مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

ومن الخامس قوله عز اسمه : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ)(١) ؛ فالمستعار منه التكبر ، وهو عقلي ، والمستعار له كثرة الماء ، وهو حسي ، والجامع : الاستعلاء المفرط. وقوله : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ)(٢) فالعتو ههنا ، مستعار استعارة الطغيان في المثال الأول ، وقوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ)(٣) ، فالنبذ وراء الظهر ـ وهو : أن تلقي الشيء خلفك ـ أمر حسي ، ثم وقع مستعارا للتعرض للغفلة وإنه أمر عقلي ، والجامع الزوال عن المشاهدة. وقوله : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً)(٤) ، فالإحياء أمر عقلي ، ثم وقع مستعارا لإظهار النبات والأشجار والثمار ، وإنه أمر حسي ، وكذلك قوله : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً)(٥) ؛ أي أحيينا.

واعلم أن الكلام في جميع ما ذكر من الأمثلة ، في الأنواع الخمسة ، قول الأصحاب ، ولعل لي في البعض نظرا.

__________________

(١) سورة الحاقة ، الآية : ١١.

(٢) سورة الحاقة ، الآية ٦.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٧.

(٤) سورة ق ، الآية : ١١ وفي النسخ (فأحيينا) وهو تصحيف.

(٥) سورة الزخرف ، الآية : ١١.

٥٠١

الفصل الرابع

المجاز اللغوي الراجع إلى حكم الكلمة في الكلام

من فصول المجاز في المجاز اللغوي الراجع إلى حكم الكلمة في الكلام هو عند السلف ، رحمهم‌الله ، أن تكون الكلمة منقولة عن حكم لها أصلي ، إلى غيره ، كما في قوله علت كلمته : (وَجاءَ رَبُّكَ)(١) ؛ فالأصل وجاء أمر ربك ، فالحكم الأصلي في الكلام لقوله : خ خ ربك هو الجر ، وأما الرفع فمجاز ، وفي قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢) والأصل : خ خ واسأل أهل القرية ، فالحكم الأصلي للقرية في الكلام هو الجر ، والنصب مجاز ، وفي قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٣) ، فالأصل : ليس مثله شيء ، بنصب خ خ مثله والجر مجاز. ومدار هذا النوع على حرف واحد ، وهو أن تكتسي الكلمة حركة لأجل حذف كلمة لا بد من معناها ، أو لأجل إثبات كلمة مستغنى عنها استغناء واضحا ، كالكاف في قول عز اسمه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ،) أو الباء : في نحو : خ خ بحسبك أن تفعل كذا ، ونحو : خ خ كفى بالله ، دون الباء في نحو : ليس زيد بمنطلق ، أو ما زيد بقائم.

ورأيي في هذا النوع أن يعد ملحقا بالمجاز ، ومشبها به ، لما بينهما من الشبه ، وهو اشتراكهما في التعدي عن الأصل إلى غير أصل ، لا أن يعد مجازا وبسبب هذا لم أذكر الحد شاملا له ، ولكن العهدة في ذلك على السلف.

__________________

(١) سورة الفجر ، الآية : ٢٢. ولا مانع هنا من حمل المجىء على الحقيقة إذ لا يصار إلى المجاز إلا بقرينة مع استحالة الحمل على الحقيقة.

(٢) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٣) سورة الشورى ، الآية : ١١.

٥٠٢

الفصل الخامس

في المجاز العقلي

المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه ، لضرب من التأويل ، إفادة للخلاف لا بوساطة وضع ، كقولك : خ خ أنبت الربيع البقل ، وخ خ شفى الطبيب المريض ، وخ خ كسا الخليفة الكعبة ، وخ خ هزم الأمير الجند ، وخ خ بنى الوزير القصر. وإنما قلت : خ خ خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه ، دون أن أقول : خ خ خلاف ما عند العقل ، لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري عن اعتقاد جهل ، أو جاهل غيره : خ خ أنبت الربيع البقل ، رائيا إنبات البقل من الربيع ، فإنه لا يسمى كلامه ذلك مجازا ، وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر ، ولذلك لا تراهم يحملون نحو (١) :

أشاب الصغير وأفنى الكبير ...

كرّ الغداة ومرّ العشي

على المجاز ، ما لم يعلموا ، أو يغلب في ظنهم ، أن قائله ما قاله عن اعتقاد.

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (١٤٤) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ١٥ وهو لقثم بن خبيه بن عبد القيس المعروف بالصلتان العبدي من شعراء الدوله الأموية ، والطيبى في التبيان (١ / ٣٢٠) بتحقيقى ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٢٣) بتحقيقى أيضا.

٥٠٣

أو ما تراهم كيف استدلوا لقول النجم (١) :

قد أصبحت أمّ الخيار تدعي ...

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع

من إن رأت رأسي كرأس الأصلع ...

ميّز عنه قنزعا عن قنزع

جذب الليالي أبطئي أو أسرعي

حين نسب انحسار الشعر عن الرأس إلى الزمان قائلا :

ميز عنه قنزعا عن قنزع

جذب الليالي ، لكونه مجازا بما أتبعه من قوله :

أفناه قيل الله للشمس اطلعي

حتى إذا واراك أفق فارجعي

الشاهد لنزاهته أن يريد حمل كلامه السابق على الظاهر ، ولئلا يمتنع عكسه ، بمثل : كسا الخليفة الكعبة ، وخ خ هزم الأمير الجند ، فليس في العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة ، ولا امتناع أن يهزم الأمير وحده الجند ، ولا يقدح ذلك في كونهما من المجاز العقلي ، وإنما قلت : خ خ لضرب من التأويل ، ليحترز به عن الكذب ، فإنه لا يسمى مجازا كونه كلاما مفيدا خلاف ما عند المتكلم ، وإنما قلت : خ خ إفادة للخلاف لا [بواسطة](٢) وضع ، ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة ، وهي إذا ادعى أن : أنبت ، موضوع لاستعماله في القادر المختار ، أو وضع لذلك ، فإن المجاز حينئذ يسمى لغويا وضعيا لا عقليا ، وإنما قلت : خ خ بوساطة وضع ، على التنكير ، دون أن أقول :

__________________

(١) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٥ وعزاه لأبي النجم ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٤٤ ، والطيبى في التبيان (١ / ٣٢١) بتحقيقى.

