مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

وأما ظهور إعرابه ؛ فلأنه الأصل في الإعراب ، كما سبق ، وأما استكنانه فالعلة فيه إما الضرورة ، وذلك في رفعه ونصبه عند الألف كنحو : يخشاك ، لامتناع الألف عن التحريك ، وإما الاجتناب عن تضاعف الثقل ، وذلك في رفعه عند الواو والياء ، كنحو : يغزو ويرمي ، على ما عرف في علم الصرف.

وقد اندرج في هذا استكنان الرفع والجر في الأسماء في نحو : القاضي.

وأما الزيادة ، وذلك في رفعه بعد ألف الضمير وواوه ويائه ، فلما قدمنا أن الفعل المضارع ، لمضارعته استحق الإعراب ، ومعلوم أن مضارعته بلحوق هذه الضمائر إياه لا تزول ، وحيث كانت ، أعني هذه الضمائر ، حروفا ميتة لا تتحرك ، ومدات [ماسا](١) جارية لذلك مجرى النفس الساذج ، غير عارض لها ذلك ، فقصرت عن بلوغ حد النون في : يضربن ، ولم تنته إلى درجة ياء الإضافة في الأسماء لا أقل ، فلم يثبت لها حكم جانب ، لم تدخل في باب المنع ، فبقيت له اليد الطولى في اكتساء الإعراب ، لكن إعرابه بغير الحرف حيث كان ، يغصب في الرفع والنصب حق المدات في القرار على هيآتها ؛ لوجوب اتباع المدة حركة ما قبلها. وفي الجزم حقها في الثبوت لامتناع سكون ما قبل المدة جعل بالحرف ؛ تحاشيا عن ذلك ، ثم لما امتنع الحرف أن يكون مدة على أصل القياس في باب الزيادة ، لامتناع اجتماع المدتين ، جعل النون لقربه منها باحتمال المدة واللين ، والخفاء ، واعتباره غنة يشهد لذلك ، ولاتحاد المدات بالفعل اقتضى القياس تأخيره ، ولحصول الصورة إذ ذاك على شكل المثنى والمجموع ، اختير الكسر للنون بعد الألف ، مع العمل بأصل تحريك الساكن والفتح له بعد أختيها ، مع الاجتناب عن الجمع بين الكسر وبينهما ، وحيث كان يجب اعتبار الرفع ابتداء على ما سبق عين له.

وأما الجزم ، فلما لم يكن في إعراب أصله الذي هو متطفل عليه بحكم المضارعة ، جعل كأن ليس بإعراب ، فلم يتكلف له عند فواته حرف يقوم مقامه هذا ، على أن حقه هو الترك فوفيه بذلك ، ثم لما كان الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء ، وكانت

__________________

(١) في (غ): (ملسا)

٢٤١

لهذه الأمثلة صورة التثنية والجمع ، اتبعه النصب هنا اتباعه الجر هناك ؛ طلبا للتشاكل بين الأصل والفرع.

وأما النقصان ، وذلك في جزمه عند اعتلال الآخر ، فمن حيث إن الجزم ، لما تقدم النصب في الاعتبار كما سبق آنفا ، لم يكن وروده إلا على المرفوع ، وقد عرفت أن الفعل حال اعتلال الآخر في الرفع لا يكون متحركا ، وإذا [ورده](١) ، ومن شأنه حذف الحركة ، ثم لا يجد حركة يحذفها حذف المعتل لما بينه وبينها من الاتحاد.

الفصل الثامن

في علة عمل الحروف العاملة وكيفية اختلافها في ذلك

ونحن على أن نختصر الكلام فنقول : أما الجارة فإنما عملت في الأسماء للزومها إياها ، فكل ما لزم شيئا وهو خارج عن حقيقته ، أثر فيه وغيره غالبا بشهادة الاستقراء ، وكان عملها الجر اللازم للأسماء ، ليدخل وصف العمل في وصف العامل بحكم المناسبة ، وهو بعينه الكلام في التي تجزم المضارع.

وأما العذر عن حرف التعريف وحرفي الاستقبال ، فالأقرب هو أن الاسم لشدة احتياجه إلى التعريف ؛ لامتناع خروجه في الاستعمال عن التعريف والتنكير ، جرى حرف التعريف منه مجرى بعض أجزائه ، وعلى هذا حرفا الاستقبال.

ومدار كلام أبي سعيد السيرافي (٢) ، رحمه‌الله ، في هذا على ما ذكرت.

وأما الناصبة للأسماء ، فعملت لمعنى اللزوم والنصب ؛ لتقويها على إفادة معنى المفعولية قريبة من أنادي وأصحاب وأستثني ، ولذلك ترى الواو لا يعمل حيث يبطل لزومه بكونه عاطفا ؛ لأنه في العطف لا يلزم الاسم ، وكذا إلا حيث يبطل لزومه بكونه

__________________

(١) في (غ): (ورد ورد).

(٢) أبو سعيد السيرافي هو الحسن بن عبد الله المرزبان إمام من أئمة النحو ، ومن علماء القرن الثالث الهجري ت ٣٦٨ ه‍ (بغية الوعاة : ١ / ٥٠٧).

