مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

موقعه ، أو لإغنائه أن يسأل ، أو لئلا يسمع منه شيء ، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه ، أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ ، وهو تقدير السؤال ، وترك العاطف أو غير ذلك مما ينخرط في هذا السلك ، ويسمى : النوع الأول قطعا. والثاني استئنافا.

الإبدال :

وأما الحالة المقتضية للإبدال : فهي أن يكون الكلام السابق غير واف بتمام المراد وإيراده ، أو كغير الوافي ، والمقام مقام اعتناء بشأنه ، إما لكونه مطلوبا في نفسه ، أو لكونه غريبا ، أو فظيعا أو عجيبا ، أو لطيفا أو غير ذلك مما له جهة استدعاء للاعتناء بشأنه ، فيعيده المتكلم بنظم أوفى منه على نية استئناف القصد إلى المراد ، ليظهر بمجموع القصدين إليه في الأول والثاني ، أعني المبدل منه أو البدل مزيد الاعتناء بالشأن.

الإيضاح والتبيين :

وأما الحالة المقتضية للإيضاح والتبيين : فهي أن يكون بالكلام السابق نوع خفاء ، والمقام مقام إزالة له.

وأما الحالة المقتضية للتأكيد والتقرير فظاهرة.

كمال الانقطاع :

وأما الحالة المقتضية لكمال انقطاع ما بين الجملتين : فهي أن تختلفا خبرا وطلبا ، مع تفصيل يعرف في الحالة المقتضية للتوسط ، أو أن اتفقتا خبرا ، فأن لا يكون بينهما ما يجمعهما عند [الفكرة](١) جمعا من جهة العقل أو الوهم أو الخيال.

__________________

(١) من (غ) وفي (ط ، د): (المفكرة).

٣٦١

والجامع العقلي : هو أن يكون بينهما اتحاد في تصور ، مثل الاتحاد في المخبر عنه ، أو في الخبر ، أو في قيد من قيودهما ، أو تماثل هناك ، فإن العقل بتجريده المثلين عن التشخص في الخارج ، يرفع التعدد عن البين. أو تضايف كالذي بين العلة والمعلول ، والسبب والمسبب ، أو السفل والعلو ، والأقل والأكثر ، فالعقل يأبى أن لا يجتمعا في الذهن ،

وأن العقل سلطان مطاع.

والوهمي : هو أن يكون بين تصوراتهما شبه تماثل ، نحو : أن يكون المخبر عنه في أحدهما لون بياض ، وفي الثانية لون صفرة ، فإن الوهم يحتال في أن يبرزهما في معرض المثلين.

وكم للوهم من حيل تروج

وإلا فعليك بقوله (١) :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ...

شمس الضحى ، وأبو إسحق ، والقمر

وقل : ما الذي سواه حسن الجمع بين الشمس وأبي إسحاق والقمر ، هذا التحسين. أو بقوله (٢) :

إذا لم يكن للمرء في الخلق مطمع ...

فذو التاج ، والسقاء ، والذرّ واحد

وقد عرفت حال المثلين في شأن الجمع. أو تضاد كالسواد والبياض ، والهمس والجهارة ، والطيب والنتن ، والحلاوة والحموضة ، والملاسة والخشونة ، وكالتحرك والسكون ، والقيام والقعود ، والذهاب والمجيء ، والإقرار والإنكار ، والإيمان والكفر ، وكالمتصفات بذلك من نحو : الأسود والأبيض ، والمؤمن والكافر ، أو شبه تضاد كالذي

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٦٦) بلا عزو.

والذّرّ : صغار النمل.

٣٦٢

بين نحو : السماء والأرض ، والسهل والجبل ، والأول والثاني ، فإن الوهم ينزل المتضادين والشبيهين بهما منزلة المتضايفين ، فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن ، ولذلك تجد الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد.

والخيالي : هو أن يكون بين [تصوراتهما](١) تقارن في الخيال سابق لأسباب مؤدية إلى ذلك ، فإن جميع ما يثبت في الخيال ، مما يصل إليه من الخارج ، يثبت فيه على نحو ما يتأدى إليه ، ويتكرر لديه ، ولذلك لما لم تكن الأسباب على وتيرة واحدة ، فيما بين معشر البشر ، اختلفت الحال في ثبوت الصور في الخيالات ترتبا ووضوحا ، فكم من صور تتعانق في الخيال ، وهي في آخر ليست تتراءى ، وكم صور لا تكاد تلوح في الخيال ، وهي في غيره نار على علم.

