مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

فتجعل النفي عامّا ؛ ليتناول كل شاعر يعتقد ممن عدا زيدا ، والفرق بين قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف واضح ، فإن الموصوف في الأول لا يمتنع أن يشاركه غيره في الوصف ، ويمتنع في الثاني ، وأن الوصف في الثاني يمتنع أن يكون لغير الموصوف ، ولا يمتنع في الأول.

وثانيها النفي والاستثناء ، كما تقول في قصر الموصوف على الصفة ، إفرادا أو قلبا : ليس زيد إلا شاعرا ، أو ما زيد إلا شاعر ، أو إن زيد إلا شاعرا ، وما زيد إلا قائم ، أو ما زيد إلا يقوم ؛ ومن الوارد في التنزيل على قصر الإفراد قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)(١) فمعناه : محمد مقصور على الرسالة ، لا يتجاوزها إلى البعد عن الهلاك ، نزل المخاطبون لاستعظامهم أن لا يبقى لهم منزلة المبعدين لهلاكه ، وهو من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر ؛ وقوله تعالى : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي)(٢) فمعناه : حسابهم مقصور على الاتصاف ب (" عَلى رَبِّي") لا يتجاوزه إلى أن يتصف بعلى ، وقوله (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ)(٣) فمعناه : أنا مقصور على النذارة ، لا أتخطاها إلى طرد المؤمنين ، وقوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(٤) فالمراد : لستم في دعواكم للرسالة عندنا بين الصدق وبين الكذب ، كما يكون ظاهر حال المدعي إذا ادعى ، بل أنتم عندنا مقصورون على الكذب ، لا تتجاوزونه إلى حق كما تدعونه ، وما معكم من الرحمن منزل في شأن رسالتكم.

ومن الوارد على قصر القلب قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ)(٥) لأنه قاله في مقام اشتمل على معنى إنك يا

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٤٤.

(٢) سورة الشعراء الآية ١١٣.

(٣) سورة الشعراء الآيتان ١١٤ ـ ١١٥.

(٤) سورة يس الآية ١٥.

(٥) سورة المائدة الآية ١١٧.

٤٠١

عيسى لم تقل للناس ما أمرتك ، لأني أمرتك أن تدعو الناس إلى أن يعبدوني ، ثم إنك دعوتهم إلى أن يعبدوا من هو دوني ، ألا ترى إلى ما قبله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)(١).

وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا : ما شاعر إلّا زيد ، أو ما جاء إلّا زيد ، لمن يرى الشعر لزيد ولعمرو ، أو المجيء لهما. وقلبا : ما شاعر إلا زيد ، ما جاء إلّا زيد ، لمن يرى أن زيدا ليس بشاعر ، وأن زيدا ليس" بجاء".

وتحقيق وجه القصر في الأول هو : أنك بعد علمك أن أنفس الذوات يمتنع نفيها ، وإنما تنفى صفاتها ؛ وتحقيق ذلك يطلب من علوم أخر ، متى قلت : ما زيد ، توجه النفي إلى الوصف ، وحين لانزاع في طوله ولا قصره ، ولا سواده ولا بياضه ، وما شاكل ذلك ، وإنما النزاع في كونه شاعرا أو منجما ، تناولهما النفي فإذا قلت : إلا شاعر ، جاء القصر ؛ وتحقيق وجه القصر في الثاني هو : أنك متى أدخلت النفي على الوصف المسلم ثبوته ، وهو وصف الشعر ، وقلت : ما شاعر ، أو : من شاعر ، أو : لا شاعر ، توجه بحكم العقل إلى ثبوته للمدعى له ، إن عامّا ، كقولك : في الدنيا شعراء ، وفي قبيلة كذا شعراء ، وإن خاصّا كقولك : زيد وعمرو شاعران ، فتناول النفي ثبوته لذلك ، فمتى قلت : إلا زيد أفاد القصر.

وثالثها : استعمال إنما ، كما تقول في قصر الموصوف على الصفة قصر إفراد : إنما زيد جاء ، إنما زيد يجيء ، لمن يردده بين المجيء والذهاب من غير ترجيح لأحدهما : أو قصر قلب لمن يقول : زيد ذاهب لا جاء ؛ وفي تخصيص الصفة بالموصوف إفرادا ، إنما يجيء زيد ، لمن يردد المجيء بين زيد وعمرو ، أو يراه منهما ؛ وقلبا لمن يقول : لا يجيء زيد ، ويضيف إليه الذهاب.

والسبب في إفادة (إنما) معنى القصر ، هو تضمينه معنى : (ما وإلا) ، ولذلك تسمع

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١١٦.

٤٠٢

المفسرين لقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ)(١) بالنصب ، يقولون : معناه ما حرم عليكم إلا الميتة والدم ، وهو المطابق قراءات الرفع المقتضية لانحصار التحريم على الميتة والدم بسبب" إنّ ما" في قراءة الرفع ، يكون موصولا صلته : (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ،) واقعا اسما لإن ، ويكون المعنى : إن المحرم عليكم الميتة ، وقد سبق قولنا : إن المنطق زيد ، وزيد المنطلق ، كلاهما يقتضي انحصار الانطلاق على زيد ، وترى أئمة النحو يقولون : إنما تأتي إثباتا لما يذكر بعدها ونفيا لما سواه ، ويذكرون لذلك وجها لطيفا يسند إلى علي بن عيسى الربعي وأنه كان من أكابر أئمة النحو ببغداد ، وهو : أن كلمة (أن) ، لما كانت لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه ، ثم اتصلت بها (ما) المؤكدة لا النافية ، على ما يظنه من لا وقوف له بعلم النحو ، ضاعف تأكيدها ، فناسب أن يضمن معنى القصر ؛ لأن قصر الصفة على الموصوف ، وبالعكس ، ليس إلا تأكيدا للحكم على تأكيد ، ألا تراك متى قلت لمخاطب يردد المجيء الواقع بين زيد وعمرو : زيد جاء لا عمرو ، وكيف يكون قولك : زيد جاء ، إثباتا للمجيء لزيد صريحا ، وقولك : لا عمرو ، إثباتا ثانيا للمجيء لزيد ضمنا ؛ ومما ينبه على أنه متضمن معنى (ما وإلا) صحة انفصال الضمير معه ، كقولك : إنما يضرب أنا ، مثله في : ما يضرب إلا أنا ، قال الفرزدق : (٢)

أنا الذّائد الحامي الذّمار وإنّما ...