٢٤٢

في الكلام الناقص لصحة : ما طلع البدر إلا وقد ذكرت هندا ، وما جرى مجراه ، أو بكونه في التام غير الموجب على وجه البدل ؛ لتنزيل البدل والمبدل منه منزلة المنحى غير المذكور ، ورجوع الكلام إلى النقصان إذ ذاك حكما.

ومما ينبهك على أن حكم البدل ما ذكرنا ، امتناعهم عنه في الموجب امتناعهم عن النقصان فيه ، وإنها لمظان تأمل منك فلا تفرط.

وأما الناصبة للأفعال ، فالأصل فيها (أن) عند الخليل ، قدس الله روحه ، وقول الخليل يغني عن الدليل (١) :

إذا قالت حذام فصدّقوها ...

فإنّ القول ما قالت حذام

وإنما نصبت خ خ إن لمشابهتها خ خ أن معنى ؛ لاشتراكهما في رد الكلام إلى معنى المصدر وصوره أيضا إذا خففت وأعملت.

وأما الحروف المشبهة ؛ فعملها لمشابهتها الأفعال. وعندنا أنها لما كانت في العمل فرعا على الفعل ، وكانت في الشبه بالأفعال دون شبه (ما ولا) (بليس) ، اختير لها حطّا لدرجتها أدنى مرتبتي الفعل ، وهي ضرب عمرا زيد.

ومن هذا يظهر سبب امتناع تقديم الخبر على الاسم البتة ، وهو الترقي إلى أعلى مرتبتي الفعل في أدنى درجتها ، وأما قولهم : إن في الدار زيدا ، فالوجه ما اختار جار (٢) الله العلامة ، وارتضاه شيخنا الحاتمي ـ تغمدهما الله برضوانه ـ أنه ليس من تقديم الخبر ،

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للجيم بن صعب في شرح التصريح ٢ / ٢٢٥ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٥٩٦ والعقد الفريد ٣ / ٣٦٣ ، ولسان العرب ٦ / ٣٠٦ (رقش) والمقاصد النحوية (٤ / ٣٧٠) والمعجم المفصل (٧ / ٢٨٢).

(٢) هو الزمخشري أبو القاسم محمود بن عمر الخوارزمى صاحب الكشاف وغيره ، وكتاب المفصل الذي عول عليه السكاكي في هذا القسم من الكتاب ، ت ٥٣٨ ه‍.

٢٤٣

إذ الخبر مدلول في الدار [لانفس الدار](١) ، وتقدم ذاك غير مسلم ، هذا ولكنه يشكل بقولهم حيث لا يصح وقوع العامل لا يصح وقوع المعمول فيه ، فليتأمل. وأما علة انتظام (لا) النافية للجنس في سلكها ، وعلة عمل (ما ولا) المشبهتين بليس ، فمذكورتان.

الفصل التاسع

في علة عمل الأسماء غير الجر وكيفية اختلافها

أما علة رفعها ونصبها نازلة منزلة الفعل ككون الاسم مصدرا ، أو اسم فاعل ؛ وهو للحال أو الاستقبال ومعتمد ، فإنه في الاعتماد يزداد قربا من الفعل بتنحّيه عن موضع الاسم المخبر عنه ، وهو افتتاح الكلام ، وعن الإخبار عنه أيضا ، أو اسم مفعول على نحو اسم الفاعل ، أو صفة مشبّهة معتمدة ، ولذلك حيث ضعف اسم التفضيل عن ذلك رأيت حاله في العمل كيف فترت ، أو اسم فعل.

وكذا علة جزمها نازلة منزلة حرف الشرط بإفادتها معناه ، فالكلام فيها جلي.

وأما علة نصبها في غير ذلك ، فالوجه فيها أنها أشبهت الفعل في حال كونه ناصبا باستدعائها التمييز فضلة في الكلام لا محالة ، مع امتناع أن تجره.

وقول أصحابنا ، رحمهم‌الله : التمييز إما أن يكون عن الجملة ، أو عن المفرد ، معناه أن محل إبهامه ، إما أن يكون الإسناد أو أحد طرفيه ، لا أنه يكون فضلة في الكلام.

الفصل العاشر

في علة عمل المعنى الرفع للمبتدأ والخبر والفعل المضارع

وهي أنه أشبه الفعل في حال كونه رافعا ، أما في حق الخبر والمبتدأ فباستدعائه هذا مسندا إليه ، وهذا جزءا ثانيا في الجملة ، وأما في حق الفعل المضارع ، فبخروج المضارع

__________________

(١) من (غ). وفي (ط) و (د) : لا نفس في الدار.

٢٤٤

معه عن المناسبة بأن لا يعتبر تقديم تحريكه بالرفع ، بيان ذلك أنه متى وقع موقع الاسم في الكلام ناسب أن يجري عليه ما للاسم من الرفع أو النصب أو الجر ، لكن امتناع إجراء الجر عليه يستتبع امتناع إجراء النصب بحكم التآخي ، فيبقى الرفع مع وجوب تقديمه في الاعتبار على ما عرفت.