والقنزع : الشعر حوالى الرأس.

(٢) في (غ) : بوساطة.

٥٠٤

الوضع ، ليشمل وضع اللغة أن أدعي ، ووضع غيرها أن أرتكب ؛ ولأجل هذه الصورة ، لا ترى علماء هذا الفن يحكمون على نحو : خ خ أنبت الربيع البقل ، بكونه مجازا عقليا ، إلا بعد بيان أن صيغ الأفعال في معنى نسبتها إلى الفاعل ، ليست تدل على معنى سوى صدورها عن شيء ما ، فأما أنّ ذلك الشيء قادر أم غير قادر ، فليس بداخل في مفهوماتها وضعا.

٥٠٥

وجوه استعمال المجاز العقليّ

ويبينون ذلك بوجوه منها : أن وضعها لاستعمالها في القادر ، قيد ما نقل عن أحد من رواة اللغة ، وترك ذكر القيد دليل في العرف على الإطلاق ، وحكم العقل بأن لا بد لها من مؤثر قادر ، إن لم يجعل دليلا في ترك تقييدها بذلك في الوضع ، لعدم الحاجة من أجل شهادة العقل ـ فلا أقل من أن [لا](١) يجعل دليلا في التقييد ، لا سيما والعقل يجوز في : خ خ أحيا ، وخ خ أشاب ، وخ خ أنبت ، وأمثالها .. صدورها عن القادر بوساطة مؤثر لا يكون موصوفا بالقدرة ، ومنها أن خ خ فعل في قولهم : خ خ فعل الربيع النور ، لو كان موضوعا لاستعماله في القادر ، ومن المعلوم أن التفاوت بين الفعل ومصدره لا يكون إلا بمجرد الاقتران بالزمان ـ لكان يلزم أن يكون قولنا : خ خ فعل النار في كذا وكذا ، وخ خ فعل الماء في كذا وكذا ، وخ خ فعل الدواء الفلاني كذا مجازا معلوما لكل أحد. لكن ادعاء ذلك عن الإنصاف بمعزل. ومنها أن نحو : خ خ خلق ، وخ خ أحيا ، وخ خ أشاب ، وخ خ أنبت. لو كانت موضوعة لاستعمالها في القادر ، بناء على حكم العقل بأنها لا توجد إلا باختيار مختار ، لكان نحو : خ خ شغل الحيز ، وخ خ قبل العرض ، وخ خ نافى الضد موضوعة لاستعمالها في غير القادر ، بناء على حكم العقل بأن شغل الحيز ، وقبول العرض ومنافاة الضد ليست بالاختيار ، ودعوى كونها موضوعة لذلك دعوى غير مسموعة من السلف.

ويسمى هذا النوع مجازا لتعدي الحكم فيه عن مكانه الأصلي ، فالحكم في : خ خ أنبت الربيع البقل ، [بكون](٢) الإنبات فعلا للربيع ، مكانه الأصلي عند العقل كونه فعلا لله عزوجل. وفي : خ خ هزم الأمير الجند ، بكون هزم الجند فعلا للأمير ، مكانه الأصلي عند العقلاء كونه فعلا لعسكر الأمير.

ويسمى : عقليا لا لغويا ، لعدم رجوعه إلى الوضع ، وكثيرا ما يسمى حكميّا لتعلقه بالحكم ، كما ترى ، ومجازا في الإثبات أيضا لتعلقه بالإثبات ، وليس من واجبات ، هذا

__________________

(١) ساقطة من (ط).

(٢) في (د) : يكون.

٥٠٦

المجاز أن يكون مكان الحكم الأصلي فيه معلوما بنفس العقل ، كما في : خ خ أنبت الربيع البقل ، بل إن استعان في علمه بذلك بأمر غير الوضع ، كما في خ خ هزم الأمير الجند ، وخ خ كسا الخليفة الكعبة ، جاز ، ولم يخرجه عن كونه عقليا ؛ لكن الأليق إطلاق اسم العقلي على الأول ، واسم الحكمي والإثباتي على الثاني.

صور المجاز العقلي :

واعلم أن هذا المجاز ، لرجوعه إلى الحكم ، واستدعاء الحكم محكوما به ومحكوما له ، واحتمال كل واحد منهما الحقيقة الوضعية والمجاز الوضعي ـ لا يزال يتردد بين أربع صور لا مزيد عليهن :

١ ـ إما أن يكون المحكوم به والمحكوم له حقيقتين وضعيتين.

٢ ـ وإما أن يكونا مجازين وضعيين.

٣ ـ وإما أن يكون المحكوم به حقيقة وضعية ، والمحكوم له مجازا وضعيّا.

٤ ـ وإما بالعكس.

