مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

وتسمعهم في قوله تعالى (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ)(١) يقولون : قدم الظرف تعريضا بخمور الدنيا ، وأن المعنى : هي على الخصوص لا تغتال العقول اغتيال خمور الدنيا ، ويقولون في قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(٢) يمتنع تقديم الظرف على [اسم لا](٣) ؛ لأنه إذا قدم أفاد تخصيص نفي الريب بالقرآن ، ويرجع دليل خطاب على أن ريبا في سائر كتب الله ، وعلى هذا متى قلت : إذا خلوت قرأت القرآن ، أفاد تقديم الظرف اختصاص قراءتك به ورجع إلى معنى لا أقرأ إلّا إذا خلوت ، فافهم.

وإنما لزم التقديم ، استدعاء الحكم ثبوتا ونفيا ، حتى قامت الجملة في نحو : أنا ضربت زيدا ، مقام : ضربت زيدا ، ولم يضربه غيري ، وفي نحو : ما زيدا ضربت ، مقام : ما ضربت زيدا وضربت غيره ، وفي نحو : إذا خلوت قرأت القرآن ، مقام : اقرأ القرآن إذا خلوت ، ولا أقرأ إذا لم أخل ؛ لما عرفت أن حالة التقديم هو أن ترى سامعك يعتقد وقوع فعل وهو مصيب في ذلك ، لكنه مخطئ في الفاعل أو المفعول أو غير ذلك من مقيدات الفعل ، وأنت تقصد رده إلى الصواب ، فإذا نفيت من كان اعتقده من الفاعل أو المفعول ، استدعى المقام غير ذلك ، فيجتمع لذلك نفيك للمنفي مع الإثبات لمن سواه ، وإذا أثبت غير من كان اعتقده ، استدعى المقام نفي من اعتقده لكونه خطأ ، فيجتمع إثباتك للمثبت مع النفي للمنفي ، ويفيد التقديم في جميع ذلك وراء ما سمعت ، نوع اهتمام بشأن المقدم ، فعلى المؤمن في نحو : (بسم الله) ، إذا أراد تقدير الفعل معه ، أن يؤخر الفعل على نحو : بسم الله أقرأ ، أو أكتب ، وكأني بك تقول : فما بال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(٤) مقدم الفعل على المفعول ، وأن كلام الله أحق برعاية ما يجب رعايته ،

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية ٤٧.

(٢) سورة البقرة الآيات ١ ـ ٢.

(٣) من (د) و (غ). وفي (ط): (الاسم).

(٤) سورة العلق الآية ١.

٣٤١

فالوجه فيه عندي أن يحمل : " اقرأ" على معنى افعل القراءة وأوجدها ، على نحو ما تقدم في قولهم : فلان يعطي ويمنع ، في أحد الوجهين ، غير معدى إلى مقروء به ، وأن يكون (" بِاسْمِ رَبِّكَ") مفعول اقرأ الذي بعده.

النوع الثالث :

والحالة المقتضية للنوع الثالث : هي كون العناية بما يقدم أتم ، وإيراده في الذكر أهم.

والعناية التامة بتقديم ما يقدم ، والاهتمام بشأنه نوعان :

أحدهما : أن يكون أصل الكلام في ذلك هو التقديم ، ولا يكون في مقتضى الحال ما يدعو إلى العدول عنه ، كالمبتدأ المعرف ، فإن أصله التقديم على الخبر ، نحو : زيد عارف ، وكذي الحال المعرف ، فأصله التقديم على الحال ، نحو : جاء زيدا راكبا ، وكالعامل ، فأصله التقدم على معموله ، نحو : عرف زيد عمرا ، وكان زيد عارفا ، وإن زيدا عارف ، ومن زيد ، وغلام عمرو ؛ وكالفاعل فأصله التقدم على المفعولات ، وما يشبهها من : الحال والتمييز ، نحو : ضرب زيد الجاني بالسوط يوم الجمعة أمام بكر ضربا شديدا ؛ تأديبا له ممتلئا من الغضب ، وامتلأ الإناء ماء.

وكالذي يكون في حكم المبتدأ من مفعولي باب : علمت ، نحو : علمت زيدا منطلقا ، أو في حكم فاعل من مفعولي باب : أعطيت وكسوت ، نحو : أعطيت زيدا درهما ، وكسوت عمرا جبة ، فزيد عاط ، وعمرو مكتس ، فحقهما التقدم على غيرهما : وكالمفعول المتعدي إليه بغير وساطة ، فأصله التقدم على المتعدى إليه بوساطة ، نحو : ضربت الجاني بالسوط ، وكالتوابع فأصلها أن تذكر مع المتبوع ، فلا يقدم عليها غيرها ، نحو : جاء زيد الطويل راكبا ، وعرفت أنا زيدا ، وكذا : عرفت أنا وفلان زيدا ، وغير ذلك مما عرف له في علم النحو موضع من الكلام يوصف الأصالة بالإطلاق.

