مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

ومما يلحق بالتجنيس نظير قوله عزوجل : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)(١)(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ)(٢) وكثيرا ما يلحق بالتجنيس الكلمتان الراجعتان إلى أصل واحد في الاشتقاق ، مثل ما في قوله عز اسمه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ)(٣) وقوله : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ)(٤).

ومن جهات الحسن رد العجز إلى الصدر ، وهو أن يكون إحدى الكلمتين المتكررتين ، أو المتجانستين ، أو الملحقتين بالتجانس ، في آخر البيت ، والأخرى قبلها في أحد المواضع الخمسة من البيت وهي : صدر المصراع الأول ، وحشوه ، وآخره ، وصدر المصراع الثاني ، وحشوه ، كما إذا قلت :

مشتهر في علمه وحلمه ...

وزهده وعهده مشتهر

في علمه مشتهر وحلمه ...

وزهده وعهده مشتهر

في علمه وحلمه وزهده ...

مشتهر وعهده مشتهر

في علمه وحلمه وزهده ...

وعهده مشتهر مشتهر

والأحسن في هذا النوع أن لا يرجع الصدر والعجز إلى التكرار. ومن جهات الحسن القلب كقولك : خ خ حسامه فتح لأوليائه حتف لأعدائه. وأنه يسمى : مقلوب الكل ، أو كقوله : خ خ اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ، وأنه يسمى : مقلوب البعض ، وإذا وقع أحد المقلوبين قلب الكل في أول البيت والثاني في آخره سمي : مقلوبا مجنحا ، وإذا وقع قلب الكل في كلمتين أو أكثر شعرا أو غير شعر كقولك : خ خ كيل مليك ،

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ١٦٨.

(٢) سورة الرحمن الآية ٥٤.

(٣) سورة الروم الآية ٤٣.

(٤) سورة الواقعة ، الآية ٨٩.

٥٤١

وخ خ خان إذا ناخ ، وقوله (١) :

آس أرملا إذا عرا ...

وارع إذا المرء أسا

مقلوبا مستويا.

ومن جهات الحسن [الأسجاع](٢) : وهي في النثر ، كما في القوافي في الشعر ، ومن جهاته الفواصل القرآنية ، والكلام في ذلك ظاهر.

ومن جهات الحسن الترصيع وهو أن تكون الألفاظ مستوية الأوزان متفقة الأعجاز أو متقاربتها ، كقوله عز اسمه : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٣) وقوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(٤) وكقوله : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ* وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٥) وأصل الحسن في جميع ذلك أن تكون الألفاظ توابع للمعاني لا أن تكون المعاني لها توابع ، أعني : أن لا تكون متكلفة ، ويورد الأصحاب هاهنا أنواعا ، مثل : كون الحروف منقوطة أو غير منقوطة ، أو البعض منقوطا والبعض غير منقوط بالسوية ، فلك أن تستخرج من هذا القبيل ما شئت ، وتلقب كلا من ذلك بما أحببت.

خاتمة :

وإذ قد تحققت أن علم المعاني والبيان هو : معرفة خواص تراكيب الكلام ، ومعرفة صياغات المعاني ، ليتوصل بها إلى توفية مقامات الكلام حقها ، بحسب ما يفي به قوة

__________________

(١) أورده فخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز ص ١٤١ وعزاه للحريرى ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ٢٠٢. وعزاه للحريرى أيضا.

(٢) في (غ) والأسجاع.

(٣) سورة الغاشية ، الآيتان : ٢٥ ـ ٢٦.

(٤) سورة الانفطار ، الآيتان : ١٣ ـ ١٤.

(٥) سورة الصافات الآيتان : ١١٧ ـ ١١٨.

٥٤٢

ذكائك ، وعندك علم أن مقام الاستدلال بالنسبة إلى سائر مقامات الكلام جزء واحد من جملتها ، وشعبة فردة من دوحتها ، علمت أن تتبع تراكيب الكلام الاستدلالي ، ومعرفة خواصها ، مما يلزم صاحب علم المعاني والبيان ، وحين انتصبنا لإفادته لزمنا أن لا نضن بشيء هو من جملته ، وأن نستمد الله التوفيق في تكملته.

[ولله الحمد أولا وآخرا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم](١).

__________________

(١) زيادة من (غ).

٥٤٣

علم الاستدلال

أو

علم خواص تراكيب الكلام

علم الاستدلال

توطئة :

الكلام إلى تكملة علم المعاني وهي تتبع خواص تراكيب الكلام في الاستدلال ولو لا إكمال الحاجة إلى هذا الجزء من علم المعاني ، وعظم الانتفاع به لما اقتضانا الرأي أن نرخي عنان القلم فيه ، علما منّا بأن من أتقن أصلا واحدا من علم البيان ، كأصل التشبيه أو الكناية أو الاستعارة ، ووقف على كيفية مساقه لتحصيل المطلوب به ، أطلعه ذلك على كيفية نظم الدليل ، وكأني بكلامي هذا ، [وأين أنت عن تحققه](١) ، أعالج من تصديقك به ، ويقينك لديه ، بابا مقفلا لا يهجس في ضميرك سوى هاجس دبيبه ، فعل النفس اليقظى إذا أحست بنبأ من وراء حجاب ؛ لكنا إذا أطلعناك على مقصود الأصحاب من هذا الجزء على التدريج ، مقررين لما عندنا من الآراء في مظان الاختلاف بين المتقدمين منهم والمتأخرين ، رجعنا [في](٢) هذه المقالة بإذن الله تعالى محققين ، ورفعنا إذ ذاك الحجاب الذي يواري عنك اليقين.

