يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]
المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦
وقوله (١) :
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... |
|
قبر ابن مارية الكريم المفضل |
وقوله (٢) :
قومي هم قتلوا أميم أخي ... |
|
فإذا رميت يصيبني سهمي |
وقوله (٣) :
قبائلنا سبع ، وأنتم ثلاثة ... |
|
وللسّبع خير من ثلاث وأكثر |
أو مثل أن تتضمن اعتبارا لطيفا مجازيّا ، كقوله (٤) :
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ... |
|
سهيل أذاعت غزلها في القرائب |
__________________
(١) البيت من الكامل وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ١٢٢ ولسان العرب (جفن) ، (مرا) ، وتاج العروس (فضل) (جفن) (مرى) وبلا نسبة في كتاب العين (٦ / ١٤٦). وروى الأعز الأجلل بدل الكريم المفضل.
(٢) البيت من الكامل وهو للحارث بن وعلة في الدرر ٥ / ١٢٣ وسمط اللآلى ص ٣٠٥ ، ٥٨٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٠٤ وشرح شواهد المغنى ١ / ٦٣ والبيت الذي يليه
فلئن عفوت لأعفون جللا |
|
ولئن سطوت لأوهنن عظمى. |
(٣) البيت من الطويل وهو للقتال الكلابي في ديوانه ص ٥٠ ، والإنصاف (٢ / ٧٧٢) وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٣٧٠) والكتاب (٣ / ٥٦٥)
(٤) البيت من الطويل وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر (٣ / ١٩٣) وخزانة الأدب (٣ / ١١٢ ، ٩ / ١٢٨) ، وشرح المفصل (٣ / ٨) ، ولسان العرب (غرب). ويروى الغرائب بدل القرائب.
والقرائب : الجمع من النساء اللسان : (قرب).
وقوله (١) :
إذا قال : قدني ، قال بالله حلفة ... |
|
لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا |
أو مثل أن تتضمن نوع تعظيم باعتبار ، كما تقول : خ خ عبدي حضر ، فتعظم شأنك أن لك عبدا ، أو كما تقول : خ خ عبد الخليفة حضر ، فتعظم شأن العبد ، أو كما تقول : خ خ عبد الخليفة عند فلان ، فتعظم شأن فلان ، أو نوع تحقير ، كما تقول : خ خ ولد الحجّام عنده ، أو غرضا من الأغراض ممكن التعلق بالإضافة.
المسند إليه معرفة موصوفة :
وأما الحالة التي تقتضي وصف المعرّف : فهي إذا كان الوصف مبينا له كاشفا عنه ، كما إذا قلت : خ خ الجسم الطويل العريض العميق محتاج إلى فراغ يشغله ، أو قلت : خ خ المتقي الذي يؤمن ويصلي ويزكي على هدى من ربه ، فبيّنت بالوصف على ألطف وجه أن المتقي هو الذي يفعل الواجبات بأسرها ، ويجتنب الفواحش والمنكرات عن آخرها ، وكشفته كشفا كأنك حدّدته.
ووجه اللطافة هو أنك ذكرت أساس الحسنات ومنصبها ، وهو : الإيمان ، وعقبته بأمي العبادات البدنية والمالية المستتبعتين لسائر العبادات وهما : الصلاة والزكاة ؛ فأفدت بذلك فعل الواجبات بأسرها ، وذكرت الناهي عن الفحشاء والمنكر ، وهو الصلاة ، فأفدت ذلك اجتناب الفواحش عن آخرها ، ونظيره في تنزيل الوصف منزلة الكاشف للمجرى عليه قول أوس (٢) :
__________________
(١) البيت من الطويل وهو لحريث بن عناب في خزانة الأدب (١١ / ٤٣٤ ، ٤٣٥ ، ٤٣٩ ، ٤٤١ ، ٤٤٣) ، والدرر (٤ / ٢١٧) ومجالس ثعلب ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٠٧ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٥٥٩. ويروى إذا قيل بدل إذا قال. القدن : الكافية والحسب (اللسان : قدن).
(٢) البيت من المنسرح وهو لأوس بن حجر في ديوانه ص ٥٣ ولسان العرب (حظرب) و (لمع) وديوان الأدب (١ / ٢٧٣) ومعاهد التنصيص (١ / ١٢٨) ولأوس أو لبشر بن أبي خازم في تاج العروس (لمع) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة (٥ / ٢١٢).
الألمعيّ الذي يظنّ بك الظن ... |
|
كأن قد رأى وقد سمعا |
حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي ، فأنشده ولم يزد ، ومما تواخى هذا قوله جل وعلا : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)(١) عن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع؟ فقلت : قد فسره الله تعالى.
أو مدحا له كقولك : الله الخالق البارئ المصور ، أو كما إذا قلت : المتقي الذي يؤمن ويصلي ويزكي على هدى ، ولم ترد إلا مدحه ، أو ذمّا له ، كقولك : إبليس اللعين ضال مضل ، أو مخصصا له زيادة تخصيص ، مفيدا غير فائدة الكشف أو المدح كقولك : زيد التاجر عندنا ، أو كما إذا قلت : المتقي الذي يؤمن ويصلي على هدى ، وأنت تريد بالمتقي المجتنب عن المعاصي ، أو تأكيدا له مجردا كقولك : أمس الدابر لا يعود ، وكان ما تعلق بالوصف مطلوبا ، ولما ترى من طلب التمييز بالوصف وامتناع أن تميز شيئا عن شيء بما لا تعرفه له يمكنك أن تتوصل به إلى أن حق الوصف كونه عند السامع معلوم التحقق للموصوف ، ولعلمك بأن تحقق الشيء للشيء فرع تحققه في نفسه ، لا يشتبه عليك أن حق كل وصف هو أن يكون في نفسه ثابتا متحققا ، وأن حق كل ما تقصد ثبوته للغير أن يكون في نفسه ثابتا ، وعندك ، فما لا يكون ثابتا كذلك أو متحققا يمتنع منك جعله وصفا ، وكذا خبرا أيضا ، بحكم عكس النقيض.