من هذا مثال الأولى قولك : خ خ أنبت الربيع البقل ، وخ خ شفى الطبيب المريض ، وخ خ كسا الخليفة الكعبة ، وخ خ هزم الأمير الجند ، فالمحكوم له ، وهو : الربيع ، والطبيب ، والخليفة ، والأمير ، كل منها حقيقة وضعية مستعملة في مكانها الوضعي ، والمحكوم به ، وهو : إنبات البقل ، وشفاء المريض ، وكسوة الكعبة ، وهزم الجند ، كل من ذلك حقيقة ، أيضا ، وضعية مستعملة في مكانها الوضعي ، لا مجازا ، لا في مجرد الحكم ، كما ترى.

ومثال الثانية قولك : خ خ أحيا الأرض شباب الزمان ، وخ خ سر الكعبة البحر الفياض ؛ المحكوم له وهو شباب الزمان والبحر الفياض مجازان وضعيان والمحكوم به وهو : إحياء الأرض ، ومسرة الكعبة ، مجازان أيضا وضعيان ، ونفس الحكم في المثالين مجاز عقلي.

ومثال الثالثة : خ خ أنبت البقل شباب الزمان ، وخ خ كسا الكعبة البحر الفياض ، ومثال الرابعة : خ خ أحيا الربيع الأرض ، وخ خ سر الخليفة الكعبة.

واعلم أن هذا المجاز الحكمي كثير الوقوع في كلام رب العزة ، قال عز من قائل :

٥٠٧

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)(١) وقال : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً)(٢) ، وقال : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً)(٣) ، وقال : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ)(٤) ، وقال : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها)(٥) وقال : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها)(٦) ؛ بإسناد الأفعال في هذه كلها إلى غير ما هي لها عند العقل ، كما ترى ، زائلا الحكم العقلي فيها عن مكانه الأصلي ، إذ مكانه الأصلي إسناد الربح إلى أصحاب التجارة ، وإسناد زيادة الإيمان إلى العلم بالآيات ، وإسناد إيتاء أكل الشجرة إلى خالقها ، وإسناد وضع أوزار الحرب إلى أصحاب الحرب ، وإسناد إخراج أثقال الأرض إلى خالق الأرض.

ولا يختلجن في ذهنك بعد أن اتضح لك كون المجاز فرع أصل تحقق ، مجاز ، أيّا كان بدون حقيقة يكون متعديا عنها ، لامتناع تحقق فرع من غير أصل ، فلا تجوز في نحو : خ خ سرتني رؤيتك ، ونحو : خ خ أقدمني بلدك ، حق لي على فلان. ونحوه (٧) :

وصيرني هواك ، وبي ...

لحيني يضرب المثل

ونحو (٨) :

يزيدك وجهه حسنا ...

إذا ما زدته نظرا

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٦.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ٢.

(٣) سورة التوبة الآية ١٢٤.

(٤) سورة إبراهيم ، الآية ٢٥.

(٥) سورة محمد ، الآية ٤.

(٦) سورة الزلزلة الآية ٢.

(٧) أورده فخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز ص ١٧٧ وعزاه المحقق د / بكرى شيخ أمين ل محمد اليزيدى ، والقزويني في الإيضاح ص ١٠٧ ، والأغاني (٢٠ / ٢٠٥). الحين : الهلاك.

(٨) أورده الرازي في نهاية الإيجاز ص ١٧٧ وعزاه المحقق د / بكرى شيخ أمين لأبي نواس ديوانه ص ٧٥٢ ، والقزوينى في الإيضاح ص ١٠٧ وعزاه لأبي نواس ، والطيبى في التبيان (١ / ٣٢٢) بتحقيقى.

٥٠٨

أن لا يكون لكل من هذه الأفعال فاعل في التقدير ، إذا أنت أسندت الفعل إليه وجدت الحكم واقعا في مكانه الأصلي عند العقل ، ولكن حكم العقل فيها ، فأيما شيء ارتضى بصحة استنادها ، فهو ذاك ، فإذا ارتضى في : خ خ سرتني رؤيتك ، صحة استناد السرور إلى من رزقك رؤيته وأتاحها لك ، وهو : الله عزوجل ، فقل أصل الكلام : سرني الله وقت رؤيتك ، كما تقول في : خ خ أنبت الربيع البقل ، أصل الحكم : أنبت الله البقل وقت الربيع ، وفي خ خ شفى الطبيب المريض ، أصل الحكم : خ خ شفى الله المريض عند علاج الطبيب ، وإذا ارتضى في : خ خ أقدمني بلدك ، حقّ لي على فلان ، صحة استناد : أقدمني إلى نفسك ، على معنى خ خ أقدمني نفسي ، لأجل حق لي على فلان ، أي خ خ قدمت لذلك ، كما تصرح بذلك فتقول : خ خ حملتني نفسي على الطاعة ، أي خ خ أطعت ، وحاصله يرجع إلى معنى خ خ أقدمني قدرتي على القدوم ، والداعي إليه الخالص ، فالفعل في وجوده لا يحتاج إلّا إلى قادر ذي داع له إليه خالص ، ونظيره : خ خ محبتك جاءت بي إليك ، الأصل : خ خ جاءت بي نفسي إليك لمحبتك ، أي خ خ جئت لمحبتك ووجد المجيء إليك من نفسي لمحبتك. وإياك والظن : ب خ خ أقدمني بلدك حق لي على فلان ؛ وبمحبتك جاءت بي إليك ـ كونهما حقيقتين! فالفعلان فيهما مسندان كما ترى إلى مجرد الداعي ، والعقل لا يقبل الداعي فاعلا ، وإنما يقبله محركا للفاعل ، أعني للمتصف بالقدرة. وتمام تحقيق هذا المعنى يستدعي نوعا من العلوم غير نوع علم البيان ، فليقتنع بهذا القدر.

