مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

تأخير المسند :

وأما الحالة المقتضية لتأخير المسند فهي : إذا كان ذكر المسند إليه أهم ، كما مضى في فن المسند إليه ، وإياك أن تظن بكون الحكم على المسند إليه مطلوبا استيجاب صدر الكلام له ، فليس هو هناك ، فلا تغفل.

تقديم المسند :

وأما الحالة المقتضية لتقديمه : فهي أن يكون متضمنا للاستفهام ، كنحو : كيف زيد؟ وأين عمرو؟ ومتى الجواب؟ والقانون الثاني موضع تقريره ؛ أو أن يكون المراد تخصيصه بالمسند إليه كقوله عز وعلا : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(١) وقولك لمن يقول : زيد إمّا قائم وإما قاعد ، فيردده بين القيام والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما ، قائم هو. وقولهم : تميمي أنا ، وارد على هذا ، وسيأتيك في هذا المعنى في فصل القصر كلام. أو أن يكون المراد التنبيه على أنه خبر لا نعت ، كقولها :

تحت رأسي سرج ، وعلى أبيه درع.

__________________

(١) سورة الكافرون الآية ٦.

٣٢١

وقوله (١) :

له همم لا منتهى لكبارها ...

وهمته الصغرى أجلّ من الدهر

وقوله (٢) :

لها خلق ضيق لو أن وضينه ...

فؤادك لم يخطر بقلبك هاجس

وقوله (٣) :

لكل جديد لذة غير أنني ...

وجدت جديد الموت غير لذيذ

وقوله (٤) :

عند الملوك مضرة ومنافع ...

وأرى البرامك لا تضرّ وتنفع

وقولها (٥) :

أغر أبلج يأتمّ الهداة به ...

كأنه علم في رأسه نار

وقوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٦) وما شاكل ذلك ، فإن

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٣٩) ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (٧٨) والخطيب القزويني في الإيضاح ص (١٩٣) والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ٧٧) بتحقيقى وهو لحسان بن ثابت في مدح الرسول ، أو لبكر بن النطاح في أبي دلف الجمحى ، أو لبعض الأعراب في أمير من الأمراء.

(٢) لم أعثر عليه. الوضين : بطان عريض منسوج من سيور أو شعر.

(٣) لم أعثر عليه

(٤) أورده الطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ٧٧) بتحقيقى وفيه ولا تنفع.

(٥) البيت من البسيط وهو للخنساء في ديوانها (٣٨٦) بلفظ [وإن صخرا لتأتم الهداة به] وجمهرة اللغة (٩٤٨) وتاج العروس (١٠ / ٢٩٣). ـ

٣٢٢

النعت لا يقدم على المنعوت ، ولذلك يقال : جاءني راكبا رجل ، وإنما يصار إلى هذا التنبيه ؛ لأن الظرف بتأخره عن المنكر يكون بالحمل على الوصف أولى منه بالحمل على الخبر ؛ لأمرين يتعاضدان في ذلك :

استدعاء المنكر في مقام الابتداء أن يوصف ؛ ليتقوى بذلك فائدة الحكم ، كما سبق في الفن الثاني.

وصلاحية الظرف أن يكون من صفاته ؛ ولذلك لا يجب تقديم الظرف على المنكر إذا كان موصوفا ، قال الله تعالى : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)(١) وأن هذا التقديم ملتزم مع مبتدأ غير مصدر.

أما مع المصدر ، كنحو : سلام عليك ، وويل لك ، فلا فرق بين ظرف له حق في التأخير عن مبتدئه ذلك قبل صيرورته مبتدأ ، وذلك قولك : سلاما عليك ، بالنصب منزلا منزلة : أسلم عليك ، مفيدا التجدد لذلك ، وبين ظرف ليس له ذلك ، أو أن يكون قلب السامع معقودا به ، كقولك : قد هلك خصمك ، لمن يتوقع ذلك ، أو لأنه صالح للتفاؤل ، أو لأنه أهم عند القائل ، كما إذا قلت :

عليه من الرحمن ما يستحقّه (٢)

__________________

سورة البقرة الآية ٣٦.

(١) سورة الأنعام ، الآية ٢.

(٢) صدر بيت من الطويل.

٣٢٣

أو كقوله (١) :

سلام الله يا مطر عليها ...

وليس عليك يا مطر السّلام

وقوله (٢) :

وليس بمغن في المودة شافع ...

إذا لم يكن بين الضلوع شفيع

أو أن يكون المراد بتقديمه نوع تشويق إلى ذكر المسند ، كقوله (٣) :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ...

شمس الضحى ، وأبو إسحق ، والقمر

وقوله (٤) :

وكالنار الحياة ، فمن رماد ...

