مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

السكاكي وتقسيمه الثلاثي لعلوم البلاغة

خصص السكاكي القسم الثالث من كتابه مفتاح العلوم لعلمي المعاني والبيان ، وبعد أن فرغ من مباحثهما قال :

" وإذ قد تقرر أن البلاغة بمرجعيها وأن الفصاحة بنوعيها مما يكسو الكلام حلّة التزيين ، ويرقيه أعلى درجات التحسين ، فهاهنا وجوه مخصوصة كثيرا ما يصار إليها لقصد تحسين الكلام ، فلا علينا أن نشير إلى الأعرف منها وهي قسمان :

قسم يرجع إلى المعنى.

وقسم يرجع إلى اللفظ" (١)

فقد أفرد السكاكي مبحث البديع عن علمي المعاني والبيان ، مسميا إياه بوجوه مخصوصة كثيرا ما يصار إليها لقصد تحسين الكلام.

وهذا التقسيم لا نعلم أحدا سبق السكاكي إليه ، يقول الشيخ المراغي في كتابه

تاريخ علوم البلاغة : " لا نعلم أحدا سبق السكاكي إلى قسمة علوم الفصاحة الأقسام الثلاثة المعروفة ، ولا نرى لهذا التقسيم وجها صحيحا ولا مستندا من رواية ولا دراية ؛ فليس هناك جهة للتمايز تفصل كل علم عن قسيميه ، ولا في أغراض كل علم ولا في موضوعه ما يجعله وحدة مستقلة عن العلمين الآخرين في بحوثه ومسائله ، حتى يمكن الناظر أن يقتنع بوجاهة هذا التقسيم ويبرهن على صحته ، بل على العكس نرى بينها اتصالا وثيقا في الأغراض والمقاصد ، واتحادا في جهة البحث ، فلا يمكن فصل بعضها من بعض ، وإن أمكن فعلى نحو آخر غير ما ذكره السكاكي ومن اقتفوا أثره ، وساروا على سننه دون أن يدلوا بحجة ناصعة.

" وقد فنّد الشيخ تقسيم السكاكي ودلّل على خطئه ، مبينا أنه ليس له مستند لا رواية ولا دراية : أما إن الرواية لا تساعده فلوجوه منها :

(١) أن المتقدمين الذين كتبوا قبله كأبي هلال في الصناعتين ، وابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة ، وعبد القاهر في كتابيه" أسرار البلاغة" ، " ودلائل الإعجاز" ، لم ينحوا هذا النحو الذي نحاه.

(٢) أن الزمخشري : وهو من هو في علو كعبه ، في البلاغة كثيرا ما يسمى هذه العلوم بالبيان ، وأحيانا يسميها بالبديع.

__________________

(١) المفتاح ص ٢٢٥ ط المطبعة الأدبية.

٢١

(٣) أن عبد الله بن المعتز ، وقدامة بن جعفر ، وصاحب الصناعتين وابن رشيق في العمدة أدخلوا في البديع مباحث البيان ، فجعلوا من البديع : الاستعارة والمجاز والكناية والتعريض ، وكذا عبد القاهر في أسرار البلاغة ؛ إذ يقول في الصفحة الثالثة عشرة : وأما الطباق ، والاستعارة ، وسائر أقسام البديع فكونها معنوية أجلى وأظهر إلى آخر ما قال.

(٤) أن في قول الخطيب القزويني في التلخيص : وكثير من الناس يسمى الجميع علم البيان ، وفي قول شراحه لما في كل من معناه اللغوي وهو الظهور ، وقوله : ومنهم من يسمي الأخيرين علم البيان ـ أي كما وقع للزمخشري في الكشاف ـ وقوله : والثلاثة علم البديع : ، ـ أي كما يستعمله صاحب الكشاف كثيرا في تفسيره ـ دليلا على أن التقسيم إلى معان وبيان وبديع لم يقل به أحد قبل السكاكي إذ لم يصرح بعزوه لأحد. وأما أن الدراية لا تؤيده فلوجوه أيضا :

(١) أن الثمرة المستفادة من علم المعاني : وهي معرفة أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال ، تستفاد أيضا من علم البيان والبديع ؛ لأنا لا نعبر باستعارة ولا كناية إلا إذا اقتضاها المقام ، فنوازن بين عدة تعبيرات ، ونرى أنسبها للحال ، بمراعاة حال السامع أو السامعين فنعبر به.