وإذا ارتضى في :

وصيّرني هواك وبي ...

لحيني يضرب المثل

صحة استناد" صيّر" إلى الله تعالى على معنى : خ خ أهلكني الله ابتلاء بسبب اتباعي هواك. وإذا ارتضى في :

يزيدك وجهه حسنا ...

إذا ما زدته نظرا

صحة استناد" يزيد" إلى الله عزوجل ، على معنى : يزيدك الله حسنا في وجهه ، لما أودعه من دقائق الحسن والجمال بكمال قدرته ، متى تأملت ، وتأنقت ؛ فقل : فاعل أقدمني ذلك ، وفاعل صيرني ويزيد هذا.

٥٠٩

الحقيقة العقلية :

وأما الحقيقة العقلية ، وتسمى حكمية أيضا ، وإثباتية ، فهي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه ، كقولك : خ خ أنبت الله البقل ، وخ خ شفى الله المريض ، وخ خ كسا خدم الخليفة الكعبة ، وخ خ هزم عسكر الأمير الجند ، وخ خ بنى عملة الوزير القصر. وإنما قلت : خ خ ما عند المتكلم من الحكم فيه ، دون أن أقول : خ خ ما في العقل من الحكم فيه ، ليتناول : كلام الدهري إذا قال : خ خ أنبت الربيع البقل ، رائيا إنبات البقل من الربيع ، وكلام الجاهل إذا قال : خ خ شفى الطبيب المريض ، رائيا شفاء المريض من الطبيب ، حيث عدّا منهما حقيقتين مع كونهما غير مفيدين لما في العقل من الحكم فيهما.

ومن أراد تصحيحه ذاهبا فيه إلى أن يعني عقل المتكلم ، استتبع هنات ، ومن حق هذا المجاز الحكمي أن يكون فيه للمسند إليه المذكور نوع تعلق وشبه بالمسند إليه المتروك ، فإنه لا يرتكب إلّا لذلك ، مثل ما يرى للربيع في خ خ أنبت الربيع البقل ، من نوع شبه بالفاعل المختار من : دوران الإنبات معه وجودا وعدما ، نظرا إلى عدم الإنبات بدونه وقت الشتاء ، ووجوده مع مجيئه : دوران الفعل مع اختيار القادر وجودا وعدما.

ومثل ما ترى أيضا للدواء في : خ خ شفى الدواء المريض من : دوران الشفاء مع تناوله وجودا وعدما ، وما ترى للخليفة في : خ خ كسا الخليفة البيت ، من : دوران كسوة البيت مع أمره وجودا وعدما. فإن لم يكن هذا الشبه بين المذكور والمتروك ، كما لو قلت : خ خ أنبت [الربيع](١) البقل ، وخ خ شفى [الدواء](٢) المريض ، نسبت إلى ما تكره. ولما تسمع من علماء هذا الفن كثيرا في المجاز العقلي أنه : يكون مجازا في الإثبات ، ربما أوهم اختصاصه بالخبر فلا تخصصه به ، وقل في مثل ما إذا قلنا : إني بعد ما اقتنعت باليسير من الدنيا ، وطبت نفسا عن زخارفها ، ومحوت وساوس الفضول عن دفتر الخاطر ، وليس يهمني الآن غير التلافي لما فرط ، فليفعل الدهر ما شاء ، وليختلف الأصول اختلافها ، فلينبت الربيع ما أحب ، وليثمر الأشجار أيّا اشتهت ، ولينضج الخريف ما أدرك ـ

__________________

(١) في (د) : الرضيع.

(٢) في (د) : الدواة.

٥١٠

فلست أبالي أن هذه الأوامر بأسرها من باب المجاز الحكمي.

وإذا تأملت المجاز العقلي ، وجدت الحاصل منه يرجع إلى إيقاع نسبة في غير موضعها عند الموقع ، لا من حيث اللغة لضرب من التأول ، مثل النسبة بين : إنبات البقل والربيع في الخبر ، والأمر ، والنهي ، والاستفهام ؛ وبين الوزير وبناء القصر في ذلك.

أقسام المجاز في رأي السكاكي :

هذا كله تقرير للكلام في هذا الفصل بحسب رأي الأصحاب ، من تقسيم المجاز إلى : لغوي وعقلي ، وإلّا فالذي عندي هو نظم هذا النوع في سلك الاستعارة بالكناية ، بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي بوساطة المبالغة في التشبيه ، على ما عليه مبنى الاستعارة كما عرفت ، وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة ، وبجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم ، وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة.

وإنني ، بناء على قولي هذا ههنا ، وقولي ذلك في فصل الاستعارة التبعية ، وقولي في المجاز الراجع عند الأصحاب إلى حكم للكلمة على ما سبق ـ أجعل المجاز كله لغويا ، وينقسم عندي هكذا إلى : مفيد وغير مفيد ؛ والمفيد إلى : استعارة وغير استعارة ، والاستعارة إلى : مصرح بها ومكنى عنها ، والمصرح بها إلى : تحقيقية وتخييلية ، والمكنى عنها إلى : ما قرينتها أمر مقدر وهمي ، كالأنياب في قولك : خ خ أنياب المنية ، وخ خ كنطقت ، في قولك : خ خ نطقت الحال بكذا ، أو أمر محقق ، كالإنبات ، في قولك : خ خ أنبت الربيع البقل ، وكالهزم ، في قولك : خ خ هزم الأمير الجند ، والتحقيقية والتخييلية كلتاهما إلى : قطعية واحتمالية للتحقيق والتخييل بتحصيل أقسام ثلاثة من ذلك : تحقيقية بالقطع ، تخييلية بالقطع ، تحقيقية أو تخييلية بالاحتمال.