أواخرها ، وأولها دخان

وحق هذا الاعتبار تطويل الكلام في المسند ، وإلّا لم يحسن ذلك الحسن ، أو يكون المراد بالجملة إفادة التجدد دون الثبوت ، فيجعل المسند فعلا ، ويقدم البتة على ما يسند إليه في الدرجة الأولى ، وقولي : (في الدرجة الأولى) احتراز عن نحو : أنا عرفت ، وأنت عرفت ، وزيد عرف ، فإن الفعل فيه يستند إلى ما بعده من الضمير ابتداء ، ثم بوساطة

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للأحوص في ديوانه ص (١٣٩) والأغاني (١٥ / ٢٣٤) وخزانة الأدب (٢ / ١٥٠) ، (٦ / ٥٠٧) ، والدرر (٣ / ٢١) والأحوص : هو عبد الله بن محمد من الأوس ، شاعر إسلامي ، اشتهر بالنسيب ، والبيت قاله في أخت زوجه كان يعشقها ويكتم فنكحت مطرا ، فقال ذلك في قصيدة له.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المعاني بلا عزو (١ / ١٦٠) ، أورده الطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ٧٧) بتحقيقى.

(٣) البيت من البسيط ، وهو لمحمد بن وهيب الحميري يمدح المعتصم العباسي ، أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (٧٩) والقزويني في الإيضاح ص (١٩٣).

(٤) البيت من الوافر لأبي العلاء المعرى ، أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (٧٨) والقزويني في الإيضاح ص (١٩٤).

٣٢٤

عود ذلك الضمير إلى ما قبله يستند إليه في الدرجة الثانية.

وإذا سلكت هذه الطريقة ، سلكت باعتبارين مختلفين : أحدهما أن يجري الكلام على الظاهر : وهو أن" أنا" مبتدأ ، " وعرفت" خبره ، وكذلك : خ خ أنت عرفت ، خ خ وهو عرف" ؛ ولا يقدّر تقديم وتأخير ، كما إذا قلنا : زيد عارف ، أو زيد عرف ، اللهم إلا في التلفظ.

وثانيهما : أن يقدر أصل النظم : عرفت أنا ، وعرفت أنت ، وعرف هو. ثم يقال : قدم أنا وأنت وهو.

فنظم الكلام بالاعتبار الأول لا يفيد إلا تقوي الحكم ، وسبب تقويه هو : أن المبتدأ لكونه مبتدأ ، يستدعي أن يسند إليه شيء ، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يستند إليه صرفه المبتدأ إلى نفسه ، فينعقد بينهما حكم ، سواء كان خاليا عن ضمير المبتدأ ، نحو : زيد غلامك ، أو كان متضمنا له ، نحو : أنا عرفت ، وأنت عرفت ، وهو عرف ، أو زيد عرف ، ثم إذا كان متضمنا لضميره ، صرفه ذلك الضمير إلى المبتدأ ثانيا ، فيكتسي الحكم قوة ، فإذا قلت : هو يعطي الجزيل ، كان المرد تحقيق إعطائه الجزيل عند السامع ، دون تخصيص إعطاء الجزيل به ، وعليه قوله عز وعلا : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)(١) ليس المراد أن شيئا سواهم لا يخلق ، إنما المراد تحقيق أنهم يخلقون ؛ وقوله : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)(٢) وقوله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)(٣) ، وقوله : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ)(٤) وكذلك إذا قلت : أنت لا تكذب ، كان أقوى للحكم بنفي الكذب عن المخاطب من قولك : لا

__________________

(١) سورة الفرقان الآية ٣.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٩٦.

(٣) سورة النمل الآية ١٧.

(٤) سورة المائدة ، الآية ٦١.

٣٢٥

تكذب ، من غير شبهة ، ومن قولك : لا تكذب أنت ، فإن أنت هنا لتأكيد المحكوم عليه بنفي الكذب عنه بأنه هو لا غيره ، لا لتأكيد الحكم ، فتدبر ، وعليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ)(١) وقوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٢) وقوله : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ)(٣) وقوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٤) ويقرب من قبيل : أنا عرفت ، وأنت عرفت ، وهو عرف ، في اعتبار تقوي الحكم : زيد عارف ؛ وإنما قلت : (يقرب) ، دون أن أقول : (نظيره) ؛ لأنه لما لم يتفاوت في الحكاية والخطاب والغيبة في : أنا عارف ، وأنت عارف ، وهو عارف ، أشبه الخالي عن الضمير ، ولذلك لم يحكم على (عارف) بأنه جملة ، ولا عومل معاملتها في البناء حيث أعرب في نحو : رجل عارف ، رجلا عارفا ، رجل عارف ، كما عرف في علم النحو ، واتبعه في حكم الإفراد ، نحو : زيد عارف أبوه.

وبالاعتبار الثاني : يفيد التخصيص قال تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)(٥) المراد : لا يعلمهم إلا الله ولا يطلع على أسرارهم غيره ، لإبطانهم الكفر في سويداوات قلوبهم ، وسيأتيك بيانه في فصل التقديم والتأخير ، ونظير قولنا : أنا عرفت ، في اعتبار الابتداء ، لكن على سبيل القطع ، قولك : زيد عرفت ، أو عرفته ، وفي اعتبار التقديم : زيدا عرفت ، الرفع يفيد تحقيق أنك عرفت زيدا ، والنصب يفيد أنك خصصت زيدا بالعرفان.

وأما : زيدا عرفته ، فأنت بالخيار ، إن شئت قدرت المفسر قبل المنصوب ، على نحو

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ٥٩.