وثانيهما : أن تكون العناية بتقديمه ، والاهتمام بشأنه ، لكونه في نفسه نصب عينك ، وأن التفات الخاطر إليه في التزايد ، كما تجدك إذا وارى قناع الهجر وجه من روحك في خدمته ، وقيل لك : ما الذي تتمنى؟ تقول : وجه الحبيب أتمنى ، فتقدم ؛ أو كما تجدك إذا

٣٤٢

قال أحد : عرفت شركاء الله ، يقف [شعرك](١) فزعا ، وتقول : لله شركاء؟ وعليه قوله تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ)(٢) أو لعارض يورثه ذلك ، كما إذا أخذت في الحديث ، وتوهمت لقرائن الأحوال من أنت معه في الحديث ملتفت الخاطر إلى معنى ينتظر من مساقك الحديث إلمامك به ، فيبرز ذلك المعنى عندك في معرض أمر يتجدد في شأنه التقاضي ساعة فساعة ، فكما تجد له مجالا في الذكر صالحا تتوقف أن تذكره ، مثل ما تقول لصاحبك : أعجبني المسألة الفلانية من كتابك ، وتأخذ في كيت [وذيت](٣) .. وله كتاب آخر فيه مسائل ، فتحدث أن كتابه الآخر واقع الآن في ذهنه ، وهو كالمنتظر : هل تورده في الذكر ، فتقول : وأعجبني من كتابك الآخر المسألة الفلانية ، فتقدم المجرور على المرفوع ، أو كما إذا وعدت ما أنت تستبعد وقوعه ، فإنك حال التفات خاطرك إلى وقوعه من جهة تبعده ، ومن جهة أخرى أدخل في تبعيده ، تجد تفاوتا في إنكارك إياه ضعفا وقوة بالنسبة ، ولامتناع إنكاره بدون القصد إليه تستتبع تفاوته ذاك تفاوتا في القصد إليه والاعتناء بذكره.

فأنت في الأول إذا أنكرت ، أوجبت البلاغة أن تقول : شيء حاله في البعد من الوقوع هذه أنّى يكون ، لقد وعدت أنا وأبي وجدي هذا ، إن هو إلا من اختراعات المموهين ، وأصحاب التلبيس ، فتذكر المنكر بعد المرفوع في موضعه من الكلام ، وأن تقول في الثاني : شيء حاله في البعد من الوقوع إلى هذه الغاية على من يروج ، لقد وعدت هذا أنا وأبي وجدى ، فتقدم المنكر على المرفوع.

أو كما إذا عرفت في التأخير مانعا مثل الذي في قولك : رأيت الجماعة من محبيك التي نأت ثم دنت ، إذا قدمت من محبيك أفاد أن الجماعة المرئية جماعة من محبيك من

__________________

(١) في (غ): (رأسك).

(٢) سورة الأنعام الآية ١٠٠.

(٣) في (غ) (وكيت). وفي اللسان : كان من الأمر كيت وكيت ، بغير تنوين ، وذيت وذيت ، كذلك بالتخفيف.

٣٤٣

غير شبهة ، وهو مرادك ، وإذا أخرت أورث الاشتباه ، لاحتمال أن يكون من محبيك صلة دنت ، أو مثل الذي في قولك : الحمد لله الذي بعث بالحق عيسى ، وأيّد بهرون موسى ، إذا أخرت المجرور بطل السجع ، ولهذا العارض هنا شيء يتفاوت جلاء وخفاء ، لطيفا وألطف ، والخواطر في مضمارها يتباين عن ضليع لا يشق غباره ، ومن ظالع لا يؤمن عثاره ، وليس السبق هناك بمجرد الكد ، بل الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ولله در أمر التنزيل ، وإحاطته على لطائف الاعتبارات في إيراد المعنى على أنحاء مختلفة ، بحسب مقتضيات الأحوال ، ولا ترى شيئا منها يراعى في كلام البلغاء من وجه لطيف ، إلّا عثرت عليه مراعى فيه من ألطف وجوه ، وأنا ألقي إليك من القرآن عدة أمثلة مما نحن فيه لتستضيء بها ، فيما عسى يظلم عليك من نظائرها ، إذا أحببت أن تتخذها مسارح نظرك ، ومطارح فكرك ، منها أن قال ، عز من قائل ، في سورة القصص في قصة موسى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(١) فذكر المجرور بعد الفاعل وهو موضعه ، وقال في يس في قصة رسل عيسى عليه‌السلام : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ)(٢) فقدم لما كان أهم ، يبين ذلك أنه حين أخذ في قصة الرسل ، اشتمل الكلام على سوء معاملة أصحاب القرية الرسل ، وأنهم أصروا على تكذيبهم ، وانهمكوا في غوايتهم مستشرين على باطلهم ، فكان مظنة أن يعلن السامع ، على مجرى العادة ، تلك القرية قائلا : ما أنكدها تربة ، وما أسوأها منبتا ، ويبقى مجيلا في فكره : أكانت تلك المدرة بحافاتها كذلك ، أم كان هناك قطر دان أو قاص منبت خير ، منتظرا لمساق الحديث ، هل يلم بذكره؟ فكان ، لهذا ، العارض مهمّا فكما جاء موضع له صالح ذكر ، بخلاف قصة موسى ، ومنها أن قال في سورة المؤمنين : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا)(٣) فذكر بعد المرفوع وما تبعه المنصوب وهو موضعه ، وقال في سورة النمل : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا

__________________

(١) سورة القصص الآية ٢٠.

(٢) سورة يس الآية ٢٠.

(٣) سورة المؤمنون الآية ٨٣.