وعسى إذا استوضحت ما أريناكه أن تجذب بضبعك ، في تزييف رأي من لا يرى الصفة معلومة ، وأن تتحقق أن محاولة إثبات الثابت في نفسه لشيء آخر يستدعي ثبوت ذلك الشيء الآخر في نفسه لا محالة ، ثم لعلمك أن الطلب سعي في التحصيل ، وأن تحصيل الحاصل ممتنع ، كما سيأتيك كل ذلك في قانون الطلب ، تعلم أن مطلوبك مثله في نحو : هل رأيت كذا؟ وفي نحو : اضرب ، يمتنع أن يكون ثابتا عندك ومتحققا ، فيمتنع
__________________
(١) سورة المعارج ، الآيات : ١٩ ـ ٢١.
أن تجعل مثله وصفا له أو خبرا ، ولذلك تسمعنا في مثل قوله (١) :
جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قطّ
نقول : تقديره جاءوا بمذق مقول عنده هذا القول ، أي يحمل المذق رائيه أن يقول لمشاهده : هل رأيت الذئب قط ، لإيراده في خيال الرائي لون الذئب بورقته (٢) لكونه سمارا ، وفي مثل : زيد اضربه ، أو لا تضربه ، أنه محمول على يقال ، أي يقال في حقه : اضربه أو لا تضربه ، ونفسر قراءة ابن عباس ، رضياللهعنه : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ)(٣) على لفظ (من) الاستفهاميّ ورفع فرعون ، بأنه لما وصف الله تعالى العذاب بكونه مهينا ، بيانا لشدته وفظاعة أمره ، وأراد أن يصور كنهه ، قال : من فرعون؟ هل تعرفونه من هو في فرط عتوه وشدة شكيمته في تفرعنه؟ ما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله؟ ثم عرف حاله في ذلك قائلا : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ)(٤) وسيطلع من كتابنا هذا من خدمه حق خدمته على ثمرات محتجبة في أكمام.
تأكيد المسند إليه :
وأما الحالة التي تقتضي تأكيده : فهي إذا كان المراد أن لا يظن بك السامع في
__________________
(١) الرجز للعجاج في ملحق ديوانه (٢ / ٣٠٤) وخزانة الأدب (٢ / ١٠٩) والدرر (٦ / ١١٠). قال :
حتى إذا جنّ الظلام واختلط ... |
|
جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قطّ |
المذق : المزج والخلط ، المذقة : الشربة من اللبن الممذوق اللسان (مذق).
(٢) الورقة بضم الواو : سواد في غبرة. والأورق : اللبن الذي ثلثاه ماء وثلثه لبن. اللسان مادة (ورق).
وقال في اللسان مادة (مذق) : وأبو مذقة : الذئب ؛ لأن لونه يشبه لون المذقة ؛ ولذلك قال : جاءوا بضيح هل رأيت الذئب قط؟ شبه لون الضيح ، وهو اللبن المخلوط ، بلون الذئب.
(٣) سورة الدخان ، الآيات : ٣٠ ـ ٣١.
(٤) سورة الدخان الآية : ٣١.
حملك ذلك تجوزا أو سهوا أو نسيانا ، كقولك : عرفت أنا ، وعرفت أنت ، وعرف زيد زيد ، أو نفسه ، أو عينه ، وربما كان القصد مجرد التقرير ، كما يطلعك عليه فصل اعتبار التقديم والتأخير مع الفعل ، أو خلاف الشمول والإحاطة ، كقولك : عرفني الرجلان كلاهما ، والرجال كلهم ، ومنه كل رجل عارف ، وكل إنسان حيوان.
بيان وتفسير المسند إليه :
وأما الحالة التي تقتضي بيانه وتفسيره ، فهي إذا كان المراد زيادة إيضاحه بما يخصه من الاسم ، كقولك : صديقك خالد قدم ، وقوله علت كلمته : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ)(١) من هذا القبيل ، شفع إلهين باثنين ، و (إله) بواحد ؛ لأن لفظ إلهين يحتمل معنى الجنسية ومعنى التثنية ، وكذا لفظ : (إله) يحتمل الجنسية والوحدة ، والذي له الكلام مسوق هو العدد في الأول والوحدة في الثاني ، ففسر إلهين باثنين ، و (إله) بواحد ؛ بيانا لما هو الأصل في الغرض.
ومن هذا الباب من وجه قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(٢) ذكر (فِي الْأَرْضِ) مع دابة ، (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) مع طائر ، لبيان أن القصد من لفظ (دابة) ولفظ (طائر) إنما هو إلى الجنسين وإلى تقريرهما.
البدل عن المسند إليه :
وأما الحالة التي تقتضي البدل عنه فهي : إذا كان المراد نية تكرير الحكم ، وذكر المسند إليه بعد توطئة ذكره ؛ لزيادة التقرير والإيضاح ، كقولك : سلب زيد ثوبه ، وجاء القوم أكثرهم ، وحق عليك الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم ، في الأنواع الثلاثة من البدل دون الرابع ، فليتأمل.
__________________
(١) سورة النحل ، الآية : ٥١.
(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٣٨.