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

كما قال غيره (٣) :

قد علمت سلمي وجاراتها ...

ما قطّر الفارس إلا أنا

ورابعها : التقدير ، كما تقول في قصر الموصوف على الصفة : تميمي أنا ، قصر إفراد

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٧٣.

(٢) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٩١) وعزاه إليه ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص (٩٦) ، والقزويني في الإيضاح ص (٢١٦).

(٣) أورده القزوينى في الإيضاح ص ٢١٧ وعزاه لعمرو بن معد يكرب. وقطّره بالتضعيف : ألقاه على جنبه. وقطره من باب القتل : صرعه.

٤٠٣

لمن يرددك بين : قيس وتميم ، أو قصر قلب ، لمن ينفيك عن تميم ويلحقك بقيس ، وكذا : قائم هو ، أو قاعد هو : بالاعتبارين بحسب المقام ، وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا : أنا كفيتك مهمك ، بمعنى : وحدي ، لمن يعتقد أنك وزيدا كفيتما مهمه.

وقلبا : أنا كفيت مهمك ، بمعنى : لا غيري ، لمن يعتقد كافي مهمه غيرك ، وكذا زيدا ضربت ، أو ما زيدا ضربت ، بالاعتبارين على ما تضمن ذلك فصل التقديم ، وهذه الطرق تتفق من وجه وهو : أن المخاطب معها يلزم أن يكون حاكما حكما مشوبا بصواب وخطأ ، وأنت تطلب بها تحقيق صوابه ونفي خطئه ، تحقق في قصر القلب كون الموصوف على أحد الوصفين ، أو كون الوصف لأحد الموصوفين ، وهو صوابه ، وتنفي تعيين حكمه ، وهو خطؤه ، وتحقق في قصر الإفراد حكمه في بعض ، وهو صوابه ، وتنفيه عن البعض ، وهو خطؤه.

ويختلف من وجوه : فالطرق الأول الثلاث دلالتها على التخصيص بوساطة الوضع ، وجزم العقل ، ودلالة التقديم عليه بوساطة الفحوى ، وحكم الذوق.

والطريق الأول : الأصل فيه التعرض للمثبت وللمنفي بالنص ، كما ترى في قولك :

زيد شاعر لا منجم ، في قصر الموصوف على الصفة ، وزيد شاعر لا عمرو ، في قصر الصفة على الموصوف ، لا تترك النص البتة ، إلا حيث يورث تطويلا ، ويكون المقام اختصاريّا ، كما إذا قال المخاطب : زيد يعلم الاشتقاق والصرف والنحو والعروض وعلم القافية وعلم المعاني وعلم البيان ، فتقول : زيد يعلم الاشتقاق لا غير ، أو ليس غير ، أو ليس إلا ، أو كما إذا قال : زيد يعلم النحو وعمرو وبكر وخالد وفلان وفلان ، فتقول : زيد يعلم النحو لا غير.

والطرق الأخيرة : الأصل فيها النص مما يثبت دون ما ينفى ، كما ترى في قولك : ما أنا إلّا تميمي ، وإنما أنا تميمي ، وتميمي أنا ، في قصر الموصوف على الصفة ؛ وفي قصر الصفة على الموصوف : ما يجيء إلا زيد ، وإنما يجيء زيد ، وهو يجيء.

حكم لا العاطفة :

والطريق الأول لا يجامع الثاني ، فلا يصح : ما زيد إلا قائم لا قاعد ، ولا : ما يقوم إلّا زيد لا عمرو ، والسبب في ذلك هو أن (لا) العاطفة ، من شرط منفيها أن لا يكون

٤٠٤

منفيا قبلها بغيرها من كلمات النفي ، نحو : جاءني زيد لا عمرو ، ونحو : زيد قائم لا قاعد ، أو متحرك لا ساكن ، أو موجود لا معدوم ، ويمتنع تحقق شرطها هذا في منفيها ، إذا قلت : ما يقوم إلا زيد لا عمرو ، وما زيد إلا قائم لا قاعد.

والذي سبق في تحقيق وجه القصر في النفي والاستثناء يكشف لك الغطاء ، ويجامع الطريقين الأخيرين ، فيقال : إنما أنا تميمي لا قيسي ، وتميمي أنا لا قيسي وإنما يأتيني زيد لا عمرو ، وهو يأتيني لا عمرو ، وجه صحة مجامعة (لا) العاطفة ، إنما مع امتناع مجامعتها ما وإلا عين وجه صحة أن يقال : امتنع عن المجيء زيد لا عمرو ، مع امتناع أن يقال : ما جاء زيد لا عمرو ، وهو كون معنى النفي في : إنما ، وفي قولك : امتنع عن المجيء ، ضمنا لا صريحا ، لكن إذا جامعت لا العاطفة ، إنما جامعتها بشرط ، وهو : أن لا يكون الوصف بعد إنما مما له في نفسه اختصاص بالموصوف المذكور ، كقوله عز اسمه : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)(١) فإن كل عاقل ، يعلم أنه لا يكون استجابة ، إلا ممن يسمع ويعقل ، وقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها)(٢) فلا يخفى على أحد ممن به مسكة ، أن الإنذار إنما يكون إنذارا ، ويكون له تأثير ، إذا كان مع من يؤمن بالله وبالبعث ، والقيامة وأهوالها ، ويخشى عقابها ، وقولهم : إنما يعجل من يخشى الفوت ، فمركوز في العقول ، أن من لم يخش الفوت لم يعجل ، وإذا كان له اختصاص ، لم يصح فيه استعمال (لا) العاطفة ، فلا تقل : إنما يعجل من يخشى الفوت لا من يأمنه.