اعلم أن الكلام في الاستدلال يستدعي تقديم الكلام في الحد لافتقار الاستدلال ، كما ستقف عليه ، إلى معرفة أجزائه ومعرفة ما بينها من الملازمات والمعاندات ، والذي يرشد إلى ذلك هو الحد ، فلا غنى لصاحب الاستدلال عن أن يكون صاحب الحد ، ونحن على أن نورد ذلك في [قسمين](٣) : أحدهما في ذكر الحد وما يتصل به ، وثانيهما : في ذكر الاستدلال وما يتصل به.

__________________

(١) من (غ) و (د) وفي (ط): (إن أنت تحققه).

(٢) في (غ ، د) إلى.

(٣) في (غ ، د) فصلين.

٥٤٤

[القسم](١) الأول

من تكملة علم المعاني في الحد وما يتصل به.

الحد : عندنا دون جماعة من ذوي التحصيل ، عبارة عن تعريف الشيء بأجزائه ، أو بلوازمه ، أو بما يتركب منهما ، تعريفا جامعا مانعا. ونعني بالجامع ، كونه : متناولا لجميع أفراده إن كانت له أفراد ، وبالمانع ، كونه آبيا دخول غيره فيه. فإن كان ذلك الشيء حقيقة من الحقائق ، مثل : حقيقة الحيوان والإنسان والفرس ، وقع تعريفا للحقيقة ، وإن لم يكن مثل : العنقاء أو مثل : المرسن ، وقع تفصيلا للفظ الدال عليه بالإجمال. وكثيرا ما نغير العبارة فنقول : الحد هو وصف الشيء وصفا مساويا ، ونعني : بالمساواة ، أن ليس فيه زيادة تخرج فردا من أفراد الموصوف ، ولا نقصان يدخل فيه غيره. فشأن الوصف هذا يكثر الموصوف بقلته ، ويقلله بكثرته ، ولذلك يلزمه الطرد والعكس. فامتناع الطرد علامة النقصان ، وامتناع العكس علامة الزيادة ، وصحتهما معا علامة المساواة ، والعبرة بزيادة الوصف ونقصانه ، الزيادة في المعنى والنقصان فيه ، لا تكثير الألفاظ وتقليلها في التعبير عن مفهوم واحد.

وهاهنا عدة اصطلاحات لذوي التحصيل ، لا بأس بالوقوف عليها ، وهي : أن الحقيقة إذا عرفت بجميع أجزائها ، سمي حدا تاما ، وهو أتم التعريفات ، وإذا عرفت ببعض أجزائها سمي : حدا ناقصا. وإذا عرفت بلوازمها سمي : رسما ناقصا. وإذا عرفت بما يتركب من أجزاء ولوازم سمي : رسما تاما.

ويظهر من هذا ، أن الشيء متى كان بسيطا امتنع تعريفه بالحد ، ولم يمتنع تعريفه بالرسم ، ولذلك يعد الرسم أعم ، كما يعد الحد أتم.

ولما كان المقصود من الحد هو التعريف ، لزم فيما يقدح في ذلك أن يحترز عنه ، فيحترز عن تعريف الشيء بنفسه ، مثل قول من يقول في تعريف الزمان : خ خ هو مدة الحركة ، والمدة هي الزمان.

__________________

(١) في (غ ، د) الفصل.

٥٤٥

وعن تعريفه بما لا يعرف إلا به ، مثل قول من يقول في تعريف الخبر : خ خ هو الكلام المحتمل للصدق والكذب ، ثم يعرف الصدق خ خ بأنه الخبر المطابق.

وعن تعريفه بما هو أخفى ، مثل قول من يقول في تعريف الصوت : خ خ هو كيفية تحدث من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع انضغاطا بعنف.

وعن تعريفه بما يساويه ، مثل قول من يقول في تعريف السواد : خ خ هو ما يضاد البياض.

وهاهنا عقدة وهي ؛ أنّا نعلم علما قطعيا أن تعريف المجهول بالمجهول ممتنع ، وأن لا بد من كون المعرف معلوما قبل المعرّف ، وذلك يستلزم امتناع طلب التعريف واكتساب شيء به ، يبين ذلك أن المذكور في الحد ، إما أن يكون نفس المحدود أو شيئا غيره ؛ إما داخلا في نفس المحدود أو خارجا عنه ، أو متركبا من داخل وخارج ؛ فإن كان نفس المحدود ، لزم تعريف المجهول بالمجهول ، ولزم كون الشيء معلوما قبل أن يكون معلوما ؛ وفي ذلك كونه معلوما مجهولا معا من حيث هو هو ؛ وإن كان شيئا غيره ، فذلك بأي اعتبار فرض من الاعتبارات الثلاثة : إما أن يكون له اختصاص بنفس المحدود ، أو لا يكون ؛ فإن لم يكن ، لزم من طلب التعريف به لذلك المحدود دون ما سواه طلب [ترجيح](١) أحد المتساويين ، وإنه محال ؛ وإن كان ، فذلك الاختصاص إن لم يكن معلوما للمخاطب لزم ما لزم في غير المختص ، وإن فرض معلوما للمخاطب ، ولا شبهة في أن الاختصاص نسبة لأحد طرفيه إلى ثانيه متأخرة عنهما من حيث هما هما ، نازلة منزلة التركيب بين أجزاء ، استدعى كونه معلوما كون طرفيه معلومين من قبل ؛ ولزم الدور إذ لا يكون علم بالمحدود ما لم يسبق علم بالحد المختص به ، ولا يكون علم بالمختص به ما لم يكن علم باختصاص له به ، ولا يكون علم باختصاص له به ما لم يسبق علم بطرفي الاختصاص ، لكن أحد طرفيه هو نفس المحدود.

