مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

على هذا التنويع قوله (١) :

تحيّة بينهم ضرب وجيع

وقولهم : خ خ عتابك السيف وقوله عز وعلا : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(٢). على ما ستسمع هذه الآية في فصل المستثنى منه ، إن شاء الله ، ومنه قوله (٣) :

وبلدة ليس بها أنيس ...

إلّا اليعافير وإلّا العيس

والاستعارة ، لبناء الدعوى فيها على التأويل ، تفارق الدعوى الباطلة ، فإن صاحبها يتبرأ عن التأويل ، وتفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إجراء الكلام على ظاهره ، فإن الكذاب لا ينصب دليلا على خلاف زعمه ، وأنى ينصب وهو لترويج ما يقول راكب كل صعب وذلول.

أقسام الاستعارة :

[وإذ قد عرفت](٤) ما كان يتعلق ببيان وصف الاستعارة ، ووجه تسميتها استعارة ، وتقرير استنادها إلى اللغة ، ومفارقتها للدعوى الباطلة والكذب ، فاعلم أن الاستعارة

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٢٦ وذكر صدر البيت :

وخيل قد دلفت لها بخيل

وهو لعمرو بن معد يكرب. النوادر في اللغه (٤٢٨) ، والخزانة (٩ / ٢٦) ، وشرح شواهد الكشاف (٤٢٦) ، وأورده الطيبى في التبيان (١ / ٢٩٩) بتحقيقى.

(٢) سورة الشعراء الآيتان : ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٢٧ وعزاه للراجز. وانظر الإنصاف ص ١٦٠ ، البيان في غرائب القران (١ / ٤٢١) ، وشواهد الكشاف ص ٩٧] ، والخطيب القزوينى في الإيضاح ص ٤١٧.

واليعافير : جمع يعفور وهو الغزال. والعيس : الإبل يخالط بياضها صفرة ، والواحد أعيس وهي عيساء.

(٤) في (ط) (وإذا عرفت) والمثبت من (غ) و (د).

٤٨١

تنقسم إلى : مصرح بها ومكنى عنها ، والمراد بالأول : هو أن يكون الطرف المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه به ، والمراد بالثاني أن يكون الطرف المذكور هو المشبه.

والمصرح بها تنقسم إلى : [تحقيقية](١) وتخييلية. والمراد بالتحقيقية : أن يكون المشبه المتروك شيئا متحققا ، إما حسيا وإما عقليا. والمراد بالتخييلية : أن يكون المشبه المتروك شيئا وهميا محضا ، لا تحقق له إلا في مجرد الوهم. ثم تقسم كل واحدة منهما إلى قطعية ، وهي : أن يكون المشبه المتروك متعين الحمل على ماله تحقق حسي أو عقلي ، أو على ما لا تحقق له البتة إلا في الوهم.

وإلى احتمالية ، وهي : أن يكون المشبه المتروك صالح الحمل تارة على ما له تحقق ، وأخرى على ما لا تحقق له. فهذه أقسام أربعة : الاستعارة المصرح بها التحقيقية مع القطع ، الاستعارة المصرح بها التخييلية مع القطع ، الاستعارة المصرح بها مع الاحتمال للتحقيق والتخييل ؛ الاستعارة بالكناية.

ثم إن الاستعارة ربما قسمت إلى : أصلية وتبعية ، والمراد بالأصلية : أن يكون معنى التشبيه داخلا في المستعار دخولا أوليا. والمراد بالتبعية : أن لا يكون داخلا دخولا أوليا ، وربما لحقها التجريد ، فسميت : خ خ مجردة ، أو الترشيح ، فسميت : خ خ مرشحة. فيجب أن نتكلم في هذه الانقسامات ، وهي ثمانية.

القسم الأول

في الاستعارة المصرح بها التحقيقية مع القطع

هي إذا وجدت وصفا مشتركا بين ملزومين مختلفين في الحقيقة ، هو في أحدهما أقوى منه في الآخر ، وأنت تريد إلحاق الأضعف بالأقوى على وجه التسوية بينهما ، أن تدّعى ملزوم الأضعف من جنس ملزوم الأقوى بإطلاق اسمه عليه ، وسدّ طريق التشبيه بإفراده في الذكر ، توصلا بذلك إلى المطلوب لوجوب تساوي اللوازم عند تساوي

__________________

(١) في (غ) و (د) (حقيقية).

