مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

والوجه هو إذا افتتح التحميد أن يكون افتتاحه عن قلب حاضر ، ونفس ذاكرة يعقل فيم هو ، [وعند من هو](١) ، فإذا انتقل من التحميد إلى الصفات أن يكون انتقاله محذوّا به حذو الافتتاح ، فإنه متى افتتح على الوجه الذي عرفت مجريا على لسانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أفلا يجد محركا للإقبال على من يحمد من معبود عظيم الشأن؟ حقيق بالثناء والشكر؟ مستحق للعبادة؟

ثم إذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) واصفا له بكونه ربّا مالكا للخلق ، لا يخرج شيء من ملكوته وربوبيته ، أفترى ذلك المحرك لا يقوى ، ثم إذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ،) فوصفه بما ينبىء عن كونه منعما على الخلق بأنواع النعم : جلائلها ودقائقها ، مصيبا إياهم بكل معروف ، أفلا تتضاعف قوة ذلك المحرك عند هذا؟ ثم إذا آل الأمر إلى خاتمة هذه الصفات ، وهي : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) المنادية على كونه مالكا للأمر كله في العاقبة يوم الحشر للثواب والعقاب ، فما ظنك بذلك المحرك؟ أيسع ذهنك أن لا يصير إلى حد يوجب عليك الإقبال على مولى شأن نفسك معه منذ افتتحت التحميد ما تصورت ، فتستطيع أن لا تقول : إياك ، يا من هذه صفاته نعبد ونستعين ، لا غيرك ؛ فلا ينطبق على المنزل على ما هو عليه ، وليس ابن الحجر الكندي يبعد ، وهو المشهود له في شأن البلاغة ، والحائز لقصبات السبق في درك اللطائف ، والمفتلذ (٢) للأناسي من عيون النكت في افتنانه في الكلام ، إذا التفت تلك الالتفاتات ، وكان يمكنه أن لا يلتفت البتة ، وذلك أن يسوق الكلام على الحكاية في الأبيات الثلاثة فيقول :

تطاول ليلي بالأثمد ...

ونام الخليّ ولم أرقد

وبتّ وبات لنا ليلة

__________________

(١) ليست في (غ).

(٢) المفتلذ للأناسي : المستخرج لهم.

٣٠١

كقول لبيد (١) :

فوقفت أسألها وكيف سؤالنا

أو أن يلتفت نوعا واحدا فيقول :

وبتّ وبات لكم ...

وذلك من نبأ جاءكم ...

وخبرتم عن أبي الأسود

أن يكون حين قصد تهويل الخطب واستفظاعه في النبأ الموجع ، والخبر المفجع للواقع ، الفاتّ في العضد ، المحرق للقلب والكبد ، فعل ذلك منبها في التفاته الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبأ عليها ولهت وله الثكلى.

فأقامها مقام المصاب الذي لا يتسلى بعض التسلي إلّا بتفجع الملوك له ، وتحزنهم عليه ، وأخذ يخاطبه ب : خ خ تطاول ليلك تسلية ، أو نبه على أن نفسه ، لفظاعة شأن النبأ ، واستشعارها معه كمدا وارتماضا (٢) ، أبدت قلقا لا يقلقه كمد ، وضجرا لا يضجره مرتمض ، وكان من حقها أن تتثبت وتتصبر ، فعل الملوك ، وجريا على سننها المسلوك ، عند طوارق النوائب ، وبوارق المصائب ، فحين لم تفعل ، شككته في أنها نفسه ، فأقامها مقام مكروب ذي حرق ، قائلا له : (تطاول ليلك) مسليا.

__________________

(١) لبيد : أبو عقيل ، لبيد بن ربيعة العامري ، نشأ ربيب الندى والبأس ، من الشعراء المخضرمين ، قيل إنه هجر الشعر في الإسلام ولم يرو عنه إلا بيت واحد :

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ...

حتى لبست من الإسلام سربالا

مات في خلافة معاوية سنة إحدى وأربعين من الهجرة.

والبيت من الكامل ، وهو في ديوانه من معلقته المشهورة وعجز البيت :

صمّا خوالد ما يبين كلامها.

(٢) ارتماضا : حزنا ، ارتمضت لفلان : حزنت عليه.

٣٠٢

وفي التفاته الثاني على أن المتحزن تحزّن تحزّن صدق ، ولذلك لا يتفاوت الحال ، خاطبتك أم لم أخاطبك.

وفي التفاته الثالث على أن جميع ذلك إنما كان لما خصه ولم يتعداه إلى من سواه ، أو نبه في التفاته الأول على أن ذلك النبأ أطار قلبه ، وأبار لبه ، وتركه حائرا ، فما فطن معه لمقتضى الحال من الحكاية ، فجرى على لسانه ما كان ألفه من الخطاب الدائر في مجاري أمور الكبار أمرا ونهيا

والإنسان إذا دهمه ما تحار له العقول ، وتطير له الألباب ، وتدهش معه الفطن ، لا يكاد يسلم كلامه عن أمثال ذلك.

وفي التفاته الثاني على أنه بعد الصدمة الأولى حين أفاق شيئا مدركا بعض الإدراك ، ما وجد النفس معه ، فبنى الكلام على الغيبة قائلا : (وبات وباتت له ...)

وفي التفاته الثالث على ما سبق ، أو نبه في التفاته الأول ، على أن نفسه حين لم تتثبت ولم تتصبر ، غاظه ذلك ، فأقامها مقام المستحق للعتاب ، قائلا له ، على سبيل التوبيخ والتعيير : (تطاول ليلك ....).