واعلم أن حدّ الحقيقة الحكمية والمجاز الحكمي ، عند أصحابنا رحمهم‌الله ، غير ما ذكرت. حد الحقيقة الحكمية عندهم : كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل ، وواقع موقعه. وحد المجاز الحكمي : كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه في العقل ، لضرب من التأول. وإذ قد عرفت ما ذكرت وما ذكروا ، فاختر أيهما شئت!

٥١١

الأصل الثالث

من علم البيان في الكناية

تقديم :

الكناية هي ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما يلزمه ، لينتقل من المذكور إلى المتروك ، كما تقول : فلان طويل النجاد ، لينتقل منه إلى ما هو ملزومه ، وهو طول القامة ، وكما تقول : فلانة نؤوم الضحى ، لينتقل منه إلى ما هو ملزومه ، وهو كونها مخدومة ، غير محتاجة إلى السعي بنفسها في إصلاح المهمات ، وذلك أن وقت الضحى وقت سعي نساء العرب في أمر المعاش وكفاية أسبابه ، وتحصيل ما تحتاج إليه في تهيئة المتناولات ، وتدبير إصلاحها ، فلا تنام فيه من نسائهم إلّا من تكون لها خدم ينوبون عنها في السعي لذلك.

وسمي هذا النوع كناية ، لما فيه من إخفاء وجه التصريح ، ودلالة : خ خ كنى على ذلك ، لأن : (ك ، ن ، ي) ، كيفما تركبت ، دارت مع تأدية معنى الخفاء ، من ذلك : كنى عن الشيء يكني ، إذا لم يصرح به ، ومنه : الكنى ، وهو : أبو فلان ، وابن فلان ، وأم فلان ، وبنت فلان ، سميت : كنى ، لما فيها من إخفاء وجه التصريح بأسمائهم الأعلام ، ومن ذلك : نكى في العدو ، ينكى ، إذا أوصل إليه مضار من حيث لا يشعر بها ، ومنه : نكايات الزمان لجوائحها الملمة على بنيه من حيث لا يشعرون ؛ ومن ذلك : الكين : للّحمة [المستبطنة](١) في فلهم (٢) المرأة لخفائها ، ومن ذلك : مقلوب الكين (٣) ؛ قلب الكل لإخفاء الناس إياه واحترازهم أن يصرحوا بلفظه ، فضلا أن يرتكبوا معناه جهارا.

__________________

(١) في (غ) و (ط) : المستنبطة.

(٢) فلهم : فرج المرأة الضخم الطويل الإسكتين القبيح ، والفلهم من جهاز النساء ما كان منفرجا ، وبئر فله : واسعة الجوف.

(٣) الكين : لحمة داخل فرج المرأة ، والكين : البظر.

٥١٢

ثم إن الكناية تتفاوت إلى تعريض ، وتلويح ، ورمز ، وإيماء ، وإشارة ؛ ومساق الحديث يحسر لك اللثام عن ذلك.

والفرق بين المجاز والكناية يظهر من وجهين :

أحدهما : أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة بلفظها ، فلا يمتنع في قولك : خ خ فلان طويل النجاد ، أن تريد طول نجاده ، من غير ارتكاب تأول مع إرادة طول قامته ، وفي قولك : خ خ فلانة [نؤوم](١) الضحى ، أن تريد : أنها تنام ضحى ، لا عن تأويل يرتكب في ذلك ، مع إرادة كونها مخدومة مرفهة.

والمجاز ينافي ذلك ، فلا يصح في نحو : خ خ رعينا الغيث ، أن تريد معنى الغيث ، وفي نحو قولك : في خ خ الحمام أسد ، أن تريد معنى الأسد ، من غير تأويل ، وأنى؟ والمجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة كما عرفت ، وملزوم معاند الشيء معاند لذلك الشيء.

والثاني : أن مبنى الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم ، ومبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم ، كما سنعود إلى هذا المعنى عند ترجيح الكناية على التصريح.

أقسام الكناية :

وإذ قد سمعت : أن الكناية ينتقل فيها من اللازم إلى الملزوم ، فاسمع أن المطلوب بالكناية لا يخرج عن أقسام ثلاثة :

أحدها : طلب نفس الموصوف.

وثانيها : طلب نفس الصفة.

وثالثها : تخصيص الصفة بالموصوف.

والمراد بالوصف هاهنا : كالجود في الجواد ، والكرم في الكريم ، والشجاعة في الشجاع ، وما جرى مجراها.

__________________

(١) في (د) ، و (غ) نومة.

٥١٣

القسم الأول

في الكناية المطلوب بها نفس الموصوف

الكناية في هذا القسم تقرب تارة وتبعد أخرى ، فالقريبة هي أن يتفق في صفة من الصفات اختصاص بموصوف معين عارض ، فتذكرها متوصلا بها إلى ذلك الموصوف ، مثل أن تقول : خ خ جاء المضياف ، وتريد زيدا ، لعارض اختصاص للمضياف بزيد.

والبعيدة ، هي : أن تتكلف اختصاصها ، بأن تضم إلى لازم آخر وآخر ، فتلفق مجموعا وصفيا مانعا عن دخول كل ما عدا مقصودك فيه ، مثل أن تقول في الكناية عن الإنسان : خ خ حي ، مستوي القامة ، عريض الأظفار.