عطف المسند إليه :
وأما الحالة التي تقتضي العطف فهي : إذا كان المراد تفصيل المسند إليه مع اختصار ، كقولك : جاء زيد وعمرو وخالد ، أو تفصيل المسند مع اختصار ، كقولك : جاء زيد فعمرو فخالد ، أو ثم عمرو ثم خالد ، أو جاء القوم حتى خالد ، ولا بد في (حتى) من التدريج ، كما ينبئ عنه قول من قال (١) :
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... |
|
بي الحال حتّى صار إبليس من جندي |
أو كان المراد رد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب ، كقولك : جاءني زيد لا عمرو ، لمن في اعتقاده أن عمرا جاءك دون زيد ، أو أنهما جاآك معا ، وكقولك : ما جاءني زيد لكن عمرو ، لمن في اعتقاده أن زيدا جاءك دون عمرو ، أو كان المراد صرف حكمك عن محكوم له إلى آخر ، كقولك : جاءني زيد بل عمرو ، وما جاءني زيد بل عمرو ، أو كان المراد الشك فيه أو التشكيك ، كقوله : جاءني زيد أو عمرو ، أو إما زيد وإما عمرو ، أو كان المراد التفسير ، كقولك : جاءني أخوك أي زيد ، على قولي ، وفي العطف لا سيما العطف بالواو كلام يأتيك في الفن الرابع ، إن شاء الله تعالى.
فصل المسند إليه :
وأما الحالة التي تقتضي الفصل فهي : إذا كان المراد تخصيصه للمسند بالمسند إليه ، كقولك : زيد هو المنطلق ، زيد هو أفضل من عمرو ، أو خير منه ، زيد هو يذهب.
تنكير المسند إليه :
وأما الحالة التي تقتضي تنكيره فهي : إذا كان المقام للإفراد شخصا أو نوعا ، كقولك : جاءني رجل : أي فرد من أشخاص الرجال ، وقوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَ كُلَ
__________________
(١) البيت من الطويل. وهو لأبي نواس الحسن بن هانئ. الإيضاح (١ / ١٣٤) ويروى فارتمى بدل فارتقى.
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)(١) أي : من نوع من الماء مختص بتلك الدابة ، أو من ماء مخصوص ، وهي : النطفة ، أو كان المقام غير صالح للتعريف ، إما لأنك لا تعرف منه حقيقة إلا ذلك القدر ، وهو أنه رجل ، أو تتجاهل وترى أنك لا تعرف منه إلّا جنسه ، كما إذا سمعت شيئا في اعتقادك فاسدا عمن هو مفتر كذاب ، وأردت أن تظهر لأصحاب لك سوء اعتقادك به ، قلت : هل لكم في حيوان على صورة إنسان يقول : كيت وكيت؟ متفاديا أن تقول في فلان فتسميه ، كأنك لست تعرف منه ، ولا أصحابك ، إلا تلك الصورة ، ولعله عندكم أشهر من الشمس ، وعليه ما يحكيه ، جل وعلا ، عن الكفار في حق النبي عليهالسلام : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(٢) كأن لم يكونوا يعرفون منه إلا أنه رجل ما.
وباب التجاهل في البلاغة ، وإلى سحرها ، وإن شئت فانظر لفظ (كأن) في قول الخارجية (٣) :
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... |
|
كأنك لم تجزع على ابن طريف |
ماذا ترى؟ أو الاستخبار في قول علام الغيوب (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ)(٤).
متضمنا للتوبيخ لهم على تمريضهم (٥) ، ورخاوة عقدهم في الإيمان ، ناعيا عليهم أن يتوقع من أمثالهم ، إن تولوا أمور الناس وتأمروا عليهم ، أن يفسدوا في الأرض ويقطعوا
__________________
(١) سورة النور ، الآية : ٤٥.
(٢) سورة سبأ ، الآية : ٧.
(٣) البيت من الطويل وهو لليلى بنت طريف في الأغاني (١٢ / ٨٥) ، ٨٦) ، والحماسة الشجرية (١ / ٣٢٨) والدرر (٢ / ١٦٣) ولليلى أو لمحمد بن بجرة في سمط اللآلى ص ٩١٣ وللخارجية في الأشباه والنظائر (٥ / ٣١٠) ، وديوان الخوارج (٢٣٩) وبلا نسبة في لسان العرب (خبر).
(٤) سورة محمد الآية : ٢٢.
(٥) تمريض الأمور ، توهينها وأن لا تحكمها ، ورأى مريض ، فيه انحراف عن الصواب. اللسان (مرض).
أرحامهم ؛ تناحرا في الملك ، وتهالكا على الدنيا ؛ ليهجم بهم التأمل في المتوقع على ما يثمر من : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ)(١) لئلا يلبسوا ، لمن إذا عرض لهم بذلك ، على سبيل النصيحة ، جلد النمر ، وأن لا تنقلب له حماليقهم (٢) ، وإما لأنه لا طريق لك إلى تعريف الزائد على هذا القدر لسامعك ، وإما لأن في تعيينه مانعا يمنعك ، وإما لأنه في شأنه ارتفاعا أو انحطاطا واصل إلى حد يوهم أنه لا يمكن أن يعرف ، فتقول في جميع ذلك : عندي رجل ، أو حضر رجل. وقولهم : شرّ أهرّ ذا ناب (٣) من الاعتبار الأخير ، وستسمع في مثل هذا التركيب ، أعني نحو : رجل جاء ، وامرأة حضرت ، فوائد. وكذا قولك ، في حق من يحقر مقداره في نوع من الأنواع : عنده شمة ، قال تعالى : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ)(٤) ومنه : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)(٥)
__________________
(١) سورة محمد الآية ٢٣.
(٢) حماليقهم : جمع : حملاق : ماغطت الجفون من بياض المقلة ، وبياض العين.