(٢) أنه كما يصدق هذا على المعاني والبيان يصدق أيضا على البديع ؛ فالجمال الذي يوجد في التورية من حيث دقة التعبير ولطفه لا يقل عن الجمال الذي يوجد في الكناية ، والإبداع الذي يوجد في الطباق والتقسيم ليس بأقل مما يوجد في الاستعارة. ودليلنا على ذلك أن عبد الله بن المعتز لما وضع علم البديع جعل من أنواعه الاستعارة والتمثيل والكناية ، وسوّى بينها وبين بقية أنواع البديع التي ذكرها ، وسار على نهجه قدامة وأبو هلال وابن رشيق فلم يقولوا بأن بعضا منها يزيد على بعض في الفصاحة والبلاغة. فمن أين أتى السكاكي بهذا التفاوت ، وجعل بعضا منها فيما سماه البيان ، وبعضا فيما سماه البديع وبعضا منها تحسينه ذاتي ، وبعضا تحسينه عرضي ؛ إنا لنعلم أن من كان قبله ليس بأقل منه رسوخا في نقد الكلام وبيان غثه من سمينه ، وجيده من رديئه ، فكيف قد خفى هذا على جلة العلماء مدى القرون الطوال ؛ فجاء السكاكي وكشفه ، اللهم إنا لا نجد وجها لصحة هذا الكشف الجديد ، ولو كنا وجدناه لما شككنا في صحته ، إذ لسنا من القائلين بتلك النظرية : ما ترك الأول للآخر شيئا ؛ إذ لو صحت ما اخترع جديد ، ولا تقدم علم ولا تحسنت صناعة.

٢٢

(٣) إن مما يدل على أن مباحث هذه العلوم ليست متمايزة ، أن بعض المؤلفين أدخل المجاز العقلي في علم البيان ، بينا غيرهم أدخله في المعاني ، كذلك نجد جماعة أدخلوا التذييل والاحتراس والاعتراض والحشو في البديع ، وأدمجه غيرهم في المعاني وجعلوه أقساما للإطناب ـ فلو كان هناك حدود واضحة تميز قسما من قسم لما جاء مثل هذا الاختلاط والارتباك في تفريع هذه المسائل ووضعها في المواضع المناسبة لها (١).

(٤) إن الذي ينبغي أن يعول عليه في التقسيم شيء آخر هو ما أفصح عنه عبد القاهر في" الدلائل" ؛ إذ قال في الصفحة التاسعة والعشرين بعد الثلثمائة : اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم إلى قسمين : قسم تعزى المزية والحسن فيه إلى اللفظ ، وقسم يعزى ذلك فيه الى النظم ؛ فالقسم الأول الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حد الاستعارة ، وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر ، فما من ضرب من هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب ، وعلى ما ينبغي ، أوجب الفضل والمزية ، فإذا قلت : هو كثير رماد القدر ، كان له موقع وحظ من القبول لا يكون إذا قلت : هو كثير القرى والضيافة ، وكذلك إذا قلت : رأيت أسدا كان له مزية لا تكون إذ قلت رأيت رجلا يشبه الأسد ويساويه في الشجاعة ، وكذلك إذا قلت : أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى كان له موقع لا يكون إذا قلت : أراك تتردد في الذي دعوتك إليه ، كمن يقول : أخرج أو لا أخرج ، فيقدم رجلا ويؤخر أخرى.

وقال في الصفحة السادسة والأربعين بعد الثلثمائة مثل ذلك ، وقال في الصفحة الثانية بعد المائتين : الكلام على ضربين : ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلا بالخروج على الحقيقة فقلت : خرج زيد ، وضرب آخر لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض ، ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل ، وقد مضت الأمثلة فيها مشروحة مستقصاة. وقال في الصفحة الثامنة والسبعين : وجملة الأمر أن هاهنا كلاما حسنه للفظ دون النظم ، وآخر حسنه للنظم دون اللفظ ، وثالثا قرى

__________________

(١) من أوضح الشواهد الدالة على ذلك ما صنعه البلاغيون في دراسة الالتفات ، حيث درسه بعضهم في المعاني وبعضهم في البديع ، بل ودرسه بعضهم أيضا في علم البيان.

وانظر مبحث الالتفات عند الطيبي في رسالتي للماجستير : الإمام الطيبي : تجديداته وجهوده البلاغيه. ط المكتبة التجارية. مكة المكرمة ص ٢٢١.

٢٣

الحسن من الجهتين ، ووجبت له المزية بكلا الأمرين ، والإشكال في هذا الثالث ، وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه ، وتراك قد خفت فيه على النظم فتركته ، وطمحت ببصرك على اللفظ ، وقدرت في حسن كان به ، باللفظ أنه للفظ خاصة.

ومما تقدم ترى أن هاهنا أساسا لبحث علمين متمايزين ، فنسمي العلم الذي يبحث عن فصاحة النظم علم معاني النحو ، أو علم المعاني على سبيل الاختصار في التسمية ، والعلم الذي يبحث عن فصاحة اللفظ ، أو عن معنى المعنى بعلم البيان ، وتكون التسمية مجرد اصطلاح ، وإلا فالكل بحث بياني.

(٥) إن الذي لفت نظر السكاكي إلى تسمية العلم الأول (علم المعاني) أن عبد القاهر أخذ يبدي ويعيد ويقول : ليست أسرار النظم إلا معاني النحو ، فاختزل هذا الاسم وسماه (علم المعاني).

