مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

الَّذِينَ كَفَرُوا ،) عما قبله ؛ لكون ما قبله حديثا عن القرآن ، وأن من شأنه كيت وكيت ، وكون : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ،) حديثا عن الكفار ، وعن تصميمهم في كفرهم. والفصل لازم للانقطاع ؛ لأن الواو ، كما عرفت ، معناه الجمع.

فالعطف بالواو في مثله يبرز في معرض التوخي للجمع بين الضب والنون (١).

ولذلك متى قال قائل : زيد منطلق ، ودرجات الحمل ثلاثون ، وكمّ الخليفة في غاية الطول ، وما أحوجني إلى الاستفراغ ، وأهل الروم نصارى ، وفي عين الذباب جحوظ ، وكان جالينوس ماهرا في الطب ، وختم القرآن في التراويح سنة ، وإن القرد لشبيه بالآدمي ، فعطف : أخرج من زمرة العقلاء ، وسجل عليه بكمال السخافة ، أو عدّ مسخرة من المساخر ، واستطرف نسقه هذا إلى غاية ربما استودع دفاتر المضاحك ، وسفين نوادر الهذيان ، بخلافه إذا ترك العطف ، ورمى بالجمل رمي الحصا والجوز ، من غير طلب ائتلاف بينها ، فالخطب إذا يهون هونا ما ، ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله (٢) :

لا والذي هو عالم أنّ النوى ...

صبر ، وأنّ أبا الحسين كريم

حيث تعاطى الجمع بين : مرارة النوى وكرم أبي الحسين ، ومن أمثلة التوسط ما نتلو من قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها)(٣) وقوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(٤) وغير ذلك.

__________________

(١) النون : الحوت.

(٢) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ١٢٢ وعزاه إليه ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ٨٧) ، وشرح الصولى للديوان (٢ / ٤١٩) من قصيدة يمدح فيها محمد بن الهيثم أبا الحسين.

(٣) سورة سبأ ، الآية ٢.

(٤) سورة الانفطار الآيتان ١٣ ـ ١٤.

٣٨١

الوصل :

واعلم أن الوصل من محسناته أن تكون الجملتان متناسبتين ، ككونهما : اسميتين أو فعليتين ، وما شاكل ذلك. فإذا كان المراد من الإخبار مجرد نسبة الخبر إلى المخبر عنه ، من غير التعرض لقيد زائد ؛ كالتجدد والثبوت وغير ذلك ؛ لزم أن تراعي ذلك. فتقول : قام زيد ، وقعد عمرو أو : زيد قائم ، وعمرو قاعد ، وكذا : زيد قام ، وعمرو قعد ؛ وأن لا تقول : قام زيد ، وعمرو قاعد ، وكذا : قام زيد وعمرو قعد ، وزيدا لقيته وعمرو مررت به ، وزيدا أكرمت أباه ، وعمرو ضربت غلامه ، كما سبق في علم النحو أمثال ذلك.

أما إذا أريد التجدد في إحداهما ، والثبوت في الأخرى ، كما إذا كان زيد وعمرو قاعدين ، ثم قام زيد دون عمرو ، وجب أن تقول : قام زيد ، وعمرو قاعد بعد ، وعليه قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)(١) المعنى : سواء عليكم أحدثتم الدعوة لهم أم استمر عليكم صمتكم عن دعائهم ؛ لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله دون أصنامهم ، كقوله : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ)(٢) الآية. فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا عن دعوتهم صامتين ، وكذلك قوله تعالى : (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ)(٣) المعنى أجددت وأحدثت عندنا تعاطي الحق فيما نسمعه منك؟ أم اللعب ؛ أي أحوال الصبا بعد على استمرارها عليك ، استبعادا منهم أن تكون عبادة الأصنام من الضلال ، وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين ، حيث استدرجهم إلى أن قلدوا الآباء في عبادة تماثيل ، وتعفير جباههم لها ؛ اعتقادا منهم في ذلك أنهم على شيء ، اللهم إنا نعوذ بك من كيد الشيطان.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٩٣.

(٢) سورة الروم الآية ٣٣.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٥٥.

٣٨٢

الحال :

وإذا لخصنا الكلام في الفصل والوصل إلى هذا الحد ، فبالحري أن نلحق به الكلام في الحال التي تكون جملة ؛ لمجيئها تارة مع الواو ، وأخرى لا معها ، فنقول ، وبالله التوفيق.

تمهيد :

الكلام في ذلك مستدع تمهيد قاعدة وهي : أن الحال نوعان : حال بالإطلاق ، وحال تسمى : مؤكدة. ولكل واحد من النوعين أصل في الكلام ، ولهما معا نهج في الاستعمال واحد.

فأصل النوع الثاني ، أن يكون وصفا ثابتا ، نحو : هو الحق بينا ، وزيد أبوك شفيقا ، وذاك حاتم سخيا جوادا ، وهذا خالد بطلا شجاعا ، وفي التنزيل : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(١).