وطريق النفي والاستثناء يسلك مع مخاطب تعتقد فيه أنه مخطىء ، وتراه يصر ، كما إذا رفع لكما شبح من بعيد ، لم تقل : ما ذاك إلا زيد ، لصاحبك ، إلا وهو يتوهمه غير زيد ، ويصر على إنكار أن يكون إياه ، وما قال الكفار للرسل : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا)(٣) إلا والرسل عندهم في معرض المنتفى عن البشرية ، والمنسلخ عنه حكمها ،

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٣٦.

(٢) سورة النازعات الآية ٤٥.

(٣) سورة إبراهيم الآية ١٠.

٤٠٥

بناء على جهلهم أن الرسول يمتنع أن يكون بشرا ، أو ما تسمع في موضع آخر كيف تجد ما يحكى عنهم هناك ، يرشح بما يتلوث به صماخك من تقرير جهلهم هذا ، وهو : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(١) وما أعجب شأن المشركين؟ ما رضوا للنبي أن يكون بشرا ، ورضوا للإله أن يكون حجرا ، وأما قول الرسل لهم : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(٢) فمن باب المجاراة ، وإرخاء العنان مع الخصم ليعثر حيث يراد تبكيته ، كما قد يقول من يخالفك فيما ادعيت : إنك من شأنك كيت وكيت ، فأنت تقول : نعم ، إن من شأني كيت وكيت ، الحق في يدك هناك ، ولكن كيف يقدح في دعواي هاتيك؟ وعلى هذا ، ما من موضع يأتي فيه النفي والاستثناء إلا والمخاطب عند المتكلم مرتكب للخطأ مع إصرار ، إما تحقيقا ، إذا أخرج الكلام على مقتضى الظاهر ، وإما تقديرا ، إذا أخرج لا على مقتضى الظاهر ، كقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ* إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ)(٣) لما كان النبي ، عليه الصلاة والسّلام ، شديد الحرص على هداية الخلق ، وما كان متمناه شيئا سوى أن يرجعوا عن الكفر ، فيملكوا زمام السعادة ، عاجلا وآجلا ، ومتى رآهم لم يؤمنوا تداخله ، عليه الصلاة والسّلام ، من الوجد والكآبة ما كاد يبخع (٤) له ، حتى قيل له : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا)(٥) ، ويتساقط ، عليه الصلاة والسّلام ، حسرات على توليهم وإعراضهم عن الحق ، وما كانت شفقته عليهم تدعه يلقي حبلهم على غاربهم ليهيموا في أودية الضلال ، بل كانت تدعوه ، عليه الصلاة والسّلام ، أن يرجع إلى تزيين الإيمان لهم ، عوده على بدئه ، عسى أن يسمعوا

__________________

(١) سورة يس الآية ١٥.

(٢) سورة إبراهيم الآية ١١.

(٣) سورة فاطر الآيتان ٢٢ ـ ٢٣.

(٤) بخع نفسه يبخعها بخعا وبخوعا : قتلها غما أو غيظا.

(٥) سورة الكهف الآية : ٦.

٤٠٦

ويعوا ، راكبا في ذلك كل صعب وذلول ، أبرز لذلك ، في معرض من ظن أنه يملك غرس الإيمان في قلوبهم ، مع إصرارهم على الكفر ، فقيل له : خ خ لست هناك (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ)(١) وقوله عز وعلا : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٢) مصبوب في هذا القالب.

وطريق (إنما) يسلك مع مخاطب في مقام لا يصر على خطئه ، أو يجب عليه أن لا يصر على خطئه ، لا تقول : إنما زيد يجيء ، أو إنما يجيء زيد ، إلا والسامع متلق كلامك بالقبول ، وكذا لا تقول : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ)(٣) ، إلا ويجب على السامع أن يتلقاه بالقبول ، والأصل في (إنما) أن تستعمل في حكم لا يعوزك تحقيقه ؛ إما لأنه في نفس الأمر جلي ، أو لأنك تدعيه جليّا.

فمن الأول قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها)(٤) وقوله : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)(٥) وقوله : إنما يعجل من يخشى الفوت ، وقولك للرجل الذي ترققه على أخيه ، وتنبهه للذي يجب عليه من صلة الرحم ، ومن حسن التحفي : إنما هو أخوك ، ولصاحب الشرك : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ)(٦).

ومن الثاني قول الشاعر (٧) :

إنما مصعب شهاب من الله ...

تجلّت عن وجهه الظّلماء

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٢٣.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٨٨.

(٣) سورة النساء الآية : ١٧١.

(٤) سورة النازعات الآية ٤٥.

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ٣٦.

(٦) سورة النساء الآية : ١٧١.

(٧) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٩٨) وهو لابن قيس الرقيات يمدح مصعب بن الزبير العوام ، وفخر الدين الرازى في نهاية الإيجاز (٣٦١) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٩٥).

٤٠٧

ادعى أن كون مصعب كما ذكر جلي ، وأنه عادة الشعراء يدعون الجلاء في كل ما يمدحون به ممدوحيهم ، ألا يرى إلى قوله (١) :

وتعذلني أفناء سعد عليهم ...

وما قلت إلّا بالتي علمت سعد؟

وإلى قوله (٢) :

لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة ...

حتى يسلّمها إليه عداه

وإلى قوله (٣) :

فيا من لديه ، أنّ كلّ امرئ له ...