وفي الثاني على أن الحامل على الخطاب والعتاب ، لما كان هو الغيظ والغضب ، فحين سكت عنه الغضب بالعتاب الأول ، فإن سورة الغضب بالعتاب تنكسر ، ولّى عنها الوجه وهو يدمدم قائلا : (وبات وباتت له ...).

وفي التفاته الثالث ، على ما تقدم ؛ وإنما ذكرت لك ما ذكرت ، لتقف على أن الفحول البزّل لا يعترفون بالبلاغة لامرئ ، ولا يقيمون لكلامه وزنا ، ما لم يعثروا من مطاوي افتناناته على لطائف اعتبارات ، والتفاضل بين الكلامين قلما يقع إلا بأشباهها.

واعلم أن لطائف الاعتبارات المرفوعة لك في هذا الفن من تلك المطامح النازحة من مقامك ، لا تثبتها حق إثباتها ما لم تمتر بصيرتك في الاستشراف لما هنالك إطباء (١)

__________________

(١) إطباء المجهود : بذله.

٣٠٣

المجهود ، ولم [تختلف](١) في السعي للتنقير عنها وراءك كل حد معهود ، [ماذا](٢) بضبعك صدق همة تبطش في متوخاك بباع بسيط ، أن لا تزل عن مرمى غرضك ولو مقدار [بسيط](٣) ، مستظهرا في طماعيتك أن تستشعرها بنفس لك يقظى ، وطبع لطيف ، مع فهم متسارع ، وخاطر معوان ، وعقل دراك.

وعلماء هذه الطبقة الناظرة بأنوار البصائر ، المخصوصون بالعناية الإلهية ، المدلولون بما [أوتوا](٤) من الحكمة وفصل الخطاب ، على أن كلام رب العزة ، وهو قرآنه الكريم ، وفرقانه العظيم ، لم يكتس تلك الطلاوة ، ولا استودع تلك الحلاوة ، وما أغدقت أسافله ، ولا أثمرت أعاليه ، وما كان بحيث يعلو ولا يعلى إلّا لانصبابه في تلك القواليب ، ولوروده على تلك الأساليب.

__________________

(١) في (د) : تخلف.

(٢) في (غ): (سادا).

(٣) في (د) (فسيط) بالفاء.

(٤) في (ط): (أتوا).

٣٠٤

الفن الثالث

في تفصيل اعتبارات المسند

للوجه الذي علمت ، أيها المخصوص بتلاطم أواذي (١) فكره دون أبناء جنسه ، المستودع في استكشافه عن أسرار البلاغة كمال أنسه النقاب المحدث ، فلا يحتجب عنه شيء من بدائع النكت في مكامنها ، المستخرج للطائف السحر البياني عن معادنها ، المستطلع طلع الإعجاز التنزيلي باستغراق طوقه ، المالك لزمام الحكم ، كفاء المتّحدين ، بعجيب فهمه ، وغريب ذوقه ، فهو الطلبة ، وما عداه ذرائع إليه ، وهو المراد وما سواه أسباب للتسلق عليه ، أن لا بد من التصفح لمقتضيات الأحوال في إيراد المسند إليه ، على تلك الصور والكيفيات ، تعلم له أيضا أن لا بد من التصفح عن الأحوال المقتضية لأنواع التفاوت في المسند ، من كونه : متروكا تارة وغير متروك أخرى ، ومن كونه مفردا أو جملة ؛ وفي إفراده من كونه : فعلا ، نحو : قام زيد ويقوم وسيقوم ، أو اسما ، منكرا أو معرفا من جملة المعرفات ، مقيدا كل من ذلك بنوع قيد ، نحو : ضربت يوم الجمعة ، وزيد رجل عالم ، وعمرو أخوك الطويل ، أو غير مقيد.

وفي كونه : جملة ، من كونها : اسمية أو فعلية ، أو شرطية أو ظرفية ، ومن كونه : مؤخرا أو مقدما ، حتى يتهيأ لك أن يتسم لكل مقام بسمته ، وأن يجري إلى حد مقتضاه على أقوم سمته ، فهو المطارح الذي تران فيه قوى القرائح ، والمطارد الذي يمتاز فيه الجدع عن القارح (٢).

ترك المسند :

أما الحالة المقتضية لترك المسند فهي : متى كان ذكر المسند إليه بحال يعرف منه

__________________

(١) الآذى : موج البحر ، والجمع أواذى.

(٢) الجذع بالذال المعجمة الصغير السن ، وقد وقعت في النسخ بالمهملة ، والقارح من ذى الحافر بمنزلة البازل من الإبل.

٣٠٥

المسند ، وتعلق بتركه غرض ، إما اتباع الاستعمال ، كقولهم : ضربي زيدا قائما ، وأكثر شربي السويق ملتوتا ، وأخطب ما يكون الأمير قائما ، وقولهم : كل رجل وضيعته ، وقولهم : لو لا زيد لكان كذا ، ونحو ذلك ، وإما قصد الاختصار والاحتراز عن العبث ، كما إذا قلت : خرجت فإذا زيد ، أو قلت : زيد منطلق وعمرو ، وقوله عز من قائل : (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ)(١) ، إذا حملته على تقدير : النار شر من ذلكم.

وإما ضيق المقام مع قصد الاختصار ، والاحتراز عن العبث ، كنحو قوله (٢) :

قالت ، وقد رأت اصفراري : من به؟ ...