وأصل النوع الأول : هو أن يكون وصفا غير ثابت من الصفات الجارية : كاسم الفاعل ، واسم المفعول ، نحو : جاء زيد راكبا ، وسلم على قاعدا ، وضربت اللص مكتوفا ، وقتلته مقيدا ، ويمتنع أن يقال : جاء زيد طويلا ، أو قصيرا أو أسود أو أبيض ، اللهم إلا بتأويل ، كما تسمع أئمة النحو يتلون عليك جميع ما ذكرت.

ونهجهما في الاستعمال : أن يأتيا عاريين عن حرف النفي ، كما يقال : هو الحق بينا دون لا خفيّا ، وجاء زيد راكبا دون لا ماشيا ، أو ماشيا دون لا راكبا.

وحق النوعين أن لا يدخلهما الواو ، نظرا إلى إعرابهما الذي ليس بتبع ؛ لأن هذه الواو ، وإن كنا نسميها واو الحال ، أصلها العطف ؛ ونظرا إلى أن حكم الحال مع ذي الحال أبدا ، نظير حكم المخبر مع المخبر عنه ، ألا تراك إذا ألغيت : " هو" في قولك : هو الحق بينا ، بقي : (الحق بين) و (جاء) في قولك : (جاء) زيد راكبا ، بقي (زيد راكب) ،

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٢.

٣٨٣

و (ضربت) ، في قولك : (ضربت) اللص مكتوفا ، بقي : (اللص مكتوف) وكذا الباب فتجد الحال وذا الحال خبرا ومخبرا عنه ، والخبر ليس موضعا لدخول الواو ، على ما سبق تقرير هذا الباب ، والتحقيق فيه ، هو أن الإعراب لا ينتظم الكلمات ، كقولك : ضرب زيد اللص مكتوفا ، إلا بعد أن يكون هناك تعلق ينتظم معانيها.

فإذا وجدت الإعراب في موضع قد تناول شيئا بدون الواو ؛ كان ذلك دليلا على تعلق هناك معنوي ، فذلك التعلق يكون مغنيا عن تكلف تعلق آخر.

وإذا عرفت هذا ، ظهر لك أن الأصل في الجملة ، إذا وقعت موقع الحال ، أن لا يدخلها الواو ، لكن النظر إليها من حيث كونها جملة مفيدة مستقلة بفائدة غير متحدة بالأولى اتحادها إذا كانت مؤكدة ، مثلها في قولك : هو الحق لا شبهة فيه ، وفي قوله عز قائلا : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(١) وغير منقطعة عنها ، كجهات جامعة بينهما ، كما ترى في نحو : جاء زيد تقاد الجنائب بين يديه ، ولقيت عمرا سيفه على كتفه ، يبسط العذر في أن يدخلها واو للجمع بينها وبين الأولى ، مثله في نحو : قام زيد وقعد عمرو.

أصل الحال :

وإذا تمهد هذا فنقول : الضابط فيما نحن بصدده هو : أن الجملة متى كانت واردة على أصل الحال ، وذلك أن تكون فعلية لا اسمية ؛ لأن الاسمية ، كما تعلم ، دالة على الثبوت ، وعلى نهجها أيضا بأن تكون مثبتة ، فالوجه ترك الواو ؛ جريا على موجب الحال ، نحو : جاءني زيد يسرع ، أو يتكلم ، أو يعدو فرسه ، ولذلك لا تكاد تسمع نحو : جاءني زيد ويسرع.

ومتى لم تكن واردة على أصل الحال ، وذلك أن تكون اسمية في الحال غير المؤكدة ، فالوجه الواو نحو : جاءني زيد وعمرو أمامه. ورأيت زيدا وهو قاعد ؛ ما جاء بخلاف هذا إلا صور معدودة ألحقت بالنوادر ، وهي : كلمته فوه إلى في ، ورجع عودة على

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيتان : ١ ـ ٢.

٣٨٤

بدئه ، وبيت الإصلاح (١) :

نصف النهار الماء غامره ...

ورفيقه بالغين لا يدري (٢)

أو ما أنشده الشيخ أبو علي ، في الأغفال (٣) :

ولو لا جنان الليل ما آب عامر ...

إلى جعفر ، سرباله لم يمزق

ومتى كانت واردة على أصل الحال لكن ، لا على نهجها ، فالوجه جواز الأمرين معا ، نحو قولك : جعلت أمشي ، ما أدري أين أضع رجلي ، وجعلت أمشي ، وما أدري أين أضع رجلي.

وقوله (٤) :

مضوا لا يريدون الرواح وغالهم ...

من الدهر أسباب جرين على قدر

وقوله (٥) :

ولو أنّ قوما لارتفاع قبيلة ...

دخلوا السماء دخلتها لا أحجب

__________________

(١) الا يقصد به إصلاح المنطق لابن السكيت ت ٢٤٤ ه‍. وهو في خزانة الأدب (٣ / ٢١٠) ، (٣ / ٢١٤) للأعشى.

والغين : السّحاب ، وقيل : الشجر الملتف.

(٢) ليست في (غ).

(٣) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٧٢) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (١٣٥) ، والقزوينى في الإيضاح ص (٢٧٥).

(٤) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٧١) ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (١٣٨) وعزاه لعكرمة العبسى ، والقزوينى في الإيضاح ص ٢٧٠.