(٦) إن من العجب حقا أن تكون فوائد معرفة علم المعاني معرفة أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال ، فنعرف المواضع التي يكون فيها الإيجاز ، والتي يكون فيها الإطناب ، والمواضع التي يؤكد فيها الكلام ، والمواضع التي لا يؤكد فيها ، ولم يكن من فائدته أن ننشىء كلاما مشتملا على الخصوصيات التي تعلمناها من هذا العلم ، بينا نقول : إن من فائدة معرفة علم البيان أننا نستطيع أن نعبر عن المعنى الواحد بأساليب مختلفة ؛ ففائدة معرفة هذا العلم إيجابية ، وهي : القدرة على إنشاء الكلام العربي الفصيح ، ولكن فائدة معرفة علم المعاني هي مجرد المعرفة فقط ، ويكون ذلك كافيا ، وإن شئنا أنشأنا كلاما فصيحا مطابقا لمقتضى الحال.

وقد كان من الخير أن نجعل الفائدة من معرفة العلم الأول كالفائدة من معرفة العلم الثاني ، والعكس بالعكس ؛ فإما أن نقول : إنه علم يعرف به إيراد الأساليب العربية المختلفة المطابقة لمقتضى الحال ، بعد النظر في المقامات واختيار الألفاظ التي تناسب كل مقام منها ، حتى تكون الألفاظ وفق هذه الأحوال والمقامات ، أو نقول : إن علم البيان علم نعرف به الفروق بين الأساليب المختلفة الدالة على المعنى الواحد ؛ لنحاكيها عند التعبير عن مثل هذه المعاني ، فنجري على السنن العربي ، ونسلك الطريق التي سلكوها ، وبذا يكون توافق بين أغراض العلمين ، لا تخالف بينهما ، كما هو واضح من النظر في كلامهم.

٢٤

ونحن نوافق الشيخ المراغي في ذلك تمام الموافقة ؛ إذ لا ضرورة لذلك التقسيم الذي استحدثه السكاكي ، وتكلف لتطبيقه أيّما تكلف ، مخالفا بذلك أئمة البلاغة والفصاحة والبيان ، الذين لم يفرقوا في كلامهم بين تلك الألفاظ.

وهذا ما يقرره عبد القاهر ـ غير مفرق بين تلك المصطلحات (البلاغة ، والفصاحة ، والبيان) ـ حينما يقول : " فصل تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة ، وكل ما شاكل ذلك ، مما يعبر به عن فضل القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد ، ومن المعلوم ألا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى .... ، غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه ... وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف ... هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة ، حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها ، على ما هي موسومة به ، حتى يقال : إن (رجلا) أدل على معناه من (فرس) على ما سمى به؟ وحتى يتصور في الاسمين الموضوعين لشيء واحد أن يكون هذا أحسن نبأ عنه وأبين عن صورته من الآخر ... وهل يقع في وهم ـ وإن جهد ـ أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية؟ أو أن تكون حروف هذه أخف ، وامتزاجها أحسن؟ ومما يكد اللسان أبعد .... وهل قالوا : لفظة متمكنة ومقبولة ، وفي خلافه : قلقة ونابية ومستكرهة ، إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها ، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم ، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها ، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالية في مؤداها؟ " ويعرض عبد القاهر أمثلة يدلل بها على ذلك (١).

أما ما أورده الشيخ المراغي عن عبد القاهر تحت قوله : " إن الذي ينبغي أن يعوّل عليه في التقسيم شيء آخر ... إلخ.

فنحن نرى أن عبد القاهر لم يرد من ذلك تقسيم علوم البلاغة أو الفصاحة إلى ما يرجع حسنه للفظه ، وما يرجع حسنه لنظمه ؛ بل إن مراده من ذلك هو مجرد إبداء تلك

__________________

(١) عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ـ تصحيح الشيخ محمد عبده ، والشيخ محمد محمود الشنقيطي ، مكتبة ومطبعة محمد على صبيح وأولاده ، ص ٤٤ ـ ٤٥.

٢٥

النظرية النقدية التي لا يريد أن تطبق بتلك الطريقة التقسيمية المنطقية الصارمة التي قام بها السكاكي ، بقدر ما يريد اعتبارها ووضعها في الحسبان عند نقد النصوص ، بحيث يعرف الناقد مواقع الحسن التي ترجع إلى اللفظ ، كالاستعارة والكناية ونحوهما ، ومواضعه التي ترجع إلى النظم من تقديم وتأخير وحذف وذكر وغير ذلك مما يتوخى فيه معاني النحو.

فعبد القاهر لم يرد البتة بهذه النظرية أن تكون أساسا لتقسيم علوم البلاغة تلك القسمة المنطقية الصارمة ، وإلا ـ لو أراد ذلك ـ لفعله هو بنفسه ، ومثل عبد القاهر لا تنقصه الإمكانات التي تمكنه من إنفاذ ذلك التقسيم ـ لو أراده ـ على نحو أفضل من تقسيم السكاكي.

وهنا قد يتساءل القارئ ، فيطرح سؤالا له وجاهته ، وهو إذا كان تقسيم السكاكي وعرضه لعلوم البلاغة منتقدا على هذا النحو ، فما هو العرض البديل الذي ينبغي تناول البلاغة من خلاله ، والذي يعين على لم شعثها ، وجمع شتاتها؟.