(٣) قال ابن منظور : قال سيبويه : وحسن الابتداء بالنكرة لأنه في معنى : ما أهرّ ذا ناب إلا شرّ أعنى أن الكلام عائد إلى معنى النفي ، وإنما كان المعنى هذا ؛ لأن الخبرية عليه أقوى ، قال : وإنما احتيج في هذا الموضع إلى التوكيد من حيث كان أمرا مهما ، وذلك أن قائل هذا القول سمع هرير كلب فأضاف منه وأشفق لاستماعه أن يكون لطارق شر ، فقال : شر أهر ذا ناب ، أي : ما أهر ذا ناب إلا شر ، تعظيما للحال عند نفسه ، وعند مستمعه ، وليس هذا في نفسه ، كأن يطرقه ضيف أو مسترشد ، فلما عناه وأهمه أكد الإخبار عنه ، وأخرجه مخرج الإغلاظ به. اه. اللسان (هرر).
(٤) سورة الأنبياء ، الآية ٤٦.
(٥) سورة الجاثية ، الآية : ٣٢.
وقول ابن أبي السمط (١) :
له حاجب في كلّ أمر يشينه ... |
|
وليس له عن طالب العرف حاجب |
منه أيضا ، انظر إليه ، كيف تجد الفهم والذوق يقتضيانك كمال ارتفاع شأن حاجب الأول ، وكمال انحطاط حاجب الثاني ، وقال تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)(٢) فنكر لتهويل أمرها ، وقال : (لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(٣) على معنى ، ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، لمنعه عما كانوا عليه من قتل الجماعة بواحد متى اقتدروا ، أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لمكان العلم بالاقتصاص ، أو ما ترى إذا همّ بالقتل فتذكر الاقتصاص ، فأورثه أن يرتدع ، كيف يسلم صاحبه من القتل ، وهو من القود ، فيتسبب لحياة نفسين.
ولمعنى طلب التعظيم والتهويل بالتنكير قال تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)(٤) دون أن يقول : بحرب الله ورسوله ، ولخلاف ذلك قال : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)(٥) دون أن يقول : رضوان الله ، قصدا إلى إفادة : وقدر يسير من رضوانه خير من ذلك كله ؛ لأن رضاه سبب كل سعادة وفلاح ، وأما
__________________
(١) البيت من الطويل وهو لأبي الطمحان القينى في ديوان المعاني (١ / ١٢٧) ولابن أبي السمط في معاهد التنصيص (١ / ١٢٧) والمصباح (٢٥) وزهر الآداب (١ / ٥٥١) ولمروان بن أبي حفصة في شرح شواهد المغنى ص ٩٠٩ وبلا نسبة في أمالي القالى (١ / ٢٣٨) والتبيان (١ / ١٧١) (العرق ـ عرق كل شئ : أصله ، والجمع أعراق وعروق ورجل معرق في الحسب والكرم ، ويستعمل في اللؤم أيضا. اللسان (عرق).
(٢) سورة البقرة ، الآية : ٧.
(٣) سورة البقرة الآية : ١٧٩.
(٤) سورة البقرة الآية : ٢٧٩.
(٥) سورة التوبة : الآية : ٧٢.
قوله : (أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ)(١) بالتنكير ، دون عذاب الرحمن بالإضافة ، فإما للتهويل (٢) ، وإما بخلافه ، بمعنى : أخاف أن يصيبك نفيان (٣) من عذاب الرحمن ، وقال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ)(٤) المعنى رسل أي رسل ، ذوو عدد كثير ، وأولو آيات ونذر ، وأهل أعمار طوال ، وأصحاب صبر وعزم ، وما أشبه ذلك.
__________________
(١) سورة مريم ، الآية ٤٥.
(٢) قال الألوسى : وفي الكشف أن الحمل على التفخيم في عذاب كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام ، أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة. قال : ويلقى في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق. اه. روح المعاني (١٦ / ٩٨).
(٣) نفىّ القدر : ما جفأت به عند الغلى ، ونفى الريح : ما نفى من التراب من أصول الحيطان ونحوه ، وكذلك نفى المطر ، ونفى القدر ، والنفيان مثله. اللسان (نفى).
(٤) سورة فاطر الآية ٤.
تقديم المسند إليه على المسند :
وأما الحالة التي تقتضي تقديمه على المسند فهي : متى كان ذكره أهم ، ثم إن كونه أهم ، يقع باعتبارات مختلفة : إما لأن أصله التقديم ، ولا مقتضى للعدول عنه ، وستسمع كلاما في هذا المعنى في آخر الفن الثالث ، إن شاء الله تعالى ، وإما لأنه متضمن للاستفهام ، كقولك : أيهم منطلق ، وسيقرر في القانون الثاني.
وإما لأنه ضمير الشأن والقصة ، كقولك : هو زيد منطلق ، وعن قريب تعرف السر في التزام تقدمه ، وإما لأن في تقديمه تشويقا للسامع إلى الخبر ؛ ليتمكن في ذهنه إذا أورده ، كما إذا قلت : صديقك فلان الفاعل الصانع رجل صدوق ؛ وهو إحدى خواص تراكيب الأخبار في باب الذي ، كما إذا قلت بدل قولك : زيد منطلق ، الذي زيد هو منطلق ، أو بدل قولك : خبر مقدمك سرني ، الذي هو سرني خبر مقدمك. أو الذي خبره سرني مقدمك ، وهو السبب في التزام تأخير الخبر في هذا الباب ، وامتناع الإخبار عن ضمير الشأن ، والمراد بالإخبار في عرف النحويين في هذا الباب ، هو أن تعمد إلى أي اسم شئت فتزحلقه إلى العجز ، وتصير ما عداه صلة للذي ، إن كانت الجملة اسمية.