(٥) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (١٣٨) وعزاه لخالد بن يزيد بن معاوية ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص (٧١) ، والقزوينى في الإيضاح ص (٢٧١).

٣٨٥

وقوله (١) :

أكسبته الورق البيض أبا ...

ولقد كان ، ولا يدعى لأب

وقوله (٢) :

أقادوا من دمي وتوعّدوني ...

وكنت وما ينهنهني الوعيد

لا أن ترك الواو أرجح ، والفعل الماضي منفيا ومثبتا ، لوروده لا على نهج الحال لا محالة ، إما منفيّا فلحرف النفي ، وإما مثبتا فلحرف" قد" ظاهرا أو مقدرا ؛ ليقربه من زمانك حتى يصلح للحال ، منتظم في سلك المضارع المنفي ؛ لك أن تقول : أخذت أجتهد ما كان يعينني أحد ، وأن تقول : أخذت أجتهد وما كان يعينني أحد ، وكذا : أتأني قد جهده السير بدون الواو ، أو : وقد جهده السير ، بالواو ، إلا أن ترك الواو في النفي وفي الإثبات أرجح.

الظرف :

وأما الظرف ، فحيث احتمل أن يكون جملة فعلية ، وأن لا يكون بحسب التقديرين ، وتردد لذلك بين أن يكون واردا على أصل الحال وغير وارد ، جاء الأمران فيه ، يقال :

__________________

(١) أورده القزوينى في الإيضاح ص (٢٧٠) وعزاه لمسكين الدارمي ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص (٧٠) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص (١٣٩).

الورق : الدراهم المضروبة.

(٢) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ١٣٩ وعزاه لمالك بن رفيع. والقزوينى في الإيضاح (٢٧٠). وكان قد جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير. وقبله :

بغانى مصعب وبنو أبيه ...

فأين أحيد عنهم لا أحيد.

٣٨٦

رأيته على كتفه سيف ، بدون الواو تارة ، ورأيته وعلى كتفه سيف ، بالواو أخرى ، هذا ؛ ثم من عرف السبب في تقديم الحال ، إذا أريد إيقاعها عن النكرة ، تنبه بجواز إيقاعها عن النكرة مع الواو ، في مثل : جاءني رجل وعلى كتفه سيف ، ولمزيد جوازه في قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ)(١) على ما قدمت ، وتنبه لوجوب الواو في نحو : جاءني رجل وعلى كتفه سيف ، عند إرادة الحال ، ولوجوب تركه فيه عند إرادة الوصف ، لامتناع عطف الصفة على موصوفها البتة ، فتأمل.

وأما (ليس) فلما قام مع خبره مقام الفعل المنفي جاء كثيرا : أتاني وليس معه غيره ، وأتاني ليس معه غيره ، قال (٢) :

إذا جرى في كفّه الرشاء ...

خلى القليب ليس فيه ماء

إلا أن ذكر الواو أرجح ، ووقوعه في الكلام أدور.

الإيجاز والإطناب :

وأما الحالات المقتضية لطي الجمل عن الكلام إيجازا ، ولا طيها إطنابا ، فمن أحاط علما بما قد سبق ، استغنى بذلك عن بسط الكلام ههنا ، فلنقتصر على بيان معنى الإيجاز والإطناب ، وعلى إيراد عدة أمثلة في الجانبين.

أما الإيجاز والإطناب فلكونهما نسبيين ، لا يتيسر الكلام فيهما إلا بترك التحقيق والبناء على شيء عرفي ، مثل جعل كلام الأوساط على مجرى متعارفهم في التأدية للمعاني فيما بينهم ، ولا بد من الاعتراف بذلك مقيسا عليه ، ولنسمه : متعارف الأوساط ، وأنه في باب البلاغة لا يحمد منهم ولا يذم.

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٤.

(٢) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٧٢) ولا يعرف قائله وهو في : شرح عقود الجمان (١ / ٢٢٣) ، وارتشاف الضرب (٢ / ٣٦٧) وعمدة الحافظ (٣٤٥).

٣٨٧

تعريف :

فالإيجاز : هو أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط.

والإطناب : هو أداؤه بأكثر من عباراتهم ، سواء كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل ، أو إلى غير الجمل. هذا وقد تليت عليك ، فيما سبق ، طرق الاختصار والتطويل ، فلئن فهمتها لتعرفن الوجازة متفاوتة بين : وجيز وأوجز ، بمراتب لا تكاد تنحصر ، والإطناب كذلك. وعرفت من ذلك معنى قول القائل في وصف البلغاء (١) :

يرمون بالخطب الطّوال ، وتارة ...

وحي الملاحظ ، خيفة الرقباء

وذكرت أيضا للاختصار والتطويل مقامات قد أرشدت بها إلى مناسباتها ، فما صادف من ذلك موقعه حمد والإ ذم ، وسمي الإيجاز إذ ذاك : عيّا وتقصيرا ، والإطناب :

إكثارا وتطويلا.