وإن أحببت أن تستوضح ما يلوح به إليك ، فحدق إليه من جانب اختبارك ، تلق كاتبا بتعديد : قرطاس ، ومحبرة ، وقلم ، ونجارا بتعديد : منشار وقدوم ، وعتلة ، وآخر بما يلابسون ، وأيّا كان من أصحاب العرف والرسم ، فتلقه يذكر : مسجد ومحراب وقنديل ، أو حمام وإزار وسطل (٢) ، أو غير ذلك مما يجمعه العرف والرسم ، فإنهم جميعا ، لمصادفتهم معدوداتك على وفق الثابت في خيالهم ، لا [يستبدعون](٣) العدّ ، ولا يقفون له موقف نكير ، وإذا غيرته إلى نحو : محبرة ومنشار ، وقلم وقدوم ، ونحو : مسجد وسطل ، وقنديل وحمام ، جاء الاستبداع والاستنكار ، وهل تشبيهات أولئك الرفقاء الأربعة ، البدر الطالع عليهم ، فيما يحكى ، تتلو عليك سورة غير ما تلونا ، أو تجلو لديك صورة غير ما جلونا ، يحكى أن صاحب سلاح ملك ، [وصواغا](٤) ، وصاحب بقر ،

__________________

(١) في (غ): (تصور أيّهما).

(٢) السّطل : الطّسيسة الصغيرة يقال : إنه على صفة تور له عروة كعروة المرجل.

(٣) من (د) وفي (ط ، غ): (يستبعدون).

(٤) في (غ): (وصوافا).

٣٦٣

ومعلم صبية ، اتفق أن انتظمهم سلك طريق ، وقد كان حمل [كل](١) منهم مركب الجد ، فما أورثهم انتقاب المحجة بالإظلام ، سوى الإغراء أن يلطموا بأيدي الرواقص خدودها ، وما استطاع الظلام أن لا يطئوا المسافة ، وقد نشر جناحه ، وأن يلقوا عصاهم وقد مد لهم رواقه ، فقابلهم بعبوس افتر عن مزيد تخبطهم ، وخوف ضلالهم ، فبينا هم في وحشة الظلماء ، وقد بلغ السيل الزبى (٢) ، ومقاساة محنتي التخبط وخوف الضلال ، وقد جاوز الحزام الطّبيين (٣) ، آنسهم البدر الطالع بوجهه الكريم ، وأضاءت لهم أنواره كل مظلم بهيم ، فلم يتمالكوا أن أقبل عليه كل منهم ينظم ثناءه ، ويمدح سناه وثناءه ، ويخدمه بأكرم نتائج خاطره ، وإذا شبهه شبهه بأفضل ما في خزانة صوره ، فما يشبهه السلاحي : إلّا بالترس المذهب يرفع عند الملك ، ولا يشبهه الصائغ إلا بالسبيكة من الإبريز تفترّ عن وجهها البوتقة ، ولا يشبهه البقار إلا بالجبن الأبيض يخرج من قالبه طريّا ، ولا يشبهه المعلم إلا برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذي مروءة. أو التفاوت في الإيراد لوصف الكلام ، فيما يحكيه الأصحاب عن الأذكياء من ذوي الحرف المختلفة ، كوصف الجوهري للكلام :

وصف الكلام :

أحسن الكلام ما ثقبته الفكرة ، ونظمته الفطنة ، وفصل جوهر معانيه في سمط ألفاظه ، فحملته نحور الرواة.

ووصف الصيرفي : خير الكلام ما نقدته يد البصيرة ، وجلته عين الروية ، ووزنته معيار الفصاحة ، فلا ينطق فيه بزائف ، ولا يسمع فيه ببهرج (٤).

__________________

(١) من (غ) وفي (ط ، د): (كلا).

(٢) الزّبى : جمع زبية وهى الرابية التي لا يعلوها الماء. والمثل في اللسان (زبى).

(٣) الطّبيين : مثنى طبى والطّبى : حلمات الضرع التى فيها اللبن من الخف والظلف والحافر والسباع. وفي حديث عثمان : بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين. اللسان (طبى).

(٤) بهرج : البهرج الباطل والردىء من الشىء.

٣٦٤

ووصف الصائغ : خير الكلام ما أحميته بكير الفكر ، وسبكته بمشاعل النظر ، وخلصته من خبث الإطناب ، فبرز بروز الإبريز ، مركبا في معنى وجيز.

ووصف الحداد : أحسن الكلام ما نصبت عليه منفاخ الروية ، وأشعلت فيه نار البصيرة ، ثم أخرجته من فحم الإفحام ، ورققته بفطيس الأفهام.

ووصف الخمار : أحسن الكلام ما طبخته مراجل العلم ، وضمته دنان الحكمة ، وصفّاه راووق الفهم ، فتمشت في المفاصل عذوبته ، وفي الأفكار رقته ، وسرت في تجاويف العقل سورته ، وحدته.

ووصف البزاز : أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه ، وحسن رسم معانيه ، فلم يستعجم عند نشر ، ولم يستبهم عند طي.

ووصف الكحال : أصح الكلام ما سحقته في منجار الذكاء ، ونخلته بحرير التمييز ، وكما أن الرمد قذى العين ، كذا الشبهة قذى البصائر ، فأكحل عين اللكنة بميل البلاغة ، وأجل رمض الغفلة ببرود اليقظة.

وصف الطريق :

أو سلوك الطريق في وصف البليغ حين سلكه الجمال قائلا : البليغ من أخذ بخطام كلامه ، وأناخه في مبرك المعنى ، ثم جعل الاختصار له عقالا ، والإيجاز له مجالا ، فلم يندّ عن الأذهان ، ولم يشذ عن الآذان.