(٢) سورة يس ، الآية : ٧.

(٣) سورة القصص ، الآية ٦٦.

(٤) سورة الأنفال ، الآية ٥٥.

(٥) سورة التوبة الآية ١٠١.

٣٢٦

عرفت زيدا عرفته ، وحملته على باب التأكيد ، وإن شئت قدرته بعده على نحو : زيدا عرفت عرفته ، وحملته على باب التخصيص.

وأما نحو قوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ)(١) فيمن قرأ بالنصب ، فليس إلا التخصيص لامتناع : (أما فهدينا ثمود) ، وأما نحو : زيد عرف ، ورجل عرف ، فليسا من قبيل : هو عرف في احتمال الاعتبارين على السواء ، بل حق المعرّف حمله على وجه تقوي الحكم ، وحق المنكر حمله على وجه التخصيص.

وإنما افترق الحكم بين الصور الثلاث ؛ لأنه إذا قلنا : عرف هو ، لم يكن هو فاعلا ، لما عرف في علم النحو أن ضمير الفاعل لا ينفصل إلا إذا جرى الفعل على غير ما هو له في موضع الإلباس ، وإذا تقدم عليها" إلا" صورة ، كنحو : ما ضرب إلا هو ، أو معنى ، كنحو : إنما يدافع عنك أنا ، إذ المعنى : لا يدافع عنك إلا أنا ، وإذا لم يكن هو فاعلا ، احتمل التقديم على الفعل ، فإذا قلنا : هو عرف ؛ كان له ذلك الاحتمال ، مع احتمال الابتداء ؛ لكونه في موضعه ، وكونه مع ذلك على شرطه في قوة الفائدة بالإخبار عنه وهو [تعرفة](٢) ؛ وإذا قلنا : عرف زيد ، كان (زيد) مرفوعا بعرف لقلة نظائر : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٣) وحينئذ لا يكون له احتمال التقدم على الفعل ، كما سبق في علم النحو ، فلا يكون لقولنا : زيد عرف ، غير احتمال الابتداء ، اللهم إلا بذلك الوجه البعيد ، فلا يرتكب عند المعرف ؛ لكونه على شرط المبتدأ. وإنما يرتكب عند المنكر لفوات الشرط ، إذ لم يمنع عن التخصيص مانع ، كما إذا قلت : رجل جاء ، لصحة أن يراد الجائي رجل لا امرأة ، أيها السامع ، دون قولهم : شر أهرّ ذا ناب ، لامتناع أن يراد : المهرّ لذي ناب شر لا خير ، اللهم إلا إذا حملت التخصيص على وجه آخر ، وهو الإفراد على تقدير : رجل جاء لا رجلان ، فإنه محمل يصار إليه كثيرا عند

__________________

(١) سورة فصلت الآية ١٧.

(٢) كذا في (ط) و (ع) ، (د).

(٣) سورة الأنبياء ، الآية ٣.

٣٢٧

علماء هذا النوع ، وشر أهر ذا ناب لا شّران ، لكن بهذا الوجه يكون نابيا عن مظان استعماله ، وإذا صرح الأئمة ، رحمهم‌الله ، بتخصيصه ، حيث تأولوه ب : ما أهر ذا ناب إلا شر ، فالوجه تفظيع شأن الشر بتنكيره ، كما سبق ، فهو محزه ، ولما عرفت من أن بناء الفعل على المبتدأ أقوى للحكم ، تراهم إذا استعملوا لفظ : المثل ، ولفظ : الغير ، بطريق الكناية نحو : مثلك لا يبخل ، أي أنت لا تبخل وغيرك لا يجود ، بمعنى : أنت تجود من غير إرادة التعريض بلفظي : المثل والغير على إنسانين يقصد إليهما لا يكادون يتركون تقديمهما ؛ لكونه أعون للمعنى المراد بهما إذ ذاك ، ويتحقق هذا في علم البيان ، إن شاء الله تعالى.

٣٢٨

فصل : اعتبارات الفعل وما يتعلق به

واعلم أن للفعل ، ولما يتعلق به ، اعتبارات مجموعها راجع إلى : الترك والإثبات ، والإظهار والإضمار ، والتقديم والتأخير ، فلا بد من التكلم هناك ، ومن التكلم على الخصوص في تقييده ، أعني الفعل ، بالقيود الشرطية ، فنقول : أما الترك ، فلا يتوجه إلى فاعله ، كما عرف في علم النحو ، وإنما يتوجه إلى نفس الفعل ، أو إلى غير الفاعل ، لكنه لا يتضح اتضاحا ظاهرا ، إلّا في المفعول به كما ستقف عليه.