واعلم أنك إذا تلقيت ما أمليت عليك بحسن التفهم ، واستوضحت لطائفه بعين التأمل ، وجذبت بضبعك في مداحضه الاختصارية استقامة طبع ، وأطلعك على رموزه للتفصي عن المضايق لطافة تمييز ، ثم استعرضت معاجم الأوائل في هذا الفن بعد التتبع لمآخذها ، والعثور على مجاريها ، مستطلعا طلع المقاصد في المبادي والغايات ، عسى أن تتسمح للعلي بدعاء يستجاب ، وللملي بثناء يستطاب ؛ وإذ قد أتممنا ما أردنا ، فلنف بما كنا وعدنا من ختم الكلام في القسم النحوي ، حامدين الله تعالى ، ومصلين على النبي عليه‌السلام.

٢٤٥

القسم الثالث

في علمي المعاني والبيان

٢٤٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

القسم الثالث

في علمي المعاني والبيان

وفيه مقدمة لبيان حدي العلمين والغرض فيهما ، وفصلان لضبط معاقدهما والكلام فيهما.

مقدّمة

علم المعاني (١) :

اعلم أن علم المعاني هو تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة ، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره ؛ وأعني بتراكيب الكلام : التراكيب الصادرة عمن له فضل تمييز ومعرفة ، وهي تراكيب البلغاء ، لا الصادرة عمن سواهم ، لنزولها في صناعة البلاغة منزلة أصوات

__________________

(١) علم المعاني عرفه الإمام الطيبى فقال : هو تتبع خواص التراكيب في الإفادة ؛ تفاديا عن الخطأ في التطبيق. التبيان (١ / ١٤١) بتحقيقى طبعة المكتبة التجارية بمكة.

وعرفه الخطيب القزويني بأنه : علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال الإيضاح ص ٨٤ (ط) دار الكتاب اللبناني بيروت.

وعرفه بدر الدين بن مالك في المصباح فقال : هو تتبع خواص تراكيب الكلام وقيود دلالته ، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقضى الحال ذكره. المصباح ص ٧ في (ط) مكتبة الآداب.

وانظر في تعريف علم المعاني أيضا الطراز ١ / ١٠ ، نهاية الإيجاز للرازي ص ١٦٤ ـ ١٦٥.

٢٤٧

حيوانات تصدر عن محالها بحسب ما يتفق.

وأعني بخاصية التركيب : ما يسبق منه إلى الفهم عند سماع ذلك التركيب ، جاريا مجرى اللازم له ؛ لكونه صادرا عن البليغ ، لا لنفس ذلك التركيب من حيث هو هو ، أو لازما له لما هو هو حينا.

وأعني بالفهم ؛ فهم ذي الفطرة السليمة ، مثل ما يسبق إلى فهمك من تركيب : إن زيدا منطلق ، إذا سمعته عن العارف بصياغة الكلام ، من أن يكون مقصودا به نفي الشك ، أو رد الإنكار ، أو من تركيب : زيد منطلق ، من أنه يلزم مجرد القصد إلى الإخبار ، أو من نحو : منطلق ، بترك المسند إليه ، من أنه يلزم أن يكون المطلوب به وجه الاختصار مع إفادة لطيفة مما يلوح بها مقامها.

وكذا إذا لفظ بالمسند إليه ، وهكذا إذا عرف أو نكر ، أو قيد أو أطلق ، أو قدم أو أخر ، على ما يطلعك على جميع ذلك شيئا فشيئا مساق الكلام في العلمين ، بإذن الله تعالى.

٢٤٨

علم البيان (١) :

وأما علم البيان : فهو معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة ، بالزيادة في وضوح الدلالة عليه ، وبالنقصان ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه ، وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم ، تعالى وتقدس ، من كلامه مفتقر إلى هذين العلمين كل الافتقار ، فالويل كل الويل لمن تعاطى التفسير وهو فيهما راجل.

ولما كان علم البيان شعبة من علم المعاني لا تنفصل عنه إلا بزيادة اعتبار ، جرى منه مجرى المركب من المفرد ، لا جرم آثرنا تأخيره.

__________________

(١) علم البيان : عرفه الإمام الطيبى فقال : هو معرفة إيراد المعنى الواحد في الطرق المختلفة الدلالة بالخفاء على مفهومها ؛ تفاديا عن الخطأ في التطبيق لتمام المراد التبيان ١ / ٢٥٨.

وعرفه الخطيب القزويني فقال : وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه الإيضاح ص ٣٢٦ (ط) دار الكتاب اللبناني بيروت.

وهو عند الجرجاني صاحب الإشارات : علم يعرف منه كيف يدلّ على معنى خارجي يتوسط الوضع والعقل معا الإشارات والتنبيهات ص ١٦٧ طبع دار نهضة مصر سنة ١٩٨٢ م.