حال وراق :

أو إخبار الوراق عن حاله على ما أخبر : عيشي أضيق من محبرة ، وجسمي أدق من مسطرة ، وجاهي أرق من الزجاج ، وحظي أخفى من شق القلم ، وبدني أضعف من قصبة ، وطعامي أمر من العفص (١) ، وشرابي أشد سوادا من الحبر ، وسوء الحال بي ألزم من الصمغ.

__________________

(١) العفص : طعام عفص أي بشع.

٣٦٥

ولصاحب علم المعاني فضل احتياج في هذا الفن إلى التنبه لأنواع هذا الجامع والتيقظ لها ، لا سيما النوع الخيالي ، فإن جمعه على مجرى الألف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال ، وأن الأسباب ، لكما ترى ، إلى أي حد تتباين في شأن الجمع بين صور وصور ، فمن أسباب تجمع بين : صومعة وقنديل وقرآن ، ومن أسباب تجمع بين دسكرة (١) وإبريق وأقران ، فقل لي : إذا لم يوفّه حقه من التيقظ ، وأنه من أهل المدر ، أنّى يستحلي كلام رب العزة مع أهل الوبر ، حيث يبصرهم الدلائل ناسقا ذلك النسق : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(٢) لبعد البعير عن خياله في مقام النظر ، ثم لبعده في خياله عن السماء ، وبعد خلقه عن رفعها ، وكذا البواقي ، لكن إذا وفاه حقه بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم جاء الاستحلاء ، وذلك إذا نظر أن أهل الوبر إذا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي ، كانت عنايتهم مصروفة ، لا محالة ، إلى أكثرها نفعا ، وهي : الإبل.

ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلّا بأن ترعى وتشرب ، كان جل مرمى غرضهم نزول المطر ، وأهم مسارح النظر عندهم السماء ، ثم إذا كانوا مضطرين إلى مأوى يأويهم ، وإلى حصن يتحصنون فيه ، ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال :

لنا جبل يحتله من نجيره ...

منيع يردّ الطرف وهو كليل (٣)

فما ظنك بالتفات خاطرهم إليها ، ثم إذا تعذر طول مكثهم في منزل ، ومن لأصحاب مواش بذاك ، كان عقد الهمة عندهم ، بالتنقل من أرض إلى سواها ، من عزم الأمور. فعند نظره هذا أيرى البدوي إذا أخذ يفتش عما في خزانة الصور له ، لا يجد صورة الإبل حاضرة هناك ، أو لا يجد صورة السماء لها مقارنة ، أو تعوزه صورة الجبال

__________________

(١) دسكرة : الدّسكرة : بناء كالقصر حول بيوت الأعاجم يكون فيها الشراب والملاهى. والدّسكرة : الصومعة.

(٢) سورة الغاشية الآية ١٧ ـ ٢٠.

(٣) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٦٧) وهو للسموأل بن عادياء.

٣٦٦

بعدهما ، أو لا تنص إليه صورة الأرض [تليها](١) بعدهن ، لا ، وإنما الحضري حيث لم تتآخذ عنده تلك الأمور ، وما جمع خياله تلك الصور على ذلك الوجه ، إذا تلا الآية قبل أن يقف على ما ذكرت ، ظن النسق بجهله معيبا ، للعيب فيه.

التوسط :

وأما الحالة المقتضية للتوسط بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع فهي : إن اختلفا خبرا وطلبا أن يكون المقام مشتملا على ما يزيل الاختلاف ، من تضمين الخبر معنى الطلب ، أو الطلب معنى الخبر ، ومشركا بينهما في جهات جامعة مما تليت عليك على نحو قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا)(٢) إذ لا يخفى أن قوله : " لا تعبدون" مضمن معنى لا تعبدوا. وقوله : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ* هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ* لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ* سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ* وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)(٣) فإن المقام مشتمل على تضمين (" إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ") معنى الطلب ، بيان ذلك أن الذي قبله من قوله : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً)(٤) كلام وقت الحشر من غير شبهة لوروده معطوفا بالفاء على قوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٥). وعام لجميع الخلق لعموم قوله : (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) وأن الخطاب الوارد بعده على سبيل الالتفات في

__________________

(١) في (د) (تليلها).

(٢) سورة البقرة ، الآية ٨٣.

(٣) سورة يس ، الآية ٥٥ ـ ٥٩.

(٤) سورة يس الآية ٥٤.

(٥) سورة يس ، الآية ٥٣.

٣٦٧

قوله : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١) خطاب عام لأهل المحشر ، وأن قوله : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) إلى قوله : (أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) متقيد بهذا الخطاب ، لكونه تفصيلا لما أجمله : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وأن التقدير : إن أصحاب الجنة منكم يأهل المحشر ، ثم جاء في التفسير أن قوله هذا : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) يقال لهم ، حين يسار بهم إلى الجنة ، بتنزيل ما هو للكون منزلة الكائن ، فانظر بعد تحرير معنى الآية : وهو أن أصحاب الجنة منكم يأهل المحشر ، تؤول حالهم إلى أسعد حال ، كيف اشتمل المقام على معنى فليمتازوا عنكم إلى الجنة.