ترك الفعل :

أما الحالة المقتضية لترك الفعل ، فهي أن تغني قرائن الأحوال عن ذكره ، ويكون المطلوب هو : الاختصار ، أو اتباع الاستعمال الوارد على تركه ، كما إذا أردت ضرب المثل بقولهم : لا حظية فلا ألية (١) ، أو بقولهم : لو ذات سوار لطمتني (٢) ، أو غير ذلك مما هو مصبوب في هذا القالب ، أو على ترك نظائره ، كما إذا قلت : إن زيد جاء ، ولو عمرو ذهب ، وتلك القرائن كثيرة ، وأنا أضبط لك منها ههنا ما تستعين به على درك ما عسى يشذ عن الضبط ، فأقول ، والله الموفق للصواب :

منها : أن يكون مفسرا ، كنحو :

__________________

(١) المثل من لسان العرب مادة (ألو) قال : ألا يألوا ألوا وأليّا وإليا وألّى يؤلّى تألية. وأتلى : قصّر وأبطأ ...

والاسم : الأليّة ، ومنه المثل : إلا حظية فلا أليّة ؛ أى إن لم أحظ فلا أزال أطلب ذلك وأتعمل وأجهد نفسى فيه ، وأصله في المرأة تصلف عند زوجها ، تقول : إن أخطأتك الحظوة فيما تطلب فلا تأل أن تتودد إلى الناس لعلك تدرك بعض ما تريد. لسان العرب. (ألو) ولطائف التبيان للطيبى ، بتحقيقى ص (٦٨).

(٢) ذكره الطيبى في التبيان وفي اللطائف بتحقيقى ص ٦٨ كذلك. والمثل في المستقصى (٢ / ٢٩٧) ولسان العرب (لطم). أى لو لطمتنى حرة ذات حلى لاحتملت ، ولكنى لطمتنى أمة عاطل ، قالته امرأة لطمتها من ليست بكفء لها ، يضرب لكريم يظلمه دنىء فلا يقدر على احتمال ظلمه ؛ وهو في الفاضل للمبرد (٤١ ـ ٤٢).

٣٢٩

إن ذو لوثة لانا (١)

ولو ذات سوار لطمتني ، وهلا أبوك حضر ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)(٢) ونحو : أزيد ذهب أو ذهب به ، أو ذهب أخوه ، ونحو : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(٣) كما سبق التعرض له في علم النحو.

ومنها : أن يكون هناك حرف إضافة : فإن حروف الإضافة ، لوضعها على أن يفضي بمعاني الأفعال إلى الأسماء ، لا تنفك عن الأفعال ، إلا أن دلالته لا تتخطى الفعل المطلق ، فإذا أريد تقييده احتيج إلى دلالة أخرى ، ثم هي تتفاوت ، فتارة يكون الشروع ، كما إذا قلت ، عند الشروع في القراءة : (بِسْمِ اللهِ) فإنه يفيد أن المراد باسم الله أقرأ ، أو عند الشروع في القيام أو القعود أو أي فعل كان ، فإنه يفيد ذلك ، وتارة يكون الاقتران ، كقولك لمن أعرس : بالرفاء والبنين (٤) ، أو لمن فوض إليك أن تختار : إليك الاختيار ، فإنه يفيد بالرفاء أعرست ، وإليك يفوض.

وتارة يكون عموم الاستعمال ، كنحو : في الدار ، أو في البلد ، أو في كذا ، فإنه لا يراد إلّا معنى الحصول ، وتارة يكون غير ذلك من مقيدات الأحوال فقس.

ومنها : أن يكون الكلام جوابا لسؤال واقع ، نحو أن يسمع منك : يكتب القرآن لي ، فتسأل : من يكتبه؟ فتقول : زيد. فيكون الحال مغنية عن ذكر : (يكتب) ، وعليه قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٥) وقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٦).

__________________

(١) البيت سبق تخريجه في باب النحو ، وأورده الطيبى في التبيان (١ / ١٩٠) بتحقيقى.

(٢) سورة الانشقاق ، الآية ١.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٤٠.

(٤) أى بالالتئام والاتفاق وحسن الاجتماع. اللسان (رفأ).

(٥) سورة لقمان الآية ٢٥.

(٦) سورة العنكبوت ، الآية ٦٣.

٣٣٠

أو جوابا لسؤال مقدر ، مثل أن يقول : يكتب القرآن لي زيد ، وعليه بيت الكتاب : (١)

ليبك (٢) يزيد ضارع ...

وقراءة من قرأ : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ)(٣) وكذلك : (يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)(٤) ، ببناء الفعل للمفعول في البيت وفي الآيتين ، ومن البناء على السؤال المقدر ارتفاع المخصوص في باب : نعم وبئس على أحد القولين ، وعسى أن نتعرض في فصل الإيجاز والإطناب لهذا الباب ، وأن هذا التركيب متى وقع موقعه ، رفع شأن الكلام في باب البلاغة إلى حيث يناطح السماك (٥) ، وموقعه أن يصل من بليغ عالم بجهات البلاغة ، بصير بمقتضيات الأحوال ، ساحر في اقتضاب الكلام ، ماهر في أفانين السحر ، إلى بليغ مثله ، مطلع من كل تركيب على [حاق](٦) معناه وفصوص مستتبعاته ، فإن جوهر الكلام البليغ مثله مثل الدرة الثمينة لا ترى درجتها تعلو ، ولا قيمتها تغلو ، ولا تشترى بثمنها ، ولا تجري في مساومتها على سننها ما لم يكن المستخرج لها بصيرا بشأنها ، والراغب فيها خبيرا بمكانها.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وينسب إلى الحارث بن نهيك ولبيد وضرار بن نهشل ، ونهشل بن حرى في رثاء ولده. وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٤٦) وعزاه للكتاب وتمام البيت :

ومختبط مما تطيح الطوائح

وهو في الكتاب لسيبويه (١ / ١٤٥) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٢٠٢) والمفصل ، وشواهد الهمع ، وخزانة الأدب للبغدادي وغيرها.