الإيجاز :

والعلم في الإيجاز قوله ، علت كلمته : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(٢) وإصابته المحز ، بفضله على ما كان عندهم ، وأوجز كلام في هذا المعنى ، وذلك قولهم : القتل أنفى للقتل ، ومن الإيجاز قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٣) ذهابا إلى أن المعنى : هدى للضالين الصائرين إلى التقوى بعد الضلال ، لما أن الهدى : أي الهداية إنما تكون للضال لا للمهتدي.

ووجه حسنه قصد المجاز المستفيض نوعه ، وهو وصف الشيء بما يؤول إليه ،

__________________

(١) أورده الطيبى في التبيان (١ / ٢٢٨) وعزاه للجاحظ.

(٢) سورة البقرة الآية ١٧٩.

(٣) سورة البقرة الآية ٢.

٣٨٨

والتوصل به إلى تصدير أولى الزهراوين (١) بذكر أولياء الله ، وقوله : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ)(٢) أظهر من أن يخفى حاله في الوجازة ؛ نظرا إلى ما ناب عنه ، وكذا قوله : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)(٣) وانظر إلى الفاء التي تسمى فاء فصيحة في قوله تعالى (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ)(٤) كيف أفادت فامتثلتم ، فتاب عليكم ، وفي قوله : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ)(٥) مفيدة : فضرب فانفجرت ، وتأمل قوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى)(٦) أليس يفيد : فضربوه ، فحيي فقلنا : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) ، وقدر صاحب الكشاف ، رحمه‌الله قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ)(٧) نظرا إلى الواو في (وقالا) (ولقد آتينا داود وسليمان علما) فعملا به ، وعلماه ، وعرفا حق النعمة فيه ، والفضيلة ، (وقالا الحمد لله) ، ويحتمل عندي أنه أخبر ، تعالى ، عما صنع بهما ، وأخبر عما قالا ، كأنه قال : نحن فعلنا إيتاء العلم ، وهما فعلا الحمد ، تفويضا ، استفادت ترتب الحمد على إيتاء العلم إلى فهم السامع ، مثله في : قم يدعوك ، بدل : قم ، فإنه يدعوك ، وأنه فن من البلاغة لطيف المسلك.

الاختصار :

ومن أمثلة الاختصار قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً)(٨) بطيّ : أبحت لكم الغنائم ؛ لدلالة فاء التسبيب في" فكلوا" وقوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ

__________________

(١) الزهراوان : البقرة وآل عمران.

(٢) سورة طه الآية ٧٨.

(٣) سورة فاطر ، الآية : ١٤.

(٤) سورة البقرة الآية ٥٤.

(٥) سورة البقرة الآية ٦٠.

(٦) سورة البقرة الآية ٧٣.

(٧) سورة النمل الآية ١٥.

(٨) سورة الأنفال ، الآية : ٦٩.

٣٨٩

قَتَلَهُمْ)(١) بطي : إن افتخرتم بقتلهم ، فلم تقتلوهم أنتم ، فعدوا عن الافتخار ، لدلالة الفاء في (فلم) ، وكذا قوله : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ)(٢) إذ المعنى : إذا كان ذلك ، فما هي إلا زجرة واحدة ، وكذا قوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ)(٣) تقديره ، إن أرادوا وليا ، بحق ، فالله هو الولى بالحق ، ولا ولى سواه. وكذا قوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)(٤) أصله : فإن لم يتأت أن تخلصوا العبادة لي في أرض ، فإياي في غيرها اعبدوا ، (فاعبدون) أى ، فأخلصوها لى في غيرها ، فحذف الشرط ، وعوض عنه تقديم المفعول ، مع إرادة الاختصاص بالتقديم ، وقوله : (كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا)(٥) أي ارتدع عن خوف قتلهم ، (فاذهبا) أي فاذهب أنت وأخوك ، لدلالة (كلا) على المطوي ، وقوله : (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)(٦) أصله إذ يلقون أقلامهم ينظرون ليعلموا أيهم يكفل مريم ؛ لدلالة (أيهم) على ذلك بوساطة علم النحو ، وقوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ)(٧) المراد ليحق الحق ويبطل الباطل ، فعل ما فعل ، وكذا قوله : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ)(٨) أصل الكلام : ولنجعله آية للناس ، فعلنا ما فعلنا ، وكذا قوله : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ)(٩) أي لأجل الإدخال في الرحمة ، كان الكف ومنع التعذيب ، وقوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(١٠) إذا لم

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية ١٧.

(٢) سورة الصافات الآية ١٩.

(٣) سورة الشورى الآية ٩.

(٤) سورة العنكبوت الآية ٥٦.

(٥) سورة الشعراء الآية ١٥.

(٦) سورة آل عمران الآية ٤٤.

(٧) سورة الأنفال الآية ٨.

(٨) سورة مريم ، الآية ٢١.

(٩) سورة الفتح الآية ٢٥.

(١٠) سورة الأحزاب الآية ٧٢.