نظير ، وإن حاز الفضائل ، هل له؟

وما يحكى عن اليهود ، في قوله عز وعلا : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(٤) ادعوا على مجرى عادتهم في الكذب ، وأن كونهم مصلحين ، أمر ظاهر مكشوف لا سترة به ، ولذلك أكد الأمر جل وعلا ، في تكذيبهم ، حيث قال : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)(٥) فجاء بالجملة اسمية ، ومعرفة الخبر باللام ، وموسطة الفصل ، ومؤكدة بأن ومصدرة بحرف التنبيه.

وإذ قد ذكرنا القصر فيما بين المسند والمسند إليه بالطرق التي سمعت ، فقد حان أن نذكره فيما بين غيرهما : كالفاعل والمفعول ، وكالمفعولين ، وكذي الحال والحال ، ونحن نذكره في ذلك بطريق : النفي والاستثناء ، وطريق (إنما) دون ما سواهما ، فلهما هناك عدة اعتبارات تراعى ، فلا بد من تلاوتها عليك.

__________________

(١) أورده القزوينى في الإيضاح ص (٢٢١) والبيت للحطيئة.

(٢) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٩٩) بلا عزو.

(٣) لم أعثر عليه.

(٤) سورة البقرة الآية ١١.

(٥) سورة البقرة الآية ١٢.

٤٠٨

القصر بين الفاعل والمفعول :

اعلم أنك إذا أردت قصر الفاعل على المفعول ، قلت : ما ضرب زيد إلا عمرا ، على معنى : لم يضرب غير عمرو ، وإذا أردت قصر المفعول على الفاعل قلت : ما ضرب عمرا إلا زيد ، على معنى : لم يضربه غير زيد.

والفرق بين المعنيين واضح ، وهو أن عمرا في الأول لا يمتنع أن يكون مضروب غير زيد ، ويمتنع في الثاني ، وأن زيدا في الثاني لا يمتنع أن يكون ضاربا غير عمرو ، ويمتنع في الأول ؛ ولك أن تقول في الأول : ما ضرب إلّا عمرا زيد ، وفي الثاني : ما ضرب إلّا زيد عمرا ، فتقدم وتؤخر ، إلا أن هذا التقديم والتأخير ، لما استلزم قصر الصفة قبل تمامها على الموصوف ، قل دوره في الاستعمال ؛ لأن الصفة المقصورة على عمرو في قولنا : ما ضرب زيد إلّا عمرا ، هي ضرب زيد ، لا الضرب مطلقا ، والصفة المقصورة على زيد في قولنا : ما ضرب عمرا إلّا زيد ، وهي الضرب لعمرو.

القصر بين المفعولين :

وإذا أردت قصر أحد المفعولين على الآخر ، في نحو : كسوت زيدا جبة ، قلت في قصر زيد على الجبة ، ما كسوت زيدا إلا جبة ، أو ما كسوت إلا جبة زيدا ؛ وفي قصر الجبة على زيد : ما كسوت جبة إلا زيدا ، أو ما كسوت إلا زيدا جبة.

وفي نحو : ظننت زيدا منطلقا ، تقول في قصر زيد على الانطلاق : ما ظننت زيدا إلا منطلقا ، وما ظننت إلا منطلقا زيدا ، وفي قصر الانطلاق على زيد : ما ظننت منطلقا إلا زيدا ، وما ظننت إلا زيدا منطلقا.

القصر بين ذي الحال والحال :

وإذا أردت قصر ذي الحال على الحال ، قلت : ما جاء زيد إلا راكبا ، أو : ما جاء إلا راكبا زيد ، وفي قصر الحال على ذي الحال : ما جاء راكبا إلا زيد ، أو : ما جاء إلّا زيد راكبا.

مستلزمات إلا :

والأصل في جميع ذلك ، هو أن (إلا) في الكلام الناقص تستلزم ثلاثة أشياء : أحدها

٤٠٩

المستثنى منه ، لكون (إلا) للإخراج ، واستدعاء الإخراج مخرجا منه.

وثانيها : العموم في المستثنى منه ؛ لعدم المخصص ، وامتناع ترجيح أحد المتساويين ، لذلك ترانا في علم النحو نقول : تأنيث الضمير في كانت ، في قراءة أبي جعفر المدني : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً)(١) بالرفع وفي (ترى) المبني للمفعول في قراءة الحسن : فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم (٢) برفع مساكنهم وفي (بقيت) ، في بيت ذي الرمة (٣) :

وما بقيت إلا الضّلوع الجراشع

للنظر إلى ظاهر اللفظ ، والأصل التذكير لاقتضاء المقام معنى شيء من الأشياء.

وثالثها : مناسبة المستثنى منه للمستثنى في جنسه ووصفه ، وأعني بصفته كونه : فاعلا أو مفعولا ، أو ذا حال أو حالا ، أو ما يرى كيف يقدر المستثنى منه في نحو : ما جاءني إلا زيد ، مناسبا له في الجنس والوصف الذي ذكرت ، نحو : ما جاءني أحد إلا زيد ، وفي : ما رأيت إلا زيدا ، نحو : ما رأيت أحدا إلا زيدا ، وفي ما جاء زيد إلّا راكبا ، نحو ما جاء زيد كائنا على حال من الأحوال إلا راكبا. وهذه المستلزمات توجب جميع تلك الأحكام.

بيان ذلك أنك إذا قلت : ما ضرب زيد إلا عمرا ، لزم أن يقدر قبل : (إلا) ، مستثنى منه ليصح الإخراج منه ، ولزم أن يقدر عاما ، لعدم المخصص ، ولزم أن يقدر مناسبا للمستثنى الذي هو عمرو في جنسه ووصفه ، وحينئذ يمتنع أن يكون صورة الكلام إلا

__________________

(١) سورة يس الآية ٢٩ ، ٥٣.