(٢) في (غ) (ليبقى) وهو خطأ.

(٣) سورة النور ، الآيات : ٣٦ ـ ٣٧.

(٤) الأحزاب : ٢ وفي (ط) و (د): (وكذلك يوحى إليك ربك) وهو خطأ.

(٥) السماك : نجم معروف.

(٦) في (ط): (خاف).

٣٣١

وثمن الكلام : أن يوفى من أبلغ الإصغاء ، وأحسن الاستماع حقه ، وأن يتلقى من القبول له ، والاهتزاز بأكمل ما استحقه ، ولا يقع ذلك ما لم يكن السامع عالما بجهات حسن الكلام ، ومعتقدا بأن المتكلم تعمدها في تركيبه للكلام عن علم منه ؛ فإن السامع إذا جهلها لم يميز بينه وبين ما دونه ، وربما أنكره ، وكذلك إذا أساء بالمتكلم اعتقاده ، ربما نسبه في تركيبه ذاك إلى الخطأ ، وأنزل كلامه منزلة ما يليق به من الدرجة النازلة ، ومما يشهد لك بهذا ما يروى عن علي ، رضي‌الله‌عنه ، أنه كان يشيع جنازة فقال له قائل : من المتوفّي؟ بلفظ اسم الفاعل ، سائلا عن المتوفّى فلم يقل : فلان ، بل قال : الله ؛ ردا لكلامه عليه ، مخطئا إياه ، منبها له بذلك على أنه كان يجب أن يقول : من المتوفّى؟ بلفظ اسم المفعول ، ويقال : إن هذا الواقع كان أحد الأسباب التي دعته إلى استخراج علم النحو ، فأمر أبا الأسود الدؤلي بذلك ، فهو أول أئمة علم النحو ، رضوان الله عليهم أجمعين ، وما فعل ذلك ، كرم الله وجهه ، إلّا لأنه عرف من السائل أنه ما أورد لفظ المتوفّى على الوجه الذي يكسوه جزالة في المعنى ، وفخامة في الإيراد ، وهو وجه القراءة المنسوبة إليه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً)(١) بلفظ بناء الفعل للفاعل ، من إرادته معنى والذين يستوفون مدد أعمارهم ، وإذا عرفت هذا ، فنقول في التركيب الذي نحن فيه من مثل : يكتب القرآن لي زيد ، برفع زيد مع بناء الفعل للمفعول جهات للحسن ، ومزايا نتلوها عليك ، ليكون لك ذريعة إلى درك ما سواها ، إذا شحذنا بها بصيرتك.

ومنها : أن الكلام متى نسج على هذا المنوال ، ناب مناب الجمل الثلاث؟ إحداها : يكتب القرآن لي ، والثانية : الجملة المدلول عليها بزيد ، وهي من يكتبه ، والثالثة : زيد مع الرافع المقدر ، وهي يكتبه زيد ، بخلافه إذا قيل : يكتب القرآن لي زيد ، بلفظ المبني للفاعل ، ولا شبهة أن الكلام متى كان أجمع للفوائد كان أبلغ.

ومنها : أن الكلام متى سيق هذا المساق ؛ كان كل واحد من لفظي : القرآن وزيد

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٣٤.

٣٣٢

مقصودا إليه في الذكر ، غير مستغنى عنه ، بخلافه في التركيب الآخر ؛ فإن لفظ القرآن فيه يعد فضلة ، والتقريب ظاهر.

ومنها : أن الكلام ، متى سلك به هذا المسلك ، لم يكن أوله مطمعا في ذكر الكاتب ، فإذا أورد السامع فائدة ذكره ، كانت حاله كمن تيسر له غنيمة من حيث لا يحتسب ، بخلافه في النظم ؛ [الآخر](١).

ومنها : أن الكلام على ذلك النظم يكون كالمتناقض من حيث الظاهر ، لأن كون القرآن مفعولا فضلة فيه ، يكون مؤذنا بأن مساس الحاجة إليه دون مساس الحاجة إلى الفاعل ، وكونه مقدما [على الفاعل](٢) يكون مؤذنا بالاعتناء بشأنه ، وأن مساس الحاجة إليه فوق مساس الحاجة إلى ما أخر ، بخلافه في هذا النظم ، فإنه يكون سليما عن ذلك ، وفي هذا الوجه نظر يذكر في الحواشي.