وتنهدت فأجبتها : المتنهد

إذا حمل على تقدير : المتنهد هو المطالب ، دون : هو المتنهد ، وستعرف في الحالة المقتضية لكونه اسما معرفا أي التقديرين أولى ، وقوله (٣) :

نحن بما عندنا ، وأنت بما ...

عندك راض ، والرأي مختلف

أي نحن بما عندنا راضون.

وإما تخييل أن العقل عند الترك هو معرفة ، وأن اللفظ عند الذكر هو معرفة من حيث الظاهر ، وبين المعرفين بون ، ولك أن تأخذ من هذا القبيل قوله عز وعلا : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(٤).

__________________

(١) سورة الحج الآية : ٧٢

(٢) أورده القزوينى في الإيضاح ص (١٦٩) وعزاه للمتنبي ، الطيبى في التبيان (١ / ١٧٤) بتحقيقى.

(٣) أورده القزوينى في الإيضاح ص (١٦٩) بلا عزو والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ٧٢) بتحقيقي. وليس فيه : والرأى مختلف. وهو لقيس بن المظفر أبي يزيد ، المغنى (٢ / ٦٢٢) ، والكتاب (١ / ٣٧).

(٤) سورة التوبة الآية : ٦٢.

٣٠٦

وإما أن [لا](١) يخرج ذكره إلى ما ليس بمراد ، كما إذا قلت في : أزيد عندك أم عمرو ، أم عندك عمرو ، فإنه يخرج (أم) عن كونها متصلة إلى أنها منقطعة.

وإما لاختبار السامع ، هل يتنبه عند قرائن الأحوال أو ما مقدار تنبه عندها.

وإما طلب تكثير الفائدة بالمذكور ، من حمله عليه تارة ، وحمله عليه أخرى ، كقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٢) وقوله : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)(٣) ، لحملها تارة على : فصبر جميل أجمل ، وطاعة معروفة أمثل ، وحملهما أخرى على : فأمري صبر جميل ، وطاعتكم طاعة معروفة ، أي معروفة بالقول دون الفعل.

ذكر المسند :

وأما الحالة المقتضية لذكره فهي : أن لا يكون ذكر المسند إليه يفيد المسند بوجه ما من الوجوه ، كما إذا قلت ابتداء : زيد عالم ، أو أن يكون في ذكر المسند غرض ، وهو : إما زيادة التقرير ، أو التعريض بغباوة سامعك ، أو استلذاذه ، أو قصد التعجيب من المسند إليه بذكره ، كما إذا قلت : زيد يقاوم الأسد ، مع دلالة قرائن الأحوال ، أو تعظيمه أو إهانته ، أو غير ذلك ، مما يصلح للقصد إليه ، في حق المسند إليه ، إن كان صالحا لذلك ، أو بسط الكلام بذكره ، والمقام مقام بسط.

أو لأن الأصل في الخبر هو أن يذكر ، كما سبق أمثال ذلك في إثبات المسند إليه ، أو ليتعين بالذكر كونه اسما ، كنحو : زيد عالم ، فيستفاد الثبوت صريحا ، فأصل الاسم صفة أو غير صفة الدلالة على الثبوت ، أو كونه فعلا ، كنحو : زيد علم ، فيستفاد التجدد أو ظرفا ، كنحو : زيد في الدار ، فيورث احتمال الثبوت والتجدد بحسب

__________________

(١) من (غ).

(٢) سورة يوسف ، الآية ١٨.

(٣) سورة النور ، الآية ٥٣.

٣٠٧

التقديرين ، وهما حاصل أو حصل ، [ويأتيك](١) فيه كلام ، ويصلح لشمول هذه الاعتبارات قولك عند المخالف الله إلهنا ، ومحمد نبينا ، والاسلام ديننا ، والتوحيد والعدل مذهبنا ، والخلفاء الراشدون أئمتنا ، والناصر لدين الله خليفتنا ، والدعاء له والثناء عليه وظيفتنا.

إفراد المسند :

وأما الحالة المقتضية لإفراد المسند : فهي إذا كان فعليا ، ولم يكن المقصود من نفس التركيب تقوي الحكم ، وأعني بالمسند الفعلي ما يكون مفهومه محكوما به بالثبوت للمسند إليه ، أو بالانتفاء عنه ، كقولك : أبو زيد منطلق ، والكرّ (٢) من البرّ بستين ، وضرب أخو عمرو ، ويشكرك بكر إن تعطه ، وفي الدار خالد ، إذ تقديره استقر ، أو حصل في الدار ، على أقوى الاحتمالين ؛ لتمام الصلة [بالظرف](٣) ، كقولك : الذي في الدار أخوك ، كما يقرره أئمة النحو ، وتفسير تقوى الحكم يذكر في حال تقديم المسند على المسند إليه.

متى يكون المسند فعلا؟

وأما الحالة المقتضية لكونه فعلا فهي : إذا كان المراد تخصيص المسند بأحد الأزمنة على [أخصر](٤) ما يمكن ، مع إفادة التجدد ، كقوله عز وعلا : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٥) أي : ويل لهم مما أسلفت أيديهم من كتبة ما لم يكن

__________________

(١) من (غ) وفي (ط) و (د): (سيأتيك).

(٢) الكرّ : مكيال لأهل العراق.

(٣) من (غ) و (د) وفي (ط): (في الظرف).

(٤) في (غ) (أحضر) بالحاء المهملة.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٧٩.