وأما إن كانت فعلية ، فله أو للألف واللام بمعناه ، واضعا مكان المزحلق ضميرا عائدا إلى الموصول ، مراعيا في ذلك ما أفادك علم النحو ، مثل : إن ضمير الشأن ملتزم التقديم ، وإن الضمير لا ينصب مفعولا ، وإن الحال لا يكون معرفا ، وإن ربط المعنى بالمعنى إذا كان بسبب عود الضمير ، فلا بد منه.
وأنا أضرب لك أمثلة لتتحقق جميع ذلك. قل في الإخبار عن ضميرك في : أظن الذباب يطير في الجو فيغضب أبا زيد ، الذي يظن الذباب يطير في الجو ، فيغضب أبا زيد ، أنا ، أو الظان الذباب ، وعن الذباب الذي أظنه يطير في الجو فيغضب أبا زيد الذباب ، وعن الجو الذي أظن الذباب يطير فيه فيغضب أبا زيد الجو ، وعن أبي زيد الذي أظن الذباب يطير في الجو فيغضبه أبو زيد ، وعن زيد الذي أظن الذباب يطير في الجو فيغضب أباه زيد ، ولا تخبر في قولك : هو إكرامي زيدا قادما ، واجب عن ضمير الشأن ؛ لئلا يلزم تأخيره الممتنع ، ولا عن الإكرام لئلا يلزم إعمال الضمير الذي يقع موقعه في زيدا ، ولا عن : قادما ؛ لئلا يلزم وقوع الضمير الذي هو معرفة ، موقع الممتنع
عن التعريف ، وهو الحال ، ولا عن الضمير في : واجب ، لئلا يلزم من عود الضمير القائم مقامه إذا عاد إلى الموصول ، كما يجب ترك ربط الخبر بالمبتدأ.
وإما لأن يتقوى استناد الخبر إليه على الظاهر ، كما ستعرفه في الفن الثالث ، وإما لأن اسم المسند إليه يصلح للتفاؤل ، فتقدمه إلى السامع لتسره أو تسوءه ، مثل أن تقول : سعيد بن سعيد في دار فلان ، وسفاك بن الجراح في دار صديقك.
وإما لأن كونه متصفا بالخبر يكون هو المطلوب ، كما إذا قيل لك : كيف الزاهد؟
فتقول : الزاهد يشرب ويطرب ، وإما لتوهم أنه لا يزول عن الخاطر ، أو أنه يستلذ ، فهو إلى الذكر أقرب ، وإما لأن تقديمه ينبىء عن التعظيم ، والمقام يقتضي ذلك ، وإما لأنه يفيد زيادة تخصيص ، كقوله (١) :
متى تهزز بني قطن تجدهم ... |
|
سيوفا في عواتقهم سيوف |
جلوس في مجالسهم رزان ... |
|
وإن ضيف ألمّ فهم خفوف |
والمراد هم خفوف ، وقوله (٢) :
بحسبك في القوم أن يعلموا ... |
|
بأنك فيهم غنىّ مضر |
مسيخ مليخ كلحم الحوار ... |
|
لا أنت حلو ، ولا أنت مرّ |
__________________
(١) البيتان من الوافر ولا يعلم قائلهما ، وينسبان إلى النابغة الذبياني في ديوان المعاني (٣٤). وبلا عزو في الإيضاح (١ / ١٣٦) والمصباح (٢٧).
(٢) البيتان من المتقارب ، وهما للأشعر الرقبان في تذكرة النحاة (٤٤٣ ـ ٤٤٤) ولسان العرب (مسخ) ، (ضرر) والمعاني الكبير (٤٩٦) ونوادر أبي زيد (٧٣) وبلا نسبة في الإنصاف (١ / ١٧٠) ، وديوان المعاني (١ / ٣٥) وشرح ديوان الحماسة ص ١٤٦٩ ، وشرح المفصل (٢ / ١١٥) ، (٨ / ٢٣ ـ ١٣٩).
والحوار والحوار : ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم ويفصل.
المسيخ : من اللحم الذي لا طعم له. والمليخ : الضعيف ، والذي لا طعم له.
وأشباه ذلك.
تأخير المسند إليه عن المسند
وأما الحالة التي تقتضي تأخيره عن المسند فهي : إذا اشتمل المسند على وجه من وجوه التقديم ، كما سترد عليك في الفن الثالث ، إن شاء الله تعالى.
إطلاق المسند إليه ، أو تخصيصه ، حال التنكير :
وأما الحالتان المقتضيتان لإطلاق المسند إليه أو تخصيصه حال التنكير ، فأنت إذا مهرت فيما تقدم استغنيت عن التعريف فيهما.
قصر المسند إليه على المسند :
وأما الحالة المقتضية لقصر المسند إليه على المسند ، فهي : أن يكون عند السامع حكم مشوب بصواب وخطأ ، وأنت تريد تقرير صوابه ونفي خطئه ، مثل أن يكون عند السامع : أن زيدا متمول وجواد ، فتقول له : زيد متمول لا جواد ، ليعرف أن زيدا مقصور على التمول ، لا يتعداه إلى الجود ، أو تقول له : ما زيد إلا متمول ، أو إنما زيد متمول ، وعليه ما يحكي عزوجل في حق يوسف عن النسوة : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(١) أي أنه مقصور على الملكية ، لا يتخطاها إلى البشرية ، وما يحكى عن اليهود في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(٢) أي : يقولون : نحن مقصورون على الصلاح لا يتأتى منا أمر سواه.
واعلم أن القصر كما يكون للمسند إليه على المسند يكون أيضا للمسند على المسند إليه ، ثم هو ليس مختصّا بهذا البين ، بل له شيوع وله تفريعات ، فالأولى أن نفرد للكلام في ذلك فصلا ، ونؤخره إلى تمام التعرض لما سواه في قانوننا هذا ؛ ليكون إلى الوقوف عليه أقرب.