ومنها أن الكلام في التركيب الذي نحن فيه يفيد استناد الكتبة إلى الفاعل إجمالا أولا ، وتفصيلا ثانيا ، وفي غيره يفيد استنادها إليه من وجه واحد ، فيكون هذا التركيب أبلغ ؛ ومن قبيل ما نحن بصدده : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ)(٣) ف (لِلَّهِ شُرَكاءَ) هما : مفعولا" جعلوا" وانتصاب الجن بفعل مضمر دل عليه السؤال المقدر ، وهو : من جعلوا شركاء؟

إثبات الفعل :

وأما الحالة المقتضية لإثبات الفعل ، فاشتمال المقام على جهة من جهات الاستدعاء له ، والتلفظ به ، مما نبهت على أمثالها غير مرة.

__________________

(١) من (غ).

(٢) في (غ) (فيه).

(٣) سورة الأنعام الآية ١٠٠.

٣٣٣

ترك مفعوله :

وأما الحالة المقتضية لترك مفعوله فهو : القصد إلى التعميم والامتناع على أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره مع الاختصار ، وأنه أحد أنواع سحر الكلام ، حيث يتوصل بتقليل اللفظ إلى تكثير المعنى ، كقولهم في باب المبالغة : فلان يعطي ويمنع ، ويصل ويقطع ، ويبني ويهدم ، ويغني ويعدم ، وقوله عز قائلا : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ)(١) أو القصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم ، ذهابا في نحو : فلان يعطي ، إلى معنى ، يفعل الإعطاء ، ويوجد هذه الحقيقة إيهاما للمبالغة بالطريق المذكور في إفادة اللام للاستغراق ، وعليه قوله عزوجل : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢) المعني وأنتم من أهل العلم والمعرفة. أو القصد إلى مجرد الاختصار ، لنيابة قرائن الأحوال عن ذكره ، كقوله عز وعلا : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)(٣) إذ لا يلبس أن المراد : أهذا الذي بعثه الله لاستدعاء الموصول ، الراجع إليه من الصلة ، وقوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)(٤) لاتضاح أن المراد أرني ذاتك ، وقوله : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ)(٥) لانصباب الكلام إلى إرادة يسقون مواشيهم ، وتذودان غنمهما ، ولا نسقي غنمنا حتى يصدر الرعاء مواشيهم ، وقوله : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٦) لظهور أن المراد لو شاء هدايتكم لهداكم ، ولك أن تنظم قوله :

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ٢٥.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٢.

(٣) سورة الفرقان الآية ٤١.

(٤) سورة الأعراف ، الآية ١٤٣.

(٥) سورة القصص الآية ٢٣.

(٦) سورة الأنعام ، الآية ١٤٩.

٣٣٤

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١) في هذا السلك ، على تقدير : وأنتم تعلمون أنه لا يماثل ، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله ، كقوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)(٢). وأكثر فواصل القرآن من نحو : يعلمون ، يعقلون ، يفقهون ، واردة على ما سمعت من الاحتمالين ، وقول الشاعر (٣) :

إذا شاء ظالع مسجورة ...

ترى حولها النبع والسأسما

وقوله (٤) :

فإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت ...

مخافة ملويّ من القدّ محصد

وقوله :

لو شئت عدت بلاد نجد عودة ...

فحللت بين عقيقه وزروده

أو الرعاية على الفاصلة ، كنحو : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٥) أو استهجان ذكره ، كقول عائشة ، رضي‌الله‌عنها : ما رأيت منه ولا رأى مني (٦) ، يعني العورة. أو القصد إلى اعتبار غير ذلك من الاعتبارات المناسبة للترك.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٢.

(٢) سورة الروم ، الآية : ٤٠.

(٣) البيت من المتقارب للنمر بن تولب ديوانه (٣٨٠) ، ولسان العرب (سسم) ، وجمهرة اللغة (٤٥٧).

وظالع : شاء عرجاء. مسجورة : ساكنة ممتلئة. السأسم : نوع من الشجر.

(٤) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٨٢) وعزاه لطرفة. وأرقلت الدابة إرقالا : أسرعت وأرقل القوم إلى الحرب إرقالا : أسرعوا.

(٥) سورة الضحى الآية ١ ـ ٣.

(٦) هذا الحديث روى عنها بلفظ ما رأيت عورة رسول الله قط قال الشيخ الألباني : أخرجه الطبراني في الصغير ومن طريقه أبو نعيم والخطيب ، وفي سنده بركة بن محمد الحلبي ، ولا بركة فيه ؛ فإنه كذاب وضاع ، وقد ذكر له الحافظ بن حجر في اللسان هذا الحديث من ـ ـ

٣٣٥

إثبات الفعل :

وأما الحالة المقتضية لإثباته ، فعراء المقام عما ذكر ، أو القصد إلى زيادة تقرير وبسط الكلام بذكره ، أو الرعاية على الفاصلة ، كقوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها* وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها)(١) وما شاكل ذلك من الجهات المعتبرة في باب الإثبات.

إضمار فاعل الفعل :

وأما الحالة المقتضية لإضمار فاعله : فهو كون المقام حكاية أو خطابا ، كقولك : عرفت وعرفت ، أو كون الفاعل مسبوقا بالذكر ، كقولك : جاءني رجل فطلب مني كذا ، أو في حكم المسبوق به ، كنحو قوله في مطلع القصيدة (٢) :

زارت عليها للظلام رواق ...