٣٠٨

يحل [لهم](١) ، وويل [لهم] مما يكسبون بذلك بعد أن أخذ الرشا ، وقوله : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٢) أي : فريقا كذبتموه على التمام وفرغتم عن تكذيبه ما بقي منه غير مكذب ، وفريقا تقتلون ما تيسر لكم قتله على التمام ، وإنما تبذلون جهدكم أن تتموا قتله ، فتحومون حول قتل محمد ، فأنتم بعد على القتل. وقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ)(٣) وقوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ)(٤) وقوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ)(٥). والمراد بالزمان الماضي : ما وجد قبل زمانك الذي أنت فيه ، وبالمستقبل : ما يترقب وجوده ، وبزمان الحال أجزاء من الظرفين ، يعقب بعضها بعضا من غير فرط مهلة وتراخ ، والحاكم في ذلك هو العرف لا غير.

تقييد المسند

وأما الحالة المقتضية لتقييده فهي : إذا كان المراد تربية الفائدة ، كما إذا قيدته بشيء مما يتصل به من نحو المصدر ، كنحو : ضربت ضربا شديدا ، أو ظرف الزمان ، كنحو : ضربت يوم الجمعة ، أو ظرف المكان ؛ كنحو : ضربت أمامك ، أو السبب الحامل ، كنحو : ضربت تأديبا ، وفررت جبنا ، أو المفعول به بدون حرف ، كنحو : ضربت زيدا ، أو بحرف ، كنحو : ضربت بالسوط ، أو ما ضربت إلّا زيدا ، أو المفعول معه ، كنحو : جلست والسارية ، أو الحال ، كنحو : جاء زيد راكبا ، أو التمييز ، كنحو : طاب زيد نفسا ، أو الشرط ، كنحو : يضرب زيد إن ضرب عمرو ، أو : إن ضرب عمرو يضرب زيد ، أخرت أو قدمت ، فهذه كلها تقييدات للمسند ، وتفاصيل يزداد الحكم بها بعدا.

__________________

(١) ليست في (غ).

(٢) سورة البقرة الآية : ٨٧.

(٣) سورة البقرة الآية : ١٣٧.

(٤) سورة البقرة الآية ١٤٢.

(٥) سورة الأعراف ، الآية : ١٨٢ ، وسورة القلم الآية : ٤٤.

٣٠٩

ولم أذكر الخبر في نحو : كان زيد منطلقا ؛ لأن الخبر هناك هو نفس المسند ، لا [تقييد](١) للمسند ، إنما تقييده هو كان فتأمل.

وقد ظهر لك من هذا أن الجملة الشرطية جملة خبرية مقيدة بقيد مخصوص ، محتملة في نفسها للصدق والكذب ، واعلم أن للفعل ، ولما يتصل به من المسند إليه وغير المسند إليه ، اعتبارات في الترك والإثبات ، والإظهار والإضمار ، والتقديم والتأخير ، وله أعني ، الفعل ، بتقييده بالقيد الشرطي على الخصوص ، اعتبارات أيضا ، يذكر جميع ذلك في آخر هذا الفن ، في فصل لها على حدة.

ترك تقييد المسند :

وأما الحالة المقتضية لترك تقييده فهي : إذا منع عن تربية الفائدة مانع قريب أو بعيد.

متى يكون المسند اسما؟

وأما الحالة المقتضية لكونه اسما فهى : إذا لم يكن المراد إفادة التجدد والاختصاص بأحد الأزمنة الثلاثة إفادة الفعل لأغراض تتعلق بذلك.

متى يكون المسند منكرا؟

وأما الحالة المقتضية لكونه منكرا فهي : إذا كان الخبر واردا على حكاية المنكر ، كما إذا أخبر عن رجل في قولك : عندي رجل تصديقا لك ، فقيل : الذي عندك رجل ، أو كان المسند إليه ، كقولك : رجل من قبيلة كذا حاضر ، فإن كون المسند إليه نكرة والمسند معرفة سواء قلنا : يمتنع عقلا ، أو يصح عقلا ليس في كلام العرب ، وتحقيق

__________________

(١) كذا في النسخ ، وهو جائز ، فكتابة المنصوب بدون الألف لغة ربيعة ، بالوقف عليه كالوقف على المرفوع ، وقد ثبتت في أصول صحيحة عتيقة من كتب الحديث وغيرها.

وانظر الرسالة بتحقيق العلامة أحمد شاكر ، وقد ذكر لها شواهد كثيرة ج ١٩٨ ، ٢٤٣ ، ٦٩١ ، ١٢١٨ وغيرها.

٣١٠

الكلام فيه ليس مما يهمنا الآن ، وأما ما جاء من نحو قوله (١) :

ولا يك موقف منك الوداعا

وقوله (٢) :

يكون مزاجها عسل وماء

وبيت الكتاب (٣) :

أظبي كان أمّك أم حمار

فمحول على منوال : عرضت الناقة على الحوض (٤) ، وأصل الاستعمال (ولا يك موقفا منك الوداع) ، (ويكون مزاجها عسلا وماء) ، (وظبيا كان أمك أم حمارا).

ولا تظنن بيت الكتاب خارجا عما نحن فيه ، ذهابا إلى أن اسم كان إنما هو الضمير ، والضمير معرفة : فليس المراد : كان أمك ، إنما المراد ظبي ، بناء على أن ارتفاعه بالفعل المفسر لا بالابتداء ، ولذلك قدرنا الأصل على ما ترى ، وفي البيت اعتبارات ،

__________________

(١) القزويني في الإيضاح ص (١٦٦) بلا عزو وصدر البيت

قفى قبل التفرق يا ضباعا

وضباع : اسم امرأة.