وحل هذه العقدة هو : أن المراد بالتعريف أحد أمرين : إما تفصيل أجزاء المحدود ،

__________________

(١) في (د) : ترجح.

٥٤٦

وإما الإشارة إليه بذكر معنى يلزمه من غير دعوى ، فيكون مثل : الحاد في مقام التفصيل لجميع أجزاء المحدود ، مثل من يعمد إلى جواهر في خزانة الصور للمخاطب ، فينظمها قلادة بمرأى منه ولا يزيد.

وفي مقام الإشارة باللازم ، داخلا كان ذلك اللازم أو خارجا ، أو متركبا منهما ، مثل من يعمد إلى صورة هناك ، فيضع أصبعه عليها فحسب ، وهو السبب في أنا نقول : الحد لا يمنع ، إذ منعه ، إذا تأملت ما ذكرت ، جار مجرى أن تقول لمن بني عندك بناء : خ خ لا أسلم ، أما النقض فلازم ، لأن الحاد متى رجع إلى حد آخر يقدح في سلامة الحد المذكور ، قام ذلك منه مقام الهدم والنقض لما قد كان بني ، فاعرفه.

وفي الحد والرسم تفاصيل طوينا ذكرها حيث علمناها تمجها أذناك.

٥٤٧

[القسم](١) الثاني

علم الاستدلال

من تكملة علم المعاني في الاستدلال ؛ وهو اكتساب إثبات الخبر للمبتدأ ، أو نفيه عنه ، بوساطة تركيب جمل ، وقولي : بوساطة تركيب جمل ، تنبيه على ما عليه أصحاب هذا النوع من إباء أن يسموا الجملة الواحدة حجة واستدلالا ، مع اكتساب إثبات ونفي بوساطتها ، مما يلزم من اندراج حكم البعض في حكم الكل ، كاستلزام : كل إنسان حيوان بعض الأناسي حيوان لا محالة. ومن الانعكاس على بعض الخبر في الثبوت كاستلزام كل إنسان حيوان أن بعض الحيوان إنسان ، وعلى كله في النفي العنادي كاستلزام لا إنسان بحجر ، أن لا حجر بإنسان ، وغير العنادية أيضا عندنا وسنقرره مثل : لا إنسان بضحاك بالفعل ، ومن نفي النقيض : كاستلزام كل إنسان حيوان أن ما ليس بحيوان ليس بإنسان : وستسمع لهذه المعاني تفاصيل بإذن الله. وإذ قد نبهناك على ذلك فنقول :

اعلم أن الخبر متى لم يكن معلوم الثبوت للمبتدأ بالبديهة ، كما في نحو : الإنسان حيوان ، أو معلوم الانتفاء عنه بالبديهة ، كما في نحو : خ خ الإنسان ليس بفرس ، بل كان بين بين ، نحو قولنا : خ خ العالم حادث ، فإن الحدوث ليس بديهي الثبوت للعالم ، ولا بديهي الانتفاء عنه.

وإذا أردنا العلم أو الظن ، لزم المصير إلى ثالث يشهد لذلك ، لكن من المعلوم أن ذلك الثالث ، ما لم يكن ذا خبر عن الطرفين ، أعني ذا نسبة إليهما ، لم يصح أن يشهد في البين نفيا أو إثباتا ، وإذا شهد لم يفد العلم أو الظن ما لم تكن شهادته واجبة القبول أو راجحته ، فيظهر من هذا أن : لا بد في الاستدلال للمطلوب من جملتين لا أنقص ، إحداهما : لنسبة الثالث إلى المبتدأ ، مثل قولنا : خ خ العالم قرين حادث. والثانية : لنسبته إلى الخبر ، مثل قولنا : وخ خ كل قرين حادث حادث.

__________________

(١) في (د) الفصل.

٥٤٨

وأما الزيادة عليهما ، فمتى كان الثالث بين الانتساب إلى الطرفين فلا ، أي فلا يجب الزيادة ، أما إذا لم يكن بينه ، انقلب انتسابه ذلك مطلوبا ، وعادت الحالة الأولى جذعة في الافتقار إلى ثالث ، ولزم جملتان ، هناك ، متصفتان بنوع من البعد عن المطلوب الأصلي وهذا معنى قول أصحابنا في هذا النوع : أن الاستدلال مفتقر إلى جملتين قريبتين لا أزيد ولا أنقص.

ويظهر أيضا أن لا بد للجملتين من تركيب له خاصية في إيجاب قبول الشهادة أو ترجيحه ، وهو أن يكون ردها ، أو التوقف عندها ، بالنظر إلى وجه التركيب ، موقوفا على الجمع بين النقيضين.