ومن النجوم قلائد ونطاق

وقوله في الافتتاح (٣) :

قالت ولم تقصد لقيل الخنا ...

مهلا فقد أبلغت أسماعي

__________________

أباطيله ، وله طريق أخرى عند ابن ماجه وابن سعد ، وفيه مولاة لعائشة ، وهي مجهولة ، ولذلك ضعف سنده البوصيرى في الزوائد. ويعارضه ما ثبت في الصحيحين وأبي عوانة عن عائشة قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء بيني وبينه واحد ، تختلف أيدينا فيه ، فيبادرني حتى أقول : دع لي ، دع لي ، قالت : وهما جنبان.

(١) سورة الشمس ، الآيات : ١ ـ ٢.

(٢) ذكره الطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ٨١) بتحقيقى والبيت لأبي العلاء في سقط الزند ص (٢١٠) ، والطيبى في التبيان (١ / ١٩٤) بتحقيقى وعزاه لأبي العلاء والرواق : ستر يمد دون السقف.

(٣) البيت من السريع لأبي قيس بن الأسلت السلمى في ديوانه ص (٧٨) ، ولسان العرب (بلغ) ، وتاج العروس (٢١ / ٢٢٤) (سمع) ، والأغاني (١٧ / ١٢٢).

٣٣٦

إظهار فاعل الفعل :

وأما الحالة المقتضية لكونه مظهرا ، فهي كون المقام غير ما ذكر ، أو كونه مستدعيا زيادة التعيين والتمييز ، كقولك : جاءني رجل ، فقال الرجل كذا ، أو مستدعيا للالتفات ، كقول الخلفاء : يرسم أمير المؤمنين كذا ، مكان ارسم كذا.

التقديم والتأخير مع الفعل :

وأما اعتبار التقديم والتأخير مع الفعل فعلى ثلاثة أنواع :

أحدها : أن يقع بين الفعل وبين ما هو فاعل له معنى ، كنحو :

أنا عرفت ، وأنت عرفت ، وهو عرف ، دون زيد عرف.

وثانيها : أن يقع بينه وبين غير ذلك ، كنحو : زيدا عرفت ، ودرهما أعطيت ، وعمرا منطلقا علمت.

وثالثها : أن يقع بين ما يتصل به كنحو : عرف زيد عمرا ، وعرف عمرا زيد ، وعلمت زيدا منطلقا ، وعلمت منطلقا زيدا ، وكسوت عمرا جبة ، وجبة عمرا ، ولكل منها حالة تقتضيه.

النوع الأول :

فالحالة المقتضية للنوع الأول ، هي أن يكون هناك وجود فعل وعالم به ، لكنه مخطئ في فاعله أو في تفصيله ، وأنت تقصد أن ترده إلى الصواب ، كما تقول : أنا سعيت في حاجتك ، أنا كفيت مهمك ، تريد دعوى الانفراد بذلك وتقريرا للاستبداد ، وترد بذلك على من زعم أن ذلك كان من غيرك ، أو أن غيرك فعل فيه ما فعلت ، ولذلك إذا أردت التأكيد قلت للزاعم في الوجه الأول : أنا كفيت مهمك لا عمرو ، أو لا غيري ، وفي الوجه الثاني : أنا كفيت مهمك وحدي ، وقولهم في المثل : أتعلمني بضبّ أنا

٣٣٧

حرشته (١)؟ شاهد صدق على ما ذكر عند من له ذوق ، وليس إذا قلت : سعيت في حاجتك ، أو سعيت أنا في حاجتك ، يجب أن يكون أن عند السامع وجود سعي في حاجته ، قد وقع خطأ منه في موجده أو تفصيله ، فتقصد إزالة الخطأ ، بل إذا قلته ابتداء مفيدا أن وجود السعي في حاجته منك غير مشوب بتجوز أو سهو أو نسيان ، صح ، ومنه ما يحكيه ، علت كلمته ، عن قوم شعيب : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ)(٢) أي العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت ، لكونهم من أهل ديننا ، ولذلكم قال ، عليه‌السلام في جوابهم : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ)(٣) أي من نبي الله ، ولو أنهم كانوا قالوا : وما عززت علينا ، لم يصح هذا الجواب ولا طابق ، ولذلك ينهى أن يقال في النفي عند التقديم : ما أنا سعيت في حاجتك ولا أحد سواي ، لاستلزام أن يكون سعى في حاجته غيرك لا أنت ، وأن لا يكون سعى في حاجته غيرك لا أنت ، ولا ينهى أن يقال : ما سعيت في حاجتك ، ولا أحد غيري ، وكذلك إذا أكدت فقلت : ما سعيت أنا في حاجتك ولا أحد غيري.

ولذلك أيضا يستهجن أن يقال في النفي عند التقديم : ما أنا رأيت أحدا من الناس ، لاستلزام أن يكون قد اعتقد فيك معتقد أنك رأيت أحدا من الناس ، أو ما رأيت أنا أحدا من الناس ، ويحترز عن أن يقال عند التقديم : ما أنا ضربت إلا زيدا ؛ لأن نقض النفي بإلّا يقتضي أن تكون ضربت زيدا ، وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي يقتضي أن تكون ضربته ، ولا يحترز أن يقال : ما ضربت إلّا زيدا ، وما ضربت أنا إلّا زيدا.