(٢) أورده القزويني في الإيضاح ص (١٦٦) وعزاه لحسان وصدر البيت كأن سبيئة من بيت رأس ، وذكره الطيبى في التبيان (١ / ١٨٠) بتحقيقى. والسبيئة : الخمر تشترى وتعد للضيفان ، وبيت رأس : بلد بالشام.

(٣) البيت لخداش بن زهير كما في تلخيص الشواهد ص (٢٧٢) وشرح شواهد المغنى (٢ / ٢١٨) والكتاب (١ / ٤٨) وصدر البيت [فإنك لا تبالى بعد حول]. والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ٧٤) بتحقيقى.

(٤) هذا من القلب ، إذ الأصل عرضت الحوض على الناقة.

٣١١

سؤالا وجوابا ، فلا عليك أن تتأملها ، وإياك والتبخيت (١) في تخطئة أحد ههنا ، فيخطئ (ابن أخت خالتك) (٢) ، وإن هذا النمط مسمى فيما بيننا بالقلب ، وهي شعبة من الإخراج ، لا على مقتضى الظاهر ، ولها شيوع في التراكيب ، وهي مما يورث الكلام ملاحة ، ولا يشجع عليها إلا كمال البلاغة ، تأتي في الكلام وفي الأشعار وفي التنزيل ، يقولون : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون عرضت الحوض على الناقة ، وقال القطامي (٣) :

كما طينت بالفدن السياعا

أراد : كما طينت الفدن بالسياع.

وقال الشماخ (٤) :

كما عصب العلباء بالعود

__________________

(١) البخت : الجد ، فارسى ، وقد تكلمت به العرب.

(٢) يعني : فتخطئ أنت.

(٣) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٤١) وعزاه للقطامي ، والقزويني في الإيضاح ص (١٦٦) وذكر صدر البيت

فلما أن جرى سمن عليها.

وطينت : طليت بالطين. الفدن : القصر المشيد. السياع : الطين بالتبن.

(٤) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٤١) وعزاه للشماخ. والعلباء : عصب العنق ، يقال : تشنج علباء الرجل : إذا أسنّ.

٣١٢

وقال خداش (١) :

وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر

أراد : وتشقى الضياطرة الحمر بالرماح ، ولك أن لا تحمله على القلب بوساطة استعارة الشقاء لكسرها بالطعان ، وقال رؤبة (٢) :

ومهمه مغبرة أرجاؤه ...

كأن لون أرضه سماؤه

أراد : كأن لون سمائه من غبرتها لون أرضه.

وقال الآخر :

يمشي فيقعس أو يكبّ فيعثر

أراد : يعثر فيكب ، وفي التنزيل : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا)(٣) أي :

جاءها بأسنا فأهلكناها ، على أحد الوجهين ، وفيه : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٤) على ما يحمل من : ألقه إليهم ، فانظر ما ذا يرجعون. ثم تول عنهم ، وفيه (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى)(٥) يحمل على تدلى فدنا.

__________________

(١) أورده القزويني في الإيضاح ص (١٦٧) وعزاه له ولخداش وصدر البيت :

وتركب خيلا لا هوادة بينها.

الضيطر والضيطري : الضخم الجبين العظيم الاست والجمع ضياطر وضياطرة.

(٢) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٤٢) وعزاه للعجاج ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (٥٩) ، والقزويني في الإيضاح ص (١٦٥) وعزاه لرؤبه بن العجاج راجز كأبيه.

مهمه : المفازة البعيدة أو الأرض المقفرة.

(٣) سورة الأعراف الآية : ٤.

(٤) سورة النمل الآية : ٢٨.

(٥) سورة النجم الآية : ٨.

٣١٣

أو كان المسند إليه معرفة ، لكن المراد بالمسند وصف غير معهود ، ولا مقصود الانحصار بالمسند إليه ، كما تقول : زيد كاتب وعمرو شاعر. وإذا تكلمنا في تعريف المسند باللام ، اتضح عندك ما ذكرنا ، أو كان ينبئ تنكيره عما تقدم في تنكير المسند إليه من ارتفاع الشأن أو انحطاطه ، كما قال تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(١) مريدا بتنكيره : أنه هدى لا يكتنه كنهه ، وكما قال : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(٢)

تخصيص المسند :

وأما الحالة المقتضية للتخصيص : إما بالإضافة ، كقولك : زيد ضارب غلام ، أو بالوصف ، كقولك : زيد رجل عالم ، فهي إذا كان المراد كون الفائدة أتم لما عرفت في فصل تعريف المسند إليه.

ترك تخصيص المسند :

وأما الحالة المقتضية لترك التخصيص ، فظاهرة لك ، إن كان ما سبق على ذكر منك.

متى يكون المسند اسما معرفا؟

وأما الحالة المقتضية لكونه اسما معرفا فهي : إذا كان عند السامع متشخصا بإحدى طرق التعريف معلوما له ، وكأني بك أسمعك تقول : فالمسند إذا كان متشخصا عند السامع معلوما له ، استلزم ، لا محالة ، كون المسند إليه معلوما له أيضا ؛ لما قدمتم أنتم ، وإذا كانا معلومين عنده ، فماذا يستفيد؟ فإنا نقول : يستفيد ، إما لازم الحكم ، كما ترى في قولك لمن أثنى عليك بالغيب : الذي أثنى علي بالغيب أنت ، معرفا لأنك عالم بذلك ، أو الحكم كما ترى في قولك لمن تعرف أن له أخا ، ويعرف إنسانا يسمى زيدا ، أو يعرفه يحفظ التوراة ، أو تراه بين يديه ، لكن لا يعرف أن ذلك الإنسان هو أخوه ، إذا

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢.