٣٩٠

يفسر الحمل بمنع الأمانة والغدر ، وأريد التفسير الثاني ، وهو تحمل التكليف ؛ كان أصل الكلام : وحملها الإنسان ، ثم خاس (١) به ، منبها عليه بقوله : (إنه كان ظلوما جهولا) ، الذي هو توبيخ للإنسان على ما هو عليه من الظلم والجهل في الغالب ، وقوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً)(٢) تتمته : ذهبت نفسك عليهم حسرة ، فحذفت لدلالة : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ)(٣) أو تتمته : كمن هداه الله ، فحذفت لدلالة : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(٤) وقول العرب : جاء بعد اللتيا والتي ، بترك صلة الموصول ؛ إيثار للإيجاز ؛ تنبيها على أن المشار إليها : باللتيا والتي ، وهي : المحنة والشدائد ، بلغت من شدتها وفظاعة شأنها مبلغا يبهت الواصف معها ، حتى لا يحير ببنت شفة.

ومن الإيجاز قوله عز قائلا : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ)(٥) أي : بما لا ثبوت له ، ولا علم الله متعلق به ، نفيا للملزوم ، وهو المنبأ به بنفي لازمه ، وهو وجوب كونه معلوما للعالم الذات ، لو كان له ثبوت بأي اعتبار كان ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)(٦) أصله : لن يتوبوا ، فلن يكون قبول توبة ، فأوثر الإيجاز ؛ ذهابا إلى انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم ، وهو قبول التوبة الواجب في حكمته ، تعالى وتقدس ، وقوله : (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً)(٧) أي : شركاء لا ثبوت لها أصلا ، ولا أنزل الله بإشراكها حجة ، أي تلك ، وإنزال الحجة كلاهما منتف في أسلوب قوله (٨) :

__________________

(١) خاس به : نقضه.

(٢) سورة فاطر ، الآية ٨.

(٤) سورة آل عمران الآية ٩٠.

(٤) سورة آل عمران الآية ٩٠.

(٣) سورة يونس الآية ١٨.

(٤) سورة آل عمران الآية ٩٠.

(٥) سورة آل عمران ، الآية ١٥١.

(٦) أورده القزوينى في الإيضاح ص (٢٨٩) وعزاه لامرئ القيس وذكر بقيه البيت [إذا ساقه العود النباطى جرجرا] ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص (٧٥) واللّاحب : الطريق الواضح.

٣٩١

على لاحب لا يهتدي بمناره

أي لا منار ولا اهتداء به ، وقوله (١) :

ولا ترى الضبّ بها ينجحر

أي لا ضب ولا انجحار ، نفيا للأصل والفرع ، ومنه : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٢) إذ المراد : لا ذاك ولا علمك به ، أي كلاهما غير ثابت ، وكذا : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(٣) أي لا شفاعة ولا طاعة.

ومن الإيجاز قوله : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)(٤) أصل الكلام : خلطوا عملا صالحا بسيء ، وآخر سيئا بصالح ؛ لأن الخلط يستدعي مخلوطا ومخلوطا به ، أي تارة أطاعوا وأحبطوا الطاعة بكبيرة ، وأخرى عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة ، وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ)(٥) أصله قل لهم : قولي لك : إن ينتهوا يغفر لهم ، وكذا قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) سيغلبون (٦) فيمن قرأ بياء الغيبة.

ومن أمثلة الإطناب قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ

__________________

(١) أورده القزوينى في الإيضاح (٢٨٩) وهو لأوس بن حجر ، وصدر البيت :

[لا يفزع الأرنب أهوالها]

.

(٢) سورة لقمان الآية ١٥.

(٣) سورة غافر الآية ١٨.

(٤) سورة التوبة الآية ١٠٢.

(٥) سورة الأنفال الآية ٣٨.

(٦) سورة آل عمران الآية ١٢.

٣٩٢

الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١) ترك إيجازه ، وهو أن في ترجح وقوع أي ممكن كان على لا وقوعه ، لآيات للعقلاء ؛ لكونه كلاما لا مع الإنس فحسب ، بل مع الثقلين ، ولا مع قرن دون قرن ، بل مع القرون كلهم قرنا فقرنا ، إلى انقراض الدنيا ، وإن فيهم لمن يعرف ويقدر من مرتكبي التقصير في باب النظر والعلم بالصانع من طوائف الغواة ، فقل لي : أي مقام للكلام أدعى لترك إيجازه إلى الإطناب من هذا. وقوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)(٢) وأوثر الإطناب فيه على ايجازه وهو : آمنا بالله ، وبجميع كتبه ، لما كان بمسمع من أهل الكتاب فيهم من لا يؤمن بالتوراة وبالقرآن ، وهم : النصارى القائلون (لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ)(٣) ، وفيهم من لا يؤمن بالإنجيل والقرآن ، وهم : اليهود ، وكل منهم مدع للإيمان بجميع ما أنزل الله ؛ تقريعا لأهل الكتاب ، وليبتهج المؤمنون بما نالوا من كرامة الاهتداء.

ووقع الإيجاز عن طباق المقام بمراحل ، وقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٤) لم يؤثر إيجازه وهو : (وَاتَّقُوا يَوْماً) لا خلاص عن العقاب فيه ، لكل من جاء مذنبا ، إذ كان كلاما مع الأمة ؛ لنقش صورة ذلك اليوم في ضمائرهم ، وفي الأمة الجاهل والعالم والمعترف والجاحد والمسترشد والمعاند والفهم والبليد ؛ لئلا يختص المطلوب منهم بفهم أحد دون أحد ، وأن لا يكون بحيث يناسب قوة سامع دون سامع ، أو يخلص إلى ضمير بعض دون بعض ، وقوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٦٤.