٢٤٩

الفصل الأول

في ضبط معاقد علم المعاني والكلام فيه

تمهيد :

اعلم أن مساق الحديث يستدعي تمهيدا (١) ، وهو : أن مقتضى الحال عند المتكلم يتفاوت ، كما ستقف عليه ، إذا أفضت النوبة إلى التعرض له من هذا الكتاب ، بإذن الله تعالى ، فتارة تقتضي ما لا يفتقر في تأديته إلى أزيد من دلالات وضعية ، وألفاظ كيف كانت ، ونظم لها لمجرد التأليف بينها يخرجها عن حكم [النعيق](٢) ، وهو الذي سميناه في علم النحو أصل المعنى ، ونزلناه ههنا منزلة أصوات الحيوانات. وأخرى تقتضى ما تفتقر في تأديته إلى أزيد.

وظاهر أن الخطأ الذي نحن بصدده لا يجامع في الأول أدنى التمييز ، فضلا أن يقع فيه من العاقل المتفطن ، وإنما مثار الخطأ هو الثاني ، وإن اختلج في وهمك أن الاحتراز عن الخطأ في الثاني ، إن لم يتوقف على علم المعاني ، استغنى عنه ، وإن توقف عليه ، ولا شبهة في أن الكلام فيه كلام من القبيل الثاني ، فيتوقف تعريفه على تعريف له سابق ، ويتسلسل أو يدور ، فاستوضح ما أجبنا به عن تعلم خ خ علم الاستدلال ، وخ خ علم العروض ، إذ قيل : إن كان العقل أو الطبع يكفي في البابين ، فليستغن عن تعليمهما ، وإلا كان تعليمهما موقوفا على تعليم سابق ، والمآل إما الدور (٣) أو التسلسل (٤).

وسننظم لك هذين العلمين في سلك التعرض لهما ، إذا حان وقته بإذن الله تعالى.

__________________

(١) في (غ) تمهيد أصل.

(٢) في (غ) العنيق.

(٣) الدور : هو توقف الشىء على ما يتوقف عليه ، ويسمى الدور المصرح كما يتوقف (أ) على (ب) وبالعكس (التعريفات للجرجاني حرف الدال ص ١٠٥).

(٤) التسلسل : ترتيب أمور غير متناهية ، وأقسامه أربعة (السابق حرف التاء ص ٥٧).

٢٥٠

وإذ قد عرفت هذا فنقول : إن التعرض لخواص تراكيب الكلام موقوف على التعرض لتراكيبه ضرورة ، لكن لا يخفى عليك حال التعرض لها منتشرة ، فيجب المصير إلى إيرادها تحت الضبط بتعيين ما هو أصل لها وسابق في الاعتبار ، ثم حمل ما عدا ذلك عليه شيئا فشيئا على موجب المساق.

والسابق في الاعتبار في كلام العرب شيئان : الخبر (١) والطلب المنحصر بحكم الاستقراء في الأبواب الخمسة التي يأتيك ذكرها. وما سوى ذلك نتائج امتناع إجراء الكلام على الأصل ، وعساك فيما ترى أن تقتحمه عيناك ، لكنك إذا اجتليته ، أو إن كشف القناع عنه ، وجدت من نفسك الشأن بخلافه ، فلنعينهما ، أعني : الخبر والطلب (٢) ، لافتتاح الكلام لما نحن له ، والله المستعان.

آراء العلماء في الخبر والطلب

اعلم أن المعتنين بشأنهما فرقتان : فرقة تحوجهما إلى التعريف ، وفرقة تغنيهما عن ذلك. واختيارنا قول هؤلاء.

أما في الخبر ؛ فلأن كل أحد من العقلاء ممن لم يمارس الحدود والرسوم ، بل الصغار الذين لهم أدنى تمييز ، يعرفون الصادق والكاذب ، بدليل أنهم يصدقون أبدا في مقام

__________________

(١) الخبر : تحدث سيبويه عن الخبر في الكتاب وذكره مقابل الاستفهام وقلده الفراء في مثل ذلك في كتابه معاني القرآن. وعرفه المبرد بقوله : الخبر ما جاز على قائله التصديق والتكذيب وكذلك صنفه ثعلب في كتابه قواعد الشعر إلى أربعة أقسام : أمر ، ونهي ، وخبر واستخبار.

كما ذكره ابن فارس في كتابه الصاحبي فقال : أما أهل اللغة فلا يقولون في الخبر أكثر من أنه إعلام ...

وعده الرازي في كتابه نهاية الإيجاز القول المقتضى بتصريحه نسبة معلوم إلى معلوم بالنفي أو الإثبات ... المعجم المفصل ٦ / ٥٥٣ ـ ٥٥٤ وله أنواع متعددة ، منها الخبر الابتدائى ، والإنكارى ، والطلبي والخبر للاسترحام ، والخبر لإظهار التحسر ... إلخ.

(٢) في (غ) (والطب) وهو تصحيف.

٢٥١

التصديق ، ويكذبون أبدا في مقام التكذيب.

فلو لا أنهم عارفون للصادق والكاذب ، لما تأتى منهم ذلك. لكن العلم بالصادق والكاذب ، كما يشهد له عقلك ، موقوف على العلم بالخبر الصدق ، والخبر الكذب.