وأما كونه مشركا بين المعطوف والمعطوف عليه في الذي نحن بصدده ، في جهات تجمعهما ، فغير خاف ، ونحو قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَأَلْقِ عَصاكَ)(٢).

فإن الكلام مشتمل على تضمين الطلب معنى الخبر ، وذلك أن قوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ) معطوف على قوله : (أَنْ بُورِكَ) والمعنى فلما جاءها ، قيل : بورك ، وقيل : ألق عصاك ، لما عرفت في علم النحو أن" أن" هذه لا تأتي إلّا بعد فعل في معنى القول ، وإذا قيل : كتبت إليه أن أرجع وناداني أن قم كان بمنزلة : قلت له : ارجع ، وقال لي : قم ، وأما قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)(٣) بعد قوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)(٤) فيعد معطوفا على : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وعندي أنه معطوف على قل مرادا قبل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ

__________________

(١) سورة يس ، الآية ٥٤.

(٢) سورة النمل الآيات ٨ ـ ١٠.

(٣) سورة البقرة الآية : ٢٥.

(٤) سورة البقرة الآية ٢٤.

٣٦٨

وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) لكون إرادة القول بواسطة انصباب الكلام إلى معناه غير عزيزة في القرآن ، من ذلك : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا)(٢) أي وقلنا ، أو قائلين : كلوا ، ومن ذلك : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا)(٣) أي وقلنا أو قائلا : أنت يا موسى ، كلوا واشربوا ، ومن ذلك : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا)(٤) أي : وقلنا أو قائلين : خذوا ، ومن ذلك : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا)(٥) أي : وقلنا : اتخذوا ، ومن ذلك : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا)(٦) أي : يقولان : ربنا ، وعليه قراءة عبد الله ، ومن ذلك : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَ)(٧) على قول أصحابنا البصريين ، ومن ذلك : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا)(٨) أي ويقولون : ذوقوا ، ومن ذلك : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا)(٩) أي : فقولوا لهم : سيحوا ، وأمثال ذلك أكثر من أن أحصيها ههنا ، وكذلك عطف قوله : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ)(١٠) على قل مرادا قبل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(١١)

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢١.

(٢) سورة البقرة الآية : ٥٧.

(٣) سورة البقرة الآية ٦٠.

(٤) سورة البقرة الآية ٦٣.

(٥) سورة البقرة الآية ١٢٥.

(٦) سورة البقرة الآية ١٢٧.

(٧) سورة البقرة الآية ١٣٢.

(٨) سورة الأنفال ، الآية : ٥٠.

(٩) سورة التوبة الآيتان : ١ ـ ٢.

(١٠) سورة البقرة الآيتان : ١٥٥ ـ ١٥٦.

(١١) سورة البقرة الآية ١٥٣.

٣٦٩

وكذا عطف : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١) في سورة الصف عندي على قل مرادا قبل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ)(٢) وذهب صاحب الكشاف إلى أنه معطوف على (تُؤْمِنُونَ)(٣) قبله ؛ لكونه في معنى آمنوا ، فتأمل جميع ذلك ، وكن الحاكم دوني.

أو أن تتفق الجملتان خبرا ، والمقام على حال إشراك بينهما في جوامع ، ثم كلما كانت الشركة في أكثر وأظهر ، كان الوصل بالقبول أجدر.

خاتمة :

ولنختم الكلام في تفصيل الحالات المقتضية للقطع والاستئناف ، والإبدال والإيضاح ، والتقريب والانقطاع ، والتوسط بين بين ، بهذا القدر ، ولنذكر لك أمثلة لتجذب بضبعك ، إن عسى اعترضتك مداحض ، إذا أخذت تسلك تلك الطرقات ؛ من أمثلة القطع للاحتياط.

قوله (٤) :

وتظنّ سلمى أنني أبغي بها ...

بدلا ، أراها في الضلال تهيم

لم يعطف (أراها) كي لا يحسب السامع العطف على (أبغي) دون (تظن) ، ويعد (أراها في الضلال تهيم) من مظنونات سلمى في حق الشاعر ، وليس هو بمراد ، إنما المراد أنه حكم الشاعر عليها بذاك ، وليس بمستبعد ؛ لانصباب قوله : (وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا) ، إلى إيراد : فما قولك في ظنها ذلك؟ أن يكون قد قطع (أراها) ليقع جوابا

__________________

(١) سورة الصف ، الآية ١٣.

(٢) سورة الصف الآية ١٠.

(٣) سورة الصف الآية ١١.

(٤) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح (١ / ٢١٨) بلا عزو ، والقزويني في الإيضاح ص (٢٥٥) ، والطيبى في التبيان (١ / ٢١٨) بتحقيقى.

٣٧٠

لهذا السؤال على سبيل الاستئناف ، وإياك أن ترى الفصل لأجل الوزن ، فما هو هناك ، وقوله (١) :

زعمتم أنّ إخوتكم قريش ...