وإذا عرفت هذا ، فاعلم أن جملتي الاستدلال : تارة تكونان خبريتين معا ، وتارة تكونان شرطيتين معا ، وتارة تختلفان خبرا وشرطا. وأنا أذكر جميع ذلك بتوفيق الله تعالى في ثلاثة أبواب :

٥٤٩

الباب الأول

في الاستدلال الذي جملتاه خبريتان

وإنما قدمت الخبرية على الشرطية ، لما سبق في علم المعاني ، أن الجملة الشرطية جملة خبرية مخصوصة ، والمخصوص متأخر عن المطلق.

اعلم أن تركيب الجملتين في الاستدلال ، لرجوع أجزائها إلى ثلاثة من بينها يتكرر واحد ، وهي : مبتدأ المطلوب ، وخبر المطلوب ، والثالث المتكرر ؛ لا يزيد على أربع صور في الوضع :

إحداها : أن يتكرر الثالث خبر المبتدأ المطلوب ، ومبتدأ لخبره.

وثانيتها : أن يتكرر خبرا لجزئي المطلوب.

وثالثتها : أن يتكرر مبتدأ لهما.

ورابعتها : أن يتكرر مبتدأ المبتدأ المطلوب ، وخبرا لخبره. وتسمى الجملة التي فيها مبتدأ المطلوب : السابقة ، تسمية لها بحكم المبتدأ ، أو بحكم ورودها سابقة على صاحبتها في وضع الدليل في الغالب ، كما سترى والتي فيها خبر المطلوب : اللاحقة ، تسمية لها بحكم الخبر ، وبحكم ورودها لاحقة للأولى في وضع الدليل.

والجمل المستعملة في الاستدلال لا تخرج عن أقسام أربعة : إما أن تكون مثبتة ، أو لا تكون ، وهي : المنفية ؛ وكل واحدة منهما : إما أن تكون كلية ، كقولنا في الإثبات : خ خ كل اسم كلمة ، وفي النفي : خ خ لا فعل بحرف ، أو خ خ لا تكون ، وهي البعضية ، كقولنا في الإثبات : خ خ بعض الكلم اسم ، وفي النفي : خ خ لا كل كلمة اسم ، أو خ خ بعض الكلم ليس باسم ، وتسمى هذه الجمل مستعملات ، لاستعمالها في الاستدلال ، وبناء الدلائل عليها.

وأما البعضية المتناولة للمعين كقولنا : خ خ هذا الإنسان شجاع ، أو خ خ زيد شجاع ، أو خ خ غلام عمرو شجاع ، ولنسمها : خ خ معينة ، فقلما يصار إليها في الدلائل ، فلا ندخلها في المستعملات. ولكنا لا نحظر عليك المصير إليها إن انتفعت بها.

٥٥٠

وأما الجملة التي لا تكون مبينة الحال في الكل وخلافه ، مثل قولنا : خ خ المؤمن غرّ كريم (١) ، سميت : خ خ مهملة ، ولاحتمالها الكل وخلافه إن استعملت لم تستعمل إلا في المتيقن ، وهو البعض. ولطلب اليقين في الاستدلال لا تترك الحقيقة فيه إلى المجاز ، ولا التصريح إلى الكناية ، فاعرف.

وتأليف الجملتين الواقع في كل صورة من الأربع لا يزيد على ستة عشر ضربا ، لوقوع السابقة إحدى الجمل الأربع ، ووقوع اللاحقة مع السابقة كيف كانت ، إحدى أربعها أيضا. ولهذه الصور الأربع ترتب ، فالصورة التي يجعل الثالث فيها خبر المبتدأ المطلوب ، ثم مبتدأ لخبره ، تقدم لكونها أقرب من الطبع ، كما ستقف على ذلك إذا استطلعت طلعها كلها ؛ والصورة التي وضعها جعل الثالث فيها خبر المبتدأ المطلوب ثم خبرا لخبره ، تجعل ثانية لها ، لموافقتها إياها في الوضع الأول من وضعي جملتها ؛ والصورة التي وضعها جعل الثالث فيها مبتدأ لمبتدأ المطلوب ، ثم مبتدأ لخبره ، تؤخر عن الثانية ، وتجعل ثالثة لموافقتها الأولى في الوضع الأخير من وضعي جملتها ؛ والصورة التي يجعل الثالث فيها مبتدأ لمبتدأ المطلوب ، ثم خبرا لخبره ، تؤخر عن الثانية والثالثة لمخالفتها الأولى في وضعي جملتها. وهذه الصور الأربع تشترك في أنه لا يتركب ، في أية كانت ، دليل من سابقة ولاحقة بعضيتين ولا منفيتين في درجة واحدة ، ولا سابقة منفية ولاحقة بعضية ، كما سنطلعك عليه إذا اكتسبت قدرا من الإلف.

الصورة الأولى :

وإذ قد عرفت ذلك ، فنقول : أما الصورة الأولى ، فإنها تستشهد في المطالب الأربعة ، وهي : الإثبات الكلي ، والإثبات البعضي ، والنفي الكلي ، والنفي البعضي ؛ وتشهد لذلك شهادة بينة لما أنه يجعل الثالث لازما لكل مبتدأ المطلوب أو لبعضه ، ثم يجعل خبر المطلوب لازما لكل الثالث ، فيحصل منه ثبوت خبر المطلوب لمبتدأه حصولا جليا ، لما أن لازم لازم الشيء لازم لذلك الشيء ، والألزم القدح في أحد اللزومين. إما

__________________

(١) بعض حديث صحيح تقدم تخريجه.

