطالب ، ونجح المآرب ، لا يحظون إلا بضد المطموع فيه من مجرد مقاساة الأهوال ، وأنه كما ترى مما نحن بصدده ، وكذا الذي في قوله عزوجل : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٦) فإن وجه التشبيه بين أحبار اليهود الذين كلفوا العمل بما في التوراة ، ثم لم يعملوا بذلك ، وبين الحمار الحامل للإسفار ، هو

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لكلحبة العرني ، وهو في المفضليات ٣٠ ، والنوادر ١٣٥ ، وصدر البيت : فأدرك إبقاء القراوة ظلعها ..

الإصبع : الأثر الحسن.

(٢) في (د) بالحاء المهملة والمثبت من (غ).

(٣) أبو علي الفارسي : حسن بن أحمد بن فارس ، أخذ عنه السيرافي والرماني ، كان واحد زمانه في علم العربية. من أساتذته الزجاج وابن السراج أقام بحلب عند سيف الدولة ، وله مع المتنبي مجالس ، قيل إنه كان أعلم من المبرد ، توفي في بغداد سنة ٣٧٧ ه‍ من كتبه : أسرار البلاغة ودلائل الاعجاز ، والإيضاح في النحو ، المقصور والممدود ... اتهم بالاعتزال. ترجمته في : تاريخ بغداد : ٧ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، معجم الأدباء : ٧ / ٢٣٢ ـ ٢٦١ ، وبغية الوعاة وإنباه الرواة ، ووفيات الأعيان.

(٤) سورة النجم الآية ٩.

(٥) سورة البقرة الآية ١٩.

(٦) سورة الجمعة ، الآية : ٥.

٤٥٧

حرمان الانتفاع بما هو أبلغ شيء بالانتفاع به ، [مع](١) الكد والتعب في استصحابه ، وليس بمشتبه كونه عائدا إلى التوهم ، ومركبا من عدة معان ، والذي نحن بصدده من الوصف غير الحقيقي أحوج منظور فيه إلى التأمل الصادق من ذي بصيرة نافذة ، وروية ثاقبة ، لالتباسه في كثير من المواضع بالعقلي الحقيقى ، لا سيما المعاني التي ينتزع منها ، فربما انتزع من ثلاثة ، فأورث الخطأ لوجوب انتزاعه من أكثر ، نحو قوله (٢) :

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ...

فلما رأوها أقشعت وتجلّت

إذا أخذت تنتزع وجه التمثيل من قوله : خ خ كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ، فحسب ، نزلت عن غرض الشاعر من تشبيهه بمراحل ؛ فإن مغزاه أن يصل ابتداء مطمعا بانتهاء مؤيس ، وذلك يوجب انتزاع وجه التشبيه من مجموع البيت.

ثم إن التشبيه التمثيلي متى فشا استعماله على سبيل الاستعارة لا غير ، سمي مثلا ، ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير ، وسيأتيك الكلام في الاستعارة بإذن الله تعالى.

__________________

(١) في (غ) (من).

(٢) أورده القزويني في الإيضاح ص ٣٥٤ ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٠٧) بتحقيقى.

٤٥٨

أحوال التشبيه

تقديم

النوع الرابع : النظر في أحوال التشبيه من كونه قريبا أو غريبا ، مقبولا أو مردودا.

والكلام في ذلك يستدعي تقديم أصول ؛ وأنا أذكر لك ما يرشدك إلى كيفية سلوك الطريق هناك ، بتوفيق الله تعالى ، معددا عدة منها لتكون لك عدة في درك ما عسى تأخذ في طلبه.

منها : أن إدراك الشيء مجملا أسهل من إدراكه مفصلا.

ومنها : أن حضور صورة شيء تتكرر على الحس أقرب من حضور صورة شيء يقل وروده على الحس ، وحال هذين الأصلين واضح.

ومنها : أن الشيء مع ما يناسبه أقرب حضورا منه مع ما لا يناسبه ، فالحمام مع السطل أقرب حضورا منه مع السخل ، وقد سبق تقريره في باب الفصل والوصل.

ومنها : أن استحضار الأمر الواحد أيسر من استحضار غير الواحد ، وحاله أيضا مكشوف.

ومنها : أن ميل النفس إلى الحسيات أتم منه إلى العقليات ، وأعني بالحسيات ما تجرده منها بناء على امتناع النفس من إدراك الجزئيات ، على ما نبهت عليه ، وزيادة ميلها إليها دون غيرها من العقليات ، لزيادة تعلقها بها بسبب تجريدها إياها بقوة العقل ، ونظمها لها في سلك ما عداها ، ولزيادة إلفها بها أيضا لكثرة تأديها إليها من أجل كثرة طرقه وهي الحواس المختلفة المؤدية لها ، وأمّا ما يقال من أن إلف النفس مع الحسيات أتم منه مع العقليات ، لتقدم إدراك الحس على إدراك العقل ، فبعد تقرير أن إدراك النفس إنما يكون للمجردات ، وأن مدرك النفس غير مدرك الحس ، شيء كما ترى عن إفادة المطلوب بمعزل ، وعن تحقيق المقصود بألف منزل.

٤٥٩

ومنها : أن النفس لما تعرف أقبل منها لما لا تعرف ، لمحبتها العلم طبعا؟.

ومنها : أنّ تجدد صورة عندها ، أحب إليها وألذّ عندها من مشاهدة معاد ، وأنه من القبول ، بحيث يغني أن يستعان فيه بتلاوة أكره من معاد ، ولكل جديد لذة. ولعمري إن التوفيق ، بين حكم الإلف وبين حكم التكرير ، أحوج شيء إلى التأمل ، فليفعل ، لأن الإلف مع الشيء لا يتحصل إلا بتكرره على النفس ، ولو كان التكرار يورث الكراهة لكان المألوف أكره شيء عند النفس ، وامتنع إذ ذاك [نزعها](١) إلى مألوف ، والوجدان يكذب ذلك.

من أسباب قرب التشبيه :

وإذ قد تقدم إليك ما ذكرناه فنقول : من أسباب قرب التشبيه ، وكونه نازل الدرجة

١ ـ أن يكون وجهه أمرا واحدا ، كالسواد في قولك : خ خ هندي كالفحم ، أو البياض في قولك : خ خ شهد كالثلج.

٢ ـ أو أن يكون المشبه به مناسبا للمشبه ، كما إذا شبهت الجرة الصغيرة بالكوز ، أو الجزرة الضخمة المستطيلة بالفجل ، أو العنبة الكبيرة السوداء بالإجاصة.

٣ ـ أو أن يكون المشبه به غالب الحضور في خزانة الصور بجهة من الجهات ، كما إذا شبهت الشعر الأسود بالليل ، أو الوجه الجميل بالبدر ، أو المحبوب بالروح.

ومن أسباب بعده وغرابته :

١ ـ أن يكون وجه التشبيه أمورا كثيرة ، كما في تشبيه سقط النار بعين الديك ، أو تشبيه

__________________

(١) في (غ) و (د) (نزاعها).

٤٦٠