القسم الثاني

في الكناية المطلوب بها نفس الصفة

إن الكناية في هذا القسم أيضا تقرب تارة ، وتبعد أخرى ، فالقريبة هي أن تنتقل إلى مطلوبك من أقرب لوازمه إليه ، مثل أن تقول : خ خ فلان طويل نجاده ، أو خ خ طويل النجاد ، متوصلا به إلى طول قامته ؛ أو مثل أن تقول : خ خ فلان كثير أضيافه ، أو خ خ كثير الأضياف ، متوصلا به إلى أنه مضياف.

واعلم أن بين قولنا : خ خ طويل نجاده ، وقولنا : خ خ طويل النجاد ، فرقا ، وهو : أن الأول كناية ساذجة ، والثاني كناية مشتملة على تصريح. فتأمل ، واستعن في درك ما قلت ، بالبحث عن تذكير الوصف في نحو : خ خ فلانة حسن وجهها ، وعن تأنيث : خ خ فلانة حسنة الوجه ، وباستحضار ما تقدم لي في : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١) في باب التشبيه ؛ وإن هذا النوع القريب ، تارة يكون واضحا ، كما في المثالين المذكورين ، وتارة خفيا ، كما في قولهم : خ خ عريض القفا ، كناية عن الأبله ، وفي قولهم : خ خ عريض الوسادة ، كناية عن هذه الكناية.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٨٧.

٥١٤

وأما البعيدة : فهي أن تنتقل إلى مطلوبك من لازم بعيد بوساطة لوازم متسلسة ، مثل أن تقول : خ خ كثير الرماد ، فتنتقل من كثرة الرماد إلى كثرة الجمر ، ومن كثرة الجمر إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدور ، ومن كثرة إحراق الحطب إلى كثرة الطبائخ ، ومن كثرة الطبائخ إلى كثرة الأكلة ، ومن كثرة الأكلة إلى كثرة الضيفان ، ثم من كثرة الضيفان إلى أنه مضياف. فانظر بين الكناية وبين المطلوب بها ، كم ترى من لوازم ، أو مثل أن تقول : خ خ جبان الكلب ، أو خ خ مهزول الفصيل ، متوصلا بذلك إلى كونه مضيافا ، كما قال (١)

وما يك فيّ من عيب فإني ...

جبان الكلب مهزول الفصيل

فإن جبن الكلب عن الهرير في وجه من يدنو من دار من هو بمرصد ، لأن يعشى دونها ، مع كون الهرير له والنباح في وجه من لا يعرف أمرا طبيعيا له ، مركوزا في جبلته ، مشعر باستمرار تأديب له ، لامتناع تغير الطبيعة وتفاوت الجبلة بموجب لا يقوى ، واستمرار تأديبه أن لا ينبح [مشعر باستمرار موجب نباحه ، وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه ، واتصال مشاهدته لتلك](٢) مشعر بكون ساحته مقصد أدان وأقاص ، وكونه كذلك مشعر بكمال شهرة صاحب الساحة بحسن قرى الأضياف ، فانظر لزوم جبن الكلب للمضيافية كيف تجده بوساطة عدة لوازم ، وكذلك هزال الفصيل يلزم فقد الأم ، وفقدها مع كمال عناية العرب بالنوق ـ لا سيما بالمثليات منها ، لقوام أكثر مجاري أمورهم بالإبل ـ يلزم كمال قوة الداعي إلى نحرها ، وإذ لا داعي إلى نحر المثليات أقوى من صرفها إلى الطبائخ ، ومن صرف الطبائخ إلى قرى الأضياف ، فهزال الفصيل ، كما ترى ، يلزم المضيافية بعدة وسائط. ومن هذا النوع

__________________

(١) أورده عبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز ص ٣٠٧ بلا عزو ، والرازي في نهاية الإيجاز ص (٢٧١) ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٥٠ ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٥٩. الفصيل : ولد الناقة إذا فصل عن أمه.

(٢) سقط من (غ).

٥١٥

أيضا قول نصيب (١) :

لعبد العزيز علي قومه ...

وغيرهم منن ظاهره

فبابك أسهل أبوابهم ...

ودارك مأهولة عامره

وكلبك آنس بالزائرين ...

[من](٢) الأمّ بالابنة [الزائره](٣)

فإنه حين أراد أن يكنى عن وفور إحسان عبد العزيز إلى الخاص والعام ، واتصال أياديه لدى القريب والبعيد ، جعل كلبه آنسا بالزائرين ذلك الأنس ، فدل بمعنى أنسه ذلك بالزائرين على أنهم عنده معارف ، فالكلب لا يأنس إلّا بمن يعرف ، ودل بمعنى كونهم معارف عنده على اتصال مشاهدته إياهم ليلا ونهارا ، ودل بمعنى ذلك على لزومهم سدة عبد العزيز ، ودل بمعنى لزومهم سدته على تسني مباغيهم هنالك تسنيا بالاتصال لا ينقطع ، ثم دل بمعنى ذلك على ما أراد. فانظر كيف لوح ، مع بعد المسافة بين أنس الكلب بالزائرين وبين إحسان عبد العزيز الوافر. ونظير قول نصيب مع زيادة لطف قول الآخر (٤) :

تراه إذا ما أبصر الضيف مقبلا ...

يكلّمه ، من حبّه وهو أعجم

__________________

(١) نصيب : كان عبدا أسود لرجل من أهل وادى القرى. أتى عبد العزيز بن مروان ، بعد ذلك أصبح النصيب مولى بني مروان. كانت أمه أمة سوداء ، فوقع بها سيدها فولدت نصيبا ، فوثب عليه عمه بعد موت أبيه واستعبده. ترجمته في : الشعر والشعراء : ٤١٧ ـ ٤١٩ ، طبقات الشعراء ، الأغاني ، اللآلى ، معجم الأدباء ، ... والشعر المذكور يمدح به سيده عبد العزيز بن مروان.