٣٤٤

نَحْنُ وَآباؤُنا)(١) فقدم ؛ لكونه منها أهم ، يدلك على ذلك أن الذي قبل هذه الآية : (أإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ)(٢) والذي قبل الأولى (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً)(٣) فالجهة المنظور فيها هناك هي كون أنفسهم ترابا وعظاما ، والجهة المنظور فيها ههنا هي كون أنفسهم وكون آبائهم ترابا ، لاجزاء هناك من بناهم على صورة نفسه (٤) ، ولا شبهة أنها أدخل عندهم في تبعيد البعث ، فاستلزم زيادة الاعتناء بالقصد إلى ذكره ، فصيره هذا العارض أهم ؛ ومنها أن قال في موضع من سورة المؤمنين (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)(٥) فذكر المجرور بعد صفة" الملأ" وهو موضعه كما تعرف ، وفي موضع آخر منها : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٦) فقدم المجرور لعارض صيره بالتقديم أولى ، وهو أنه لو أخر عن الوصف ، وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل في صلة الموصول وتمامه : (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) لاحتمل أن يكون من صلة الدنيا ، واشتبه الأمر في القائلين : أهم من قومه أم لا؟ ومنها أن قال في سورة طه : (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى)(٧) وفي الشعراء (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)(٨)

__________________

(١) سورة النمل الآية ٦٨.

(٢) سورة النمل الآية ٦٧.

(٣) سورة الصافات الآية ١٦.

(٤) يعنى قوله : (إذا ضرب أحدكم ، فليجتنب الوجه ، فإن الله خلق آدم على صورته رواه أحمد وغيره ، وحسنه الشيخ الألباني في الصحيحة (١ / ٨٦٢) ، والضمير في صورته عائد على المضروب قطعا ، كما فسره أهل العلم ، فأراد النبي (أن ضارب الوجه ، كالمهين لوجه أبيه آدم ، الذي خلق المضروب على صورته والله أعلم ، أما ما ذكره السكاكي ، ههنا ، فباطل ، ولا يجوز حمل الحديث عليه.

(٥) سورة المؤمنون الآية ٢٤.

(٦) سورة المؤمنون ، الآية ٣٣.

(٧) سورة طه الآية ٧٠.

(٨) سورة الشعراء الآية ٤٨.

٣٤٥

للمحافظة على الفاصلة.

ولنقتصر من الأمثلة على ما ذكر ، فما كان الغرض إلا مجرد التنبيه دون التتبع لنظائرها في القرآن ، وتفصيل القول فيها ، خاتمين الكلام بأن جميع ما وعت أذناك من التفاصيل في هذه الأنواع الثلاثة من فصل : التقديم والتأخير ، هو مقتضى الظاهر فيها ، وقد عرفت ، فيما سبق ، أن إخراج الكلام ، لا على مقتضى الظاهر ، طريق البلغاء ، يسلك [كثيرا بتنزيل](١) نوع مكان نوع ، باعتبار من الاعتبارات ، فليكن على ذكر منك.

تقييد الفعل :

وأما الحالات المقتضية لتقييد الفعل بالشروط المختلفة : (كان) و (إن) (ما) و (إذا) و (إذا ما) و (إذما) و (متى) و (متى ما) و (أين) و (أينما) و (حيثما) و (من) و (ما) و (مهما) و (أي) و (أنّى) و (لو) ، فالذي يكشف عنها القناع وقوفك على ما بين هذه الكلم من التفاصيل.

أما (إن) فهي للشرط في الاستقبال ، والأصل فيها الخلو عن الجزم بوقوع الشرط ، كما يقول القائل : إن تكرمني أكرمك ، وهو لا يعلم أتكرمه أم لا ، فإذا استعملت في مقام الجزم ، لم تخل عن نكتة : وهي إما التجاهل لاستدعاء المقام إياه ، وإما أن المخاطب ليس بجازم ، كما تقول لمن يكذبك فيما أنت تخبره : إن صدقت فقل لي ما ذا تعمل وإما تنزيل المخاطب منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم ، كما يقول الأب لابن لا يراعي حقه : افعل ما شئت إني إن لم أكن لك أبا كيف تراعى حقي؟ ولامتناع الجزم بتحقق المعلق بما في تحققه شبهة ، قلما يترك المضارع في بليغ الكلام إلى الماضي المؤذن بالتحقق نظرا إلى لفظه لغير نكتة ، مثل ما ترى في قوله ، علت كلمته : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)(٢)

__________________

(١) من (غ) وفي (ط) ، (د): (كثير تنزيل).

(٢) سورة الممتحنة الآية ٢.

٣٤٦

ترك يودوا إلى لفظ الماضي ، إذ لم تكن تحتمل ودادتهم لكفرهم من الشبهة ، ما كان يحتملها كونهم : إن يثقفوهم أعداء لهم وباسطي الأيدي والألسنة إليهم للقتل والشتم.

و (إذا) للشرط في الاستقبال ، قال الله تعالى (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)(١) على نحو : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)(٢) بإدخال (إذا) في الجزاء ، والأصل فيها القطع بوقوع الشرط ، كما إذا قلت : إذا طلعت الشمس فإني أفعل كذا ، قطعا ، إما تحقيقا كما في المثال المضروب ، أو باعتبار ما خطابي ، وهو النكتة في تغليب لفظ الماضي معه على المستقبل في الاستعمال ، لكون الماضي أقرب إلى القطع من المستقبل في الجملة ، نظرا إلى اللفظ ، قال تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)(٣) بلفظ : (إذا) في جانب الحسنة ، حيث أريدت الحسنة المطلقة لا نوع منها ، كما في قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ)(٤) وفي قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَ)(٥) ، لكون حصول الحسنة المطلقة مقطوعا به ، كثرة وقوع واتساعا ، ولذلك عرفت ؛ ذهابا إلى كونها معهودة ، أو تعريف جنس ، والأول أقضى لحق البلاغة ، وبلفظ (إن) في جانب السيئة ، مع تنكير السيئة ، إذ لا تقع إلا في الندرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة ، ولا يقع إلا شيء منها ، ولذلك قيل : قد عددت أيام البلاء ، فهل عددت أيام الرخاء؟ ومنها : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)(٦) بلفظ. (إذا) ، في جانب الرحمة ، وكأن تنكيرها وقصد النوع ، للنظر إلى لفظ الإذاقة فهو المطابق للبلاغة ، وأما قوله :

__________________

(١) سورة الروم الآية : ٣٣ ، ٣٦.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٣١.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٣١.