لهم إلف وليس لكم [إلاف](٢)

لم يعطف : لهم إلف ، خيفة أن يظن العطف على : (أن إخوتكم قريش) ، فيفسد معنى البيت ، ولك أن تقول جاء على طريق الاستئناف قوله : لهم إلف وليس لكم إلاف

وذلك أنه حين أبدى إنكار زعمهم عليهم بفحوى الحال ، فكان مما يحرك السامعين أن يسألوا : لم تنكر فصل قوله : (لهم إلف) عما قبله؟ ليقع جوابا للسؤال الذي هو مقتضى الحال.

ومن أمثلة القطع للوجوب ، قوله عز من قائل : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(٣) لم يعطف : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) للمانع عن العطف ، بيان ذلك أنه لو عطف ، لكان المعطوف عليه : إما جملة (قالوا) وإما جملة (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) لكن لو عطف على : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) لشاركه في حكمه ، وهو كونه من قولهم ، وليس هو بمراد. ولو عطف على" قالوا" لشاركه في اختصاصه بالظرف المقدم ، وهو : (إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) لما عرفت في فصل التقديم والتأخير. وليس هو بمراد ، فإن استهزاء الله بهم ، وهو أن خذلهم فخلاهم ، وما سولت لهم أنفسهم مستدرجا إياهم من حيث لا يشعرون ، متصل في شأنهم لا ينقطع بكل حال ، خلوا إلى شياطينهم ، أم لم يخلوا إليهم ، وكذا قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ*

__________________

(١) أورده القزويني في الإيضاح (ص ٢٥٩) وعزاه للحماسيّ وإلالف : الذي تألفه. إيلاف : العهد والذمام.

(٢) من (غ). وفي (ط ، د): (الالف).

(٣) سورة البقرة الآيتان ١٤ ـ ١٥.

٣٧١

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)(١) قطع" ألا إنهم" لئلا يستلزم عطفه على (" إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ") كونه مشاركا له في أنه من قولهم ، أو عطفه على" قالوا" كونه مختصا بالظرف اختصاص (قالوا) به لتقدمه عليه ، وهو (إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا) فإنهم مفسدون في جميع الأحيان ، سواء قيل لهم : لا تفسدوا ، أو لم يقل ؛ وكذلك قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ)(٢) قطع" ألا إنهم" لمثل ما تقدم في الآية السابقة ، ولك أن تحمل ترك العطف في (" اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ") على الاستئناف من حيث إن حكاية حال المنافقين في الذي قبله ، لما كانت تحرك السامعين أن يسألوا : ما مصير أمرهم وعقبى حالهم؟ وكيف معاملة الله إياهم؟ لم يكن من البلاغة أن يعرى الكلام عن الجواب ، فلزم المصير إلى الاستئناف ، وأن تقول في : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ترك العطف فيه للاستئناف أيضا ؛ ليطابق مقتضى الحال ، وذلك أن ادعاءهم الصلاح لأنفسهم على ما ادعوه مع توغلهم في الإفساد مما يشوق السامع أن يعرف ما حكم الله عليهم ، فكان وروده بدون الواو ، وهو المطابق كما ترى ، وكذا في : (" أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ") ومن أمثلة الاستئناف قوله (٣) :

زعم العواذل أنّني في غمرة ...

صدقوا ، ولكن غمرتي لا تنجلي.

لم يعطف" صدقوا" على" زعم العواذل" للاستئناف ، وقد أصاب المحز ؛ وذلك أنه حين أبدى الشكاية عن جماعات العذل بقوله : " زعم العواذل أنني في غمرة" فكان مما يحرك السامع عادة ، ليسأل : هل صدقوا في ذلك أم كذبوا؟ صار هذا السؤال مقتضى الحال ، فبنى عليه تاركا للعطف على ما عليه إيراد الجواب عقيب السؤال ، وكذلك

__________________

(١) سورة البقرة الآيتان ١١ ـ ١٢.

(٢) سورة البقرة الآية ١٣.

(٣) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٥٩) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (١٢٥) ، والعلوى في الطراز (٢ / ٤٧). والغمرة : الحيرة.

٣٧٢

قوله (١) :

زعم العواذل أن ناقة جندب ...

بجنوب خبت ، عرّيت واجّمت

كذب العواذل لو رأين مناخنا ...

بالقادسية قلن لج وذلّت.

فصل" كذب العواذل" فلم يعطفه ، ليقع جوابا لسؤال اقتضاه الحال عند شكواه عن النساء العاذلات بقوله : (زعم العواذل) أنه كان كيت وكيت وهو : هل كذب العواذل في ذلك أم صدقن ، وكذلك قوله :

ابكي على قتلى العدان فإنهم ...

طالت إقامتهم ببطن برام

كانوا على الأعداء ، نار محرّق ...

ولقومهم حرما من الأحرام

قطع : " كانوا" للاستئناف ؛ لأنه حين أمرها بالبكاء كأنه توهمها قالت : ولم أبكيهم؟ أو كيف أبكيهم؟ صفهم لي كيف كانوا؟ فقال مجيبا : كانوا على الأعداء.