__________________

(١) المثل في لسان العرب (حرش) ، وحرش الضب واحترشه : أتى قفا جحره فقعقع بعصاه عليه وأتلج طرفها في جحره فإذا سمع الصوت حسبه دابة تريد أن تدخل عليه فجاء يزحل على رجليه وعجزه مقاتلا ويضرب بذنبه فناهزه الرجل ، فلم يقدر أن يفلت منه.

(٢) سورة هود ، الآية ٩١.

(٢) سورة هود ، الآية ٩١.

٣٣٨

النوع الثاني :

وأما الحالة المقتضية للنوع الثاني : أن يكون هناك من اعتقد أنك عرفت إنسانا وأصاب لكن أخطأ ، فاعتقد ذلك الإنسان غير زيد ، وأنت تقصد رده إلى الصواب ، فتقول : زيدا عرفت. وإذا قصدت التأكيد والتقرير ، قلت : زيدا عرفت لا غيره ، ولذلك نهوا أن يقال : ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس نهيهم أن يقال : ما أنا ضربت زيدا ، ولا أحد غيري ، والنهي الواقع مقصور على الحالة المذكورة.

أما إذا ظن بك القائل ظنّا فاسدا أنك تعتقده قد ضرب عمرا ، أو أنك تعتقد كون زيد مضروبا لغيره ، ثم قال لك ، مدعيا في الصورة الأولى : زيدا ضربت ، وفي الثانية : أنا ضربت زيدا ، فيصح منك أن تقول : ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس ، أو ما أنت ضربت زيدا ولا أحد غيرك ؛ فتأمل! فالفرق واضح.

وكذلك امتنعوا أن يقال : ما زيدا ضربت ، ولكن أكرمته ، فتعقب الفعل المنفي بإثبات فعل هو ضده ؛ لأن مبنى الكلام ليس على أن الخطأ وقع في الضرب ، فيرد إلى الصواب في الإكرام ، وإنما مبناه على أن الخطأ وقع في المضروب ، حين اعتقد زيدا ، [فرده](١) إلى الصواب أن تقول : ولكن عمرا ، وكذلك إذا قلت : بزيد مررت ، أفاد أن سامعك كان يعتقد مرورك بغير زيد ، فأزلت عنه الخطأ مخصصا مروركم بزيد دون غيره ؛ والتخصيص لازم للتقديم ، ولذلك تسمع أئمة علم المعاني في معنى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٢) يقولون : نخصك بالعبادة ، لا نعبد غيرك ، ونخصك بالاستعانة منك لا نستعين أحدا سواك ؛ وفي معنى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(٣) يقولون : إن كنتم تخصونه بالعبادة. وفي معني قوله : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(٤) نذهب إلى أنه تعريض

__________________

(١) من (غ). وفي (ط) و (د) (فترده).

(٢) سورة الفاتحة الآية ٤.

(٣) سورة النحل الآية ١١٤.

(٤) سورة البقرة الآية ٤.

٣٣٩

بأن الآخرة التي عليها أهل الكتاب فيما يقولون : إنها لا يدخل الجنة فيها إلّا من كان هودا أو نصارى ، وإنها لا تمسهم النار فيها إلّا أياما معدودات ، وإن أهل الجنة فيها لا يتلذذون في الجنة إلّا بالنسيم ، والأرواح العبقة ، والسماع اللذيذ ، ليست بالآخرة ... وإيقانهم بمثلها ليس من الإيقان بالتي هي الآخرة عند الله في شيء ، وستعرف التعريض ، إن شاء الله تعالى ، في علم البيان. وفي قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(١) يقولون : أخرت صلة الشهادة أولا ، وقدمت ثانيا ، لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم ، وفي قوله تعالى (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)(٢) يقولون : إليه لا إلى غيره ، وتراهم في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(٣) يحملون تعريف الناس على الاستغراق ، ويقولون : المعنى لجميع الناس رسولا وهم العرب والعجم ، لا للعرب وحدهم ، دون أن يحملوه على تعريف العهد أو تعريف الجنس ؛ لئلا يلزم من الأول اختصاصه ببعض الإنس ، لوقوعه في مقابلة كلهم ، ومن الثاني اختصاصه بالإنس دون الجن.

ولإفادة التقديم عندهم التخصيص تراهم يفرعون على التقديم ما يفرعون على نفس التخصيص ، فكما إذا قيل : ما ضربت أكبر أخويك ، فيذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون ضاربا للأصغر ، بدليل الخطاب ، يذهبون أيضا إذا قيل : ما زيدا ضربت ، إلى أنه ينبغي أن يكون ضاربا لإنسان سواه ، ولذلك يمتنعون أن يقال : ما زيدا ضربت ، ولا أحدا من الناس ، ولا يمتنعون أن يقال : ما ضربت زيدا ولا [أحدا](٤) من الناس ،

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٤٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.

(٣) سورة النساء الآية ٧٩.

(٤) في (غ): (أحد).

٣٤٠