(٣) سورة النساء الآية ٧٨.

(٤) سورة النساء الآية ٧٣.

(٥) سورة الروم ، الآية ٣٦.

٣٤٧

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا)(١) و (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ)(٢) ، بلفظ : " إن" مع المرتابين ، فإما لقصد التوبيخ على الريبة ، لاشتمال المقام على ما يقلعها عن أصلها ، وتصوير أن المقام لا يصلح إلا لمجرد الفرض للارتياب ، كما قد تفرض المحالات ، متى تعلقت بفرضها أغراض ، كقوله تعالى : (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ)(٣) ، والضمير في" سمعوا" للأصنام ويتأبى أن يقال : وإذا ارتبتم ، ومثله : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)(٤) فيمن قرأ" إن" لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب الإسراف ، وتصوير أن الإسراف من العاقل في مثل هذا المقام واجب الانتفاء ، حقيق أن لا يكون ثبوته إلا على مجرد الفرض ، ومنه ما قد يقول العامل عند التقاضي بالعمالة ، إذا امتد التسويف ، وأخذ يترجم عن الحرمان : إن كنت لم أعمل ، فقولوا اقطع الطمع ، [ينزلهم](٥) لتوهم أن يحرموه ، منزلة من لا يعتقد أنه عمل ، فيقول مجهّلا : إن اعتقدتم أني لم أعمل فقولوا : ويلكم ، وإما لتغليب غير المرتابين ممن خوطبوا على مرتابيهم.

وباب التغليب باب واسع يجري في كل فن ، قال تعالى ، حكاية عن قوم شعيب : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا)(٦) أدخل" شعيب" في" لتعودن في ملتنا" بحكم التغليب ، وإلّا فما كان شعيب في ملتهم كافرا مثلهم ، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم صغيرة فيها نوع نفرة ، فما بال الكفر؟

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٣.

(٢) سورة الحج : ٥.

(٣) سورة فاطر الآية ١٤.

(٤) سورة الزخرف ، الآية ٥.

(٥) من (غ) ، وفي (ط) ، (د) (فنزلهم).

(٦) سورة الأعراف الآية ٨٨.

٣٤٨

وكذا قوله : (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ)(١) وقال تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)(٢) وفي موضع آخر (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)(٣) عدت الأنثى من الذكور ، بحكم التغليب ، وقال تعالى (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ)(٤) عدّ إبليس من الملائكة بحكم التغليب عد الأنثى من الذكور.

ومن هذا الباب قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(٥) بتاء الخطاب ، غلب جانب (أنتم) على جانب (قوم) ، وكذا : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٦) فيمن قرأ بتاء الخطاب أي : أنت يا محمد ، وجميع المكلفين وغيرهم. وكذا : " يذرؤكم" في قوله تعالى (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ)(٧) خطابا شاملا للعقلاء والأنعام ، مغلبا فيه المخاطبون على الغيّب ، والعقلاء على ما لا يعقل ، ومنه قولهم : أبوان للأب والأم ، وقمران ، للقمر والشمس ، وخافقان ، للمغرب والمشرق.

وأما قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ)(٨) بلفظ : " إذا" مع" الضر" فللنظر إلى لفظ المس ، وإلى تنكير الضر ، المفيد في المقام التوبيخي ، القصد إلى اليسير من الضر ، وإلى الناس المستحقين أن يلحقهم كل ضرر ، وللتنبيه على أن مساس قدر يسير من

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية ٨٩.

(٢) سورة الأعراف الآية ٨٣.

(٣) سورة التحريم الآية ١٢.

(٤) سورة البقرة الآية ٣٤.

(٥) سورة النمل الآية ٥٥.

(٦) سورة النمل ، الآية ٩٣ ، وسورة هود ، الآية ١٢٣.

(٧) سورة الشورى ، الآية ١١.

(٨) سورة الزمر ، الآية ٨.

٣٤٩

الضر لأمثال هؤلاء ، حقه أن يكون في حكم المقطوع به ، وأما قوله : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)(١) بعد قوله : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي أعرض عن شكر الله ، وذهب بنفسه وتكبر وتعظم ، فالذي تقتضيه البلاغة أن يكون الضمير في" مسه" للمعرض المتكبر ، ويكون لفظ" إذا" للتنبيه على أن مثله يحق أن يكون ابتلاؤه بالشر مقطوعا به.

وعند النحويين أن (إذ) في (إذما) مسلوب الدلالة على معناه الأصلي ، وهو المضي منقول بإدخال" ما" إلى الدلالة على الاستقبال ، ولا فرق بين : (إذا) و (إذا ما) في باب الشرط من حيث المعنى إلّا في الإبهام في الاستقبال ،

و (متى) لتعميم الأوقات في الاستقبال و (متى ما) أعم منه.