(٢) سورة البقرة الآية ١٣٦.

(٣) سورة البقرة الآية ١١٣.

(٤) سورة البقرة الآية ١٢٣.

٣٩٣

وَيُؤْمِنُونَ بِهِ)(١) لو أريد اختصاره لما انخرط في الذكر" يؤمنون به" إذ ليس أحد من مصدقى حملة العرش يرتاب في إيمانهم.

ووجه حسن ذكره إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه ، وقوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(٢) ولو أوثر اختصاره فقوله : (" وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ") فضل في البين ، من حيث إن مساق الآية لتكذيب المنافقين في دعوى الإخلاص في الشهادة لترك ، ولكن إيهام رد التكذيب إلى نفس الشهادة ، لو لم يكن بهذا الفضل أبى الاختصار ؛ وما يحكيه عن موسى عليه‌السلام : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) جوابا على قوله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ)(٣) وكذا ما يحكيه (نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) في الجواب عن قول إبراهيم (ما تَعْبُدُونَ)(٤) من باب الإطناب ، إذ لو أريد الإيجاز لكفى : (عصاي) ، و (أصناما) ، وقد سبق وجه الإطناب فيهما.

ومما يعد من الإطناب ، وهو في موقعه ، قول الخضر لموسى ، عليه‌السلام ، في الكرة الثانية : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ)(٥) بزيادة (لك) لاقتضاء المقام مزيد تقرير لما قد كان قدم له من (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)(٦) وكذا قول موسى عليه‌السلام : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)(٧) بزيادة (لي) لاكتساء الكلام معها من تأكيد الطلب لانشراح الصدر ما لا يكون بدونه ، ألا تراك إذا قلت : اشرح لي ، أفاد أن شيئا ما عندك تطلب شرحه ،

__________________

(١) سورة غافر الآية ٧.

(٢) سورة المنافقون ، الآية ١.

(٣) سورة طه : ١٧.

(٤) سورة الشعراء الآية ٧٠.

(٥) سورة الكهف ، الآية ٧٥.

(٦) سورة الكهف الآيات ٦٧ و ٧٢ و ٧٥.

(٧) سورة طه ، الآية ٢٥.

٣٩٤

فكنت مجملا ، فإذا قلت : صدري عدت مفصلا ، وإن كان الطلب وقت الإرسال ، الذي هو مقام مزيد احتياج إلى انشراح الصدر ، لما تؤذن به الرسالة من تلقي المكاره وضروب الشدائد ، وقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(١) وارد على هذا التوخي ومزيد التقرير ، وقول البلغاء في الجواب مثل : لا ، وأصلحك الله ، بزيادة الواو ، خلافا لما عليه كلام الأوساط ، من الإطناب في موقع.

ولك أن تعد باب (نعم وبئس) موضوعا على الإطناب ، إذ لو أريد الاختصار لكفى : نعم زيد ، وبئس عمرو ، وأن تجعل الحكمة في ذلك توخي تقرير المدح والذم ، لاقتضائهما مزيد التقرير ؛ لكونهما للمدح العام والذم العام الشائعين في كل خصلة محمودة ومذمومة المستبعد تحققهما ، وهو أن يشيع كون المحمود محمودا في خصال الحمد ، وكون المذموم مذموما في خلافها ؛ وتجعل وجه التقرير الجمع بين طرفي الإجمال والتفصيل ، ألّا تراك إذا قلت : نعم الرجل ، مريدا باللام الجنس دون العهد ، كيف توجه المدح إلى زيد أولا ، على سبيل الإجمال ؛ لكونه من أفراد ذلك الجنس ، وإذا قلت : نعم رجلا ، فأضمرته من غير ذكر له سابق ، وفسرته باسم جنسه ، ثم إذا قلت : زيد ، كيف توجهه إليه ثانيا على سبيل التفصيل.

وإن هذا الباب متضمن للطائف فيه من الإطناب الواقع في موقعه ما ترى ، وفيه تقدير السؤال ، وبناء المخصوص عليه يقدر بعد : نعم الرجل ، أو : نعم رجلا : من هو؟

ويبني عليه زيد أي هو زيد.

وقد عرفت ، فيما سبق ، لطف هذا النوع ، وفيه اختصار من جهة ، وهو ترك المبتدأ في الجواب ، ولا يخفى حسن موقعه ، ولو لم يكن فيه شيء سوى أنه يبرز الكلام في معرض الاعتدال ، نظرا إلى إطنابه من وجه ، وإلى اختصاره من وجه آخر ، أو إيهامه الجمع بين المتنافيين ، مثله في جمعه بين الإجمال والتفصيل ، فمبنى السحر الكلامي الذي يقرع سمعك على أمثال ذلك لكفى.

__________________

(١) سورة الشرح الآية ١.