٤٨٢

ملزوماتها ، فاعلا ذلك في ضمن قرينة مانعة عن حمل المفرد بالذكر على ما يسبق منه إلى الفهم ، كيلا يحمل عليه فيبطل الغرض التشبيهي ، بانيا دعواك على التأويل المذكور ، ليمكن التوفيق بين دلالة الإفراد بالذكر ، وبين دلالة القرينة المتمانعتين ، ولتمتاز دعواك عن الدعوى الباطلة ، مثال ذلك : أن يكون عندك شجاع ، وأنت تريد أن تلحق [جرأته وقوته بجرأة](١) الأسد وقوته ، فتدعي الأسدية له بإطلاق اسمه عليه ، مفردا له في الذكر ، فتقول : خ خ رأيت أسدا ، كيلا يعد جرأته وقوته ، دون جرأة الأسد وقوته ، مع نصب قرينة مانعة عن إرادة الهيكل المخصوص به : ك خ خ يرمي أو خ خ يتكلم ، أو خ خ في الحمام ، أو : أن يكون عندك وجه جميل ، وأنت تريد أن تلحق وضوحه ، وإشراقه ، وملاحة استدارته بما للبدر ، فتدعيه بدرا ، بإطلاق اسمه عليه مع إفراده في الذكر ، قائلا : خ خ نظرت إلى بدر [يبتسم](٢) أو : أن يكون عندك عالم ، وأنت تريد إلحاق كثرة فوائده ، بعد ما جرت العادة على تشبيه فوائد العلماء بالفرائد ، بكثرة فرائد البحر ، فتدعيه بحرا سالكا في ذلك المسلك المعهود ؛ أو أن تريد إلحاق عدل عادل في إباء التفاوت ، بالميزان أو بالقسطاس في ذلك ، فتدخله في جنس الميزان أو القسطاس ، قائلا : خ خ ميزان [أميرنا](٣) أو قسطاسه لا يقبل التفاوت.

الاستعارة التهكمية :

ومن الأمثلة : استعارة اسم أحد الضدين أو النقيضين للآخر ، بواسطة انتزاع شبه التضاد ، وإلحاقه بشبه التناسب ، بطريق التهكم أو التلميح ، على ما سبق في باب التشبيه ، ثم ادعاء أحدهما من جنس الآخر ، والإفراد بالذكر ، ونصب القرينة ، كقولك : خ خ إن فلانا تواترت عليه البشارات بقتله ، ونهب أمواله ، وسبي أولاده. ويخص هذا النوع باسم : خ خ الاستعارة التهكمية أو خ خ التلميحية.

__________________

(١) في (غ) و (د) (جراءته ... بجراءة).

(٢) في (غ) و (د) (يتبسم)

(٣) في المطبوع (أو ميزانا) والتصويب من (غ) و (د).

٤٨٣

قرينة الاستعارة :

واعلم أن قرينة الاستعارة ربما كانت معنى واحدا ، كالذي رأيت في الأمثلة المذكورة ، وربما كانت معان مربوطا بعضها ببعض كما

في قوله (١) :

وصاعقة من نصله تنكفي بها ...