وكذلك قوله (٢) :

عرفت المنزل الخالي ...

عفا من بعد أحوال

عفاه كلّ حنان ...

عسوف الوبل هطّال

فصل : " عفاه كل حنان" للاستئناف ؛ لأنه حين قال : (عفا من بعد أحوال) كان مظنة أن يقال : ماذا عفاه؟ وكذلك قوله (٣) :

وما عفت الرياح له محلّا ...

عفاه من حدا بهم وساقا

__________________

(١) أورده القزويني في الإيضاح (٢٥٩) وهو لجندب اجّمت : تركت فلم تركب فعفت من تعبها وذهب إعياؤها.

(٢) أوردهما القزوينى في الإيضاح (٢٥٨) وعزاهما للوليد.

(٣) أورده القزوينى في الإيضاح (٢٥٨) وعزاه لأبي الطيب.

٣٧٣

حين قال في محل معفو : (ما عفته الرياح) كان موضع سؤال ، وهو فما إذن عفاه إذن؟ وكذلك قوله (١) :

وقد غرضت من الدنيا فهل زمني ...

معط حياتي لغرّ بعد ما غرضا.

جرّبت دهري وأهليه فما تركت ...

لي التجارب في ودّ امرىء غرضا

لم يصل" جربت" بالعطف على" غرضت" بناء على سؤال ينساق إليه معنى البيت الأول ، وهو : لم تقول هذا ويحك؟ وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة ، إلى هذه الغاية ، كشحك؟ وكذلك قوله عز قائلا : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ)(٢) جاء مفصولا عما قبله بطريق الاستئناف ، كأنه قيل : ما للمتقين الجامعين بين الإيمان بالغيب ، في ضمن إقامة الصلاة ، والإنفاق مما رزقهم الله تعالى ، وبين الإيمان بالكتب المنزلة ، في ضمن الإيقان بالآخرة ، اختصوا بهدى لا يكتنه كنهه ، ولا يقادر قدره ، مقولا في حقهم (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ ،) والذين بتنكير (هدى) ، فأجيب : بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد ولا مستبدع أن يفوزوا دون من عداهم بالهدى عاجلا ، وبالفلاح آجلا.

ولك أن تقدر تمام الكلام هو : المتقين ، وتقدر السؤال ، ويستأنف الذين يؤمنون بالغيب إلى ساقة الكلام ، وأنه أدخل في البلاغة لكون الاستئناف على هذا الوجه منطويا على بيان الموجب ، لاختصاصهم بما اختصوا به ، على نحو ما تقول : أحسنت إلى زيد ، صديقك القديم ، أهل منك لما فعلت ، ولك أن تخرج الآية عما نحن بصدده ، بأن يجعل الموصول الأول من توابع" المتقين" إما مجرورا بالوصف ، أو منصوبا

__________________

(١) أوردهما الطيبى في التبيان (١ / ٢١٨) بتحقيقى وعزاهما لأبي العلاء ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقى (١ / ٨٦) وهما لأبي العلاء المعرى في سقط الزند (٢٠٨) ، ومحمد بن على الجرجانى في الإشارات (١٢٥).

وغرضت : ضجرت.

(٢) سورة البقرة الآية ٥.

٣٧٤

بالاختصاص ، وتجعل الموصول الثاني مبتدأ ، و" اولئك" خبره مرادا به التعريض لمن لم يؤمنوا من أهل الكتاب ، وستعرف التعريض ، جاعلا الجملة برأسها من مستتبعات" هدى للمتّقين" والفضل من هذه الوجوه لاستئناف : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ،) لجهات فتأملها.

وكذلك قوله عز من قائل : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)(١) فصل (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) ليقع جوابا للسؤال الذي يقطر من قوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) وهو إي : والله ، نبئنا على أي مخلوق تتنزل؟

ومن الآيات الواردة على الاستئناف قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ* قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ* قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ* قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ* قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ* قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٢) فإن الفصل في جميع ذلك بناء على أن السؤال الذي يستصحبه تصور مقام المقاولة من نحو ، فماذا قال موسى؟ فماذا قال فرعون؟ وكذلك قوله : (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ* قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ)(٣) الفصل بناء على ما ذا قال وما ذا قالوا؟ وكذلك قوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ* فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ* فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ

__________________

(١) سورة الشعراء الآيتان ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٢) سورة الشعراء الآيات : ٢٣ ـ ٣١.

(٣) سورة الأنبياء الآيات : ٥٣ ـ ٥٥.

٣٧٥

أَلا تَأْكُلُونَ* فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ)(١) قدر مع قوله : (" فَقالُوا سَلاماً") ماذا قال إبراهيم وقت السّلام ؛ ومع قوله (" فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ") ما ذا قال وقت التقريب؟ ومع قوله (" فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً") ما ذا قالوا حين رأوا منه ذلك؟ وسلوك هذا الأسلوب في القرآن كثير.

البدل :

ومن أمثلة البدل قوله (٢) :

أقول له : ارحل لا تقيمنّ عندنا ...