٥٥١

لزوم خبر المطلوب للثالث ، وإما لزوم الثالث لمبتدأ المطلوب. ويلزم الجمع بين النقيضين ، أو يجعل خبر المطلوب معاندا لكل الثالث ، فيحصل منه نفي خبر المطلوب عن مبتداه ، لما أن معاند لازم الشيء معاند لذلك الشيء والألزم القدح ، إما في إلزام الملازم ، وإما في عناد المعاند. ويلزم الجمع بين النقيضين.

أضرب الصورة الأولى :

وتركيب الدليل في هذه لا يزيد على أربعة أضرب :

أحدها : سابقة مثبتة كلية ولاحقة مثلها. والحاصل ثبوت كلي. كقولنا : خ خ كل جسم مؤلف ، وكل مؤلف ممكن ، يلزم منه : خ خ كل جسم ممكن.

وثانيها : سابقة مثبتة بعضية ولاحقة مثبتة كلية. والحاصل ثبوت بعضي ، كقولنا :

خ خ بعض الموجودات إنسان ، وكل إنسان حيوان ، يلزم منه : خ خ بعض الموجودات حيوان.

وثالثها : سابقة مثبتة كلية ولاحقة منفية كلية. والحاصل نفي كلي ، كقولنا : خ خ كل جسم مؤلف ولا مؤلف بقديم ، يلزم منه : خ خ لا جسم بقديم.

ورابعها : سابقة مثبتة بعضية ولاحقة منفية كلية. والحاصل : نفي بعضي ، كقولنا : خ خ بعض الحيوانات فرس ، ولا فرس بإنسان ، يلزم منه : خ خ بعض الحيوانات ليس بإنسان.

وإنما لزم في هذه الصورة كون السابقة مثبتة ، لأنها متى كانت منفية لم يلزم من ثبوت خبر المطلوب للثالث ثبوته لمبتدأ المطلوب ، لانتفاء الثالث عن المبتدأ ، واحتمال ما ثبت للثالث أن لا يتجاوزه ، كقولنا : خ خ لا إنسان بفرس ، وكل فرس صهال ، ولم يلزم نفيه أيضا لاحتمال أن يكون ما ثبت للثالث أعم ، كقولنا : خ خ لا إنسان بفرس ، وكل فرس حيوان.

وإنما لزم كون اللاحقة كلية ؛ لأنها متى كانت بعضية لم يلزم من ثبوت خبر المطلوب لبعض الثالث ثبوته لمبتدأ المطلوب ، لاحتمال أن يكون البعض اللازم لمبتدأ المطلوب غير البعض الملزوم لخبره ، مثل قولنا : خ خ كل إنسان حيوان ، وبعض الحيوان فرس ، لا يلزم منه ثبوت الفرسية للإنسان ، أو غير المعاند لخبره ، مثل قولنا : خ خ كل جسم محدث ، وبعض المحدثات ليس بفرس ، لا يلزم منه نفي الفرسية عن الأجسام.

٥٥٢

وما عرفت من وجوب كون السابقة مثبتة ، وكون اللاحقة كلية ، هو الذي قصر ضروب [بالغات](١) ، هذه الصورة على أربعة ، أسقط ثبوت السابقة ثمانية ، وكلية اللاحقة أربعة.

الصورة الثانية :

وأما الصورة الثانية : وهي أن يجعل الثالث خبرا لكل واحد من جزأي المطلوب ، فلا تستشهد لثبوت مبتدأ لاحقتها لمبتدأ سابقتها البتة ، لصحة انتفاء أحد الشيئين عن الآخر مع اشتراكهما في لازم واحد ، كانتفاء الفرسية عن الإنسان مع الاشتراك في الحيوانية ، وإنما تستشهد لنفي مبتدأ لاحقتها وهو : خبر المطلوب ، عن مبتدأ سابقتها وهو : مبتدأ المطلوب ، وذلك بأن يجعل الثالث لازما ، لأحد المبتدأين ، ومعاندا للآخر كليا ، المبتدأ في اللاحقة البتة ، فإنه سواء لازم هذا وعاند ذاك ، أو عاند هذا ولازم ذاك ، فرق بينهما محالة متى كان كليا ، ويلزم الانتفاء. والألزم القدح : إما في اللزام أو في العناد ، ويلزم الجمع بين النقيضين ، ثم النفي في كونه كليا أو بعضيا يكون بحسب مبتدأ السابقة.

أضرب الصورة الثانية :

وتركيب الدليل في هذا الصورة لا يزيد على أربعة أضرب :

أحدها : سابقة مثبتة كلية.

[وثانيهما : سابقة منفية كلية ، ولاحقة مثبتة كلية](٢)

والحاصل فيهما نفي كلي ، مثال الأول : خ خ كل جسم متحيز ، وخ خ لا عرض بمتحيز ، يلزم : خ خ لا جسم بعرض ، ومثال الثاني : خ خ لا عرض بمتحيز ، وكل جسم متحيز ، يلزم : لا عرض بجسم.