ولما لم أر أحدا من المتأخرين بعد السكاكي قد أتى في ذلك بشيء يعوّل عليه ؛ لذا فقد تجشمت ذلك الأمر لأهميته ؛ ولكونه قد صار في حق أمثالي ـ ممن انتصب لتدريس تلك المادّة ـ فرض عين ، وإلا فكيف نكرر على أسماع طلابنا نقد ذلك التقسيم ، وذلك العرض الذي عرضه السكاكي لعلوم البلاغة ، ثم لا نحاول محاولة جادّة تقديم بديل صالح للاستغناء عنه ، فإن هذا يعد دليلا ضمنيا بصحة ذلك التقسيم والعرض السكاكي لعلوم البلاغة ، ولما كان ذلك العرض السكاكي كالمجمع على رفضه والاعتراض عليه بين الباحثين ، وكان تقديمهم له واستعماله من باب الضرورة لحين ظهور البديل له ، فها نحن نقدم أطروحتنا لعرض بديل ، وخطة جديدة ، لا أزعم أنها هي الخطة المثلى للدرس البلاغي ، بقدر ما أزعم أنها مجرد محاولة للإصلاح ، أرجو من ورائها تخليص الدرس البلاغي من عثراته ، وإعانته على أداء رسالته الكبرى.

٢٦

خطتنا في عرض الدرس البلاغي

تمتاز هذه الخطة بمحاولة الحفاظ ـ ما أمكن ـ على ذلك الموروث البلاغي العظيم ، الذي يمثل جهود عباقرة أفذاذ توالوا على مرّ العصور ، يصعب تكرر نظير لهم في هذه العصور التي ضعفت همم أهلها ، وقصرت فيها علومهم عن استيعاب ذلك الموروث ، بله الزيادة عليه.

هذه الخطة إنما هي وليدة التأمل في ذلك التقسيم السكاكي السابق ، متحاشية جوانب القصور فيه ، مثل :

١ ـ عدم الاهتمام الكافي بدراسة الكلمة المفردة ، دراسة تركز على دلالتها الصوتية والمعجمية والصرفية والمقامية ، وما لتلك الدلالة من أثر كبير في تحقيق المطابقة المنشودة.

٢ ـ الدراسات التي دارت حول الكلمة المفردة ، وأغلبها في المصنفات التي دارت في فلك المفتاح ، كالتلخيص وشروحه ، قد عزلت الكلمة المفردة عن سياقها ضمن ما سمّوه بدرس الفصاحة ، ومن ثم سلبوها كل قيمة في تحقيق المطابقة وبلاغة الكلام ،

مما يستدعي إعادة النظر في هذا المبحث برمته ، لا سيما فصاحة اللفظة المفردة.

٣ ـ قصر المطابقة على رعاية حال المخاطب دون رعاية حال المتكلم.

٤ ـ تكرار المباحث ، وتشتيت بحث الظاهرة الواحدة في أكثر من موضع ، فمثلا :

الحذف يأتي في حذف المسند إليه ، وفي حذف المسند ، ويأتي في الإيجاز وغير ذلك ، وكذلك الذكر يأتي في المسند إليه ، والمسند ، والإطناب ..... إلخ.

٥ ـ وقد نتج عن ذلك :

كثرة التقسيمات والتفريعات ، حيث إن كثيرا من هذه المباحث كان يمكن ضم بعضها إلى بعض ، لو لا ما قام به السكاكي ومن تابعه من تشتيت الظاهرة الواحدة في أكثر من موضع.

٦ ـ عدم منطقية التقسيم ، فعلى الرغم من الصبغة المنطقية التي حاول السكاكي ومن تابعه صبغ البلاغة بها ، فإن هذا التقسيم يبدو آخر الأمر خاليا من المنطقية تماما ، وذلك لأن تقسيم مباحث البلاغة إلى هذه العلوم الثلاثة ؛ لا بد أن يكون أساسه تعدد أغراض تلك العلوم وغاياتها ، ومع ذلك ؛ فإن الغرض الذي يحدد لأحد هذه العلوم يصلح أن يكون غرضا للعلمين الآخرين ، فإذا كان غرض المعاني هي المطابقة لمقتضى الحال ؛ فإن هذا الأمر لا نستطيع أن نجرد منه العلمين الآخرين في الحقيقة ، وإن كان هذا

٢٧

التقسيم الصارم قد أدى إلى ذلك فعلا ، وقد ظهر ذلك جليا في علم البديع الذي جردوه من قيمته في تحقيق المطابقة ، وقصروه على مجرد التحسين أو الزينة اللفظية ، التي لم يروا لها مدخلا في تحقيق تلك المطابقة.

٧ ـ صياغة التعريفات صياغة منطقية صارمة ، مع صعوبة اللغة ووعورتها في كثير من الأحيان ، مما أدى إلى كثرة الشروح من بعده ، مما أثقل كاهل الدارسين للبلاغة.

٨ ـ الإيجاز والاقتضاب الشديد في كثير من الأحيان ، مما زاد من صعوبة العرض.

٩ ـ جفاف التقعيد والتجريد مع قلة الشواهد والتطبيقات ، بالإضافة إلى ندرة التحليل أو جفافه وابتعاده عن الأسلوب الأدبي ، الذي عهدناه لدى عبد القاهر وابن الأثير وأمثالهما.

