مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

موصوف غير مذكور ، كما تقول في عرض من يؤذي المؤمنين : خ خ المؤمن هو الذي يصلي ويزكي ولا يؤذي أخاه المسلم ، وتتوصل بذلك إلى نفي الإيمان عن المؤذي ، وكقوله علت كلمته في عرض المنافقين : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)(١) إذا فسر الغيب : بالغيبة بمعنى : يؤمنون مع الغيبة عن حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عن جماعة المسلمين ، على معنى : هدى للذين يؤمنون عن إخلاص لا للذين يؤمنون عن نفاق.

أنواع الكناية :

وإذ قد وعيت ما أملي عليك فنقول : متى كانت الكناية عرضية ، على ما عرفت ، كان إطلاق اسم التعريض عليها مناسبا ، وإذا لم تكن كذلك نظر ؛ فإن كانت ذات مسافة بينها وبين المكنى عنه متباعدة ، لتوسط لوازم ، كما في : خ خ كثير الرماد ، وأشباهه ، كان إطلاق اسم التلويح عليها مناسبا ؛ لأن التلويح هو : أن تشير إلى غيرك عن بعد ، وإن كانت ذات مسافة قريبة ، مع نوع من الخفاء ، كنحو : خ خ عريض القفا ، وخ خ عريض الوسادة ، كان إطلاق اسم الرمز عليها مناسبا ، لأن الرمز هو : أن تشير إلى قريب منك على سبيل الخفية.

قال (٢) :

رمزت إلىّ مخافة من بعلها ...

من غير أن تبدي هناك كلامها

وإن كانت لا مع نوع الخفاء ، كقول أبي تمام (٣) :

أبين فما يزرن سوى كريم ...

وحسبك أن يزرن أبا سعيد

فإنه في إفادة : أن أبا سعيد كريم ، غير خاف ، كان إطلاق اسم الإيماء والإشارة

__________________

(١) سورة البقرة الآيتان ٢ ـ ٣.

(٢) البيت لابن هانئ أورده الخطيب القزوينى في الإيضاح ص ٤٦٦.

(٣) أورده عبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز ص ٣١٣ وعزاه لأبي تمام ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٥٥ ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٦٧ ، والعلوى في الطراز (١ / ٤٢٤).

٥٢١

عليها مناسبا ، وكقول البحتري (١) :

أو ما رأيت المجد ألقى رحله ...

في آل طلحة ، ثمّ لم يتحوّل

فإنه في إفادة : أن آل طلحة أماجد ، ظاهر ، وكقول الآخر (٢) :

إذا الله لم يسق إلّا الكرام ...

فسقى وجوه بني حنبل

وسقى ديارهم [باكرا](٣) ...

من الغيث في الزمن الممحل

فإنه في إفادة كرم بني حنبل ، كما ترى ، وكقول الآخر (٤) :

متى تخلو تميم من كريم ...

ومسلمة بن عمرو من تميم؟

فإنه في إفادة كرم مسلمة أظهر من الجميع ، وأما قوله (٥) :

سألت النّدى والجود مالي ...

أراكما تبدّلتما ذلّا بعزّ مؤبّد

وما بال ركن المجد أمسى مهدّما ...

فقالا : أصبنا بابن يحيى ، محمد

فقلت : فهلا متّما عند موته ...

فقد كنتما عبديه في كل مشهد

فقالا : أقمنا كي نعزي بفقده ...

مسافة يوم ثم نتلوه في غد

__________________

(١) أورده عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ص ٣١١ وعزاه للبحتري ، والقزويني في الإيضاح ص ٤٦٧ ، والطيبى في التبيان (١ / ٣٣١) بتحقيقى ، والعلوى في الطراز (١ / ٤٢٤).

(٢) أوردهما عبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز ص ٣١٣ ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٥٥ ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٤٨ ، والقزويني في الإيضاح ص ٤٦٧.

الممحل : الجديب. والمحل : نقيض الخصب.

(٣) في (غ) بإكرام.

(٤) أورده عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ص ٣١٣ ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٢٧) بتحقيقى ، والقزويني في الإيضاح ص ٤٦٧ ، والعلوى في الطراز (١ / ٤٢٤).

(٥) أوردها عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ص ٣١٤ وعزاه لقول بعض البرامكة ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٥٦

٥٢٢

في إفادة جود ابن يحيى ومجده فعلى ما ترى من الظهور.

واعلم أن التعريض تارة يكون على سبيل الكناية ، وأخرى على سبيل المجاز ، فإذا قلت : خ خ آذيتنى ، فستعرف ، وأردت المخاطب ، ومع المخاطب إنسانا آخر معتمدا على قرائن الأحوال ، كان من القبيل الأول ؛ وإن لم ترد إلّا غير المخاطب كان من القبيل الثاني. فتأمل. وعلى هذا فقس وفرع إن شئت ، فقد نبهتك.

بين الحقيقة والمجاز :

واعلم أن أرباب البلاغة ، وأصحاب الصياغة للمعاني ، مطبقون على أن المجاز أبلغ من الحقيقة ، وأن الاستعارة أقوى من التصريح بالتشبيه ، وأن الكناية أوقع من الإفصاح بالذكر.