و (أين) لتعميم الأمكنة والأحياز ، و (أينما) أعم. قال الله تعالى (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ)(٢).

و (حيثما) نظير (أينما) قال الله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(٣).

و (من) لتعميم أولي العلم ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً)(٤).

و (ما) لتعميم الأشياء ، قال الله تعالى (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٥).

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية ٥١.

(٢) سورة النساء الآية ٧٨.

(٣) سورة البقرة الآية : ١٤٤.

(٤) سورة النساء ، الآية : ١٠٠.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٢١٥.

٣٥٠

و (مهما) أعم ، قال الله تعالى : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)(١).

ووجهه إذا قدر الأصل ما ما ظاهر.

و (أي) لتعميم ما يضاف إليه من ذوي العلم وغيرهم.

و (أنّى) لتعميم الأحوال الراجعة إلى الشرط ، كما تقول : أنّى تقرأ أقرأ ، أي على أي حال توجد القراءة من جهرها أو همسها أو غير ذلك ، أوجدها أنا ، والمطلوب بهذه المعممات ترك تفصيل إلى إجمال مع الاحتراز عن تطويل ، إما غير واف بالحصر ، أو ممل ، ألا تراك في قولك : من يأتني أكرمه ، كيف تستغني عن التفصيل والتطويل في قولك : إن يأتني زيد أكرمه ، وإن يأتني عمرو أكرمه ، وإن يأتني خالد أكرمه ، إلى عدد تعذر استيعابه مع قيام الإملال؟ قال الله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ)(٢) أي : أيما مكلف أطاع الله في فرائضه ، ورسوله في سننه ، وخشي الله على ما مضى من ذنوبه ، واتقاه فيما يستقبل ، فقد فاز الفوز بحذافيرها.

واعلم أن الجزاء والشرط في غير (لو) ، لما كان تعليق حصول أمر بحصول ما ليس بحاصل ، استلزم ذلك في جملتيهما امتناع الثبوت ، فامتنع أن تكونا اسميتين أو إحداهما ، وكذا امتناع المضي ، فامتنع أن يكون الفعلان ماضيين أو أحدهما ، ويظهر من هذا أن نحو : إن أكرمتني أكرمتك ، وإن أكرمتني أكرمك ، وإن تكرمني أكرمتك ، ونحو : إن تكرمني فأنت مكرم ، ونحو : إن أكرمتني الآن ، فقد أكرمتك أمس ، مما لا موجب لكونه مضارعا معه ، كنون التأكيد ، في نحو : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً)(٣) ، (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ

__________________

(١) سورة الأعراف الآية : ١٣٢.

(٢) سورة النور الآية : ٥٢.

(٣) سورة البقرة الآية ٣٨.

٣٥١

فِي الْحَرْبِ)(١) لا يصار إليه في بليغ الكلام إلا لنكتة ما ، مثل : توخي إبراز غير الحاصل في معرض الحاصل ، إما لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه ، كقولك : إن اشترينا كذا ، حال انعقاد الأسباب في ذلك ، وإما لأن ما هو للوقوع كالواقع ، نحو قولك : إن مت ، وعليه (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ)(٢) ، (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ)(٣) ، وكذا : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ)(٤) لنزولها قبل فتح مكة ، وفي أقوال المفسرين ههنا كثرة.

وإما للتعريض ، كما في نحو قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ)(٥) ، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ)(٦) ، (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ)(٧) ونظيره في كونه تعريضا قوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨) المراد : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ، والمنبه عليه قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ،) ولو لا التعريض لكان المناسب : وإليه أرجع ، وكذا : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ* إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٩) المراد : أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمن بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئا ولا ينقذوكم إنكم إذا لفي ضلال مبين ، ولذلك قيل (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) دون : بربي ، وأتبعه : (فَاسْمَعُونِ

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ٥٧.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ٤٤.

(٣) سورة الأعراف الآية ٤٨.

(٤) سورة الفتح الآية ١.

(٥) سورة البقرة الآيات ١٢٠ و ١٤٥ ، وسورة الرعد الآية : ٣٧.

(٦) سورة الزمر ، الآية ٦٥.

(٧) سورة البقرة الآية ٢٠٩.

(٨) سورة يس ، الآية ٢٢.

(٩) سورة يس الآيات ٢٣ ـ ٢٥.

٣٥٢

ولا تعرف حسن موقع هذا التعريض ، إلّا إذا نظرت إلى مقامه ، وهو تطلب إسماع الحق على وجه لا يورث طالبي دم المسمع مزيد غضب ، وهو ترك المواجهة بالتضليل والتصريح لهم بالنسبة إلى ارتكاب الباطل ، ومن هذا الأسلوب قوله تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١) وإلا فحق النسق من حيث الظاهر : قل : لا تسئلون عما عملنا ، ولا تسأل عما تجرمون ، وكذا ما قبله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢).

وهذا النوع من الكلام يسمى المنصف ، و [إما](٣) للتفاؤل وإما لإظهار الرغبة في وقوعه ، كما تقول : إن ظفرت بحسن العاقبة ، فذاك ، وعليه قوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(٤) وما شاكل ذلك من لطائف الاعتبارات ، وقولهم : رحمه‌الله ، في الدعاء من هذا القبيل ، ومن ههنا تتنبه لنكتة يتضمنها تفاوت الشرطين في (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)(٥) ماضيا في" جاءتهم الحسنة" ومستقبلا في" تصبهم سيئة". أو إبراز المقدر في معرض الملفوظ به لانصباب الكلام إلى معناه ، كما في قولك : إن أكرمتني الآن ، فقد أكرمتك أمس ، مرادا به إن تعتد بإكرامك إياي الآن ، فاعتد بإكرامي إياك أمس.