والأبيات أوردها محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٤٢ وعزاها لنصيب ، وعبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ص ٣٠٩ ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٦٠.

(٢) سقط من (غ).

(٣) في (بعض النسخ) : الدائرة.

(٤) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٥١ ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٤٢ وفيه : (يكاد) بدلا من (تراه) ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٦٠ [وعزاه محقق الإيضاح لابن هرمة أو النابغة الجعدى].

٥١٦

ومنه قول ابن هرمة (١) :

لا أمتع العوذ بالفصال ولا ...

أبتاع إلّا قريبة الأجل

دل بقوله : لا أمتع العوذ بالفصال ، على أنه لا يبقى لها فصالها ، فينتفع بها من جهة استئناسها ، وحصول الفرح الطبيعي لها في مشاهدتها إياها ، وما تستملح من حركاتها لديها ، ويحتمل أن يريد : لا أبقي العوذ بسبب فصالها ، نظرا لها ، فتسلم عن النحر ، فتنتفع بالفصال من هذه الجهة. ودل بمعنى : أنه لا يبقيها على أنه ينحرها. ودل بمعنى : نحرها ، على أنه يصرفها إلى قرى الضيفان. وكذا دل بقوله : قريبة الأجل ، على أنها : لا تلبث عنده حية ، ودل بذلك على أنه ينحرها ، ثم دل بنحرها على معنى أضيف.

القسم الثالث

في الكناية المطلوب بها تخصيص الصفة بالموصوف

هي أيضا تتفاوت في اللطف ، فتارة تكون لطيفة وأخرى ألطف ، وأنا أورد عدة أمثلة ، منها قول زياد الأعجم (٢) وهو لطيف :

إنّ السماحة والمروءة والندى ...

في قبّة ضربت على ابن الحشرج

فإنه حين أراد أن لا يصرح بتخصيص السماحة والمروءة والندى بابن الحشرج ، فيقول : خ خ السماحة لابن الحشرج ، والمروءة له ، والندى له ، فإن الطريق إلى تخصيص الصفة بالموصوف بالتصريح : إما الإضافة أو معناها ، وإما الإسناد أو معناه ، فالإضافة ، كقولك : خ خ سماحة ابن الحشرج ، أو خ خ سماحته ، مظهرا كان المضاف إليه أو مضمرا

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٥١ وعزاه لابن هرمة ، والجرجاني في الإشارات ص ٢٤٢ ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٦٠ ، والطيبى في التبيان (١ / ٣٢٩) بتحقيقى.

العوذ : النوق الحديثة النتاج ، واحدتها : عائذ. الفصال : جمع فصيل.

(٢) أورده القزويني في الإيضاح ص ٤٦٢ وعزاه لأبي زياد الأعجم ، والرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٧١ وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٥٢ ابن الحشرج : من ولاة بنى أمية ، اسمه عبد الله.

٥١٧

ومعناها كقولك : خ خ السماحة لابن الحشرج ، أو خ خ السماحة له ، والإسناد ، كقولك : سمح ابن الحشرج ، أو خ خ حصل السماحة ، ومعناه ، كقولك : خ خ ابن الحشرج سمح ، بتقدير ضمير ابن الحشرج في سمح العائد إليه كما هو ، أعني تخصيص الصفة بالموصوف مصرح به في جميع ما تقدم من الأمثلة.

أو ما ترى الوصف المكنى عنه ، وهو طول القامة ، بقولك : خ خ طويل النجاد ، كيف تجده مضافا إلى ضمير موصوفه في قولك : خ خ زيد طويل نجاده ، وهو الهاء في خ خ نجاده العائد إلى خ خ زيد المطلوب تخصيص طول القامة به ، أو مسندا إلى ضمير موصوفه في قولك : خ خ طويل النجاد ، وهو الضمير في خ خ طويل العائد إلى الموصوف ، أو الوصف المكنى عنه ، وهو : وفور الإحسان بأنس الكلب بالزوار ، كيف تجده مضافا إلى ضمير موصوفه ، وهو عبد العزيز المخاطب ، المطلوب تخصيص وفور الإحسان به ، أو الوصف المكنى عنه ، وهو المضيافية بلا إمتاع العوذ بالفصال وابتياع قريبة الأجل ، كيف تجده مسندا إلى ضمير موصوفه وهو ضمير الحكاية الراجع إلى ابن هرمة ، المطلوب تخصيص المضيافية به ، ماذا صنع؟ جمع السماحة والمروءة والندى في قبة ، تنبيها بذلك أن محلها محل ذو قبة ، محاولا بذلك اختصاصها بابن الحشرج ، ثم لما رأى غرضه ما كان يتم بذلك لوجود ذوي قباب في الدنيا كثيرين ، جعل القبة مضروبة على ابن الحشرج حتى تم غرضه ، ومنها قولهم : خ خ المجد بين ثوبيه ، وخ خ الكرم بين برديه ، وقد يظن هذا من قسم : خ خ زيد طويل نجاده ، وليس بذلك ، خ خ فطويل نجاده بإسناد الطويل إلى النجاد تصريح بإثبات الطول للنجاد ، وطول النجاد ، كما تعرف ، قائم مقام طول القامة ، فإذا صرح ، من بعد ، بإثبات النجاد لزيد بالإضافة ، كان ذلك تصريحا بإثبات الطول لزيد ، فتأمل.

ومنها قوله (١) وهو ألطف :

والمجد يدعو أن يدوم لجيده ...

عقد مساعي ابن العميد نظامه

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٥٢ ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٦٢ ، والطيبى في التبيان (١ / ٣٣٠) بتحقيقى ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٢٦) بتحقيقى أيضا.