والسبب في أن المجاز أبلغ من الحقيقة هو ما عرفت أن مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم ، فأنت في قولك : خ خ رعينا الغيث ، ذاكرا الملزوم : النبت ، مريدا به لازمه ، بمنزلة مدعي الشيء ببينة ، فإن وجود الملزوم شاهد لوجود اللازم ، لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم ، لأداء انفكاكه عنه ، إلى كون الشيء ملزوما ، غير ملزوم باعتبار واحد ؛ وفي قولك : خ خ رعينا النبت ، مدع للشيء لا ببينة ، وكم بين ادعاء الشيء ببينة ، وبين ادعائه لا بها.

والسبب في أن الاستعارة أقوى من التصريح بالتشبيه أمران :

أحدهما : أن في التصريح بالتشبيه اعترافا بكون المشبه به أكمل من المشبه في وجه التشبيه ، على ما قررت في باب التشبيه.

والثاني : أن في ترك التصريح بالتشبيه إلى الاستعارة ، التي هي مجاز مخصوص الفائدة التي سمعت في المجاز آنفا من دعوى الشيء ببينة.

والسبب في أن الكناية عن الشيء أوقع من الإفصاح بذكره ، نظير ما تقدم في المجاز ، بل عينه ، يبين ذلك أن مبنى الكناية ، كما عرفت ، على الانتقال من اللازم إلى ملزوم معين ، ومعلوم عندك أن الانتقال من اللازم إلى ملزوم معين يعتمد مساواته إياه ، لكنهما عند التساوي يكونان متلازمين فيصير الانتقال من اللازم إلى الملزوم ، إذ ذاك ،

٥٢٣

بمنزلة الانتقال من الملزوم إلى اللازم. فيصير حال الكناية كحال المجاز في كون الشيء معها مدعى ببينة ، ومع الإفصاح بالذكر مدعى لا ببينة ؛ وبهذا الطريق ينخرط نحو : أمطرت السماء نباتا ، في سلك ، نحو : خ خ رعينا الغيث. فافهم.

هذا ما أمكن من تقرير كلام السلف ، رحمهم‌الله ، في هذين الأصلين ، ومن ترتيب الأنواع فيهما ، وتذييلها بما كان يليق بها ، وتطبيق البعض منها بالبعض ، وتوفية كل من ذلك حقه على موجب مقتضى الصناعة ، وسيحمد ما أوردت ذوو [سيحمدا](١) ما أوردت ذوو البصائر ، وإني أوصيهم ، إن أورثهم كلامي نوع استمالة ، وفاتهم ذلك في كلام السلف إذا تصفحوه ، أن لا يتخذوا ذلك مغمزا للسلف أو فضلا لي عليهم ، فغير مستبدع في أيما نوع ، فرض أن يزل عن أصحابه ما هو أشبه بذلك النوع في بعض الأصول أو الفروع ، أو التطبيق للبعض بالبعض متى كانوا المخترعين له ، وإنما يستبدع ذلك ممن زجى عمره راتعا في مائدتهم تلك ، ثم لم يقو أن يتنبه.

وعلماء هذا الفن ، وقليل ما هم ، كانوا في اختراعه ، واستخراج أصوله ، وتمهيد قواعدها ، وإحكام أبوابها وفصولها ، والنظر في تفاريعها ، واستقراء أمثلتها اللائقة بها ، وتلقطها من حيث يجب تلقطها ، وإتعاب الخاطر في التفتيش والتنقير عن ملاقطها ، وكدّ النفس والروح في ركوب المسالك المتوعرة إلى الظفر بها ، مع تشعب هذا النوع إلى شعب. بعضها أدق من البعض ، وتفننها أفانين بعضها أغمض من بعض ، كما عسى أن يقرع سمعك طرف من ذاك ، فعلوا ما وفت به القوة البشرية إذ ذاك ، ثم وقع عند فتورها منهم ما هو لازم الفتور.

الخلاصة :

وأما بعد فإن خلاصة الأصلين هي : أن الكلمة لا تفيد البتة إلا بالوضع ، أو الاستلزام بوساطة الوضع ، وإذا استعملت فإما أن يراد : معناها وحده ، أو غير معناها وحده ، أو معناها وغير معناها معا ؛ فالأول هو : الحقيقة في المفرد ، وهي تستغني في

__________________

(١) في (ط) سيحمدها ، والتصويب من (غ) و (ك) و (د).

٥٢٤

الإفادة بالنفس عن الغير ؛ والثاني : هو المجاز في المفرد ، وأنه مفتقر إلى نصب دلالة مانعة عن إرادة معنى الكلمة. والثالث : هو الكناية ، ولا بد من دلالة حال.