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٢٥.

(٢) سورة سبأ الآية : ٢٤.

(٣) في (غ) ، (وما).

(٤) سورة النور الآية ٣٣.

(٥) سورة الأعراف الآية ١٣١.

٣٥٣

وأما كلمة (لو) فحين كانت لتعليق ما امتنع بامتناع غيره على سبيل القطع ، كما تقول : لو جئتني لأكرمتك ، معلقا لامتناع إكرامك بما امتنع من مجيء مخاطبك ، امتنعت جملتاها عن الثبوت ، ولزم أن يكونا فعليتين ، والفعل ماض ، واستلزم في مثل قوله ، عز اسمه : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)(١) ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(٢) ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(٣) تنزيل المستقبل نظما له في سلك المقطوع به ، لصدوره عمن لا خلاف في إخباره ، منزلة الماضي المعلوم ، في قولك : لو رأيت على نحو تنزيل" يود" منزلة" ود" في قوله تعالى (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٤) في أحد قولي أصحابنا البصريين ، رحمهم‌الله ، واستلزم في مثل قولك : لو تحسن إلي لشكرت ، القصد ب (تحسن إلى) تصوير أن إحسانه مستمر الامتناع فيما مضى وقتا فوقتا ، على نحو قصد الاستمرار حالا فحالا ، (يستهزئ) في قوله عز اسمه : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(٥) بعد قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)(٦) وب (يكسبون) في قوله : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٧) وقوله (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)(٨) وارد على هذا : أي يمنع ، عليه‌السلام ، عنتكم باستمرار امتناعه عن طاعتكم ، ولك أن ترد الغرض من لفظ (ترى) ، و (يود) ،

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٢٧.

(٢) سورة السجدة الآية ١٢.

(٣) سورة سبأ الآية ٣١.

(٤) سورة الحجر ، الآية ٢.

(٥) سورة البقرة الآية ١٥.

(٦) سورة البقرة الآية ١٤.

(٧) سورة البقرة الآية ٧٩.

(٨) سورة الحجرات الآية ٧.

٣٥٤

و (تحسن) ، إلى استحضار صورة المجرمين ناكسي الرءوس ، قائلين لما يقولون ، وصورة الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين بتلك المقالات ، واستحضار صورة ودادة الكافرين لو أسلموا ، واستحضار صورة منع الإحسان ، كما في قوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)(١) إذ قال : (فتثير) استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية ، من إثارة السحاب مسخرا بين السماء والأرض ، متكونا في المرأى تارة عن قزع ، وكأنها قطع قطن مندوف (٢) ، ثم تتضام متقلبة بين أطوار حتى يعدن ركاما ، وإنه طريق للبلغاء لا يعدلون عنه ، إذا اقتضى المقام سلوكه ، أو ما ترى تأبط شرّا في قوله (٣) :

بأني قد لقيت الغول تهوى ...

بسهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها ، بلا دهش فخرّت ...

صريعا لليدين وللجران

كيف سلك في : (فأضربها بلا دهش) ، قصدا إلى أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياها ، ويطلعهم على كنهها ، ويتطلب منهم

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٩.

(٢) مندوف : ندف القطن يندفه ندفا : ضربه بالمندف.

(٣) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح (٥٧) وعزاه ل تأبط شرّا ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (٧١) وعزاه لتأبط شرّا وذكر تمام الأبيات : ـ

ألامن مبلغ فتيان فهم

بما لاقيت عند رحا بطان

بأنى قد لقيت الغول تهوى

بسهب كالصّحيفة صحصحان

فقلت لها كلانا نضو أرض

أخو سفر فخلّى لى مكان

فشدّت شدة نحوى فأهوت

لها كفىّ بمصقول يمان

فأضربها بلا دهش فخرت

صريعا لليدين وللجران

السّهب : الفلاة ، صحصحان : ليس بها شىء ولا شجر ولا قرار للماء.

٣٥٥

مشاهدتها ؛ تعجيبا من جرأته على كل هول ، وثباته عند كل شدة ، وقوله سبحانه : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) دون : (كن فكان) من هذا القبيل ، واستلزم في مثل : (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ)(٢) حمله على تقدير : لو تملكون تملكون لفائدة التأكيد ، ثم حذف الفعل الأول اختصارا ؛ لدلالة ضميره عليه المبدل ، بعد ذهاب الفعل ، منفصلا ، وأمثال هذه اللطائف لا تتغلغل فيها إلّا أذهان الراضة (٣) من علماء المعاني ؛ ولمبنى علم المعاني على التتبع لتراكيب الكلام واحدا فواحدا ، كما ترى ، وتطلب العثور على ما لكل منها من لطائف النكت مفصلة ، لا تتم الإحاطة به إلا لعلام الغيوب ، ولا يدخل كنه بلاغة القرآن إلّا تحت علمه الشامل.