(٢) سورة الأحقاف الآية ٢٥. وقرأ عاصم وحمزة (يرى) بياء مضمومة و (مساكنهم) بالرفع ، وقرأ الباقون (ترى) بتاء مفتوحة و (مساكنهم) بالنصب. وانظر اختلاف الإعراب في القراءات السبع د / موسى مصطفى العبيدان ص ٨٦ ، ٨٧.

(٣) أورده القزوينى في الإيضاح ص (٢٢٤) وعزاه لذى الرمة. وصدره طوى النخز والأجراز ما في غروضها.

٤١٠

هكذا ، ما ضرب زيد أحدا إلا عمرا ، واستلزام هذا الكلام قصر الفاعل على عمرو المفعول ضروري ، وكذا إذا قلت : ما ضرب إلا عمرا زيد ، وإذا قلت : ما ضرب عمرا إلا زيد ، لزم تقدير مستثنى منه من جنس المستثنى ، وبوصف العموم وبوصف المستثنى ، وحينئذ يكون صورة الكلام هكذا : ما ضرب عمرا أحد إلا زيد ، ويلزم ضرورة قصر المفعول على زيد الفاعل.

وإذا قلت : ما كسوت زيدا إلا جبة ، كان التقدير : ما كسوت زيدا ملبسا إلا جبة ، فيكون زيد مقصورا على الجبة ، لا يتعداها إلى ملبس آخر ، وإذا قلت : ما كسوت جبة إلا زيدا ، كان التقدير : ما كسوت جبة أحدا إلا زيدا ، فتكون الجبة مقصورة على زيد لا تتعداه إلى من عداه ، وإذا قلت : ما جاء راكبا إلا زيد ، كان التقدير : ما جاء راكبا أحد ، إلا زيد ، وإذا قلت : ما جاء زيد إلا راكبا ، كان التقدير : ما جاء زيد كائنا على حال من الأحوال إلا راكبا ، وإذا قلت : ما اخترت رفيقا إلا منكم : كان التقدير : ما اخترت رفيقا من جماعة من الجماعات إلا منكم ، وإذا قلت : ما اخترت منكم إلا رفيقا ، كان التقدير : ما اخترت منكم أحدا متصفا بأي وصف كان إلا رفيقا ، وكذا إذا قلت : ما اخترت إلا رفيقا منكم ، بدل أن تقول : ما اخترت إلا منكم رفيقا ، لم يعر عن فرق. وهذا يطلعك على الفرق بين ما قال الشاعر (١) :

لو خيّر المنبر فرسانه ...

ما اختار إلّا منكم فارسا

وبين ما إذا قلت : ما اختار إلّا فارسا منكم.

حكم إنما :

وإذا عرفت هذا في النفي والاستثناء فاعرفه بعينه في (إنما) لا تصنع شيئا غير ما أذكره لك ، وامض في الحكم غير مدافع ، نزل القيد الأخير من الكلام الواقع بعد (إنما) منزلة المستثنى ، فقدر نحو : إنما يضرب زيد ، تقدير : ما يضرب إلا زيد ، ونحو : إنما يضرب زيد عمرا يوم الجمعة ، تقدير : ما يضرب زيد عمرا إلا يوم الجمعة ، ونحو : إنما

__________________

(١) أورده الجرجاني في الإشارات ص (٩٧) وعزاه للحميرىّ ، والقزوينى في الإيضاح ص (٢٢٥).

٤١١

يضرب زيد عمرا يوم الجمعة في السوق ، تقدير ما يضرب زيد عمرا يوم الجمعة إلا في السوق. وكذلك إذا قلت : إنما زيد يضرب ، فقدره تقدير : ما زيد إلا يضرب ، ولا تجوز معه من التقديم والتأخير ما جوزته مع ما وإلا ، ولا تقسه في ذلك عليه ، فذاك أصل في باب القصر ، وهذا كالفرع عليه.

والتقديم والتأخير هناك غير ملبس ، وههنا مؤد إلى الإلباس ، وكذلك قدر : إنما هذا لك ، تقدير : ما هذا إلا لك ، وإنما لك هذا ، تقدير : مالك إلا هذا ، حتى إذا أردت الجمع بين : (إنما) وطريق العطف ؛ فقل : إنما هذا لك لا لغيرك ، و: إنما لك هذا لا ذاك ، وإنما يأخذ زيد لا عمرو ، و: إنما زيد يأخذ لا يعطي ، ومن هذا يعثر على الفرق بين : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(١) وبين : إنما يخشى العلماء من عباده الله ، بتقديم المرفوع على المنصوب ، فالأول يقتضي انحصار خشية الله على العلماء ، والثاني يقتضي انحصار خشية العلماء على الله.

حكم غير :

واعلم أن حكم : (غير) ، حكم (إلا) في إفادة القصرين ، وامتناع مجامعة لا العاطفة ، تقول : ما جاءني غير زيد ، إما إفرادا ، لمن يقول : جاء زيد مع جاء آخر ، وإما قلبا لمن يقول : ما جاء زيد ، وإنما جاء مكانه إنسان آخر ، ولا تقول : ما جاءني غير زيد لا عمرو.

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٢٨.

٤١٢

خاتمة

واعلم أني مهدت لك في هذا العلم قواعد ، متى بنيت عليها ، أعجب كل شاهد بناؤها ، واعترف لك بكمال الحذق في صناعة البلاغة أبناؤها ، ونهجت لك مناهج ، متى سلكتها ، أخذت بك عن المجهل المتعسف إلى سواء السبيل ، وصرفتك عن الآجن المطروق إلى النمير الذي هو شفاء الغليل ، ونصبت لك أعلاما ، متى انتحيتها أعثرتك على ضوال منشودة ، وحشدت منها ما ليست عند أحد بمحشودة ، ومثلت لك أمثلة متى حذوت عليها ، أمنت العثار في مظان الزلل ، وأبت أن تتصرف فيما تثني إليه عنانك يد الخطل ، ثم إذا كنت ممن ملك الذوق إلى الطبع ، وتصفحت كلام رب العزة ، أطلعتك على ما يوردك هناك موارد الهزة ، وكشفت لنور بصيرتك عن وجه إعجازه القناع ، وفصلت لك ما أجمله إيثار أولئك المصاقع على معارضته القراع ، فإن ملاك الأمر في علم المعاني هو الذوق السليم ، والطبع المستقيم ، فمن لم يرزقهما ، فعليه بعلوم أخر ، وإلا لم يحظ بطائل مما تقدم وما تأخر.