والحقيقة في المفرد والكناية تشتركان في كونهما حقيقتين ، ويفترقان في التصريح [وعدم التصريح](١) ، وغير معناها في المجاز : إما أن يقدر قائما مقام معناها بوساطة المبالغة في التشبيه ، أو لا يقدر ؛ والأول : هو الاستعارة ، والثاني : هو المجاز المرسل ؛ والمذكور في الاستعارة ، إما أن يكون : هو المشبه به ، أو المشبه ، والأول هو الاستعارة بالتصريح ، والثاني ؛ هو الاستعارة بالكناية. وقرينتها أن يثبت للمشبه أو ينسب إليه ما هو مختص بالمشبه به ؛ والمشبه به المذكور في الاستعارة بالتصريح ، إما أن يكون : مشبهه المتروك شيئا له تحقق ، أو شيئا لا تحقق له ، والأول : الاستعارة التحقيقية ، والثاني : التخييلية.

والكلمة إذا أسندت فإسنادها بحسب رأي الأصحاب دون رأينا ، إما أن يكون على وفق عقلك وعلمك ، أو لا يكون ؛ والأول هو الحقيقة في الجملة ، والثاني هو المجاز فيها. ثم إن الحقيقة في الجملة : إما أن تكون مقرونة بإفادة مستلزم ، أو لا تكون.

والأولى : داخلة في الكناية ، والثانية : داخلة في التصريح.

البلاغة :

وإذ قد عرفنا الحقيقة في المفرد وفي الجملة ؛ وعرفنا فيهما التصريح والكناية ، وعرفنا المجاز في المفرد وفي الجملة ؛ وعرفنا تنوع الكناية إلى : تعريض ، وتلويح ، ورمز ، وإيماء ، وإشارة ، وعرفنا تنوع المجاز إلى مرسل مفيد ، وغير مفيد ، وإلى استعارة مصرح بها ، ومكنى عنها ؛ وعرفنا ما يتصل بذلك من التحقيقية ، والتخييلية ، والقطعية ، والاحتمالية ، ومن الأصلية ، والتبعية ، على رأي الأصحاب ، دون رأينا ، على ما تقدم ، والمجردة ، والمرشحة ؛ وحصل لنا العلم بتفاوت التشبيه في باب المبالغة إلى الضعف والقوة ، وإلى كونه تشبيها مرسلا ، وكونه تمثيلا ساذجا ، وكونه تمثيلا بالاستعارة ، وكونه مثلا ،

__________________

(١) زيادة من (غ ، د).

٥٢٥

وقضينا الوطر عن كمال الاطلاع على هذه المقاصد ، فنقول :

تعريف البلاغة :

البلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدّا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها ، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها ، ولها ، أعني البلاغة ، طرفان : أعلى وأسفل ، متباينان تباينا لا يتراءى له ناراهما ، وبينهما مراتب ، تكاد تفوت الحصر ، متفاوتة ؛ فمن الأسفل تبتدىء البلاغة ، وهو القدر الذي إذا نقص منه شيء التحق ذلك الكلام بما شبهناه به في صدر الكتاب من أصوات الحيوانات ، ثم تأخذ في التزايد متصاعدة إلى أن تبلغ حد الإعجاز وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه. واعلم أن شان الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه ، كاستقامة الوزن : تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة.

ومدرك الإعجاز عندي هو : الذوق ليس إلا ، وطريق اكتساب الذوق : طول خدمة هذين العلمين.

نعم ، للبلاغة وجوه [متلثمة](١) ، ربما تيسرت إماطة اللثام عنها ، لتجلى عليك ، أما نفس وجه الإعجاز فلا.

الفصاحة :

وأما الفصاحة فهي قسمان : راجع إلى المعنى ، وهو خلوص الكلام عن التعقيد ، وراجع إلى اللفظ ، وهو أن تكون الكلمة عربية أصلية ، وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب ، الموثوق بعربيتهم ، أدور ، واستعمالهم لها أكثر ، لا مما أحدثها المولدون ، ولا مما أخطأت فيه العامة ؛ وأن تكون أجرى على قوانين اللغة ، وأن تكون سليمة عن التنافر.

والمراد بتعقيد الكلام هو : أن يعثر صاحبه فكرك في متصرفه ، ويشيك طريقك إلى

__________________

(١) في (ط) (ملتئمة) والمثبت من (د) ، (ك).

٥٢٦

المعنى ، ويوعر مذهبك نحوه ، حتى يقسم فكرك ، ويشعب ظنك إلى أن لا تدري من أين تتوصل ، وبأي طريق معناه يتحصل ، كقول الفرزدق (١) :

وما مثله في الناس إلا مملّكا ...

أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه

أو كقول أبي تمام (٢) :

ثانيه في كبد السّماء ولم يكن ...

كاثنين ثان إذ هما في الغار

وغير المعقد هو : أن يفتح صاحبه لفكرتك الطريق المستوي ويمهده ، وإن كان في معاطف نصب عليه المنار ، وأوقد الأنوار ، حتى تسلكه سلوك المتبين لوجهته ، وتقطعه قطع الواثق بالنجح (٣) في طيته.

أنموذج قرآني :

وإذ قد وقفت على البلاغة ، وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية ، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين ، ما عسى يسترها عنك ، ثم إن ساعدك الذوق أدركت منها ما قد أدرك من تحدوا بها ، وهي قوله ، علت كلمته : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤).