هذا والحدود التي تذكر كقولهم : الخبر هو الكلام المحتمل للصدق والكذب ، أو التصديق والتكذيب ، وكقولهم : هو الكلام المفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفيا أو إثباتا ، بعد تعريفهم الكلام بأنه : المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة ، وكقول من قال : هو القول المقتضى بصريحه نسبة معلوم إلى معلوم بالنفي أو بالإثبات ، ليتها صلحت (١) للتعويل.

أما ترى الحد الأول حين عرف صاحبه الصدق بأنه الخبر عن الشيء على ما هو به ، والكذب بأنه الخبر عن الشيء لا على ما هو به ، كيف دار ، فخرج عن كونه معرفا. ومن ترك الصدق والكذب إلى التصديق والتكذيب ما زاد على أن وسع الدائرة.

والحد الثاني : أوجب أن يكون قولنا في باب الوصف : خ خ الغلام الذي لزيد أو خ خ ليس لزيد ، خبرا لكونه كلاما على قول صاحبه ، ومفيدا بصريحه إضافة أمر ، وهو الغلام ، إلى أمر ، وهو زيد ، بالإثبات في أحدهما ، والنفي في الآخر مع انتفاء كونه خبرا ، بدليل انتفاء لازم الخبر ، وهو صحة احتمال الصدق والكذب ، فلا نزاع في كون ذلك لازم الخبر ، إنما النزاع في أن يكون حدا ، والحال ما تقدم ، وكذا قولنا : خ خ أن زيدا غلام ، أو خ خ ليس غلاما ، (بفتح أن) كيف خرج عن أن يكون مطردا.

والحد الثالث : حين أوجب أن لا يكون قولنا : خ خ ما لا يعلم بوجه من الوجوه ، لا يثبت ولا ينفي خبر الامتناع أن يقال : ما لا يعلم بوجه من الوجوه ، معلوم ، مع أن الكلام خبر ، كيف خرج عن أن يكون منعكسا مع انتقاضه بالنقضين المذكورين ، وهما : الغلام الذي لزيد ، أو ليس لزيد ، وأن زيدا غلام ، أو ليس غلاما ، (بفتح أن) ،

__________________

(١) في (غ) (طحت) وهو تصحيف.

٢٥٢

فتدبر.

ولسؤال المعلومية وجه دفع يذكر في الحواشي.

وأما في الطلب ؛ فلأن كل أحد يتمنى ، ويستفهم ، ويأمر ، وينهى ، وينادي ، يوجد كلا من ذلك في موضع نفسه عن علم ، وكل واحد من ذلك طلب مخصوص ، والعلم بالطلب المخصوص مسبوق بالعلم بنفس الطلب ، ثم إن الخبر والطلب بعد افتراقهما بحقيقتهما يفترقان باللازم المشهور ، وهو احتمال الصدق والكذب.

والكلام في الطلب ، وما نسبنا إليه ، لا يقصر على ما قرعنا به سمعك هنا ، لكنا سنفرغ في صماخيك بإذن الله تعالى ، أوان التصدي لتحقيقه ، ما ينقش صورته في ذهنك النقش الجلي ، ولنكتف بهذا القدر من التنبيه على استغناء الخبر والطلب عن التعريف الحديث ، ولنعين لمساق الحديث في كل واحد منهما قانونا.

٢٥٣

القانون الأول

فيما يتعلق بالخبر

اعلم أن مرجع الخبرية ، واحتمال الصدق والكذب إلى حكم المخبر الذي بحكمه في خبره بمفهوم لمفهوم ، كما تجده فاعلا ذلك إذا قال : هو لزيد ، هو ليس لزيد ، لا إلى حكم مفعول يشير إليه إشارته إذا قال : خ خ الذي هو لزيد ، أو خ خ ليس لزيد ، فأوقعه صلة للموصول الذي من حقه أن يكون صلته قبل اقترانها به معلومة للمخاطب ، أو إذا قال : خ خ أنه زيد ، (بفتح أن) فنقل الحكم بثبوت الزيدية للضمير إلى جعله تصورا مشارا إليه يحكم له أو به ، إذا قال : خ خ حق إنه زيد ، أو قال : خ خ الذي أدعيه إنه زيد.

فأما السبب في كون الخبر محتملا للصدق والكذب ، فهو إمكان تحقق ذلك الحكم مع كل واحد منهما ، من حيث إنه حكم مخبر ، ومرجع كون الخبر مفيدا للمخاطب إلى استفادة المخاطب منه ذلك الحكم ، ويسمى هذا : فائدة الخبر ، كقولك : خ خ زيد عالم ، لمن ليس واقفا على ذلك ، أو استفادته منه أنك تعلم ذلك ، كقولك لمن حفظ التوراة : خ خ قد حفظت التوراة. ويسمى هذا لازم فائدة الخبر ، والأولى بدون هذه تمتنع ، وهذه بدون الأولى لا تمتنع ، كما هو حكم اللازم المجهول المساواة ، ومرجع كونه صدقا أو كذبا عند الجمهور إلى مطابقة ذلك الحكم للواقع ، أو غير مطابقته له ، وهو المتعارف بين الجمهور ، وعليه التعويل ، [وعند بعض إلى طباق الحكم لاعتقاد المخبر أو ظنه ، [وإلى [لا طباقه](١) لذلك ، سواء كان ذلك](٢) الاعتقاد أو الظن خطأ أو صوابا ، بناء على دعوى تبرئ المخبر عن الكذب ، متى ظهر خبره بخلاف الواقع ، واحتجاجه لها بأن لم يتكلم بخلاف الاعتقاد أو الظن ، لكن تكذيبنا لليهودي مثلا إذا قال : خ خ الإسلام باطل ، وتصديقنا له إذا قال : خ خ الإسلام حق ، ينحيان بالقلع على هذا ، ويستوجبان طلب تأويل لقوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ

__________________

(١) كذا في (ط) و (د) والمقصد أنه إما أن يرجع إلى طباقه أو إلى عدم طباقه.

(٢) ما بين المعكوفتين سقط من (غ).

٢٥٤

يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(١) ، وهو حمل قول المنافقين على كونه مقرونا بأنه قول عن صميم القلب. كما يترجم عنه (إنّ واللام) ، وكون الجملة اسمية في قولهم لأرباب البلاغة ، وسيأتيك تعرض لهذه الآية.

وإذ قد عرفت أن الخبر يرجع إلى الحكم بمفهوم لمفهوم ، وهو الذي نسميه الإسناد الخبري كقولنا : شيء ثابت ، شيء ليس ثابتا ، فأنت في الأول تحكم بالثبوت للشيء ، وفي الثاني باللاثبوت للشيء ، عرفت أن فنون الاعتبارات الراجعة إلى الخبر لا تزيد على ثلاثة : فن يرجع إلى حكم ، وفن يرجع إلى المحكوم له ، وهو المسند إليه ، وفن يرجع إلى المحكوم به ، وهو المسند.

أما الاعتبار الراجع إلى الحكم في التركيب من حيث هو حكم ، من غير التعرض لكونه لغويا أو عقليا ، فإن ذلك وظيفة بيانية ، فككون التركيب : تارة غير مكرر ، ومجردا عن لام الابتداء ، وأن المشبهة والقسم ، ولامه ، ونوني التأكيد ، كنحو : زيد عارف. وأخرى مكررا ، أو غير مجرد ، كنحو : عرفت عرفت ، ولزيد عارف ، وإن زيدا عارف ، وإن زيدا لعارف ، وو الله لقد عرفت ، أو لأعرفن ، في الإثبات ، وفي النفي كون التركيب غير مكررا ، ومقصورا على كلمة النفي مرة كنحو : ليس زيد منطلقا ، وما زيد منطلقا ، ولا رجل عندي ، ومرة مكررا كنحو : ليس زيد منطلقا ، ليس زيد منطلقا ، وغير مقصور على كلمة النفي كنحو : ليس زيد بمنطلق ، وما أن يقوم زيد ، وو الله ما زيد قائما ، فهذه ترجع إلى نفس الإسناد الخبري.

وأما الاعتبار الراجع إلى المسند إليه في التركيب من حيث ومسند إليه ، من غير التعرض لكونه حقيقة أو مجازا ، فككونه محذوفا كقولك : عارف ، وأنت تريد : زيد عارف ، أو ثابتا معرفا من أحد المعارف وستعرفها ، مصحوبا بشيء من التوابع ، أو غير مصحوب ، مقرونا بفصل أو غير مقرون ، أو منكرا مخصوصا أو غير مخصوص ، مقدما على المسند أو مؤخرا عنه.

__________________

(١) المنافقون : ١.

٢٥٥

وأما الاعتبار الراجع إلى المسند من حيث هو مسند أيضا ، فككونه : متروكا أو غير متروك ، وكونه مفردا أو جملة ، وفي إفراده من كونه : فعلا أو اسما ، منكرا أو معرفا ، مقيدا [كل](١) من ذلك بنوع قيد أو غير مقيد ، وفي كونه جملة من كونها : اسمية ، أو فعلية ، أو شرطية ، أو ظرفية ، وكونه : مقدما أو مؤخرا. هذا إذا كانت الجملة الخبرية مفردة.

أما إذا انتظمت مع أخرى ، فيقع إذ ذاك اعتبارات سوى ما ذكر فن رابع ، ولا يتضح الكلام في جميع ذلك اتضاحه إلا بالتعرض لمقتضى الحال ، فبالحري أن لا نتخذه ظهريّا. فنقول ، والله الموفق للصواب.

لكل مقام مقال :

لا يخفى عليك أن مقامات الكلام متفاوتة ، فمقام التشكر يباين مقام الشكاية ، ومقام التهنئة يباين مقام التعزية ، ومقام المدح يباين مقام الذم ، ومقام الترغيب يباين مقام الترهيب ، ومقام الجد في جميع ذلك يباين مقام الهزل ، وكذا مقام الكلام ابتداء يغاير مقام الكلام ، بناء على الاستخبار أو الإنكار ، ومقام البناء على السؤال يغاير مقام البناء على الإنكار ؛ جميع ذلك معلوم لكل لبيب ، وكذا مقام الكلام مع الذكي يغاير مقام الكلام مع الغبي ، ولكل من ذلك مقتضى غير مقتضى الآخر.