(٢) سورة الحج ، الآية ١.

٣١٤

قلت له : أخوك زيد ، أو أخوك الذي يحفظ التوراة ، أو أخوك هذا ، فقدمت الأخ ، أو إذا قلت : زيد أخوك أو الذي يحفظ التوراة أخوك ، أو هذا أخوك ، فأخرت الأخ معرفا له في جميع ذلك أن أحدهما الآخر ، ولا تقدم فيما نحن فيه ما تقدم بسلامة الأمير ، ولكن إذا أثنى عليك بالغيب إنسان ، وعلم أن الثناء نقل إليك وأنت تتصوره ، كالمستخبر عن حالك ، هل تعلم أن ذلك المثني عليك هو ، وهل تحكم على ذلك المثني به ، فتقول : الذي أثني علي بالغيب أنت ، فتأتي بالحكم على الوجه المتصور ، أو كان أثنى عليك هو وغيره ، وعلم أن ثناءهما نقل إليك ، وأنت تتصوره كالطالب إن تبين له ، كيف حكمك عليه وعلى ذلك الآخر؟ فتقول له : الذي أثنى علي بالغيب أنت ، فتأتي بالحكم ما تتصوره ، وتفيده أنك إنما اعتبرت ثناءه دون ثناء غيره ، وإذا قلت : أنت الذي أثنى علي بالغيب ، قلته : إذا كان أثنى عليك ونقل إليك الثناء بمحضره ومحضر غيره ، فتصورته كالطالب أن يتبين له كيف حكمك عليه ، فأتيت بالحكم على الوجه المطلوب ، وإذا قلت : أخوك زيد ، قلته لمن يعتقد أخا لنفسه ، لكن لا يعرفه على التعيين ، فيتصوره طالبا منك الحكم على أخيه بالتعيين.

وإذا قلت : زيد أخوك ، قلته لمن يعلم زيدا ، وهو كالطالب أن يعرف حكما له ، وأنه معتقد أن له أخا ، لكن لا يعلمه على التعيين ، وكذلك إذا قلت : أخوك الذي يحفظ التوراة ، أو الذي يحفظ التوراة أخوك ، أو أخوك هذا ، أو هذا أخوك ، وإذا قلت : زيد المنطلق ، قلته لمن يطلب أن يعرف حكما لزيد ، إما باعتبار تعريف العهد إن كان المنطلق عنده معهودا ، وإما باعتبار تعريف الحقيقة واستغراقها ، وإذا قلت : المنطلق زيد ، قلته للمتشخص في ذهنه المنطلق بأحد الاعتبارين : وهو طالب لتعيينه في الخارج.

وإذا تأملت ما تلوته عليك أعثرك على معنى قول النحويين ، رحمهم‌الله : لا يجوز تقديم الخبر على المبتدأ إذا كانا معرفتين معا ، بل أيهما قدمت فهو المبتدأ ، وما قد يسبق إلى بعض الخواطر ، من أن المنطلق دال على معنى نسبي ، فهو في نفسه متعين للخبرية ، وأن زيدا دال على الذات ، فهو متعين للمبتدئية ، تقدم أم تأخر ، فلا معرج عليه ، فإن المنطلق لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق ، وأنه بهذا المعنى لا يجب كونه خبرا ، وأن زيدا لا يوقع خبرا إلا بمعنى صاحب اسم زيد ، ويكون المراد من قولنا : المنطلق زيد ، الشخص الذي له الانطلاق صاحب اسم زيد.

٣١٥

وأما ما قد يقع من نحو قوله (١) :

نم وإن لم أنم كرّى كراكا

ونحو قوله (٢) :

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

مما لا يستقيم معناه ، إلا بالتقديم والتأخير ، فحقه الحمل على القلب المقدم ذكره فاعرفه.

واعلم أن القول بتعريف الحقيقة باللام واستغراقها مشكل ، إذا قلنا : المراد بتعريف الحقيقة القصد إليها وتمييزها من حيث هي هي ، لزم أن يكون أسماء الأجناس معارف ، فإنها موضوعة لذلك ، وإنه قول لم يقل به أحد ، ولئن التزمه ملتزم ليكذبن في امتناع ، نحو : رجع رجعي ، السريعة والبطيئة ، وذكر ذكري ، الحسنة ، أو القبيحة ، وإنما لم أقل رجوعا ، السريع ، وذكرا الحسن ، قصرا للمسافة في التجنب عن حديث التنوين ما هي.

ولئن ذهبت إلى أن في نحو : رجل ، وفرس ، وثور اعتبار الفردية ، فليس فيها القصد إلى الحقيقة من حيث هي هي ، ليلزمنك المصادر ، من نحو : ضرب وقتل وقيام وقعود ورجعى وذكرى فليس فيها ذلك بالإجماع ، ولزم أن يكون اللام في : الرجل ، أو نحو : الضرب لتأكيد تعريف الحقيقة ، إذا لم يقصد العهد ، وأنه قول ما قال به أحد ، وإذا قلنا : المراد بتعريف الحقيقة القصد إليها حال حضورها ، أو تقدير حضورها ، لم يمتر عن تعريف العهد الوارد بالتحقيق أو بالتقدير ؛ لأن تعريف العهد ليس شيئا غير القصد إلى الحاضر في الذهن حقيقة أو مجازا ، كقولك : جاءني رجل ، فقال الرجل كذا ، وقولك :

__________________

(١) الكرى : النوم. وقيل النعاس. والجمع أكراء وكرى الرجل ، بالكسر يكرى كرى إذا نام فهو كر وكرىّ وكريان.