إذا لم تكن للمرء عين صحيحة ...

فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر (١)

هذا وإن الخبر ، كثيرا ما يخرج لا على مقتضى الظاهر ، ويكون المراد به الطلب ، فسيذكر ذلك في آخر القانون الثاني بإذن الله تعالى.

__________________

(١) البيت من الطويل ولم أعثر عليه

٤١٣

القانون الثاني

من علم المعاني وهو قانون الطلب

مقدمة :

قد سبق أن حقيقة الطلب حقيقة معلومة مستغنية عن التحديد ، فلا نتكلم هناك ، وإنما نتكلم في مقدمة يسند عليها المقام ، من بيان ما لا بد للطلب ، ومن تنوعه ، والتنبيه على أبوابه في الكلام ، وكيفية توليدها لما سوى أصلها.

وهي : أن لا ارتياب في أن الطلب من غير تصور إجمالا أو تفصيلا لا يصح ، وأنه يستدعي مطلوبا لا محالة ، ويستدعي ، فيما هو مطلوبه أن لا يكون حاصلا وقت الطلب ، وليكن هذا المعنى عندك ، فسنفرع عليه.

والطلب إذا تأملت نوعان : نوع لا يستدعي في مطلوبه إمكان الحصول ، وقولنا : لا يستدعي أن يمكن أعم من قولنا : يستدعي أن لا يمكن.

ونوع يستدعي فيه إمكان الحصول.

والمطلوب بالنظر إلى أن لا واسطة بين الثبوت والانتفاء ، يستلزم انحصاره في قسمين : حصول ثبوت متصور ، وحصول انتفاء متصور ، وبالنظر إلى كون الحصول ذهنيا وخارجيا ، يستلزم انقساما إلى أربعة أقسام : حصولين في الذهن ، وحصولين في الخارج ، ثم إذ لم يزد الحصول في الذهن على التصور والتصديق ، لم يتجاوز أقسام المطلوب ستة : حصول تصور أو تصديق في الذهن ، وحصول انتفاء تصور أو تصديق فيه ، وحصول ثبوت تصور أو انتفائه في الخارج ، وطلب حصول التصور في الذهن ، لا يرجع إلا إلى تفصيل مجمل ، أو تفصيل مفصل بالنسبة.

ووجه ذلك : أن الإنسان إذا صح منه الطلب بأن أدرك بالإجمال لشيء ما ، أو بالتفصيل بالنسبة إلى شيء ما ، ثم طلب حصولا لذلك في الذهن ، وامتنع تطلب الحاصل ، توجه إلى غير حاصل ، وهو تفصيل المجمل أو تفصيل المفصل بالنسبة.

٤١٤

النوع الأول :

أما النوع الأول من الطلب : فهو التمني ، أو ما ترى كيف تقول ، ليت زيدا جاءني ، فتطلب كون غير الواقع فيما مضى واقعا فيه ، مع حكم العقل بامتناعه ، أو كيف تقول : ليت الشباب يعود ، فتطلب عود الشباب ، مع جزمك بأنه لا يعود ، أو كيف تقول : ليت زيدا يأتيني ، أو ليتك تحدثني ، فتطلب إتيان زيد وحديث صاحبك في حال لا تتوقعهما ولا لك طماعية في وقوعهما ، إذ لو توقعت أو طمعت لاستعملت : لعل أو عسى.

النوع الثاني :

وأما الاستفهام والأمر والنهي والنداء فمن النوع الثاني.

والاستفهام لطلب حصول في الذهن ، والمطلوب حصوله في الذهن ، إما أن يكون حكما بشيء على شيء أو لا يكون.

والأول هو التصديق ، ويمتنع انفكاكه من تصور الطرفين ، والثاني هو التصور ، ولا يمتنع انفكاكه من التصديق ، ثم المحكوم به ، إما أن يكون نفس الثبوت أو الانتفاء ، كما تقول : الانطلاق ثابت أو متحقق ، أو موجود كيف شئت أو : ما الانطلاق ثابتا ، فتحكم على الانطلاق بالثبوت أو الانتفاء بالإطلاق ، أو ثبوت كذا أو انتفاء كذا بالتقييد ، كما تقول : الانطلاق قريب ، أو ليس بقريب ، فتحكم على الانطلاق أو بثبوت القرب له أو بانتفائه عنه ، لا مزيد للتصديق على هذين النوعين ، والنوع الأول لا يحتمل الطلب إلا في التصديق ، والمسند إليه لكون المسند فيه نفس الثبوت والانتفاء ، مستغنيا عن الطلب. والثاني يحتمله في التصديق وطرفيه.

وأما الأمر ، لا النهي والنداء ، فلطلب الحصول في الخارج ، إما حصول انتفاء متصور ، كقولك في النهي للمتحرك : لا تتحرك ، فإنك تطلب بهذا الكلام انتفاء الحركة في الخارج ، وإما حصول ثبوته ، كقولك في الأمر : قم ، وفي النداء : يا زيد ، فإنك تطلب بهذين الكلامين حصول قيام صاحبك وإقباله عليك في الخارج ، والفرق بين الطلب في الاستفهام وبين الطلب في الأمر والنهي والنداء واضح ، فإنك في الاستفهام تطلب ما هو في الخارج ؛ ليحصل في ذهنك نقش له مطابق ، وفيما سواه

٤١٥

تنقش في ذهنك ثم تطلب أن يحصل له في الخارج مطابق ، فنقش الذهن في الأول تابع ، وفي الثاني متبوع.