والنظر في هذه الآية من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ، وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية.

__________________

(١) أورده عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ص ٨٤ وعزاه للفرزدق ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٦٠.

(٢) أورده عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ص ٨٤ وعزاه لأبي تمام ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٦٠.

(٣) لعل المثبت هو الصواب ، وفي (ط) (البجح) بالباء الموحدة ، والجيم وفي (د) بالموحدة والحاء المهملة.

(٤) سورة هود ، الآية ٤٤.

٥٢٧

النظر في الآية من جانب البلاغة :

أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو : النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة ، والكناية وما يتصل بها فنقول : إنه عزّ سلطانه ، لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح ، وهو إنجازه ما كنا وعدناه ، من إغراق قومه فقضي ، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت ، وأبقينا الظّلمة غرقى ، بني الكلام على تشبيه المراد بالمأمور الذي لا يتأتى منه ـ لكمال هيبته ـ العصيان وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود ، تصويرا لاقتداره العظيم ، وأن السماوات والأرض ، وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته إيجادا وإعداما ، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا ، كأنهما عقلاء مميزون ، قد عرفوه حق معرفته ، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره ، والإذعان لحكمه ، وتحتم بذلك المجهود عليهم في تحصيل مراده ، وتصوروا مزيد اقتداره ، فعظمت مهابته في نفوسهم ، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم ، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدما ، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمما ، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.

ثم بني على تشبيهه هذا نظم الكلام ، فقال جل وعلا : (قِيلَ ،) على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل ، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو : (يا أَرْضُ) ويا سماء ، ثم قال كما ترى : خ خ يا أرض وخ خ يا سماء ، مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور ، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما ، وهو الذهاب إلى مقر خفي ، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء ، لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة : (ابْلَعِي ،) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء ، ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره ، وخاطب في الأمر

٥٢٨

ترشيحا (١) لاستعارة النداء ، ثم قال : (ماءَكِ ،) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز ، تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك ، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح ، ثم اختار لاحتباس المطر : خ خ الإقلاع ، الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلا : (أَقْلِعِي ؛) لمثل ما تقدم في : (ابْلَعِي ،) ثم قال : (وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً :) فلم يصرح بمن غاض الماء ، ولا بمن قضى الأمر ، وسوى السفينة ، وقال : (بُعْداً ،) كما لم يصرح بقائل : خ خ يا أرض خ خ ويا سماء ، في صدر الآية ، سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلّا من ذي قدرة ، لا يكتنه قهار لا يغالب ، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره ، جلت عظمته ، قائل : خ خ يا أرض وخ خ يا سماء ، ولا غائض مثل ما غاض ، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل ، أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره ؛ ثم ختم الكلام بالتعريض ـ تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم لا غير ـ ختم إظهار لمكان السخط ، ولجهة استحقاقهم إياه ؛ وأن قيمة الطوفان ، وتلك الصورة الهائلة ، ما كانت إلّا لظلمهم.

وأما النظر فيها من حيث علم المعاني ، وهو : النظر في فائدة كل كلمة منها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، فذلك أنه اختير : [خ خ يا](٢) ، دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال ، وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة ، وإبداء شأن العزة والجبروت ، وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به. ولم يقل : خ خ يا أرض بالكسر لإمداد التهاون ، ولم يقل : خ خ يا أيتها الأرض لقصد الاختصار ، مع الاحتراز عما في : خ خ أيتها ، من تكلف التنبيه غير المناسب بالمقام ، واختير لفظ : خ خ الأرض دون سائر أسمائها لكونه أخف وأدور ، واختير لفظ : خ خ السماء لمثل ما تقدم في الأرض مع قصد المطابقة ، وستعرفها ، واختير لفظ : خ خ ابلعي ، على : خ خ ابتلعي ، لكونه أخصر ،

__________________

(١) في بعض النسخ (ترشحا).

(٢) سقطت من (د).

٥٢٩

ولمجيء خط التجانس بينه وبين : خ خ أقلعي ، أوفر ، وقيل : خ خ ماءك ، بالإفراد دون الجمع ، لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت ، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء ، وإنما لم يقل : خ خ ابلعي ، بدون المفعول ، أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال ، والبحار وساكنات الماء بأسرهن ، نظرا إلى مقام ورود الأمر ، الذي هو مقام عظمة وكبرياء ، ثم إذا بين المراد اختصر الكلام مع : خ خ أقلعي ، احترازا عن الحشو المستغنى عنه ، وهو الوجه في أن لم يقل : خ خ قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ، وخ خ يا سماء أقلعي فأقلعت. واختير خ خ غيض ، على : غيّض ، المشدد ، لكونه أخصر ، وقيل : خ خ الماء ، دون أن يقال : خ خ ماء طوفان السماء ، وكذا : خ خ الأمر ، دون أن يقال : خ خ أمر نوح ، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا من إهلاك قومه ، لقصد الاختصار ، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك ، ولم يقل : خ خ سويت على الجودي ، بمعنى : خ خ أقرت ، على نحو : خ خ قيل وخ خ غيض وخ خ قضي في البناء للمفعول ، اعتبارا لبناء الفعل للفاعل ، مع السفينة في قوله : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ ،) مع قصد الاختصار في اللفظ ، ثم قيل : (بُعْداً لِلْقَوْمِ ،) دون أن يقال : خ خ ليبعد القوم ؛ طلبا للتأكيد مع الاختصار ، وهو نزول : خ خ بعدا ، منزلة : خ خ ليبعدوا بعدا ، مع فائدة أخرى ، وهو استعمال اللام مع : خ خ بعدا ، الدال على معنى أن البعد حق لهم ، ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم ، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل. هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.

وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر. فقيل : (يا أَرْضُ ابْلَعِي) و (يا سَماءُ أَقْلِعِي ،) دون أن يقال : خ خ ابلعي يا أرض ، وخ خ أقلعي يا سماء ، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة ، من تقديم التنبيه ، ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى ، قصدا بذلك لمعنى الترشيح ، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء ، وابتدئ به لابتداء الطوفان منها ، ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل ، والأصل بالتقديم أولى ، ثم أتبعهما قوله : (وَغِيضَ الْماءُ ؛) لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها ، ألا ترى أصل الكلام : (قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) فبلعت ماءها ، (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله ، (وَغِيضَ الْماءُ) النازل من السماء فغاض ، ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ ،) أي

٥٣٠

أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء نوح ومن معه في السفينة ، ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ،) ثم ختمت القصة بما ختمت. هذا كله نظر في الآية من [جانب](١) البلاغة.

النظر في الآية من جانب الفصاحة :

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى : نظم للمعاني لطيف ، وتأدية لها ملخصة مبينة ، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك ، عند استماعها ، وجدت ألفاظها تسابق معانيها ، ومعانيها تسابق ألفاظها ، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك ، إلّا ومعناها أسبق إلى قلبك.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية : فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة ، جارية على قوانين اللغة ، سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سليسة على الإسلات ، كل منها كالماء في السلاسة ، وكالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة.

ولله در شأن التنزيل ، لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر ، ولا تظنّنّ الآية مقصورة على ما ذكرت ، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت ؛ لأن المقصود لم يكن إلّا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان ، وأن لا علم في باب التفسير بعد علم الأصول ، أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه ، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته ، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره ، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه ، هو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه ، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه ، ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها ، واستلبت [ماءها](٢) ورونقها ، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم ، فأخذوا بها

__________________

(١) في (د ، غ) جانبي.

(٢) كذا في الأصول.

٥٣١

في مآخذ مردودة ، وحملوها على محامل غير مقصودة ، وهم لا يدرون ، ولا يدرون أنهم لا يدرون ، فتلك الآى من مآخذهم في عويل ، ومن محاملهم على ويل طويل ، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(١) ، ثم مع ما لهذا العلم من الشرف الظاهر ، والفضل الباهر ، لا ترى علما لقي من الضيم ما لقي ، ولا مني من سوم الخسف بما مني ، أين الذي مهد له قواعد ، ورتّب له شواهد ، وبيّن له حدودا يرجع إليها ، وعيّن له رسوما يعرج عليها ، ووضع له أصولا وقوانين ، وجمع له حججا وبراهين ، وشمر لضبط متفرقاته ذيله ، واستنهض في استخلاصها من الأيدي رجله وخيله ، علم تراه : أيادي سبأ ، فجزء حوته الدبور ، وجزء حوته الصبا.

انظر باب التحديد فإنه جزء منه في أيدي من هو؟ انظر باب الاستدلال فإنه جزء منه في أيدي من هو؟ بل تصفح معظم أبواب أصول الفقه ، من أي علم هي؟ ومن يتولاها؟.

وتأمل في مودعات من مباني الإيمان ، ما ترى من تمناها سوى الذي تمناها وعد وعد ، ولكن الله جلت حكمته ، إذ وفق لتحريك القلم فيه ، عسى أن يعطي القوس باريها بحول منه ، عز سلطانه ، وقوة ، فما الحول والقوة إلا به.

علم البديع

وإذ قد تقرر ، أن البلاغة بمرجعيها وأن الفصاحة بنوعيها ، مما يكسو الكلام حلة التزيين ، ويرقيه أعلى درجات التحسين ، فههنا وجوه مخصوصة ، كثيرا ما يصار إليها ، لقصد تحسين الكلام ، فلا علينا أن نشير إلى الأعرف منها ، وهي قسمان : قسم يرجع إلى المعنى ، وقسم يرجع إلى اللفظ.

__________________

(١) اقتباس من سورة الكهف : ١٠٤.

٥٣٢

البديع المعنوي :

فمن القسم الأول :

(المطابقة) : وهي أن تجمع بين متضادين ، كقوله (١) :

أما والذي أبكى وأضحك والذي ...