__________________

(١) في (د) بالنعات. وفي (غ) : تأليفات.

(٢) من (غ) ، وهو سقط في (د) ، و (ط).

٥٥٣

وثالثها : سابقة مثبتة بعضية ، ولاحقة منفية كلية.

ورابعها : سابقة منفية بعضية ، ولاحقة مثبتة كلية. والحاصل فيهما نفي بعضي ، مثال : الأول : خ خ بعض الموجودات حيوان ، وليس شيء من الحجر بحيوان ، يلزم : خ خ بعض الموجودات ليس بحجر. ومثال الثاني : خ خ كل لا موجود حيوان ، وكل فرس حيوان ، يلزم : خ خ لا كل موجود فرس.

وإنما لزم في هذه الصورة كون اللاحقة كلية ، لأنها متى كانت بعضية احتملت في البعض [الآخر](١) اللزام ، ولم يلزم من رد شهادتها محذور ، ووجوب اختلاف السابقة واللاحقة نفيا وإثباتا.

ووجوب كون اللاحقة كلية ، هما اللذان صيرا ضروب [بالغات](٢) هذه الصورة :

أربعة ، عطل الأول ثمانية وعطل الثاني أربعة.

وهاهنا دقيقة لا بد من أن ننبهك عليها ، وهي : أن اختلاف السابقة واللاحقة ، نفيا وإثباتا ، ربما كان في نفس النفي والإثبات ، فيمتنع حينئذ اتفاقهما في أن يكون منفيتين أو مثبتتين معا ، وربما كان في خصوص النفي ؛ أو خصوص الإثبات ، مثل أن يكون النفي في إحداهما ضروريا وفي الأخرى غير ضروري ، أو أن يكون الإثبات كذلك ، فلا يمتنع اتفاقهما في نفس النفي أو نفس الإثبات.

الصورة الثالثة :

وأما الصورة الثالثة ، [وهو](٣) أن يجعل الثالث مبتدأ لكل واحد من جزأي المطلوب ، فلصحة عناد الشيء الواحد للمتوافقين ، كالحجرية : للناطقية ، والإنسانية ، وللمتباينين : كالحجرية : للإنسانية ، والفرسية ، لا تصلح أن تستشهد بجعل الثالث معاندا

__________________

(١) من (غ) وهو سقط في (د ، ط).

(٢) في (غ) تأليفات.

(٣) في (غ) : وهي.

٥٥٤

لهما ، لا للإثبات ولا للنفي ، لكن يجعل إما ملزوما لكل واحد منهما ، فتشهد لاجتماعهما ، وإلا لزم القدح في كونه ملزوما ، ويلزم الجمع بين النقيضين ، وإما ملزوما لأحدهما معاندا للآخر ، فتشهد لافتراقهما ، والألزم القدح في كونه ملزوما معاندا ، ويلزم الجمع بين النقيضين.

لكن لاحتمال أن يكون اللازم أعم من الملزوم لا تثبت ولا تنفى إلا بقدر ما ينعكس الملزوم على اللازم ، وهو بعض أفراد اللازم ، ويلتزم جعله ، أعني جعل الثالث ، ملزوما في السابقة ألبتة ، وكليا إما في الجملتين وإما في إحداهما ؛ لأن السابقة بتقدير كونها منفية مباينا مبتدؤها للخبر ، كما في قولنا : خ خ لا إنسان من الأناسي بفرس ، إذا أثبتنا بعدها للإنسان لازما ، احتمل أن يكون أعم ، مثل قولنا : وخ خ كل إنسان حيوان ، فلم يلزم أن ينفى عن جميع الأفراس ، ولا عن بعضها الحيوانية : بخلافه إذا أثبتنا أولا ، ونفينا ثانيا فقلنا : خ خ كل إنسان حيوان ، ولا إنسان من الأناسي بفرس ، فإنه يلزم أن ينفي عن بعض الحيوان الفرسية ، وهذا [كاف](١) في التنبيه ، وإنما لزم فيها أن لا تعرى عن كلية ؛ لأن السابقة واللاحقة ، متى كانتا بعضيتين ، احتمل البعضان التغاير ، ولم يلزم اتحاد المبتدأين ، فلا يتحقق لخبريهما اجتماع.

أضرب الصورة الثالثة :

وتركيب الدليل في هذه الصورة لا يزيد على ستة أضرب :

أحدها : سابقة مثبتة كلية ولاحقة مثلها ، وثانيها : سابقة مثبتة بعضية ولاحقة مثبتة كلية ، وثالثها : سابقة مثبتة كلية ، ولاحقة مثبتة بعضية ، والحاصل في هذه الثلاثة ثبوت بعضي.

مثال الأول : كان إنسان حيوان ، وكل إنسان ناطق ، يلزم بعض الحيوان ناطق.

ومثال الثاني : بعض الناس قصير ، وكل إنسان ضحاك ، يلزم بعض القصار ضحاك.

__________________

(١) في (د) و (غ) : كان.

٥٥٥

ومثال الثالث : كل إنسان حيوان ، وبعض الناس كاتب ، يلزم : بعض الحيوان كاتب.

ورابعها : سابقة مثبتة كلية ، ولاحقة منفية كلية.

وخامسها : سابقة مثبتة بعضية ، ولاحقة منفية كلية.