وتوفية هذه المعاني حقها تستدعي مجالا غير مجالنا هذا ، فلنكتف بالإشارة إليها ، ومجرد التنبيه عليها ، وإذ قد عثرت على ما رفع لك ، فبالحري أن نبين كيف يتفرع عن هذه الأبواب الخمسة : التمني والاستفهام والأمر والنهي والنداء ما يتفرع على سبيل الجملة ، إذ لا بد منه. ثم الفصول الآتية في علم البيان ، لتلاوتها عليك ، ما تترقب من التفصيل ، هنالك ضمناه.

فنقول : متى امتنع إجراء هذه الأبواب على الأصل ، تولد منها ما ناسب المقام ، كما إذا قلت لمن همك همه : ليتك تحدثني ، امتنع إجراء التمني ، والحال ما ذكر على أصله ، فتطلب الحديث من صاحبك غير مطموع في حصوله ، وولد بمعونة قرينة الحال معنى السؤال ، أو كما إذا قلت : هل لي من شفيع ، في مقام لا يسع إمكان التصديق بوجود الشفيع ، امتنع إجراء الاستفهام على أصله ، وولد بمعونة قرائن الأحوال معنى التمني ، وكذا إذا قلت : لو يأتيني زيد فيحدثني ، بالنصب ، طالبا لحصول الوقوع فيما يفيد" لو" من تقدير غير الواقع واقعا ، ولد التمني وسبب توليد لعل معنى التمني في قولهم : لعلي سأحج فأزورك ، بالنصب هو بعد المرجو عن الحصول ، أو كما إذا قلت لمن تراه لا ينزل : ألا تنزل فتصيب خيرا ، امتنع أن يكون المطلوب بالاستفهام التصديق بحال نزول صاحبك لكونه حاصلا ، ويوجه بمعونة قرينة الحال إلى نحو : ألا تحب النزول مع محبتنا إياه ، وولد معنى العرض ، كما إذا قلت لمن تراه يؤذي الأب : أتفعل هذا؟ امتنع توجه الاستفهام إلى فعل الأذى ، لعلمك بحاله ، وتوجه إلى ما لا تعلم ، مما يلابسه ، من نحو : أتستحسن؟. وولد الإنكار والزجر ، أو كما إذا قلت لمن يهجو أباه ، مع حكمك بأن هجو الأب ليس شيئا غير هجو النفس : هل تهجو إلا نفسك؟ أو غير نفسك؟ امتنع منك إجراء الاستفهام على ظاهره ، لاستدعائه أن يكون الهجو احتمل عندك توجها إلى غيره ، وتولد منه بمعونة القرينة ، الإنكار والتوبيخ ، أو كما إذا قلت لمن يسيء الأدب : ألم أؤدب فلانا؟ امتنع أن تطلب العلم بتأديبك فلانا ، وهو حاصل ، وتولد منه الوعيد والزجر ، أو كما إذا قلت لمن بعثت إلى مهم وأنت تراه عندك : أما ذهبت بعد؟ امتنع الذهاب عن توجه الاستفهام إليه ، لكونه معلوم الحال ، واستدعى شيئا مجهول

٤١٦

الحال مما يلابس الذهاب ، مثل : أما يتيسر لك الذهاب؟ وتولد منه الاستبطاء والتحضيض ، أو كما إذا قلت لمن يتصلف وأنت تعرفه : ألا أعرفك؟ امتنعت معرفتك به عن الاستفهام ، وتوجه إلى مثل : أتظنني لا أعرفك؟ وتولد الإنكار والتعجيب ، أو كما إذا قلت لمن جاءك : أجئتني؟ امتنع المجيء عن الاستفهام ، وولد بمعونة القرينة التقرير ، أو كما إذا قلت ، لمن يدعي أمرا ليس في وسعه : افعله ، امتنع أن يكون المطلوب بالأمر ، حصول ذلك الأمر في الخارج بحكمك عليه بامتناعه ، وتوجه إلى مطلوب ممكن الحصول ، مثل : بيان عجزه ، وتولد التعجيز والتحدي ، أو كما إذا قلت لعبد شتم مولاه ، وأنك أدبته حق التأديب ، أو أوعدته على ذلك أبلغ إيعاد : اشتم مولاك ، امتنع أن يكون المراد الأمر بالشتم ، والحال ما ذكر ، وتوجه بمعونة قرينة الحال إلى نحو : اعرف لازم الشتم ، وتولد منه التهديد ، أو كما إذا قلت لعبد لا يمتثل أمرك : لا تمثيل أمري ، امتنع طلب ترك الامتثال : لكونه حاصلا ، وتوجه إلى غير حاصل ، مثل : لا تكترث لأمري ، ولا تبال به ، وتولد منه التهديد ، أو كما إذا قلت ، لمن أقبل عليك يتظلم : يا مظلوم ، امتنع توجيه النداء إلى طلب الإقبال لحصوله ، وتوجه إلى غير حاصل ، مثل : زيادة الشكوى بمعونة قرينة الحال ، وتولد منه الإغراء ، ولنقتصر فمن لم يستضىء بمصابح لم يستضيء بإصباح ، ناقلين الكلام إلى التصفح لأبواب الطلب.

٤١٧

الباب الأول

في التمني

اعلم أن الكلمة الموضوعة للتمني هي : ليت ، وحدها. وأما (لو) و (هل) في إفادتهما معنى التمني فالوجه ما سبق.

وكأن [الحروف](١) المسماة بحروف التنديم والتحضيض ، وهي : (هلا) ، و (ألا) ، و (لو لا) ، و (لوما) ، مأخوذة منهما مركبة مع (لا) و (ما) المزيدتين ، مطلوبا بالتزام التركيب التنبيه على إلزام : هل ، ولو ، معنى التمني. فإذا قيل : هلا أكرمت زيدا ، أو ألا بقلب الهاء همزة ، أو لو لا ، أو لو ما ، فكأن المعنى : ليتك أكرمت زيدا ، متولدا منه معنى التنديم ، وإذا قيل : هلا تكرم زيدا ، أو لو لا ، فكأن المعنى : ليتك تكرمه ، متولدا منه معنى السؤال.