١٠ ـ الوقوف في تحقيق المطابقة عند النظر إلى الجملة الواحدة ، أو الجملتين من حيث الفصل والوصل ، مع انعدام النظر تماما إلى الوحدة العضوية للعمل الفني ، باعتباره كلّا متكامل الأجزاء.

هذه هي أهم المآخذ التي أخذتها على ذلك العرض السكاكي للبلاغة ، والتي حاولت تحاشيها في هذه الأطروحة لعرض بديل.

٢٨

العرض البديل

أولا : مقدمة في تعريف البلاغة ، وأنها (مطابقة الكلام لمقتضى الحال (١) مع فصاحته) مع بيان أن تلك المطابقة تتحقق بأمرين :

١ ـ الكلمة المفردة بمالها من دلالة صوتية ومعجمية وصرفية ومقامية.

٢ ـ التراكيب ، وهي تتنوع بحسب تنوع أساليب الكلام ، ومن ثم تنقسم البلاغة إلى مبحثين اثنين :

١ ـ مبحث الكلمة المفردة.

٢ ـ مبحث التراكيب.

وفي المبحث الأول يتم بيان كيف تطابق الكلمة المفردة مقتضى الحال عن طريق :

١ ـ الاختيار الصوتي : حيث ينظر إلى حروف الكلمة من حيث الرقة أو الجزالة والفخامة ، والشدّة والرخاوة ، والجهر والهمس والإطباق ، وغير ذلك من صفات الحروف ، وما يعرض لها من مد وقصر ، ونبر وتنغيم ، وغير ذلك ، مما تحدث به مطابقة الكلام ، وغفل كثير من البلاغيين عن التنبيه عليه.

٢ ـ الاختيار المعجمي : حيث يتم الاختيار بين البدائل المعجمية المطروحة ، التي تبدو مترادفة ، في محاولة اختيار أوفق تلك الكلمات لسياقها ، سواء بالنظر لحال المخاطب أو حال المتكلم ، أو غير ذلك.

٣ ـ الاختيار الصرفي : يتم الاختيار كذلك بين البدائل الصرفية المطروحة ، من صيغ متنوعة ، تتقارب في أداء المعنى الواحد ، ويمكن الوقوف في هذا المبحث عند كل صيغة من الصيغ بالمعنى الواسع للصيغة ، الذي يشمل جميع البنى مع النظر فيما يتصل بها من اللواصق واللواحق ، وما يعتريها من إعلال وإبدال وغير ذلك ، باستعراض تلك الصيغ في عدد من السياقات المختلفة ، التي تكشف عن دلالاتها الفنية المتنوعة بتنوع تلك السياقات. هذا مع وعينا التام بأن البلاغيين المتأخرين قد تعرضوا لدراسة الكلمة المفردة في مبحث خاص بها هو بحث الفصاحة.

ومع ذلك نقرر أن تلك المعالجة كانت معالجة مقتضبة بعيدة كل البعد عن روح البلاغة وجوهرها ؛ ذلك لأنها قد نظرت إلى الكلمة المفردة معزولة عن سياقها ، ومن ثم فإن أغلب ما انتهي إليه درس هؤلاء البلاغيين في هذا الصدد لا يمكن أن يعوّل عليه ، لأنهم

__________________

(*) يبين في تلك المقدمة أن الحال تشمل حال المتكلم وحال المخاطب ، وليس حال المخاطب وحده.

٢٩

انتهوا إلى قواعد تجريدية افتراضية يحكم فيها على الكلمة بالحسن أو القبح معزولة عن السياق ، وهذا ما فنده عدد من الباحثين المعاصرين ، وتعرضنا لمناقشته تفصيلا في بحث سابق لنا (١)

__________________

(*) انظر بحثا مطولا في ذلك عن موقف البلاغيين المتأخرين من الكلمة المفردة ودراستهم إياها في مبحث الفصاحة ، وذلك في الفصل الخاص بنظرة الطيبي إلى الفصاحة واهتمامه بها في رسالتي للماجستير الإمام الطيبي تجديداته وجهوده البلاغية ص ١٢٩ ط المكتبة التجارية / مكة المكرمة

٣٠

ثانيا دراسة التراكيب

أرى ضرورة أن تتسع دارسة التراكيب لتشمل الأساليب البلاغية المختلفة من :

أـ الخبر

ب ـ الإنشاء

ج ـ التوكيد

د ـ الحذف

ه ـ الذكر

وـ التقديم

ز ـ التأخير

ح ـ التخصيص

ط ـ التكرار

ي ـ الفصل والوصل ... إلخ.

وذلك بلا تفرقة ـ في ذلك كله ـ بين المسند والمسند إليه ، حتى نتلافى تكرار المباحث وتشتيت بحث الظاهرة الواحدة في أكثر من موضع.

كما أننا لا نرى غضاضة أن يتسع هذا المبحث ليشمل. كلا من :

أـ التشبيه

ب ـ الاستعارة

ج ـ الكناية

د ـ المجاز

ه ـ الالتفات

وـ المطابقة

ز ـ السجع

ح ـ الجناس ... إلخ.