جيده : عنقه. مساعى : أفضال ومكارم ، واحدتها : مسعاة.

٥١٨

انظر حين أراد أن يثبت المجد لابن العميد ، لا على سبيل التصريح ، ماذا صنع؟ أثبت لابن العميد مساعي ، وجعلها نظام عقد ، وبيّن أن مناط ذلك العقد هو جيد المجد ، فنبّه بذلك على اعتناء ابن العميد بتزيين المجد ، ونبه بتزيينه إياه على اعتنائه بشأنه ، أعني : بشأن المجد ، وعلى محبته له ، ونبه بذلك على أنه ماجد ، ولم يقنعه ذلك حتى جعل المجد المعرف تعريف الجنس داعيا أن يدوم ذلك العقد لجيده ، فنبه بذلك على طلب حقيقة المجد ودوام بقاء ابن العميد ، ونبه بذلك على أن تزيينه والاعتناء بشأنه مقصوران على ابن العميد ، حتى أحكم بتخصيص المجد بابن العميد وأكده أبلغ تأكيد ، وحاصله أن الشاعر جعل المجد متزينا في المآل بابن العميد ، وجعل تزينه به تخصيصا له به على نحو ما يقال : خ خ تزينت الوزارة بفلان ، إذا حصلت له ، ومنها قول الشنفري الأزدي (١) في وصف امرأة بالعفة :

يبيت بمنجاة عن اللّوم بيتها ...

إذا ما بيوت بالملامة حلّت

فإنه حين أراد أن يبين عفافها ، وبراءة ساحتها عن التهمة ، وكمال نجاتها عن أن تلام بنوع من الفجور على سبيل الكناية ، قصد إلى نفس النجوة عن اللوم ، ثم لما رآها غير مختصة بتلك العفيفة ، لوجود عفائف في الدنيا كثيرة ، نسبها إلى بيت يحيط بها ، تخصيصا للنجاة عن اللوم بها ، فقال :

يبيت بمنجاة عن اللوم بيتها

__________________

(١) الشنفري : هو ثابت بن أوس الأزدي ، لم يعرف تاريخ ولادته ، وفي نشأته آراء ، ولكن ثمة إجماع على القول : إنه عاش ونشأ بين بني سلامان من بني فهم. من زملائه : تأبط شرا ، عمرو بن براقة. كان أشهر عدائي الشعراء الصعاليك. اشتهر بقصيدتها : " لامية العرب" وقد كتب حولها شروح كثيرة.

ترجمته في : موسوعة الشعر العربي العصر الجاهلي ١ / ٥٩ وما بعد ، وثمة ثبت بأهم المصادر عنه (١ / ٦٦٩ الموسوعة).

أورده القزويني في الإيضاح ص ٤٦٥ وعزاه للشنفري ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٤٦ ، والطيبى في التبيان (١ / ٣٣٢) بتحقيقى ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٢٦) بتحقيقى أيضا.

المنجاة : مكان النجاة.

٥١٩

ولم يقل : يظل قصدا إلى زمان له مزيد اختصاص بالفواحش ، وهو الليل. وقول ابن هانئ (١) :

فما جازه جود ، ولا حلّ دونه ...

ولكن يصير الجود حيث يصير

فإنه أراد أن يجمع الجود ، لا على سبيل التصريح ، ويثبته للممدوح ، لا على سبيل التصريح أيضا ، فعمد إلى نفس الجود ، فنفى أن يكون متوزعا يقوم منه جزء بهذا وجزء بذلك ، فنكّر الجود قصدا إلى فرد من أفراد الحقيقة ، ونفى أن يجوز ممدوحه ، فقال : فما جازه جود بالتنكير كما ترى ، تنبيها بذلك على أن لو جازه لكان قائما بمحل هناك ، لامتناع قيامه بنفسه ، ثم لمثل هذا قال : خ خ ولا حلّ دونه ، كناية بذلك عن عدم توزعه وتقسمه ، ثم خصصه من بعد بجهة تلك الجهة [الممدوحة](٢) ، بعد أن عرّفه باللام الاستغراقية ، فقال : ولكن يصير الجود حيث يصير

كناية عن ثبوته له ، ومنه قولهم : خ خ مجلس فلان مظنة الجود والكرم.

وقد يظن أن ههنا قسما رابعا وهو : أن يكون المطلوب بالكناية الوصف والتخصيص معا مثل ما يقال : خ خ يكثر الرماد في ساحة عمرو ، في الكناية عن : أنّ عمرا مضياف ، فليس بذاك ، إذ ليس ما ذكر بكناية واحدة ، بل هما كنايتان ، وانتقال من لازمين إلى ملزومين ، أحد اللازمين : كثرة الرماد ، والثاني : تقييدها ، وهو قولك : في ساحة عمرو.

واعلم أن الكناية في القسم الثاني والثالث ، تارة تكون مسوقة لأجل الموصوف المذكور ، كما تقول : خ خ فلان يصلي ويزكي ، وتتوصل بذلك إلى أنه مؤمن ، وخ خ فلان يلبس الغيار ، وتريد : أنه يهودي ، وكالأمثلة المذكورة. وتارة تكون مسوقة لأجل

__________________

(١) ابن هانئ : هو الحسن بن هانئ ، أبو نواس ، شاعر الخمرة والزهد المعروف ...

أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٥٣ وعزاه لابن هانئ ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٤٦ ، والقزويني في الإيضاح ص ٤٦٣ ، والطيبى في التبيان ١ / ٣٣١ وعزوه جميعا لأبي نواس.

(٢) في (د) ، (غ) (لممدوحه).

٥٢٠