واعلم أن مستودعات فصول هذا الفن لا تتضح إلّا باستبراء زناد خاطر وقاد ، ولا تنكشف أسرار جواهرها إلّا لبصيرة ذي طبع نقاد ، ولا تضع أزمتها إلّا في يد راكض في حلبتها إلى أنأى مدى ، باستفراغ طوق متفوق أفاويق استثباتها بقوة فهم ، ومعونة ذوق مولع من لطائف البلاغة بما يؤثرها القلوب بصفايا حباتها ، وتنثر عليها أفئدة مصاقع (٤) الخطباء خبايا محباتها ، متوسل بذلك أن يتألق في وجه الإعجاز في التنزيل ، متنقلا مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل ، طامع من رب العزة والكبرياء في المثوبة الحسنى ، والفوز عنده يوم النشور بالذخر الأسنى.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٥٩.

(٢) سورة الإسراء الآية : ١٠٠.

(٣) أذهان الراضة : يعني العلماء الذين راضوا المعاني ، وعلموها وتبحروا فيها ، من راض المهر يروض رياضا ورياضة فهو مروض.

(٤) مصاقع الخطباء : بلغاؤهم ، واحده مصقع.

٣٥٦

الفن الرابع

الفصل والوصل ، والإيجاز ، والإطناب

مركوز في ذهنك لا تجد لرده مقالا ، ولا لارتكاب جحده مجالا أن ليس يمتنع بين مفهومي جملتين اتحاد بحكم التآخي ، وارتباط لأحدهما بالآخر مستحكم الأواخي ، ولا أن يباين أحدهما الآخر مباينة الأجانب ؛ لانقطاع الوشائج بينهما من كل جانب ، ولا أن يكونا بين بين لآصرة رحم ما هنالك ، فيتوسط حالهما بين الأولى والثانية لذلك ، ومدار الفصل والوصل.

الفصل :

وهو : ترك العاطف وذكره على هذه الجهات ، وكذا طي الجمل عن البين ولا طيها ، وإنها لمحك البلاغة ، ومنتقد البصيرة ، ومضمار النظار ، ومتفاضل الأنظار ، ومعيار قدر الفهم ، ومسبار غور الخاطر ، ومنجم صوابه وخطائه ، ومعجم جلائه وصدائه ، وهي التي إذا طبقت فيها المفصل شهدوا لك من البلاغة بالقدح المعلى ، وأن لك في إبداع وشيها اليد الطولى ، وهذا فصل له فضل احتياج إلى تقرير واف ، وتحرير شاف.

العطف :

اعلم أن تمييز موضع العطف عن غير موضعه في الجمل كنحو أن تذكر معطوفا بعضها على بعض تارة ، ومتروكا العطف بينها تارة أخرى ، هو الأصل في هذا الفن ، وأنه نوعان : نوع يقرب تعاطيه ، ونوع يبعد ذلك فيه ، فالقريب : هو أن تقصد العطف بينها بغير الواو ، أو بالواو بينها ، لكن بشرط أن يكون للمعطوف عليها محل من الإعراب.

والبعيد : هو أن تقصد العطف بينها بالواو ، وليس للمعطوف عليها محل إعرابي.

والسبب في أن قرب القريب ، وبعد البعيد ، هو : أن العطف في باب البلاغة يعتمد معرفة أصول ثلاثة : أحدها : الموضع الصالح له من حيث الوضع ، وثانيها : فائدته ، وثالثها : وجه كونه مقبولا لا مردودا.

٣٥٧

وأنت إذا أتقنت معاني (الفاء) و (ثم) و (حتى) و (لا) و (بل) و (لكن) و (أو) و (أم) و (أما) و (أي) على قولي ، حصلت لك الثلاثة ، لدلالة كل منها على معنى محصل ، مستدع من الجمل ، بينا مخصوصا مشتملا على فائدته ، وكونه مقبولا هناك.

وكذلك إذا أتقنت أن الإعراب صنفان لا غير : صنف ليس بتبع ، وصنف تبع ، وأتقنت أن الصنف الثاني منحصر في تلك الأنواع الخمسة : البدل والوصف والبيان والتأكيد واتباع الثاني الأول في الإعراب بتوسط حرف ؛ وعلمت كون المتبوع في نوع البدل في حكم المنحى والمضرب عنه ، بما تسمع أئمة النحو ، رضي‌الله‌عنهم ، يقولون : البدل في حكم تنحية المبدل منه [ويوصون](١) بتصريح بل في قسمه الغلطي ، وعلمت في الوصف والبيان والتأكيد أن التابع فيها هو المتبوع ، فالعالم في : زيد العالم عندك ، ليس غير زيد ، وعمرو في : أخوك عمرو عندي ، ليس غير أخوك ، ونفسه في : جاء خالد نفسه ، ليس غير خالد ، ثم رجعت فتحققت أن الواو يستدعي معناه أن لا يكون معطوفه هو المعطوف عليه ، لامتناع أن يقال : جاء زيد وزيد ، وأن يكون زيد الثاني هو زيد الأول ، حصل لك أن الصنف الأول ليس موضعا للعطف بأي حرف كان من حروف العطف ، لفوات شرط العطف فيه ، وهو تقدم المتبوع.

ولم يذهب عليك أن نحو : جاء وزيد ، عرفت فعمرا ، وأتاني خالد وراكبا ، وما جرى هذا المجرى غير صحيح ، وأن نحو قوله :

عليك ورحمة الله السّلام (٢)

يلزم أن يكون عديم النظير ، وأن لا يسوغه إلا نية التقديم والتأخير ، وأما نحو قوله عز سلطانه : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(٣) ، فإنما ساغ لكون المعطوف عليه في حكم الملفوظ

__________________

(١) من (د). وفي (ط ، غ): (ويصون).