ففي رأيي أن هذه كلها أساليب فنية متنوعة لا ضرورة لتخصيصها بعلم مستقل عن علم دراسة التراكيب أو الأساليب.

وبهذا نتحاشى عدم المنطقية في ذلك التقسيم السكاكي الثلاثي لعلوم البلاغة.

٣١
٣٢

٣٣
٣٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الأستاذ (١) الإمام البارع العلامة سراج الملة والدين أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي (تغمده الله برحمته ورضوانه) (٢).

أحق كلام أن تلهج (٣) به الألسنة ، وأن لا يطوى منشوره على توالي الأزمنة ، كلام لا يفرغ إلا في قالب الصدق ، ولا ينسج خبره إلا على منوال الحق ، فبالحري تلقيه بالقبول إذا ورد يقرع الأسماع ، وتأبّيه أن يعلق بذيل مؤداه (٤) ريبة إذا حسر عن وجهه القناع ، وهو مدح الله تعالى وحمده بما هو له من الممادح أزلا وأبدا ، وبما انخرط في سلكها من المحامد متجددا ، ثم الصلاة والسّلام على حبيبه محمد البشير النذير بالكتاب العربي المنير ، الشاهد لصدق دعواه بكمال بلاغته ، المعجز لدهماء المصاقع (٥) عن إيراد معارضته ، إعجازا أخرس شقشقة (٦) كل منطيق ، وأظلم طرق المعارضة فما وضح إليها وجه طريق ، حتى أعرضوا عن المعارضة بالحروف ، إلى المقارعة بالسيوف ، وعن المقاولة

__________________

(١) في (غ) قال مولانا الإمام الأعظم علامة الدنيا شيخ العرب والعجم محيي أنواع الأدب منشىء علمي المعاني والبيان ، إمام أهل العدل والتوحيد وأنوار الحق ، قاهر أعداء الدين ، سلطان علماء التفسير ، حجة في الخلق ، سراج الملة والدين والفضائل والسعادات وفي (د) موافق ل (ط).

(٢) في (غ) (رضي‌الله‌عنه).

(٣) في (غ): (تلهم) وما أثبتناه أولى بالصواب ، وأقرب إلى السياق.

(٤) كذا بالأصل ، وفي (ط) وفي (غ) مؤاده ، ولعلها (مراده).

(٥) دهماء المصاقع : جماعة الناس في كل ناحية. وفي اللسان : الدهماء : الجماعة من الناس ، والعدد الكثير ، وفلان من أهل هذا الصقع : أي من أهل هذه الناحية.

(٦) الشّقشقة : لهاة البعير ، ولا تكون إلا للعربي من الإبل والجمع الشقاشق ، ومنه سمي الخطباء شقاشق ، وشقشق الفحل شقشقة : هدر ، والعصفور يشقشق في صوته. وفلان شقشقة قومه أي شريفهم وفصيحهم. لسان العرب ، (شقق).

٣٥

باللسان ، إلى المقاتلة بالسنان. بغيا منهم وحسدا ، وعنادا ولددا ؛ ثم على آله وأصحابه الأئمة الأعلام ، وأزمّة الإسلام.

وبعد ، فإن نوع الأدب نوع يتفاوت كثرة شعب وقلة ، وصعوبة فنون وسهولة ، وتباعد طرفين وتدانيا ، بحسب حظ متوليه من سائر العلوم كمالا ونقصانا ، وكفاء منزلته هنالك ارتفاعا وانحطاطا ، وقدر مجاله فيها سعة وضيقا. ولذلك ترى المعتنين بشأنه على مراتب مختلفة ، فمن صاحب أدب تراه يرجع منه إلى نوع أو نوعين ، لا يستطيع أن يتخطى ذلك ، ومن آخر تراه يرجع إلى ما شئت من أنواع مربوطة في مضمار اختلاف ، فمن نوع لين الشكيمة سلس المقاد ، يكفي في اقتياده بعض قوة وأدنى تمييز. ومن آخر بعيد المأخذ ، نائي المطلب ، رهين الارتياد بمزيد ذكاء وفضل قوة طبع. ومن آخر هو كالملزوز (١) في قرن. ومن رابع لا يملك إلا بعدد متكاثرة ، وأوهاق (٢) متظافرة مع فضل إلهي في ضمن ممارسات كثيرة ، ومراجعات طويلة ، لاشتماله على فنون متنافية الأصول ، متباينة الفروع ، متغايرة الجنى ، ترى مبنى البعض على لطائف المناسبات المستخرجة بقوة القرائح والأذهان ، وترى مبنى البعض على

__________________

(١) في (غ) (المروز) وهو خطأ بلا شك ، وقد تكلف محققه فقال : المروز : القطعة ، الحباس الذي يحبس الماء ، فارسى معرب ، والجمع : مروز. قلت : ولا معنى له هنا ، ولا دخل له في هذا السياق ، و (الملزوز في قرن) لفظ معروف مشهور : في اللسان : لزّ الشيء بالشيء يلزّه لزّا وألزّه : ألزمه إياه ...