أمات وأحيا والذي أمره الأمر

وقوله علت كلمته : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)(٢) ، وقوله : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً)(٣) ، وقوله : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)(٤) (ومنه المقابلة) : وهي أن تجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر ، وبين ضديهما. ثم إذا شرطت هنا شرطا شرطت هناك ضده ، كقوله عز وعلا : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)(٥) لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق ، جعل ضده وهو التعسير مشتركا بين أضداد تلك وهي : المنع والاستغناء والتكذيب.

(ومنه المشاكلة) : وهي أن تذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته ، كقوله (٦)

قالوا : اقترح شيئا نجد لك طبخه ...

قلت : اطبخوا لي جبّة وقميصا

__________________

(١) أورده القزوينى في الإيضاح ص ٤٧٨ وعزاه لأبي صخر الهذلي ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٩١

(٢) سورة آل عمران ، الآية ٢٦.

(٣) سورة التوبة ، الآية ٨٢.

(٤) سورة الكهف ، الآية ١٨.

(٥) سورة الليل ، الآيات : ٥ ـ ١٠.

(٦) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٩٦ وعزاه المحقق د / حسنى عبد الجليل لابن الرقعمق الأنطاكى ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٩٤ والجبة ثوب واسع يلبس فوق القميص.

الجبة : ثوب واسع يلبس فوق الثياب.

٥٣٣

وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ)(١) وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(٢) ، وقوله (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ)(٣) ، وقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)(٤) ، وقوله : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا])(٥) بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ (٦) ، وقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٧).

(ومنه مراعاة النظير) : وهي عبارة عن الجمع بين المتشابهات ، كقوله (٨) :

وحرف كنون تحت راء ولم يكن ...

بدال ، يؤمّ الرسم غيره النقط

(ومنه المزاوجة) : وهي أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء ، كقوله (٩) :

إذا ما نهى النّاهي ، فلجّ بي الهوى ...

أصاخ إلى الواشي ، فلجّ به الهجر

(ومنه اللف والنشر) : و [هما](١٠) : أن تلف بين شيئين في الذكر ، ثم تتبعهما كلاما مشتملا على متعلق بواحد وبآخر من غير تعيين ، ثقة بأن السامع يرد كلا منهما إلى ما هو له ، كقوله عز وعلا : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)(١١).

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٣٨.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٩٤.

(٣) سورة آل عمران الآية : ٥٤.

(٤) سورة المائدة ، الآية ١١٦.

(٥) ساقط من (غ ، د).

(٦) سورة المائدة الآية ٦٤.

(٧) سورة الشورى ، الآية ٤٠.

(٨) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ٢٦٢ وعزاه لصاحب المفتاح.

(٩) أورده عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ص ٩٣ وعزاه للبحتري ، وفيه (أصاخت) (فلجّ بها) بلفظ المؤنث ، وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٦٤.

(١٠) في (غ ، د) (وهي)

(١١) سورة القصص ، الآية ٧٣.

٥٣٤

(ومنه الجمع) : و [هو](١) أن تدخل شيئين فصاعدا في نوع واحد ، كقوله (٢) :

إن الفراغ والشباب والجده ...

مفسدة للمرء أيّ مفسده

وقوله عز وعلا : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا)(٣).

(ومنه التفريق) : وهو أن تقصد إلى شيئين من نوع ، فتوقع بينهما تباينا ، كقوله (٤) :

ما نوال الغمام وقت ربيع ...

كنوال الأمير وقت سخاء

فنوال الأمير بدرة عين ...

ونوال الغمام قطرة ماء

(ومنه التقسيم) : وهو أن تذكر شيئا ذا جزأين أو أكثر ، ثم تضيف إلى كل واحد من أجزائه ما هو له عندك ، كقوله (٥) :

أديبان في بلخ لا يأكلان ...

إذا صحبا المرء غير الكبد

فهذا طويل كظلّ القناة ...

وهذا قصير كظلّ الوتد

(ومنه الجمع مع التفريق) : وهو أن تدخل شيئين في معنى واحد ، وتفرق جهتي الإدخال ، كقوله (٦) :

قد اسودّ كالمسك صدغا ...

وقد طاب كالمسك خلقا

__________________

(١) في (د) وهى.

(٢) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ٢٤٧ ، والقزوينى في الإيضاح ص ٥٠٢ وعزاه المحقق د / خفاجي لأبي العتاهية ، والعلوى في الطراز ٣ / ١٤٢.

(٣) سورة الكهف الآية ٤٦.

(٤) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ٢٤٧ ، والعلوى في الطراز ٣ / ١٤١.

(٥) أورده فخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٩٥ ونسب الوطواط البيتين ل (أديب ترك).

(٦) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ٢٤٨ بلا عزو ، والعلوى في الطراز ٣ / ١٤٣ ولم يصدر البيت ب قد.

٥٣٥

فإنه شبه الصدغ والخلق بالمسك ، ثم فرق بين وجهي المشابهة كما ترى.

(ومنه الجمع مع التقسيم) : وهو أن تجمع أمورا كثيرة تحت حكم ثم تقسم ، أو تقسم ثم تجمع ، مثال الأول قول المتنبي (١) :

الدهر معتذر ، والسيف منتظر ...