الباب الثاني

في الاستفهام

للاستفهام كلمات موضوعة وهي : الهمزة ، وأم ، وهل ، وما ، ومن ، وأي ، وكم ، وكيف ، وأين ، وأنى ، ومتى ، وأيان ، بفتح الهمزة وبكسرها ، وهذه اللغة ، أعني كسر همزتها ، تقوي أيان ، أن يكون أصلها (أي) أو (أن).

وهذه الكلمات ثلاثة أنواع : أحدها : يختص طلب حصول التصور ؛ وثانيها : يختص طلب حصول التصديق ، وثالثها لا يختص.

وقد نبهت فيما سبق أن طلب التصور مرجعه إلى تفصيل المجمل أو إلى تفصيل المفصل بالنسبة ، وإذا تأملت التصديق وجدته راجعا إلى تفصيل المجمل أيضا ، وهو طلب تعين الثبوت أو الانتفاء في مقام التردد ، والهمزة من النوع الأخير ، تقول في طلب

__________________

(١) في (غ): (المعروف).

٤١٨

التصديق بها : أحصل الانطلاق؟ : وأزيد منطلق؟ وفي طلب التصور بها في طرف المسند إليه : أدبس (١) في الإناء أم عسل؟ وفي طرف المسند : أفي الخابية (٢) دبسك ، أم في الزق (٣)؟ فأنت في الأول تطلب تفصيل المسند إليه ، وهو المظروف ، وفي الثاني تطلب تفصيل المسند ، وهو الظرف.

و (هل) : من النوع الثاني لا تطلب به إلا التصديق ، كقولك : هل حصل الانطلاق؟ و: هل زيد منطلق؟ ولاختصاصه بالتصديق امتنع أن يقال : هل عندك عمرو أم بشر؟ باتصال : أم ، دون : أم عندك بشر؟ بانقطاعها ، وقبح : هل رجل عرف؟ وهل زيد عرفت؟ دون هل زيدا عرفته؟ ولم يقبح : أرجل عرف؟ وأزيدا عرفت؟ لما سبق أن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل ، فبينه وبين (هل) تدافع ؛ وإذا استحضرت ما سبق من التفاصيل في صور التقديم ، عساك أن تهتدي لما طويت ذكره أنا.

ولا بد (لهل) من أن يخصص الفعل المضارع بالاستقبال ، فلا يصح أن يقال : هل تضرب زيدا وهو أخوك؟ على نحو : أتضرب زيدا وهو أخوك؟ في أن يكون الضرب واقعا في الحال ، ولكون (هل) لطلب الحكم بالثبوت أو الانتفاء ، وقد نبهت ، فيما قبل ، على أن الإثبات والنفي لا يتوجهان إلى الذوات ، وإنما يتوجهان إلى الصفات ، ولاستدعائه التخصيص بالاستقبال لما يحتمل ذلك ، وأنت تعلم أن احتمال الاستقبال إنما يكون لصفات الذوات لا لأنفس الذوات ؛ لأن الذوات من حيث هي هي ذوات ، فيما مضى ، وفي الحال وفي الاستقبال ، استلزم ذلك مزيد اختصاص لها دون الهمزة ، بما يكون كونه زمانيّا ، أظهر ، كالأفعال.

__________________

(١) الدّبس : عسل التمر وعصارته.

(٢) الخابية : الحبّ ، وهى الجرة العظيمة.

(٣) الزق : السقاء.

٤١٩

ولذلك كان قوله عزوجل : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ)(١) أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا : فهل تشكرون ، أو : فهل أنتم تشكرون ، أو : أفأنتم شاكرون ، لما أن : هل تشكرون ، مفيد للتجدد ، و: هل أنتم تشكرون ، كذلك ، و: (أفأنتم شاكرون) ، وإن كان ينبىء عن عدم التجدد ، لكنه دون : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) لما ثبت أن (هل) أدعى للفعل من الهمزة ، فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد ، ولكون (هل) أدعى للفعل من الهمزة ، لا يحسن : هل زيد منطلق؟ إلا من البليغ ، كما لا يحسن نظير قوله (٢) :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

من كل أحد ، على ما سبق في موضعه.

والخطب مع الهمزة في نحو : أزيد منطلق؟ أهون ، وأما (ما) و (من) و (أي) و (كم) و (أين) و (كيف) و (أنّى) و (متى) و (أيان) ، فمن النوع الأول من طلب حصول التصور على تفصيل بينهن ، لا بد من إيقافك عليه ، ليصح منك تطبيقها في الكلام على ما يستوجب ، فنقول :

أما (ما) : فللسؤال عن الجنس ، تقول : ما عندك؟ بمعنى : أي أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه : إنسان أو فرس أو كتاب أو طعام ؛ وكذلك تقول : ما الكلمة ، وما الاسم ، وما الفعل ، وما الحرف ، وما الكلام وفي التنزيل : (فَما خَطْبُكُمْ)(٣) بمعنى أي أجناس الخطوب خطبكم ؛ وفيه : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)(٤) أي : أي من في الوجود تؤثرونه في العبادة؟ أو عن الوصف ، تقول : ما زيد وما عمرو؟ وجوابه الكريم أو الفاضل ، وما

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٨٠.

(٢) البيت للحارث بن نهيك ، وسبق تخريجه وتمامه : ومختبط مما تطيح الطوائح

(٣) سورة الحجر ، الآية : ٥٧ وسورة الذاريات ، الآية : ٣١.

(٤) سورة البقرة ، الآية ١٣٣.

٤٢٠