ويقال للبعيرين ـ إذا قرنا في قرن (أي حبل) واحد ـ قد لزّا ... قال جرير :

وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن ...

لم يستطع صولة البزل القناعيس

(انظر اللسان ، مادة (لزز).

(٢) الأوهاق : مفردها (وهق) وهو الحبل المغار يرمى فيه أنشوطة فتؤخذ فيه الدابة والإنسان ، والجمع :

أوهاق. والمواهقة في السير المواظبة ومد الأعناق. ومواهقة الإبل مد أعناقها في السير. وقد تواهقت الركاب أي تسايرت. وتواهق الساقيان تباريا. وتوهّق الحصى إذا حمي من الشمس. لسان العرب ، مادة (وهق).

٣٦

التحقيق البحت ، وتحكيم العقل الصرف (١) ، والتحرز عن شوائب الاحتمال. ومن آخر ريض (٢) لا يرتاض إلا بمشيئة خالق الخلق.

وقد ضمنت كتابي هذا من أنواع الأدب (٣) ، دون نوع اللغة ، ما رأيته لا بد منه ، وهي عدة أنواع متآخذة. فأودعته علم الصرف بتمامه ، وأنه لا يتم إلا بعلم الاشتقاق المتنوع إلى أنواعه الثلاثة ، وقد كشفت عنها القناع. وأوردت (٤) علم النحو بتمامه ، وتمامه بعلمي المعاني والبيان (٥). ولقد قضيت بتوفيق الله منهما الوطر ، ولما كان تمام علم المعاني بعلمي الحد والاستدلال ، لم أر بدا من التسمح بهما (٦) وحين كان التدرب في علمي المعاني والبيان موقوفا على ممارسة باب النظم وباب النثر ، ورأيت صاحب النظم يفتقر إلى علمي العروض والقوافي ، ثنيت عنان القلم إلى إيرادهما.

وما ضمنت جميع ذلك كتابي هذا إلا بعد ما ميزت البعض عن البعض ، التمييز المناسب ، ولخصت الكلام على حسب مقتضى المقام هنالك ، ومهدت لكل من ذلك

__________________

(١) كذا في (د) في (ط) (والصرف)

(٢) ريّض : الرّيض من الدوابّ والإبل ضدّ الذلول. كذا باللسان. مادة (روض).

(٣) علوم الأدب على ما ذكرها القدماء هى (اللغة ، والنحو ، والتصريف ، والعروض والقوافى وصنعة الشعر ، وأخبار العرب ، وأنسابهم.) (انظر الأشباه والنظائر في النحو للسيوطي : ٦).

(٤) في (د): (وواردت) وهو خطأ مخالف لباقى النسخ.

(٥) انظر كيف جعل علمي المعاني والبيان من تمام علم النحو ليكشف بذلك عن الغاية العظمى للإعراب وهي الوقوف على أسرار المعاني.

(٦) في الحقيقة أنه ما أفسد علم المعاني إلا إقحام علم الحد والاستدلال في منهج دراسته ، وصبغه بتلك الصبغة المنطقية الصارمة التي لولاها لكان للسكاكي على هذا العلم منة عظيمة ، وهو وإن كان له على المعانى يد لا تنكر إلا أنه قد انتقص من قدرها ذلك الجفاء المنطقي الصارم في منهج السكاكي في دراسة علوم البلاغة.

٣٧

أصولا لائقة ، وأوردت حججا مناسبة ، وقررت ما صادفت من آراء السلف ، قدس الله أرواحهم ، بقدر ما احتملت من التقرير ، مع الإرشاد إلى ضروب مباحث قلّت عناية السلف بها ، وإيراد لطائف مفتنة ما فتق أحد بها رتق إذن.

وها أنا ممل حواشي جارية مجرى الشرح للمواضع المشكلة ، مستكشفة عن لطائف المباحث المهملة ، مطلعة على مزيد تفاصيل في أماكن تمس الحاجة إليها ، فاعلا ذلك كله عسى إذا قيض في اللحد المضجع ، أن يدعى لي بدعوة تسمع.

هذا واعلم أن علم الأدب متى كان الحامل على الخوض فيه مجرد الوقوف على بعض الأوضاع ، وشيء من الاصطلاحات ، فهو لديك على طرف الثمام (١). أما إذا خضت فيه لهمة تبعثك على الاحتراز عن الخطأ في العربية ، وسلوك جادة الصواب فيها ، اعترض دونك منه أنواع تلقى لأدناها عرق القربة (٢) ، لا سيما إذا انضم إلى همتك الشغف بالتلقي لمراد الله تعالى من كلامه (٣) ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه

__________________

(١) في (ط) (التمام) وما أثبتناه من (د). والثّمام : نبت معروف في البادية ولا تجهده النعم إلا في الجدوبة ... والعرب تقول للشىء الذى لا يعسر تناوله : (هو على طرف الثّمام) ، وذلك أن الثّمام لا يطول فيشقّ تناوله. لسان العرب. مادة (ثمم).