٣٩٥

وقد أطلعناك على كيفية التعرض بجهات الحسن ، ففتش عنها ، تر الباب مشحونا بجهات ، وكنت المرجوع إليه في اختيار المختار من أقوال النحويين في الباب ، كقول من يرى المخصوص مبتدأ ، والفعل مع الذي يليه خبرا مقدما ، وقول من يرى المخصوص خبرا لمبتدأ محذوف على ما رأيت ، وقول من لا يرى اللام في الفاعل إلا للجنس ، وقول من لا يأبى كونها لتعريف العهد.

التمييز :

واعلم أن باب التمييز كله ، سواء كان عن مفرد أو عن جملة ، باب مزال عن أصله لتوخي الإجمال والتفصيل : ألا تراك تجد الأمثلة الواردة من نحو : عندي منوان سمنا ، وعشرون درهما ، وملء الإناء عسلا ، وطاب زيد نفسا ، وطار عمرو فرحا ، وامتلأ الإناء ماء ، منادية على أن الأصل : عندي سمن منوان ، ودراهم عشرون ، وعسل ملء الإناء ، وطاب نفس زيد ، وطير الفرح عمرا ، وملأ الماء الإناء ولمصادفة الإجمال والتفصيل الموقع فيما يحكيه ، جل وعلا ، عن زكريا ، عليه الصلاة والسّلام ، من قوله (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(١) في مقام المباثة ، وحين التلقي لتوابع انقراض الشباب ، ترى ما ترى من مزيد الحسن ، وفي هذه الجملة وفيما قبلها من : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) لطائف ، وأية كلمة في القرآن ، فضلا عن جملة ، فضلا عما تجاوز ، لا يحتوي على لطائف؟ ولأمر ما تلي على من كانوا النهاية في فصاحة البشر ، وبلاغة أهل الوبر ، منهم والمدر : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٢) فما أحاروا بنت شفه ، ولا صدروا هنالك عن موصوف ولا صفة ، على أنهم كانوا الحراص على التسابق في رهان المفاخر ، والمتهالكين على ركوب الشطط في امتهان المفاخر ، تأبى لهم العصبية أن لا يرد عضب (٣) مفاخرهم كهاما (٤) ، وأن لا يعد صيب

__________________

(١) سورة مريم الآية ٤.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٣.

(٣) العضب : السيف القاطع.

(٤) كهاما : سيف كهيم وكهام : لا يقطع كليل عن الضربة.

٣٩٦

ممطراته جهاما (١).

مراتب الكلام البليغ :

والكلام في تلك اللطائف مفتقر إلى أخذ أصل معنى الكلام ومرتبته الأولى ، ثم النظر في التفاوت بين ذلك ، وبين ما عليه نظم القرآن ، وفي كم درجة يتصل أحد الطرفين بالآخر ، فنقول : لا شبهة أن أصل معنى الكلام ومرتبته الأولى : يا ربي قد شخت ، فإن الشيخوخة مشتملة على : ضعف البدن وشيب الرأس ، المتعرض لهما ؛ ثم تركت هذه المرتبة لتوخي مزيد التقرير إلى تفصيلها في : ضعف بدني وشاب رأسي ، ثم تركت هذه المرتبة الثانية لاشتمالها على التصريح إلى ثالثة أبلغ وهي : الكناية ، في : وهنت عظام بدني ، لما ستعرف أن الكناية أبلغ من التصريح ، ثم لقصد مرتبة رابعة ، أبلغ في التقريب بنيت الكناية على المبتدأ ، فحصل : أنا وهنت عظام بدني ، ثم لقصد خامسة أبلغ ، أدخلت إن على المبتدأ فحصل : إني وهنت عظام بدني ، ثم لطلب تقرير أن الواهن هي عظام بدنه ، قصدت مرتبة سادسة ، وهي سلوك طريقي الإجمال والتفصيل ، فحصل : إني وهنت العظام من بدني ؛ والذي سبق في تقرير معنى الإجمال والتفصيل في : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)(٢) ينبه عليه ههنا ، ثم لطلب مزيد اختصاص العظام به ، قصدت مرتبة سابعة وهي : ترك توسيط البدن ، فحصل : إني وهنت العظام مني ، ثم لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا ، قصدت مرتبة ثامنة ، وهي : ترك جمع العظم إلى الإفراد ؛ لصحة حصول وهن المجموع بالبعض دون كل فرد فرد ، فحصل ما ترى ، وهو الذي في الآية : (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي).

في الاستعارة :

وهكذا تركت الحقيقة في : شاب رأسي إلى أبلغ ، وهي الاستعارة ؛ فسيأتيك أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة ، فحصل : اشتعل شيب رأسي ، ثم تركت إلى أبلغ ، وهي :

__________________

(١) جهاما : الجهام : السحاب الذي لا ماء فيه.

(٢) سورة طه الآية ٢٥.

٣٩٧

اشتعل رأسي شيبا ، وكونها أبلغ من جهات :

إحداها : إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس ، إذ وزان : اشتعل شيب رأسي ، واشتعل رأسي شيبا ، وزان : اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي نارا ، والفرق نير.

وثانيتها : الإجمال والتفصيل في طريق التمييز.