على أرؤس الأقران خمس سحائب

انظر حين أراد استعارة السحائب لأنامل يمين الممدوح ، تفريعا على ما جرت به العادة من تشبيه الجواد بالبحر الفياض تارة ، وبالسحاب الهطال أخرى ؛ ماذا صنع؟ ذكر أن هناك صاعقة ، ثم قال : خ خ من نصله ، فبين أن تلك الصاعقة من نصل سيفه ، ثم قال : خ خ على أرؤس الأقران ، ثم قال : خ خ خمس ، فذكر العدد الذي هو عدد جميع أنامل اليد ، فجعل ذلك كله قرينة لما أراد من استعارة السحائب للأنامل ؛ ومن الأمثلة استعارة وصف إحدى صورتين [منتزعين](٢) من أمور لوصف الأخرى ، مثل أن تجد إنسانا استفتى في مسألة ، فيهم تارة بإطلاق اللسان ليجيب ، ولا يهم أخرى ، فتأخذ صورة تردده هذا ، فتشبهها بصورة تردد إنسان قام ليذهب في أمر ، فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا ، وتارة لا يريد فيؤخر أخرى ، ثم تدخل صورة المشبه في جنس صورة المشبه به روما للمبالغة في التشبيه ، فتكسوها وصف المشبه به من غير تغيير فيه بوجه من الوجوه ، على سبيل الاستعارة ، قائلا : خ خ أراك أيها المفتي تقدم رجلا وتؤخر أخرى ؛ وهذا نسميه : التمثيل على سبيل الاستعارة ؛ ولكون الأمثال كلها تمثيلات على سبيل الاستعارة ، لا يجد التغيير إليها سبيلا ، فاعلم.

__________________

(١) أورده الطيبى في التبيان (١ / ٣٠٠) بتحقيقى وعزاه للبحتري وفي شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١١٧) بتحقيقى أيضا ، والعلوى في الطراز (١ / ٢٣١) ، وديوان البحتري (٢ / ٣٥٦).

(٢) في (غ) و (د) (منتزعتين).

٤٨٤

القسم الثاني

في الاستعارة المصرح بها التخييلية مع القطع

هي أن تسمى باسم صورة متحققة صورة عندك وهمية محضة ، تقدرها مشابهة لها ، مفردا في الذكر ، في ضمن قرينة مانعة عن حمل الاسم على ما يسبق منه إلى الفهم من كون مسماه شيئا متحققا ، وذلك مثل أن تشبه المنية بالسبع في اغتيال النفوس ، وانتزاع أرواحها بالقهر والغلبة ، من غير تفرقة بين نفاع وضرار ، ولا رقة لمرحوم ومساس بقيا على ذي فضيلة ، تشبيها بليغا حتى كأنها سبع من السباع ، فيأخذ الوهم في تصويرها في صورة السبع ، واختراع ما يلازم صورته ، ويتم بها شكله من ضروب هيئات ، وفنون جوارح وأعضاء ، وعلى الخصوص ما يكون قوام اغتيال السبع للنفوس بها ، وتمام افتراسه للفرائس بها من الأنياب والمخالب ، ثم تطلق على مخترعات الوهم عندك أسامي المتحققة على سبيل الإفراد بالذكر ، وأن تضيفها إلى المنية ، قائلا : خ خ مخالب المنية ، أو خ خ أنياب المنية الشبيهة بالسبع ، ليكون إضافتها إليها قرينة مانعة من إجرائها على ما يسبق إلى الفهم منها من تحقق مسمياتها ، أو مثل أن تشبه الحال ، إذا وجدتها دالة على أمر من الأمور ، بالإنسان الذي يتكلم ، فيعمل الوهم في الاختراع للحال ما قوام كلام المتكلم به ، وهو تصوير صورة اللسان ، ثم تطلق عليه اسم اللسان المتحقق ، وتضيفه إلى الحال قائلا : لسان الحال الشبيه بالمتكلم ناطق بكذا ؛ أو مثل أن تشبه حكما من الأحكام ، إذا صادفته واقعا بمشيئة امرئ وتابعا لرأيه كيف شاء ، بالناقة المنقادة التابعة لمستتبعها كيف أراد ، فتثبت له في الوهم ما قوام ظهور انقياد الناقة به واتباعها المستتبع وهو صورة الزمام ، فتطلق عليها اسم الزمام المتحقق قائلا : زمام الحكم الشبيه بالناقة في اتباع المستتبع في يد فلان.

٤٨٥

القسم الثالث

في الاستعارة المصرح بها المحتملة للتحقيق والتخييل

هي كما ذكرنا أن يكون المشبه المتروك صالح الحمل على ما له تحقق من وجه ، وعلى ما لا تحقق له من وجه آخر ، ونظيره قول زهير (١) :

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ...