(٢) البيت أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (٥٩) وعزاه لأبي تمام. والقزويني في الإيضاح ص (١٦٥) وذكر تمام البيت

وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل

٣١٦

انطلق رجل إلى موضع كذا ، والمنطلق ذو جد ، قال تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)(١) أي ليس الذكر الذي طلبت ، كالأنثى التي وهبت لها.

وإذا قلنا : المراد بتعريف الحقيقة هو الاستغراق ، لزم في اللام كونها موضوعة لغير التعريف ، إذا تأملت ، ولزم مع ذلك أن يكون الجمع بينها وبين لفظ المفرد جمعا بين المتنافيين ، وإن صير في الجمع بينهما إلى نحو الجمع بين المفرد وبين الواو والنون في نحو : المسلمون ، امتنع لوجوه كثيرة لا تخفى على متقني أنواع الأدب ، أدناها وجوب نحو : الرجل الطوال ، والفرس الدهم ، أو صحته لا أقل على الاطراد ، وكل ذلك على ما ترى فاسد ، والأقرب بناء على قول بعض أئمة أصول الفقه ، بأن اللام موضوعة لتعريف العهد لا غير ، هو أن يقال : المراد بتعريف الحقيقة أحد قسمي التعريف ، وهو تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية ، إما لأن ذلك الشيء محتاج إليه على طريق التحقيق ، فهو لذلك حاضر في الذهن ، فكأنه معهود ، أو على طريق التهكم ، وستعرف معنى هذا في علم البيان ، وإما لأنه عظيم الخطر ، معقود به الهمم على أحد الطريقين ، فيبني على ذلك أنه قلما ينسى ، فهو لذلك بمنزلة المعهود الحاضر.

وإما لأنه لا يغيب عن الحس على أحد الطريقين ، فيبنى على ذلك حضوره ، وينزل منزلة المعهود.

وإما لأنه جار على الألسن كثير الدور في الكلام على أحد الطريقين ، فيقام لذلك مقام المعهود.

وإما لأن أسبابا في شأنه متآخذة ، أو غير ذلك ، مما يجري مجرى هذه الاعتبارات ، فيقام الحقيقة لذلك مقام المعهود ، ويقصد إليها بلام التعريف.

ثم إن الحقيقة لكونها من حيث هي هي ، لا متعددة لتحققها مع التوحد ، ولا لا متعددة لتحققها مع التكثر ، وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما ، صالحة للتوحد والتكثر ؛ فيكون الحكم استغراقا أو غير استغراق إلى مقتضى المقام ، فإذا كان

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٣٦.

٣١٧

خطابيا مثل : خ خ المؤمن غر كريم ، والمنافق خبّ لئيم (١) ، حمل المعرف باللام ، مفردا كان أو جمعا ، على الاستغراق ، بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر ، مع تحقق الحقيقة فيهما ، يعود إلى ترجيح أحد المتساويين ؛ وإذا كان استدلاليا ، حمل على أقل ما يحتمل ؛ وهو الواحد في المفرد ، والعدد الزائد على الاثنين بواحد في الجمع ، فلا يوجب في مثل : حصل الدرهم إلا واحد (٢) ، وفي مثل : حصل الدراهم إلا ثلاثة.

وستقف على هذا في نوع الاستدلال ، إذا انتهينا إليه ، بإذن الله تعالى : ومبنى كلامي هذا على أن الاثنين ليسا بجمع ، فإن عد العالم الواقف على هاتيك الصناعة بسوابقها ولواحقها للاثنين جمعا غير مرتضى منه ؛ وههنا دقيقة ، وهي أن الاستغراق نوعان : عرفي وغير عرفي فلا بد من رعاية ذلك ، فالعرفي نحو قولنا : جمع الأمير الصاغة ، أي جمع صاغة بلده أو أطراف مملكته فحسب ، لا صاغة الدنيا.

وغير العرفي ، في نحو قولنا : الله غفار الذنوب ، أي كلها. واستغراق المفرد يكون أشمل من استغراق الجمع ، ويتبين ذلك بأن ليس يصدق : لا رجل في الدار في نفي الجنس ، إذا كان فيها رجل أو رجلان ، ويصدق : لا رجال في الدار.

ومن هذا يعرف لطف ما يحكيه ، تعالى ، عن زكريا عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)(٣) دون : وهن العظام ، حيث توصل باختصار اللفظ إلى الإطناب في معناه ، وإذا عرفت هذا ، فنقول : متى قلنا : زيد المنطلق ، أو المنطلق زيد في المقام الخطابي ؛ لزم أن يكون غير زيد منطلقا ، ولذلك ينهى أن يقال : زيد المنطلق وعمرو ، بالواو ، ولا ينهى أن يقال : زيد المنطلق لا عمرو ، بحرف لا ، ثم إذا كان الأمر في نفسه كذلك ، كما إذا قلت : الله العالم الذات ، حمل على الانحصار حقيقة ، وإلّا كما في

__________________

(١) روى مرفوعا إلى النبي وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (٦٦٥٣) والصحيحة (٩٣٥).