ثم إذا شرعت في الكلام ، فلكل كلمة مع صاحبتها مقام ، ولكل حد ينتهي إليه الكلام مقام ، وارتفاع شأن الكلام في باب الحسن والقبول وانحطاطه في ذلك بحسب مصادفة الكلام لما يليق به ، وهو الذي نسميه مقتضى الحال ، فإن كان مقتضى الحال إطلاق الحكم ، فحسن الكلام تجريده عن مؤكدات الحكم ، وإن كان مقتضى الحال بخلاف ذلك ، فحسن الكلام تحلّيه بشيء من ذلك بحسب المقتضى ضعفا وقوة.

وإن كان مقتضى الحال طيّ ذكر المسند إليه ، فحسن الكلام تركه ، وإن كان المقتضى إثباته على وجه من الوجوه المذكورة ، فحسن الكلام وروده على الاعتبار

__________________

(١) كذا في (ط) و (د) و (غ). (كل) غير منصوبة.

٢٥٦

المناسب ، وكذا إن كان المقتضى ترك المسند ، فحسن الكلام وروده عاريا عن ذكره ، وإن كان المقتضى إثباته مخصصا بشيء من التخصيصات ، فحسن الكلام نظمه على الوجوه المناسبة من الاعتبارات المقدم ذكرها ، وكذا إن كان المقتضى عند انتظام الجملة مع أخرى فصلها أو وصلها ، والإيجاز معها أو الإطناب ، أعني طي جمل عن البين ولا طيها ، فحسن الكلام تأليفه مطابقا لذلك. وما ذكرناه حديث إجمالي ، لا بد من تفصيله ، فاستمع لما يتلى عليك بإذن الله.

فنون الخبر :

وقد ترتب الكلام ههنا ، كما ترى ، على فنون أربعة :

الفن الأول : في تفصيل اعتبارات الإسناد الخبري.

الفن الثاني : في تفصيل اعتبارات المسند إليه.

الفن الثالث : في تفصيل اعتبارات المسند.

الفن الرابع : في تفصيل اعتبارات الفصل والوصل والإيجاز والإطناب.

وقبل أن نمنح هذه الفنون حقها في الذكر ننبهك على أصل ؛ لتكون على ذكر منه ، وهو أن ليس من الواجب في صناعة ، وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل ، أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها ، في استفادة الذوق منها ، فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية ، واعتبارات إلفية ، فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبها في بعض فتاواه ، إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له ، على مهل ، موجبات ذلك الذوق ، وكان شيخنا الحاتمي ، ذلك الإمام الذي لن تسمح بمثله الأدوار ، ما دار الفلك الدوار ، تغمده الله برضوانه ، يحيلنا بحسن كثير من مستحسنات الكلام ، إذا راجعناه فيها ، على الذوق. ونحن حينئذ ممن نبغ في عدة شعب من علم الأدب ، وصبغ بها يده ، وعانى فيها وكده وكده (١) ، وها هو الإمام عبد القاهر ، قدس الله روحه في خ خ دلائل الإعجاز كم يعيد هذا.

__________________

(١) في اللسان : وكد يكد وكدا أي أصاب ، ووكد وكده : قصد قصده وفعل مثل فعله. وما زال ذلك وكدى أى مرادى وهمّى. اللسان مادة (وكد).

٢٥٧

الفن الأول

في تفصيل اعتبارات الإسناد الخبري

الخبر الابتدائي :

من المعلوم أن حكم العقل حال إطلاق اللسان ، هو أن يفرغ المتكلم في قالب الإفادة ما ينطق به تحاشيا عن وصمة اللاغبة ، فإذا اندفع في الكلام مخبرا ، لزم أن يكون قصده في حكمه بالمسند للمسند إليه في خبره ذاك ، إفادته للمخاطب ، متعاطيا مناطها بقدر الافتقار. فإذا ألقى الجملة الخبرية إلى من هو خالي الذهن عما يلقى إليه ، ليحضر طرفاها عنده ، وينتقش في ذهنه استناد أحدهما إلى الآخر ثبوتا أو انتفاء ، كفى في ذلك الانتقاش حكمه ، ويتمكن لمصادفته إياه خاليا :

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ...

فصادف قلبي خاليا فتمكّنا (١)

الخبر الطلبي :

فتستغنى الجملة عن مؤكدات الحكم ، وسمي هذا النوع من الخبر : ابتدائيا.

وإذا ألقاها إلى طالب لها ، متحير طرفاها عنده دون الاستناد ، فهو منه بين بين ، لينقذه عن ورطة الحيرة ، استحسن تقوية المنقذ بإدخال اللام في الجملة ، أو إن ، كنحو : لزيد عارف ، أو إن زيدا عارف.

وسمي هذا النوع من الخبر : طلبيا.