وثالثتها : تنكير" شيبا" لإفادة المبالغة ، ثم ترك : (اشتعل رأسي شيبا) ، لتوخي مزيد التقرير إلى : اشتعل الرأس مني شيبا ، على نحو : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ثم ترك لفظ : (مني) لقرينة عطف ، واشتعل الرأس على وهن العظم مني ، لمزية مزيد التقرير ، وهي إيهام حوالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ.

الاختصار :

واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب ، هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي : رب ، اختصرت ذلك الاختصار بأن حذفت كلمة النداء وهي : " يا" وحذفت كلمة المضاف إليه وهي : " ياء المتكلم" واقتصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب ، وهي المنادى ، والمقدمة للكلام ، كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة ، نازلة منزلة الأساس للبناء ، فكما أن البناء الحاذق لا [يرمي](١) الأساس إلا بقدر ما يقدر من البناء عليه ، كذلك البليغ يصنع بمبدأ كلامه ، فمتى رأيته اختصر المبدأ ، فقد آذنك باختصار ما يورد ، ثم إن الاختصار لكونه من الأمور النسبية يرجع في بيان دعواه إلى ما سبق تارة ، وإلى كون المقام خليقا بأبسط مما ذكر أخرى.

والذي نحن بصدده من القبيل الثاني ، إذ هو كلام في معنى انقراض الشباب وإلمام المشيب ، وهل معنى أحق أن يمتري القائل فيه أفاويق المجهود ، ويستغرق في الإنباء عنه

__________________

(١) في (د): (يرى).

٣٩٨

كل حد معهود ، من انقراض أيام ما أصدق من يقول فيها (١) :

وقد تعوّضت عن كلّ بمشبهه ...

فما وجدت لأيام الصّبا عوضا

ومن إلمام المشيب المعيب المر الطلوع الأمر المغيب (٢) :

تعيب الغانيات علىّ شيبي ...

ومن لي أن أمتع بالمعيب؟

اللهم زدنا اطلاعا على لطائف قرآنك الكريم ، وغوصا على لآلىء فرقانك العظيم ، ووفقنا لابتغاء مرضاتك في طلوع المشيب المر ، واختم بالخير في مغيبه الأمرّ ، فإنه لا يكون إلا ما تشاء ، بيدك الأمر كله ، وليكن هذا آخر الكلام في الفن الرابع ، ولنعد إلى الفصل الموعود ، وهو الكلام في معنى القصر.

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٧٩) وهو لأبي العلاء المعرى في شروح سقط الزند (٢ / ٦٥٥).

(٢) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص (٧٩) وهو في ديوان البحترى (١ / ٢٩٩) ، والدلائل (٥٠٤).

٣٩٩

تمهيد

فصل : في بيان القصر

اعلم أن القصر ، كما يجري بين المبتدأ والخبر ، فيقصر المبتدأ تارة على الخبر ، والخبر على المبتدأ أخرى ، يجري بين الفعل والفاعل ، وبين الفاعل والمفعول ، وبين المفعولين ، وبين الحال وذي الحال ، وبين كل طرفين ، وأنت إذا أتقنته في موضع ، ملكت الحكم في الباقي ، ويكفيك مجرد التنبيه هناك.

معنى القصر :

وحاصل معنى القصر راجع إلى تخصيص الموصوف عند السامع بوصف دون ثان ، كقولك : زيد شاعر لا منجم ، لمن يعتقده شاعرا ومنجما. أو قولك : زيد قائم لا قاعد ، لمن يتوهم زيدا على أحد الوصفين ، من غير ترجيح ، ويسمى هذا قصر إفراد ، بمعنى أنه : يزيل شركة الثاني ، أو بوصف مكان آخر ، كقولك لمن يعتقد زيدا منجما لا شاعرا : ما زيد منجم بل شاعر ، أو زيد شاعر لا منجم ، ويسمى هذا قصر قلب ، بمعنى أن المتكلم يقلب فيه حكم السامع ؛ أو إلى تخصيص الوصف بموصوف قصر إفراد ، كقولك : ما شاعر إلا زيد ، لمن يعتقد زيدا شاعرا ، لكن يدعى شاعرا آخر ، أو قولك : ما قائم إلّا زيد ، لمن يعتقد قائمين ، أو أكثر في جهة من الجهات معينة ، أو قصر قلب ، كقولك : ما شاعر إلا زيد ، لمن يعتقد أن شاعرا في قبيلة معينة ؛ أو طرف معين ، لكنه يقول : ما زيد هناك بشاعر.

طرق القصر :

وللقصر طرق أربعة :

أحدها : طريق العطف ، كما تقول في قصر الموصوف على الصفة ، إفرادا أو قلبا بحسب مقام السامع : زيد شاعر لا منجم ، وما زيد منجم بل شاعر ، وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين : ما عمرو شاعر بل زيد ، أو زيد شاعر لا عمرو ، أو لا غير ، بتقدير لا غير زيد إلا أنك تترك الإضافة لدلالة الحال ، وتبني غيرا بالضم ، على نحو بناء الغايات ، أو ليس غيرا ، وليس إلّا بتقدير : ليس شاعر غير المذكور ، أو إلّا المذكور ؛

٤٠٠