وسادسها : سابقة مثبتة كلية ، ولاحقة منفية بعضية ، والحاصل في هذه الثلاثة نفي بعضي.

مثال الرابع : كل إنسان حيوان ، ولا إنسان بفرس ، يلزم بعض الحيوان ليس بفرس.

ومثال الخامس : بعض الحيوان أبيض ، ولا حيوان بحجر ، يلزم بعض البيض ليس بحجر.

ومثال السادس : كل إنسان ناطق ، وبعض الناس ليس بكاتب ، يلزم بعض الناطقين ليس بكاتب.

والسبب في أن كانت ضروب تأليفات هذه الصورة ستة ، هو : أن وجوب كون السابقة مثبتة أهمل ثمانية ، والتزام أن لا تعرى عن كلية أهمل اثنين.

الصورة الرابعة وأضربها :

وأما الصورة الرابعة ، فيجعل الثالث فيهما لازما في اللاحقة ، كلية أو بعضية كيف كانت ، لمبتداها الذي هو خبر المطلوب ، فيصير بعضه مستلزما لخبر المطلوب استلزاما بحكم الانعكاس ، ويجعل كله في السابقة ليشمل البعض المستلزم لخبر المطلوب ملزوما لخبرها الذي هو مبتدأ المطلوب ، فيصير مستلزما لبعض مبتدأ المطلوب ، وهو القدر الذي يصح انعكاسه عليه ، ويجمع بين جزأى المطلوب في الضربين جمعا بعضيّا ، والألزم القدح في أحد الاستلزامين ، ويلزم الجمع بين النقيضين.

مثال الأول : كل إنسان حيوان ، وكل ناطق إنسان ، يلزم منه : بعض الحيوان ناطق. ومثال الضرب الثاني : كل إنسان ناطق ، وبعض السود إنسان ، يلزم منه : بعض الناطق أسود.

٥٥٦

أو يجعل الثالث في اللاحقة معاندا لكل مبتداها ، فينعقد العناد بينهما كليّا من الجانبين ، ويجعل كله أو بعضه كيف كان ملزوما لخبر السابقة ، فيصير مستلزما لبعض الخبر الذي هو مبتدأ المطلوب ، ومعاندا لكل خبر المطلوب ، ويفرق بين الخبرين تفريقا بعضيا ، والألزم القدح في كونه مستلزما معاندا ، ويلزم الجمع بين النقيضين.

مثال الضرب الأول منهما : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الأفراس بإنسان ، يلزم منه : لا كل حيوان فرس. ومثال الضرب الثاني منهما : بعض الحيوانات أبيض ، ولا شيء من الحجر بحيوان ، يلزم منه لا كل أبيض حجر.

أو يجعل الثالث لازما في اللاحقة كلية ، مستلزما بعضه لكل مبتداها ، و [يجعله](١) مباينا في السابقة كليا ، فيصير مباينا لكل مبتدأ المطلوب ، مستلزما لكل خبره ، ويفرق بينهما تفريقا كليا والألزم القدح في كونه مباينا مستلزما ، ويلزم الجمع بين النقيضين ، والذي صير ضروب هذه الصورة الستة عشر إلى خمسة التفصيل المذكور وهو : كلية السابقة مثبتة في الإثبات ، وكليتها منفية في النفي مع كلية اللاحقة ، وكلية اللاحقة منفية ، والسابقة كيف كانت.

واعلم أن خلاصة هذه الصور الأربع وضروب تأليفاتها التسعة عشر راجعة إلى حرف واحد وهو : أن المبتدأ متى لم يكن معلوما من نفسه مجامعته للخبر فيثبت ، أو مفارقته له فينفي [بطلب](٢) ثالث بينهما يجمعهما أو يفرقهما ، ثم الحاكم في جمع الثالث أو تفريقه أحكام أصلين : أحدهما : أن لزوم الشيء لكل آخر أو بعضه ينعكس بعضيا ، وأن عناد الشيء لكل آخر ينعكس كليا ، فملزوم اللازم مستلزم لبعض أفراد اللازم بالقطع استلزاما من الجانبين : استواء وانعكاسا ، وثانيهما : أن المستلزم لا ينفك عن المستلزم ، فإن كان المستلزم ثبوت شيئين اجتمعا ، وإن كان ثبوت واحد وانتفاء آخر تفرقا ، فأنت متى وجدت الثالث متحدا ، إما لكونه كلا في السابقة واللاحقة ،

__________________

(١) في (د) و (غ) يجعل.

(٢) في (د) و (غ) يطلب.

٥٥٧

بنيت على الكل الجمع والتفريق. وإما لكونه بعضا مندرجا في الكل متحدا به ، بنيت على البعض الجمع والتفريق.

وأنا أوضح لك هذا في الصور الأربع.

أما في الصورة الأولى فيجعل الثالث لازما لمبتدأ المطلوب كله أو بعضه ، ويصير بعضه ، أعني بعض الثالث ، مستلزما لذلك الكل أو البعض ، بطريق الانعكاس ، ثم يجعل كله ، أعني كل الثالث ، ليتحد البعض المستلزم لكل المبتدأ أو لبعضه ، مستلزما لخبر المطلوب بطريق الاستواء ، فيصير البعض ، المتّحد به مع استلزامه للمبتدأ ، مستلزما للخبر ، ويجمع بينهما كليا في أحد الضربين ، أو بعضيّا في الآخر ، أو معاندا لخبر المطلوب ، فيفرق كليّا في ضرب وبعضيّا في ضرب.