وأرضهم لك مصطاف ومرتبع

للسّبي ما نكحوا ، والقتل ما ولدوا ...

والنّهب ما جمعوا ، والنار ما زرعوا

فإنه جمع في البيت الأول أرض العدو وما فيها في كونها خالصة للمدوح ، وقسم في الثاني. ومثال الثاني قول حسان ، رضي‌الله‌عنه (٢) :

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم ...

أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا

سجيّة تلك منهم غير محدثة ...

إنّ الخلائق ، فاعلم ، شرّها البدع

فإنه قسم في البيت الأول حيث ذكر ضرهم للأعداء ونفعهم للأولياء ، ثم جمع في الثاني ، فقال : خ خ سجية تلك.

(ومنه الجمع مع التفريق والتقسيم) : كما إذا قلت (٣) :

فكالنار ضوءا وكالنار حرّا ...

محيّا حبيبي وحرقة بالي

فذلك من ضوئه في اختيال ...

وهذا لحرقته في اختلال

ولك أن تلحق بهذا القبيل قوله عز سلطانه : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ

__________________

(١) ديوان المتنبى ، شرح التبيان ، وذكر البيت الأول في ١ / ٤٢٥ والثاني ١ / ٤١٩ ، أورده العلوي في الطراز ٣ / ١٤٣ وعزاه للمتنبي.

(٢) حسان بن ثابت بن المنذر ... من الخزرج كان شاعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين دون منازع. عاش مائة وعشرين سنة ، وهو من الشعراء المخضرمين ، توفي سنة خمسين للهجرة بعد أن كف بصره بأخرة.

أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ٢٤٩ وعزاه لحسان ، والعلوى في الطراز ٣ / ١٤٤.

(٣) لم أعثر عليه.

٥٣٦

فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ)(١) الآية (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ)(٢).

(ومنه الإيهام) : وهو أن يكون للفظ استعمالان : قريب وبعيد ، فيذكر لإيهام القريب في الحال إلى أن يظهر أن المراد به البعيد ، كقوله (٣) :

حملناهم طرّا على الدّهم بعد ما ...

خلعنا عليهم بالطعان ملابسا

أراد بالحمل على الدهم تقييد العدا ، فأوهم إركابهم الخيل الدهم كما ترى ، وقوله سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(٤) وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(٥) ، وأكثر المتشابهات من هذا القبيل.

(ومنه تأكيد المدح بما يشبه الذم) ، كقوله (٦) :

هو البدر إلا أنّه البحر زاخرا ...

سوى أنّه الضّرغام ، لكنه الوبل

(ومنه التوجيه) : وهو إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين كقول من قال للأعور : خ خ ليت عينيه سواء ، وللمتشابهات من القرآن مدخل في هذا النوع باعتبار.

(ومنه سوق المعلوم مساق غيره) ولا أحب تسميته بالتجاهل ، كقوله (٧) :

أذاك أم نمش بالوشي أكرعه ...

أذاك أم خاضب بالسبي مرتعه

__________________

(١) سورة هود ، الآيتان ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢) سورة هود ، الآية ١٠٨.

(٣) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٧٢ بلا عزو.

والدهم : قيود الحديد.

(٤) سورة طه ، الآية ٥.

(٥) سورة الزمر الآية ٦٧. ومذهب أهل الحق أن صفات الله جل وعلا تحمل على الحقيقة ولا إيهام فيها.

(٦) أورده القزوينى في الإيضاح ص ٥٢٥ وعزاه لبديع الزمان الهمذاني ، والعلوى في الطراز ٣ / ١٣٨ وفيه [خلا بدلا من سوى].

(٧) البيت من البسيط وهو لذي الرمة في ديوانه ص ٧٤ ، وتهذيب اللغة ١١ / ٣٨٢ ، وتاج العروس (٢٠ / ١٤٠) وفيه الشطر الثاني بلفظ : مسفّع الخدّ عاد ناشط شبب ، واللسان (نمش) وفيه [سيب] بدلا من [شبب].

٥٣٧

وقولها (١) :

أيا شجر الخابور ما لك مورقا ...

كأنك لم تجزع على ابن طريف

وقوله سبحانه وتعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢).

(ومنه الاعتراض) : ويسمى الحشو ، وهو أن تدرج في الكلام ما يتم المعنى بدونه ، كقول طرفة (٣) :

فسقى ديارك غير مفسدها ...

صوب الرّبيع وديمة تهمي

فأدرج خ خ غير مفسدها ، وكما قال النابغة (٤) :

لعمري ، وما عمري علىّ بهيّن ...

لقد نطقت بطلا علىّ الأقارع

فأدرج : خ خ وما عمري علىّ بهين ، وكما قال ابن المعتز :

إن يحيى ، لا زال يحيى ، صديقي ...

وخليلي من دون [هذه](٥) الأنام

فأدرج : خ خ لا زال يحيى ، وكما قال عز قائلا : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ)(٦) فقوله : خ خ ولن تفعلوا اعتراض ، وكما قال : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)(٧) ، فقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) اعتراض في اعتراض.