الخبر الإنكاري :

وإذا ألقاها إلى حاكم فيها بخلافه ، ليرده إلى حكم نفسه ، استوجب حكمه ليترجح تأكيدا بحسب ما أشرب المخالف الانكار في اعتقاده ، كنحو : خ خ إني صادق ، لمن ينكر

__________________

(١) البيت من الطويل وهو لمجنون بنى عامر ، أورده الجاحظ في البيان والتبيين (١ / ٤١) وفيه : (قلبا خاليا) وأورده الطيبى في التبيان (١ / ١٤٣) بتحقيقى.

٢٥٨

صدقك إنكارا ، خ خ وإني لصادق ، لمن يبالغ في إنكار صدقك ، خ خ وو الله إني لصادق على هذا ، وإن شئت فتأمل كلام رب العزة علت كلمته : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ)(١).

حيث قال أولا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ). وقال ثانيا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ.) كيف يقرر ما ألقى إليك ، ويسمى هذا النوع من الخبر : إنكاريا.

وإخراج الكلام في هذه الأحوال على الوجوه المذكورة يسمى إخراج مقتضى الظاهر ، وأنه في علم البيان يسمى بالتصريح ، كما ستقف عليه.

والذي أريناك ، إذا أعملت فيه البصيرة ، استوثقت من جواب أبي العباس للكندي حين سأله قائلا : إني أجد في كلام العرب حشوا ، يقولون : خ خ عبد الله قائم ، ثم يقولون : خ خ إن عبد الله قائم ، ثم يقولون : خ خ إن عبد الله لقائم ، والمعنى واحد ، قال : بل المعاني مختلفة وذلك أن قولهم (٢) : خ خ عبد الله قائم ، إخبار عن قيامه ، وقولهم : خ خ إن عبد الله قائم ، جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : خ خ إن عبد الله لقائم ، جواب عن إنكار منكر قيامه.

هذا ثم إنك ترى المفلقين (٣) السحرة في هذا الفن ينفثون الكلام لا على مقتضى الظاهر كثيرا ، وذلك إذا أحلوا المحيط بفائدة الجملة الخبرية ، وبلازم فائدتها علما محل الخالي الذهن عن ذلك لاعتبارات خطابية ، مرجعها تجهيله بوجوه مختلفة ، وإن شئت فعليك بكلام رب العزة : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ

__________________

(١) سورة يس ، الآيات ١٤ ـ ١٦.

(٢) في النسخ كلها [وذلك إن قال : بل المعانى مختلفة فقولهم].

(٣) المفلقين : يقال : أفلق فلان اليوم وهو يفلق ، إذا جاء بعجب. وشاعر مفلق : مجيد ، يجىء بالعجائب في شعره. وأفلق في الأمر إذا كان حاذقا به. اللسان مادة (فلق).

٢٥٩

ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١) ، كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي ، وآخره ينفيه عنهم ، حيث لم يعملوا بعلمهم ، ونظيره في النفي والإثبات : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)(٢) ، وقوله : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ)(٣) فيسوقون الكلام إلى هذا مساقه إلى ذلك ، وهكذا قد يقيمون من لا يكون سائلا مقام من يسأل ، فلا يميزون في صياغة التركيب للكلام بينهما ، وإنما يصبون لهما في قالب واحد ، إذا كانوا قدموا إليه ما يلوح مثله للنفس اليقظى بحكم ذلك الخبر ، فيتركها مستشرفة له استشراف الطالب المتحير ، يتميل بين إقدام للتلويح ، وإحجام لعدم التصريح ، فيخرجون الجملة إليه مصدرة بأن ، ويرون سلوك هذا الأسلوب في أمثال هذه المقامات من كمال البلاغة ، وإصابة المحزّ ، أو ما ترى بشارا كيف سلكه في رائيته (٤) :

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير ...

إنّ ذاك النّجاح في التّبكير

حين استهواه التشبه بأئمة صناعة البلاغة المهتدين بفطرتهم إلى تطبيق مفاصلها ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٠٢.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ١٧.

(٣) سورة التوبة الآية : ١٢.

(٤) بشار بن برد بن يرجوخ ، العقيلي بالولاء ، ولد بالبصرة ، ونشأ في بني عقيل ، اختلف إلى البوادى لاكتساب اللغة ، وكان أعمى ، هجا الخليفة فأمر صاحب شرطته ، فضربه بالسوط حتى مات سنة ١٦٧ ه‍. وقد أوفى على السبعين من العمر. انظر : الأغاني : ٣ / ١٢٩ ٢٤٥ ، وفيات الأعيان : ١ / ١٢٥ ، تجريد الأغاني : ٣٧٢ ، الشعر والشعراء ٧٦١.

والبيت من الخفيف وهو في ديوانه (٣ / ٢٠٣) ، ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني (٢٧٢ ، ٣١٦ ، ٣٢٣) ، والإشارات للجرجاني ص ٣١ والهجير : من الزوال إلى العصر أو شدة الحر.

والشاهد أن في الشطر الأول يلوح بالثاني ، ولهذا أتى به مؤكدا.

٢٦٠