وإلا فكن في السّر والجهر مسلما

فصل" لا تقيمن" عن" ارحل" لقصد البدل ؛ لأن المقصود من كلامه هذا كمال إظهار الكراهة لإقامته ، بسبب خلاف سره العلن ؛ وقوله : " لا تقيمن عندنا" أوفى بتأدية هذا المقصود من قوله : " ارحل" ؛ لدلالة ذاك عليه بالتضمن مع التجرد عن التأكيد ، ودلالة هذا عليه بالمطابقة مع التأكيد ، وكذلك قوله تعالى (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ* قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)(٣) فصل : (قالُوا أَإِذا مِتْنا) عن (" قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ") لقصد البدل.

ولك أن تحمله على الاستئناف لما في قوله : (" مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ") من الإجمال المحرك للسامع أن يسأل ، ماذا قالوه؟ وكذلك قوله : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)(٤) الفصل فيه للبدل ، ويحتمل الاستئناف ، وكذلك قوله :

__________________

(١) سورة الذاريات الآيات : ٢٤ ـ ٢٨.

(٢) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٦١) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (١٢٣) ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقى (١ / ٨٧).

(٣) سورة المؤمنون الآيتان : ٨١ ـ ٨٢.

(٤) سورة الشعراء الآيات : ١٣٢ ـ ١٣٤.

٣٧٦

(اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(١) لم يعطف (" اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ") للبدل.

الإيضاح والتبيين :

ومن أمثلة الإيضاح والتبيين قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخادِعُونَ)(٢) لم يعطف : يخادعون على ما قبله ؛ لكونه موضحا له ، ومبينا من حيث إنهم حين كانوا يوهمون بألسنتهم أنهم آمنوا ، وما كانوا مؤمنين بقلوبهم ، قد كانوا في حكم المخادعين ، وقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)(٣) لم يعطف : (قال) ، على : (وسوس) ، لكونه تفسيرا له وتبيينا.

التقرير والتأكيد :

ومن أمثلة التقرير والتأكيد قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٤) لم يعطف : (لا ريب فيه) ، على : (ذلك الكتاب) ، حين كان وزانه في الآية وزان نفسه ، في قولك : جاءني الخليفة نفسه ، أو وزان بينا في قولك : هو الحق بينا.

يدلك على ذلك أنه حين بولغ في وصف الكتاب ، ببلوغه الدرجة القصيا من الكمال ، والوفور في شأنه ، تلك المبالغة ، حيث جعل المبتدأ لفظة : (ذلك) ، وأدخل على الخبر حرف التعريف بشهادة الأصول ، كما سبقت ، كان عند السامع قبل أن يتأمل مظنة أن ينظمه في سلك ما قد يرمي به على سبيل الجزاف من غير تحقق وإيقان ، فأتبعه : (لا ريب فيه) ، نفيا لذلك ، وقد أصيب به المحز اتباع نفسه الخليفة ، إزالة لما

__________________

(١) سورة يس الآيتان : ٢٠ ـ ٢١.

(٢) سورة البقرة الآيتان : ٨ ـ ٩.

(٣) سورة طه الآية : ١٢٠.

(٤) سورة البقرة الآيتان : ١ ـ ٢.

٣٧٧

عسى يتوهم السامع أنك في قولك : جاءني الخليفة ، متجوزا ، أو ساه ، وتقرير كونه حالا مؤكدة ظاهر.

وكذلك فصل : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ،) لمعنى التقرير فيه للذي قبله ؛ لأن قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ،) مسوق لوصف التنزيل بكمال كونه هاديا ، وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) تقديره : كما لا يخفى : هو هدى ، وأن معناه نفسه هداية محضة بالغة درجة لا يكتنه كنهها ، وأنه في التأكيد والتقرير لمعنى أنه كامل في الهداية كما ترى.

وأما بيان أن ما قبله مسوق لما ذكر ، فما ترى من النظم الشاهد له لإحرازه قصب السبق في شأنه ، وهو : (" ذلِكَ الْكِتابُ") ثم من تعقيبه بما ينادي على صدق الشاهد ذلك النداء البليغ ، وهو : (" لا رَيْبَ فِيهِ"). وإنك لتعلم أن شأن الكتب السماوية الهداية لا غير ، وبحسبها يتفاوت شأنهن في درجات الكمال ، وكذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)(١) فصل قوله : (لا يؤمنون) ؛ لما كان مقررا لما أفاد قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ،) من ترك إجابتهم إلى الإيمان ، وكذلك فصل قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ،) لما كان بمثابة : لا يؤمنون ، من جهة أخرى : وهي أن عدم التفاوت بين الإنذار وعدم الإنذار ، لما لم يصح إلا في حق من ليس له قلب يخلص إليه حق ، وسمع يدرك به حجة ، وبصر يثبت به عبرة ، وقع قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) مقررا كما ترى ، وكذلك قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)(٢) لما كان المراد : ب (إِنَّا مَعَكُمْ ،) هو : إنا معكم قلوبا ، وكان معناه : إنّا نوهم أصحاب محمد الإيمان ، وقع قوله : (" إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ") مقررا ، ولك أن تحمله على الاستئناف لانصباب : (إِنَّا مَعَكُمْ ،) وهو قول المنافقين لشياطينهم ، إلى أن يقول لهم شياطينهم : فما بالكم؟ إن صح أنكم معنا توافقون

__________________

(١) سورة البقرة الآيتان ٦ ـ ٧.