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ٢٥ وعزاه للخارجية ، وهي ليلى بنت طريف قالته ترثى أخاها حين قتل ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٨٦ ، والطيبى في التبيان ٢ / ٢٥٦ بتحقيقى وعزاه للخارجية أيضا.

(٢) سورة سبأ ، الآية ٢٤.

(٣) البيتان من الكامل لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٨٨ ، وتخليص الشواهد ص ٢٣١ ، والدر ٤ / ٩.

الديمة : المطر. تهمي : تسيل.

(٤) البيتان من الطويل للنابغة الذبياني في ديوانه ص (٣٤ ، ٣٥) ، وخزانة الأدب ٢ / ٤٤٦ ، والكتاب ٢ / ٧٠. الأقارع : الشدّاد.

(٥) في (د) هذا.

(٦) سورة البقرة ، الآية ٢٤.

(٧) الواقعة : الآية : ٧٥ ، ٧٦.

٥٣٨

(ومنه الاستتباع) : وهو المدح بشيء على وجه يستتبع مدحا آخر ، كقوله (١) :

نهبت من الأعمار ما لو حويته ...

لهنّئت الدنيا بأنّك خالد

ألا تراه كيف مدحه بالشجاعة على وجه ، استتبع مدحه بكمال السخاء وجلال القدر من وجه آخر؟ ويوضح لك ما ذكرت إذا قسته على قولك : خ خ نهبت من الأعمال ما لو اجتمع لك لبقيت مخلدا.

(ومنه الالتفات) : وقد سبق ذكره في علم المعاني.

(ومنه تقليل اللفظ ولا تقليله) : مثل : خ خ يا وهيا ، وخ خ غاض ، وخ خ غيض ، إذا صادفا الموقع. ويتفرع عليهما الإيجاز في الكلام ، والإطناب فيه ، وقد سبقا في الذكر.

البديع اللفظي :

(ومن القسم الثاني التجنيس) : وهو تشابه الكلمتين في اللفظ ، والمعتبر منه في باب الاستحسان عدة أنواع :

أحدها : التجنيس التام : وهو أن لا يتفاوت المتجانسان في اللفظ ، كقولك : رحبة رحبة.

وثانيها : التجنيس الناقص : وهو أن يختلفا في الهيئة دون الصورة ، كقولك : خ خ البرد يمنع البرد ، وكقولك : خ خ البدعة شرك الشرك ، وكقولك : خ خ الجهول إما مفرط أو مفرط. والمشدد في هذا الباب يقام مقام المخفف نظرا إلى الصورة ، فاعلم.

وثالثها : التجنيس المذيل : وهو أن يختلفا بزيادة حرف ، كقولك : خ خ مالي كمالي ، وخ خ جدي جهدي ، وخ خ كاس كاسب.

ورابعها : التجنيس المضارع أو المطرف : وهو أن يختلفا بحرف أو حرفين مع تقارب المخرج ، كقولك في الحرف الواحد : خ خ دامس وخ خ طامس ، وخ خ حصب وخ خ حسب ،

__________________

(١) أورده القزوينى في الإيضاح ص ٥٢٦ وعزاه لأبي الطيب.

٥٣٩

وخ خ كثب وخ خ كثم ، وفي الحرفين كقولهم : خ خ ما خصصتني وإنما خسستني.

وخامسها : التجنيس اللاحق : وهو أن يختلفا لا مع التقارب ، كقولك : خ خ سعيد بعيد ، وخ خ كاتب كاذب ، وخ خ عابد [عابث](١).

والمختلفان في اللاحق إذا اتفقا كتبة كقولك : خ خ عائب عابث. سمي تجنيس تصحيف.

والمتجانسان إذا وردا على نحو قولهم : خ خ من طلب وجدّ وجد ، أو قولهم : خ خ من قرع بابا ولجّ ولج. وعلى نحو : خ خ المؤمنون هينون لينون ، (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ)(٢) ، أو على نحو ، قولهم : خ خ النبيذ بغير النّغم غم وبغير الدّسم سم سمي : ذلك مزدوجا ومكررا ومرددا.

وها هنا نوع آخر يسمى : تجنيسا مشوشا ، وهو مثل قولك : خ خ بلاغة وبراعة.

وإذا وقع أحد المتجانسين في التام مركبا ولم يكن مخالفا في الخط ، كقوله (٣) :

إذا ملك لم يكن ذاهبه ...

فدعه فدولته ذاهبه

سمي : متشابها.

وإن كان مخالفا في الخط كقوله (٤) :

كلّكم قد أخذ الجام ولا جام لنا ...

ما الذي ضرّ مدير الجام لو جاملنا

سمي مفروقا.

__________________

(١) في (د) (عائب) وفي (ط) (عاثب).

(٢) سورة النمل آية ٢٢.

(٣) أورده القزوينى في الإيضاح ص ٥٣٧ وعزاه لأبي الفتح البستى ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٨٥.

(٤) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٩١ وعزاه لأبي الفتح ، والقزوينى في الإيضاح ص ٥٣٨. الجام : الكأس.

٥٤٠