__________________
(١) سورة يوسف الآية : ٣١.
(٢) سورة البقرة الآية ١١.
واعلم أن جميع ذلك هو مقتضى الظاهر ، ثم قد يخرج المسند إليه ، لا على مقتضى الظاهر ، فيوضع اسم الإشارة موضع الضمير ، وذلك إذا كملت العناية بتمييزه ، إما لأنه اختص بحكم بديع عجيب الشأن ، كقوله (١) :
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... |
|
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا |
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... |
|
وصيّر العالم النّحرير زنديقا |
وإما لأنه قصد التهكم بالسامع والسخرية منه ، كما إذا كان فاقد البصر ، أو لم يكن ، ثم مشار إليه أصلا ، أو النداء على كمال بلادته بأنه لا يميز بين المحسوس بالبصر وغيره ، أو على كمال فطانته ، وبعد غور إدراكه بأن غير المحسوس بالبصر عنده كالمحسوس عند غيره ، أو قصد ادعاء أنه ظهر ظهور المحسوس بالبصر كقوله (٢) :
تعاللت كي أشجى ، وما بك علة ... |
|
تريدين قتلي ، قد ظفرت بذلك |
وما شاكل ذلك ، ويوضع المضمر موضع المظهر ، كقولهم ابتداء من غير جري ، ذكر لفظا أو قرينة حال : رب رجلا ، ونعم رجلا زيد ، وبئس رجلا عمرو ، مكان رب رجل ، ونعم الرجل ، وبئس الرجل ، على قول من لا يرى الأصل : زيد نعم رجلا ، وعمرو بئس رجلا ، وقولهم : هو زيد عالم ، وهي هند مليحة ، مكان الشأن : زيد عالم ، والقصة هند مليحة ، ليتمكن في ذهن السامع ما يعقبه ، وذلك أن السامع متى لم يفهم
__________________
(١) البيتان من البسيط وهما لأحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندى المتوفى سنة ٢٥٠ ه الإيضاح (١ / ١٥٥) معاهد التنصيص (١ / ١٤٧) ، شرح عقود الجمان (١ / ١٠٤).
والبيتان ذكرهما الطيبى في التبيان ثم قال بعدهما : أذهب الله عمى قلبه فهلا قال :
كم من أديب فهم قلبه ... |
|
مستكمل العقل مقلّ عديم |
ومن جهول مكثر ماله ... |
|
ذلك تقدير العزيز العليم |
البيتان (١ / ١٥٨) بتحقيقى.
(٢) البيت من الطويل : وهو لابن الدمينة ، شعره (ص ١٦) الإيضاح (١ / ١٥٥) نهاية الإيجاز ص ١١٠ معاهد التنصيص (١ / ١٥٩).
من الضمير معنى ، بقي منتظرا لعقبى الكلام كيف تكون ، فيتمكن المسموع بعده فضل تمكن في ذهنه ، وهو السر في التزام تقديمه ، قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(١) وقال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ)(٢) كما يوضع المظهر موضع المضمر إذا أريد تمكين نفسه زيادة تمكين ، كقوله (٣) :
إن تسألوا الحقّ نعط الحقّ سائله
وقوله عز قائلا : (اللهُ الصَّمَدُ) بعد قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ونظيره ، خارج باب المسند إليه : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)(٤) وكذا : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٥) وتترك الحكاية إلى المظهر ، إذا تعلق به غرض فعل الخلفاء حيث يقولون : أمير المؤمنين يرسم لك ، مكان : أنا أرسم ، وهو إدخال الروعة في ضمير السامع ، وتربية المهابة أو تقوية داعي المأمور ، وعليه قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٦) ، أو فعل المستعطف حيث يقول : أسيرك يتضرع إليك ، مكان : أنا أتضرع إليك ، ليكون أدخل في الاستعطاف ، وعليه قوله (٧) :
إلهي عبدك العاصي أتاكا
__________________
(١) سورة الإخلاص ، الآية ١ ، ٢.
(٢) سورة الحج الآية ٤٦.
(٣) البيت من البسيط وهو لعبد الله بن عنمة الضبى الشاعر المخضرم. الإيضاح (١ / ١٥٦) وشرح ديوان الحماسة (٥٨٥) والمفضليات (ص ٣٨٢) وتمامه : والدرع محقبة والسيف مقروب.
(٤) سورة الإسراء ، الآية : ١٠٥.
(٥) سورة البقرة ، الآية : ٥٩.
(٦) سورة آل عمران الآية : ١٥٩.
(٧) البيت من الوافر وهو لإبراهيم بن أدهم ؛ الإيضاح (١ / ١٥٦) ، الإشارات ص ٥٥ معاهد التنصيص (١ / ١٧٠) ، شرح عقود الجمان (١ / ١٠٥).
وتتمة البيت :
مقرا بالذنوب وقد دعاكا.
وبعده :
فإن تغفر فأنت لذاك أهل ... |
|
وإن تطرد فمن يرحم سواكا |
وما جرى مجرى هذا الاعتبار.