(٢) عرق القربة : في اللسان : وقيل : لقيت منه عرق القربة ، أى شدّة ومشقة ومعناه : أن القربة إذا أعرقت وهي مدهونة خبث ريحها. وفى حديث عمر : ألا لا تغالوا صدق النساء ، فإن الرجال تغالى بصدقها حتى تقول جشمت إليك عرق القربة ، قال الكسائى : عرق القربة أن يقول لك وتكلفت وتعبت حتى عرقت كعرق القربة ، وعرقها سيلان مائها ، وقال أبو عبيدة : تكلفت إليك ما لا يبلغه أحد حتى تجشمت ما لا يكون ، لأن القربة لا تعرق ، وهذا مثل قولهم : حتى يشيب الغراب ، ويبّيض القار ...

إلخ لسان العرب. مادة (عرق).

(٣) من هنا نعلم الغاية من وراء الأدب وعلومه عند القدماء : ألا وهي الاحتراز عن الخطأ في العربية ، وتلك هى الهمّة الدنيا ، أما الهمّة العليا ، والغاية العظمى ، والمقصد الأسمى لديهم فهو التلقى لمراد الله تعالى من كلامه ، وحسبك بها غاية ومقصدا نبيلا ، فأين ذلك من دعاة العبث اليوم ، الذين يرفعون ـ ـ

٣٨

ولا من خلفه ، فهناك يستقبلك منها ما لا يبعد أن يرجعك القهقرى ، وكأني بك وليس معك من هذا العلم إلا ذكر النحو واللغة ، قد ذهب بك الوهم إلى أن ما قرع سمعك هو شيء قد افترعته (١) عصبية الصناعة ، لا تحقيق له. وإلا فمن لصاحب علم الأدب بأنواع تعظم تلك العظمة ، لكنك إذا اطلعت على ما نحن مستودعوه كتابنا هذا ، مشيرين فيه إلى ما تجب الإشارة إليه ، ولن يتم لك ذلك إلا بعد أن تركب له من التأمل كل صعب وذلول ، علمت إذ ذاك أن صوغ الحديث ليس إلا من عين التحقيق ، وجوهر السداد.

ولما كان حال نوعنا هذا ما سمعت ، ورأيت أذكياء أهل زماني الفاضلين ، الكاملي الفضل ، قد طال إلحاحهم علي في أن أصنف لهم مختصرا يحظيهم بأوفر حظ منه ، وأن يكون أسلوبه أقرب أسلوب من فهم كل ذكي ، صنفت هذا ، وضمنت لمن أتقنه أن ينفتح عليه جميع المطالب العلمية ، وسميته : (مفتاح العلوم) ، وجعلت هذا الكتاب ثلاثة أقسام :

القسم الأول : في علم الصرف.

القسم الثاني : في علم النحو.

القسم الثالث : في علمي المعاني والبيان.

والذي اقتضى عندي هذا ، هو أن الغرض الأقدم من علم الأدب ، لما كان هو الاحتراز عن الخطأ في كلام العرب ، وأردت أن أحصل هذا الغرض ، وأنت تعلم أن

__________________

راية الفن للفن ، فلا غاية لهم من وراء الأدب إلا شقشقة فارغة ، ومتعة زائلة ، وخبط على غير هدى ، يتعثرون في مناهج ذوي الضلالة ، ويتنقلون معهم من عبث إلى عبث ، مصورين تمام التصوير حالة الانهزامية التي تعيشها الأمة اليوم حينما ألقت رايتها ، وتناست هويتها ، فنسيت الهدف ، وضلت عن الغاية فهل من بعث جديد نتمسك فيه بهويتنا ، ونعرف فيه إلى أين نحن ذاهبون؟.

(١) في (ط) وفي (غ) (افترعنه) ، والتصويب من (د).

٣٩

تحصيل الممكن لك لا يتأتى بدون معرفة جهات التحصيل واستعمالها ، لا جرم أنا حاولنا أن نتلو عليك في أربعة الأنواع مذيلة بأنواع أخر مما لا بد من معرفته في غرضك ، لتقف عليه. ثم الاستعمال بيدك ، وإنما أغنت هذه لأن مثارات الخطأ إذا تصفحتها ثلاثة : المفرد ، والتأليف ، وكون المركب مطابقا لما يجب أن يتكلم له.

وهذه الأنواع بعد علم اللغة هي المرجوع إليها في كفاية ذلك ما لم يتخط إلى النظم ، فعلما الصرف والنحو يرجع إليهما في المفرد والتأليف ، ويرجع إلى علمي المعاني والبيان في الأخير ، ولما كان علم الصرف هو المرجوع إليه في المفرد أو فيما هو في حكم المفرد ، والنحو بالعكس من ذلك ، كما ستقف عليه ، وأنت تعلم أن المفرد متقدم على أن يؤلف ، وطباق المؤلف للمعنى متأخر عن نفس التأليف ، لا جرم أنا قدمنا البعض على هذا الوجه وضعا لنؤثر ترتبا استحقته طبعا ، وهذا حين أن نشرع في الكتاب فنقول وبالله التوفيق :

أما القسم الأول من الكتاب فمشتمل على ثلاثة فصول.

٤٠