(٢) أورده الطيبى في شرحه على مشكاه المصابيح (١ / ٨٥) بتحقيقى وهو للأحوص شعره (١٩٠) وصدر البيت :

ألا يا نخلة في ذات عرق.

الطيبى في التبيان (١ / ٢١٥) بتحقيقى.

(٣) سورة البقرة الآية ٤٠.

٣٥٨

به ، لكونه مفسرا ، إذ تقديره وإياي ارهبوا ، فارهبوني ، على ما سبق التعرض لهذا القبيل في علم النحو.

وأما نحو قوله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا)(١) فساغ لتقدم حرف الاستفهام ، المستدعي فعلا مدلولا على معناه بقرائن مساق الكلام وهو : أكفروا بآيات الله وكلما عاهدوا ، وحصل لك أيضا أن الأنواع الأربعة من الصنف الثاني ليس واحد منها موضعا للعطف بالواو ، إما لفوات شرط العطف حكما ، كما في البدل ، لنزول قولك : سلب زيد ثوبه ، إذا عطفت فيه منزلة سلب وثوبه حكما ، وإما لفوات شرط معناه ، كما في الوصف والبيان والتأكيد ، إنما موضعه النوع الخامس.

وأما نحو قوله عز اسمه : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ)(٢) فالوجه عندي هو أن (" وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ"). حال لقرية ، لكونها في حكم الموصوفة ، نازلة منزلة : وما أهلكنا قرية من القرى ، لا وصف ، وحمله على الوصف سهو لا خطأ ، ولا عيب في السهو للإنسان ، والسهو ما يتنبه صاحبه بأدنى تنبيه ، والخطأ ما لا يتنبه صاحبه أو يتنبه لكن بعد إتعاب ، وسيزداد ما ذكرت وضوحا في آخر هذا الفصل في الكلام في الحال. ثم إذا أتقنت أيضا أن كل واحد من وجوه الإعراب دال على معنى ، كما تشهد لذلك قوانين علم النحو ، حصل لك فائدة الواو ، وهي مشاركة المعطوف والمعطوف عليه في ذلك المعنى ، فيكون عندك من الأصول الثلاثة أصلان : معرفة موضعه ، ومعرفة فائدته.

وإذا عرفت أن شرط كون العطف بالواو مقبولا ، هو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة ، مثل ما ترى في نحو : الشمس والقمر ، والسماء والأرض ، والجن والإنس ، كل ذلك محدث ، وسنفصل الكلام في هذه الجملة بخلافه في نحو : الشمس ومرارة الأرنب ، وسورة الإخلاص والرّجل اليسرى من الضفدع ، ودين

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٠٠.

(٢) سورة الحجر الآية : ٤.

٣٥٩

المجوس وألف باذنجانة كلها محدثة ، حصلت لك الأصول الثلاثة ، وأن الأمر من القرب فيها كما ترى.

وأما توسيط الواو بين جمل لا محل للمعطوف عليها من الإعراب ، فإنما بعد تعاطيه لكون الأصول الثلاثة في شأنه غير ممهدة لك ، وهو السر في أن دق مسلكه ، وبلغ من الغموض إلى حيث قصر بعض أئمة علم المعاني البلاغة على معرفة الفصل والوصل ، وما قصرها عليه لا لأن الأمر كذلك ، وإنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموض هذا الفن ، وأن أحدا لا يتجاوز هذه العقبة من البلاغة ، إلا إذا كان خلف سائر عقباتها خلفة.

واعلم أنك إذا تأملت ما لخصت لك في القريب التعاطي ، قرب عندك هذا الثاني ، بحيث لا يخفى ، عليك بإذن الله تعالى ، بأدنى تنبيه ، وهو : أن الجملة متى نزلت في كلام المتكلم منزلة الجملة العارية عن المعطوف عليها ، كما إذا أريد بها القطع عما قبلها ، أو أريد بها البدل عن سابقة عليها ، لم تكن موضعا لدخول الواو ، وكذا : متى نزلت من الأولى منزلة نفسها لكمال اتصالها بها ، مثل ما إذا كانت موضحة لها ومبينة ، أو مؤكدة لها ومقررة ، لم تكن موضعا لدخول الواو ، وكذا متى لم يكن بينها وبين الأولى جهة جامعة ، لكمال انقطاعها عنها ، لم يكن أيضا موضعا لدخول الواو ، وإنما يكون موضعا لدخوله ، إذا توسطت بين كمال الاتصال ، وبين كمال الانقطاع ، ولكل من هذه الأنواع حالة تقتضيه ، فإذا طابق ورودها تلك الأحوال ، وطبق المفصل هناك ، رقى الكلام من البلاغة عند أربابها إلى درجة يناطح فيها السماك ، فلا بد من تفصيل الكلام في تلك الحالات ، فنقول :

القطع :

أما الحالة المقتضية للقطع فهي نوعان : أحدهما أن يكون للكلام السابق حكم ، وأنت لا تريد أن تشركه الثاني في ذلك فيقطع ، ثم إن هذا القطع يأتي إما على وجه الاحتياط ، وذلك إذا كان يوجد قبل الكلام السابق كلام غير مشتمل على مانع من العطف عليه ، لكن المقام مقام احتياط فيقطع لذلك ، وإما على وجه الوجوب ، وذلك إذا كان لا يوجد.

٣٦٠