[الالتفات](١)
واعلم أن هذا النوع ، أعني نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة ، لا يختص المسند إليه ، ولا هذا القدر ، بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحد منها إلى الآخر ، ويسمى هذا النقل التفاتا عند علماء علم المعاني ، والعرب يستكثرون منه ، ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع ، وأحسن تطرية لنشاطه ، وأملأ باستدرار إصغائه ، وهم أحرياء بذلك. أليس قرى الأضياف سجيتهم ، ونحر العشار للضيف دأبهم وهجّيراهم (٢) ، لا مزقت أيدي الأدوار لهم أديما ، ولا أباحت لهم حريما ، أفتراهم يحسنون قرى الأشباح ، فيخالفون فيه بين لون ولون ، وطعم وطعم ، ولا يحسنون قرى الأرواح ، فلا يخالفون فيه بين أسلوب وأسلوب ، وإيراد وإيراد ، فإن الكلام المفيد عند الإنسان ، لكن بالمعنى لا بالضرورة ، أشهى غذاء لروحه وأطيب قرى لها ، قال ربيعة بن مقروم : (٣)
__________________
(١) هذا العنوان من وضعنا. والالتفات عرفه الطّيبى تعريفا دقيقا في كتابه التبيان فقال : هو الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث ، أعنى الحكاية والخطاب ، والغيبة إلى الأخرى لمفهوم واحد رعاية لنكتة التبيان ٢ / ٣٤٧ بتحقيقى ط المكتبة التجارية بمكة المكرمة ، وقد أفاد الطيبى من تنبيه ابن الأثير في المثل السائر ٢ / ١٦٩ على أن الالتفات لا يكون إلا لفائدة اقتضته ، فالتفت الطيبى إلى ذلك ، ونص في تعريفه للالتفات على أنه إنما يكون رعاية لنكتة ، ويتفرد الطيبى بنصه على ذلك دون عامة البلاغيين المعاصرين له أو السابقين. وانظر في تعريف الالتفات : الزمخشري : الكشاف ١ / ١٠ والقزويني ؛ الإيضاح ص ١٥٧ بتحقيق د / خفاجى ، وابن مالك : المصباح ص ٣٠ ، الرازي : نهاية الإيجاز ص ٢٨٧ ، والعلوى : الطراز ٢ / ١٣٢.
(٢) هجّيراهم : دأبهم وديدانهم وعادتهم.
(٣) ربيعة بن مقروم الضبي : من ضبة ، جاهلي إسلامي ، شهد القادسية وجلولاء ، أسرته عبد القيس ثم منت عليه بعد دهر. والأبيات من البسيط.
الإيضاح (١ / ١٥٧) المفضليات (٣٧٥) الأغاني (١٩ / ٩٣).
بانت سعاد فأمسى القلب معمودا ... |
|
وأخلفتك ابنة الحرّ المواعيدا |
فالتفت كما ترى حيث لم يقل : وأخلفتني ، ثم قال :
ما لم ألاق امرءا جزلا مواهبه ... |
|
سهل الفناء رحيب الباع محمودا |
وقد سمعت بقوم يحمدون فلم ... |
|
أسمع بمثلك لا حلما ولا جودا |
فالتفت كما ترى حيث لم يقل : بمثله ، وقال (١) :
تذكرت ، والذكرى تهيجك زينبا ... |
|
وأصبح باقي وصلها قد تقضّبا |
وحلّ بفلج والأباتر أهلنا ... |
|
وشطت فحلّت غمرة فمثقّبا |
فالتفت في البيتين. وقال عوف بن الأحوص (٢) :
لهدّمت الحياض فكم (٣) يغادر ... |
|
بحوض من نصائبه إزاء |
لخولة إذ هم مغني وأهلي ... |
|
وأهلك ساكنون وهم رياء |
فالتفت في الثاني ، وقال عبد الله بن عنمة (٤) :
ما إن ترى السيد زيدا في نفوسهم ... |
|
كما تراه بنو كوز ومرهوب |
إن تسألوا الحقّ نعطي (٥) الحق سائله ... |
|
والدرع محقبة والسيف مقروب |
__________________
(١) البيتان من الطويل له ، وهما في الإيضاح (١ / ١٥٧) ، المفضليات (٣٧٥).
(٢) البيتان من الوافر وهما للشاعر عوف بن الأحوص بن جعفر ولم أعثر عليهما.
(٣) في (غ) : فلم.
(٤) البيتان من البسيط وعبد الله بن عنمة الضبي ، شاعر مخضرم. وسبق تخريجهما ، والسيد ، وبنو كوز ، ومرهوب : أحياء من ضبة.
(٥) كذا في (ط) و (غ) بإثبات الياء ، وفي (د) (نعط) وكلاهما صحيح جائز فإن إثبات حرف العلة في مثله جائز ، وقد ذكر ابن مالك شواهد لهذا كثيرة في شرح شواهد التوضيح (ص ١٣) وما بعدها ، وانظر تعليق العلامة أحمد شاكر على الرسالة للإمام الشافعي مكتبة حامد حورى الأحاديث (٧١٢ ، ٧٥٥ ، ٨٥٨ ، ٨٧٣ ، ٨٧٦) وغيرها.
فالتفت في (تسألوا).
وقال الحارث بن حلزة (١) :
طرق الخيال ، ولا كليلة مدلج ... |
|
سدكا بأرحلنا ولم يتعرج |
أنى اهتديت لنا ، وكنت رجيلة ... |
|
والقوم قد قطعوا متان السجسج |
فالتفت في الثاني.
وقال علقمة بن عبدة (٢) :
طحا بك قلب في الحسان طروب ... |
|
بعيد الشباب عصر حان مشيب |
تكلّفني ليلى وقد شطّ وليها ... |
|
وعادت عواد بيننا وخطوب |
فالتفت في البيتين.
وقال امرؤ القيس (٣)
تطاول ليلك بالإثمد ... |
|
ونام الخلّي ولم ترقد |
__________________
(١) الحارث بن حلزة أبو ظليم ، اشتهر بمعلقته ، عمر طويلا حتى زعم الأصمعي أنه كان له من العمر خمس وثلاثون ومائة سنة عند إنشاد المعلقة ، والبيتان من الكامل. وهما في ديوانه ص ٤٢ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١١٣٧ ، وشعراء النصرانية ص ٤١٩ والتنبيه والإيضاح ١ / ٢٠٩ وسمط اللآلى ص ٤٩٠ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٦٤٦ ولسان العرب (سجج) ويروى (طاف) بدل (طرق) ، (بأرجلنا) بدل (بأرحلنا) وأني أهتديت وكنت غير رجيلة.