(٢) كذا في المطبوع (ط) و (د) و (غ) على صورة المرفوع ، وهو استثناء تام موجب ، واجب النصب ، وكتابة المنصوب بدون الألف لغة ربيعة ، وقد سبق التنبيه على مثل هذا.

(٣) سورة مريم ، الآية ٤.

٣١٨

قولك : حاتم الجواد ، وخالد الشجاع ، وقوله عز وعلا : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ)(١) حمل على الانحصار مبالغة وتنزيلا لجود غير حاتم ، وشجاعة غير خالد ، وكون غير القرآن كتابا ، منزلة العدم لجهات اعتبارية.

متى يكون المسند جملة؟

وأما الحالة المقتضية لكونه جملة فهي : إذا أريد تقوّي الحكم بنفس التركيب ، كقولك : أنا عرفت ، وأنت عرفت ، وهو عرف ، أو زيد عرف. كما سيأتيك تقرير هذا المعنى ، وقولك : بكر يشكرك أن تعطه ، أو بكر إن تعطه يشكرك ، لما عرفت أن الجملة الشرطية ليست إلا جملة خبرية مقيدة بقيد مخصوص ، وكقولك : خالد في الدار ، أو إذا كان المسند سببيّا ، وهو أن يكون مفهومه مع الحكم عليه بالثبوت لما هو مبني عليه ، أو بالانتفاء عنه ، مطلوب التعليق بغير ما هو مبني عليه تعليق إثبات له بنوع ما ، أو نفي عنه بنوع ما ، كقولك : زيد أبوه انطلق أو منطلق ، والبر الكرّ منه بستين ، أو يكون المسند فعلا يستدعي الاستناد إلى ما بعده بالإثبات أو بالنفي ، فيطلب تعليقه على ما قبله بنوع إثبات أو بنفي لكون ما بعده بسبب مما قبله ، نحو : عمرو ضرب أخوه ، لا شيئا متصلا بالفعل ، نحو : زيد ضارب أخوه ، أو مضروب ، أو كريم ، لسر نطلعك عليه ، وما ذكرت لك ، إذا تحققت مضمونه أعثرك على وجه حكم النحويين ، لا بد في الجملة الواقعة خبرا من ذكر يرجع إلى المسند إليه لفظا أو تقديرا ، وأعثرك على أن الجملة بعد ضمير الشأن ، في : نعم هو زيد ، هو منطلق ، أو أنه : زيد منطلق مستثناة عن هذا الحكم لكونها نفس المخبر عنه ، وأعثرك على وجه نيابة تعريف الجنس عن الضمير ، في : نعم الرجل زيد ، على قول من يرى المخصوص مبتدأ ، ونعم الرجل خبره ، ونيابة العموم عنه في مثل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(٢)

__________________

(١) سورة البقرة الآيات ١ ـ ٢.

(٢) سورة الكهف الآية ٣٠.

٣١٩

وأما الحالة المقتضية لكون الجملة فعلية ، فهي إذا كان المراد التجدد كقولك : زيد انطلق ، أو ينطلق ، فالفعل موضوع لإفادة التجدد ، ودخول الزمان الذي من شأنه التغير في مفهومه مؤذن بذلك.

وأما الحالة المقتضية لكونها اسمية ، فهي إذا كان المراد خلاف التجدد والتغير ، كقولك : زيد أبوه منطلق ، فالاسم إن دل على التجدد ، لم يدل عليه إلا بالعرض ، وما تسمع من تفاوت الجملتين الفعلية والاسمية ، تجددا وثبوتا ، هو يطلعك على أنه حين ادعى المنافقون الإيمان بقولهم : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ)(١) جائين به جملة فعلية على معنى : أحدثنا الدخول في الإيمان وأعرضنا عن الكفر ، ليروج ذلك عنهم ، كيف طبق المفصل في رد دعواهم الكاذبة قوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(٢) حيث جيء به جملة اسمية ومع الباء ، وعلى تفاوت كلام المنافقين مع المؤمنين ومع شياطينهم ، فيما يحكيه ، جل وعلا ، عنهم وهو : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)(٣) تفاوتا إلى جملة فعلية وهي : آمنا ، وإلى اسمية ومع إن ، وهي : (إِنَّا مَعَكُمْ :) كيف أصاب شاكلة الرمي ، وعلى أن إبراهيم حين أجاب الملائكة عن قولهم له : (سَلاماً)(٤) ، بالنصب ، بقوله لهم : (سَلامٌ)(٥) ، بالرفع ، كيف كان عاملا بالذي يتلى عليك في القرآن المجيد من قوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها)(٦).

وأما الحالة المقتضية لكونها شرطية فستقف عليها في موضعها.

وأما الحالة المقتضية لكونها ظرفية ، فهي إذا كان المراد اختصار الفعلية ، كقولك : زيد في الدار ، بدل استقر فيها أو حصل فيها على أقوى الاحتمالين ، على ما تقدم ، ويظهر لك من هذا أن مرجع الجمل الأربع إلى اثنتين : اسمية وفعلية.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٨.

(١) سورة البقرة الآية ٨.

(٢) سورة البقرة الآية ١٤.

(٣) الذاريات الآية : ٢٥.

(٣) الذاريات الآية : ٢٥.

(٤) سورة النساء : ٨٦.

٣٢٠