(٢) سورة البقرة الآية ١٤.

٣٧٨

أصحاب محمد؟ وكذلك قوله : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(١) فصل : (إِنْ هذا) لكونه مؤكدا للأول في نفي البشرية ، ولك أن تقول الذي عليه العرف ، متى قيل في حق إنسان ما هذا بشرا ، ما هو بآدمي ، في حال التعظيم له ، والتعجب مما يشاهد منه من حسن الخلق والخلق ، هو أن يفهم منه أنه ملك ، فوقع قوله : (" إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ") تأكيدا للملكية ، ففصل. وكذلك قوله : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً)(٢) الثاني مقرر للأول.

الانقطاع :

ومن أمثلة الانقطاع للاختلاف خبرا وطلبا قوله (٣) :

وقال رائدهم : أرسوا نزاولها ...

فكلّ حتف امرىء يجري بمقدار

وقوله (٤) :

ملكته حبلي ولكنّه ...

ألقاه من زهد على غاربي

وقال : إنّي في الهوى كاذب ......

انتقم الله من الكاذب

لأنه أراد الدعاء بقوله : (انتقم) ، وكذلك قولهم : مات فلان ، رحمه‌الله ، وكذلك قولهم : لا تدن من الأسد يأكلك ، وهل تصلح لي كذا أدفع إليك الأجرة ، بالرفع فيهما ،

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٣١.

(٢) سورة لقمان الآية ٧.

(٣) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح (٦٤) بلفظ قائلهم ، وكذا القزويني في الإيضاح ص (٢٤٩) ، والطيبى في التبيان بتحقيقى (١ / ٢٢٤) نزاولها : نعالجها.

(٤) أورده القزوينى في الإيضاح (٢٥٠) وعزاه لليزيدى ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقى (١ / ٨٧).

الغارب : الكاهل ، أو ما بين الظهر والعنق.

٣٧٩

وغير ذلك مما هو في هذا السلك منخرط.

ومن أمثلته لغير الاختلاف ، ما أذكره ، تكون في حديث ويقع في خاطرك بغتة حديث آخر لا جامع بينه وبين ما أنت فيه بوجه ، أو بينهما جامع غير ملتفت ؛ إليه لبعد مقامك عنه ، ويدعوك إلى ذكره داع ، فتورده في الذكر مفصولا ، مثال الأول : كنت في حديث مثل : كان معي فلان فقرأ ، ثم خطر ببالك أن صاحب حديثك جوهري ، ولك جوهرة لا تعرف قيمتها ، فتعقب كلامك أنك تقول : لي جوهرة لا أعرف قيمتها هل [أرينكها](١) ، فتفصل.

ومثال الثاني : وجدت أهل مجلسك في ذكر خواتم لهم ، يقول واحد منهم : خاتمي كذا ، يصفه بحسن صياغة ، وملاحة نقش ، ونفاسة فص ، وجودة تركيب ، وارتفاع قيمة : ويقول آخر : وإن خاتمي هذا سيىء الصياغة ، كريه النقش ، فاسد التركيب ، رديء في غاية الرداءة ، ويقول آخر : وإن خاتمي بديع الشكل ، خفيف الوزن ، لطيف النقش ، ثمين الفص ، إلا أنه وساع لا يمسكه أصبعي ، وأنت كما قلت : إن خاتمي ضيق ، تذكرت ضيق خفك ، وعناءك منه ، فلا تقول : وخفي ضيق ، لنبوّ مقامك عن الجمع بين ذكر الخاتم وذكر الخف ، فتختار القطع قائلا : خفي ضيق ، قولوا : ماذا أعمل؟ أو تكون في حديث قد تم ، ومعك حديث آخر بعيد التعلق به ، تريد أن تذكره ، فتورده في الذكر مفصولا ، مثلما تقول : كتاب سيبويه ، رحمه‌الله ، والله ، كتاب لا نظير له في فنه ، ولا غنى لامرىء في أنواع العلوم عنه ، لا سيما في الإسلامية ، فإنه فيها أساس ، وأي أساس. إن الذين رضوا بالجهل لا يدرون ما العلوم ، وما أساس العلوم. فتفصل : إن الذين رضوا بالجهل ... عما قبله ؛ لكون ما قبله حديثا عن كتاب سيبويه ، وأنه حقيق بأن يخدم ، وكون ما عقبته به حديثا عن الجهال ، وسوء ما أثمر لهم جهلهم ، وقوله عز اسمه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)(٢) من هذا القبيل ، قطع : (إِنَ

__________________

(١) كذا في النسخ.

(٢) سورة البقرة الآية ٦.

٣٨٠