(٢) علقمة بن عبدة : من تميم ، شاعر جاهلي ، من معاصري امرىء القيس ، واتصل بملوك الغساسنة والمناذرة والبيتان من الطويل.
في ديوانه ص ٣٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٩٢ ، ١١ / ٢٨٩ والإيضاح (١ / ١٥٨) والمصباح ص ٣٢ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٩٩.
(٣) امرؤ القيس : جندح بن حجر الكندي ، أبوه سليل ملوك كندة ، توفي حوالي سنة ٥٦٠ م. والأبيات من المتقارب وهي في ديوانه ص ١٨٥ ، والمستقصى (٢ / ٥٠) والإيضاح (١ / ١٥٩) وسمط اللآلى ص ٥٣١ ، ومعاهد التنصيص (١ / ١٧١) ، وخزانة الأدب (١ / ٢٨٠) والتبيان (٢ / ٣٤٩) وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٧٧٥ ، ومعجم البلدان (إثمد) وتاج العروس (ثمد).
وبات وباتت له ليلة ... |
|
كليلة ذي العاثر الأرمد |
وذلك عن نبأ جاءني ... |
|
وخبرته عن أبي الأسود |
فالتفت في الأبيات الثلاثة.
وأمثال ما ذكر أكثر من أن يضبطها القلم ، وهذا النوع قد يختص مواقعه بلطائف معان قلما تتضح إلا لأفراد بلغائهم ، أو للحذاق المهرة في هذا الفن ، والعلماء النحارير ، ومتى اختص موقعه بشيء من ذلك ، كساه فضل بهاء ورونق ، وأورث السامع زيادة هزة ونشاط. ووجد عنده من القبول أرفع منزلة ومحل ، إن كان ممن يسمع ويعقل (وَقَلِيلٌ ما هُمْ)(١) : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ)(٢).
ولأمر ما وقع التباين الخارج عن الحد بين مفسر لكلام رب العزة ومفسر ، وبين غواص في بحر فرائده وغواص ، وكل التفات وارد في القرآن ، متى صرت من سامعيه ، عرفك ما موقعه.
وإذا أحببت أن تصير من سامعيه فأصخ (٣) ، ثم ليتل عليك قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٤) فلعلك [ممن](٥) يشهد له الوجدان بحيث يغنيه عن شهادة ما سواه ، [أليس](٦) أن المرء إذا أخذ في استحضار جنايات جان متنقلا فيها عن الإجمال إلى التفصيل ، وجد من نفسه تفاوتا في الحال بيّنا ، لا يكاد يشبه آخر حاله هناك أولها ، أو ما تراك إذا كنت في حديث مع إنسان ، وقد حضر مجلسكما من له جنايات في حقك ،
__________________
(١) اقتباس من سورة ص ، الآية ٢٤.
(٢) اقتباس من سورة الفرقان ، الآية : ٤٤.
(٣) أصخ : أي استمع وأنصت.
(٤) سورة الفاتحة ، الآية ٤.
(٥) في (ط) وفي (د): (أليس مما).
(٦) من (غ).
كيف تصنع؟ تحول عن الجاني وجهك ، [وتأخذ في الشكاية عنه إلى صاحبك](١) ، تبثه الشكوى معددا جناياته واحدة فواحدة ، وأنت فيما بين ذلك واجد مزاجك يحمى على تزايد ، يحرك حالة لك غضبية تدعوك إلى أن تواثب ذلك الجاني وتشافهه بكل سوء ، وأنت لا تجيب ، إلى أن تغلب ، فتقطع الحديث مع الصاحب ، ومباثتك إياه ، وترجع إلى الجاني مشافها له : بالله ، قل لي : هل عامل أحد مثل هذه المعاملة؟ [هل يتصور معاملة أسوأ مما فعلت؟](٢) أما كان لك حياء يمنعك؟ أما كانت لك مروءة تردعك [عن](٣) هذا؟ وإذا كان الحاضر لمجلسكما ذا نعم عليك كثيرة ، فإذا أخذت في تعديد نعمه عند صاحبك ، مستحضرا لتفاصيلها ، أحسست من نفسك بحالة كأنها تطالبك بالإقبال على منعمك ، وتزين لك ذلك ، ولا تزال تتزايد ما دمت في تعداد نعمه ، حتى تحملك من حيث لا تدري على أن تجدك ، وأنت معه في الكلام ، تثني عليه ، وتدعو له وتقول : بأي لسان أشكر صنائعك الروائع؟ وبأية عبارة أحصر عوارفك الذوارف؟ وما جرى ذلك المجرى.
وإذا وعيت ما قصصته عليك ، وتأملت الالتفات في : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ،) بعد تلاوتك لما قبله من قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على الوجه الذي يجب وهو : التأمل القلبي ، علمت ما موقعه ، وكيف أصاب المحز ، وطبق مفصل البلاغة ؛ لكونه منبها على أن العبد المنعم عليه بتلك النعم العظام الفائتة للحصر ، إذا قدر أنه ماثل بين يدي مولاه ، من حقه إذا أخذ في القراءة أن تكون قراءته على وجه يجد معها من نفسه شبه محرك إلى الإقبال على من يحمد ، صائر في أثناء القراءة إلى حالة شبيهة بإيجاب ذلك عند ختم الصفات ، مستدعية انطباقها على المنزل على ما هو عليه ، وإلّا لم تكن قارئا.
__________________
(١) من (ط) و (د).
(٢) ليست في (غ).
(٣) في (ط) و (د): (على).