وأما في الصورة الثانية : فالثالث يجعل إما لازما للمبتدأ كله أو بعضه ، ويصير بعض أفراده مستلزما للمبتدأ الكلي أو البعضي بطريق الانعكاس ، ثم يجعل كل الثالث لطلب الاتحاد ، معاندا للخبر ، فتفرق في أحد الضربين كليا ، وفي الآخر بعضيا ، وإما معاندا للمبتدأ كله أو بعضه ، ثم يجعل كله ، لأجل الاتحاد ، مستلزما للخبر كله ، فيفرق أيضا كليا في أحد الضربين ، وبعضيا في الآخر.

وأما في الصورة الثالثة ، فيجعل الثالث كله أو بعضه ملزوما لمبتدأ المطلوب ويصير مستلزما لبعض أفراده بطريق الاستواء ، ثم يجعل كله أو بعضه مع الكلي ، وكله البتة مع البعضي لطلب الاتحاد : إما ملزوما لخبر المطلوب فيجمع في الأضرب الثلاثة بعضيا ، وإما معاندا فيفرق في الأضرب الثلاثة بعضيّا.

وأما في الصورة الرابعة ، فيجعل الثالث كله ملزوما لمبتدأ المطلوب ، ويصير مستلزما لبعض أفراده بطريق الاستواء ، ثم يجعل لازما لكل خبر المطلوب أو لبعضه ، ويصير بعض أفراده المتحد لكل المستلزم لبعض أفراد المبتدأ مستلزما لذلك الخبر ، فيجمع بينهما في الضربين بعضيا ، أو يجعل الثالث كله ، أو بعضه ملزوما لمبتدأ المطلوب ، ويصير ذلك الكل ، أو ذلك البعض ، مستلزما لبعض أفراد المبتدأ ، ثم يجعل معاندا لكل خبر المطلوب ، طلبا للاتحاد ، فيفرق في الضربين بعضيّا ، أو يجعل الثالث معاندا لكل مبتدأ المطلوب ، ثم يجعل لازما لكل خبر المطلوب ، ويصير بعض أفراده مستلزما كل الخبر ،

٥٥٨

ويتحد البعض المستلزم بالكل المعاند ، فيفرق كليّا.

ويظهر من هذا : أن الدليل يمتنع تركيبه من سابقة ولاحقة بعضيتين لاحتمال عدم الاتحاد ، ومن متفقتين في درجة النفي ، على ما سبق التنبيه عليه ، لعدم استلزامهما الجمع والتفريق ، لاحتمال انتفاء الشيء الواحد عن متوافقين وعن متباينين. ومن سابقة منفية ولاحقة بعضية ، لعدم استلزام الجمع والتفريق. ولما ترى من مبنى معرفة صحة الدليل على العلم بالحكمين النقيضين ، ومن افتقاره إلى معرفة انعكاس الجمل ، لزمنا أن نورد في حل عقدهما الموربة ، وفك قيودهما المكربة ، فصلين : أحدهما : لتتبع قيود التناقض ، وثانيهما : لتتبع الانعكاس.

٥٥٩

الفصل الأول

في الكلام في الحكمين النقيضين

الحكمان النقيضيان هما اللذان لا يصح اجتماعهما معا ، ولا ارتفاعهما معا ، بخلاف المتضادين. فالمتضادان : لا يصح اجتماعهما ولكن يصح ارتفاعها ، ولذلك ترى الأصحاب يحدون التناقض بين الجملتين بأنه اختلافهما ، بالنفي والإثبات ، اختلافا يلزم منه لذاته كون : إحداهما صادقة ، والأخرى كاذبة مثل : خ خ هذا حيوان ، خ خ هذا ليس بحيوان ؛ وقولهم : خ خ لذاته ، احتراز عن مثل : خ خ هذا إنسان ، خ خ هذا ليس بناطق ، لكونه غير مسمى فيما بينهم بالتناقض لعذر لهم ، وعسى أن يعثر عليه.

شروط التناقض :

ونذكر للتناقض شروطا ، وهي عندي أكثر مما تذكر ، وإلا فأقل. ومساق كلامي هذا يطلعك على معنى ذلك.

أحدها : أن لا تختلف الجملتان في المبتدأ حقيقة اختلافهما في نحو : خ خ العين تبصر أي الجارحة المخصوصة. العين لا تبصر ، أي عين الماء.

وثانيها : أن لا تختلفا فيه [جزءا](١) أو جملة ، اختلافهما في نحو : خ خ عين زيد سوداء ، أي حدقتها ، خ خ عين زيد ليست بسوداء ، أي جملتها.

وثالثها : أن لا تختلفا فيه شرطا ، اختلافهما في نحو : خ خ الأسود جامع للبصر ، أي ما دام أسود ، الأسود ليس بجامع للبصر ، أي زال كونه أسود ، لأن قولنا : خ خ الأسود جامع للبصر ، معناه الشيء الذي له السواد.

ورابعها : أن لا تختلفا فيه إضافة ، اختلافهما في نحو : خ خ الأب حاضر ، أي أبو زيد ، خ خ الأب ليس بحاضر ، أي أبو عمرو.

__________________

(١) في (د) جزاء.

٥٦٠