وعرّي أفراس الصّبا ورواحله

أراد أن يبين أنه أمسك عما كان يرتكب ، أو أن الصبا ، وقمع النفس عن التلبس بذاك ، معرضا الإعراض الكلي عن المعاودة لسلوك سبيل الغي ، وركوب مراكب الجهل ، فقال :

وعرّي أفراس الصّبا ورواحله

أي ما بقيت آلة من آلاتها المحتاج إليها في الركوب والارتكاب قائمة ، كأيما نوع فرضت من الأنواع ، حرفة أو غيرها ، متى وطنت النفس على اجتنابه ، ورفع القلب رأسا عن دق بابه ، وقطع العزم عن معاودة ارتكابه ، فيقل العناية بحفظ ما قوام ذلك النوع به من الآلات والأدوات ، فترى يد التعطيل تستولي عليها فتهلك وتضيع شيئا فشيئا ، حتى لا تكاد تجد في أدنى مدة أثرا منها ولا عثيرا ، فبقيت لذلك معراة لا آلة ولا أداة ، فحق قوله : خ خ أفراس الصبا ورواحله ، أن يعد استعارة تخييلية ، لما يسبق إلى الفهم ، ويتبادر إلى الخاطر ، من تنزيل : (أفراس الصبا ورواحله) ، منزلة أنياب المنية ومخالبها ، وإن كان يحتمل احتمالا بالتكلف أن تجعل الأفراس والرواحل عبارة عن دواعي النفوس وشهواتها ، والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذات ، أو عن الأسباب التي قلما تتآخذ في اتباع الغي ، وجر أذيال البطالة ، إلّا أوان الصبا ، وكذلك قوله ، علت كلمته : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ)(٢) الظاهر من اللباس ، عند أصحابنا ، الحمل على

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٣٢ وعزاه إليه ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٤٦ ، والطيبى في التبيان (١ / ٣٠٢) وشرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١١٨) والعلوى في الطراز (١ / ٢٣٣).

(٢) سورة النحل الآية ١١٢.

٤٨٦

التخييل ، وإن كان يحتمل عندي أن يحمل على التحقيق ، وهو أن يستعار لما يلبسه الإنسان عند جوعه من انتقاع اللون ورثاثة الهيئة.

القسم الرابع

في الاستعارة بالكناية

هي ، كما عرفت ، أن تذكر المشبه ، وتريد به المشبه به دالا على ذلك بنصب قرينة تنصبها ، وهي أن تنسب إليه وتضيف شيئا من لوازم المشبه به المساوية ، مثل أن تشبه المنية بالسبع ، ثم تفردها بالذكر مضيفا إليها ، على سبيل الاستعارة التخييلية ، من لوازم المشبه به ما لا يكون إلّا له ، ليكون قرينة دالة على المراد ، فتقول : خ خ مخالب المنية نشبت بفلان ، طاويا لذكر المشبه به ، وهو قولك : خ خ الشبيهة بالسبع ، أو مثل أن تقول : خ خ لسان الحال ناطق بكذا ، تاركا لذكر المشبه به ، وهو قولك : خ خ الشبيه بالمتكلم ، أو تقول : خ خ زمام الحكم في يد فلان ، بترك ذكر المشبه به.

وقد ظهر أن الاستعارة بالكناية لا تنفك عن الاستعارة التخييلية ، هذا ما عليه مساق كلام الأصحاب ، وستقف ، إذا انتهينا إلى آخر هذا الفصل ، على تفصيل ههنا. وكأني بك لما قدمت أن الاستعارة تستدعي ادعاء أن المستعار له من جنس المستعار منه دعوى إصرار ، وادعاء أنه كذلك مع الإصرار ، يأبى الاعتراف بحقيقته. والاستعارة بالكناية مبناها على ذكر المشبه باسم جنسه ، والاعتراف بحقيقة الشيء أكمل من التنويه باسم جنسه. يهجس في ضميرك أن الجمع بين الإنكار البليغ ، وبين الاعتراف الكامل ، أنى يتسنى ، فالوجه في ذلك هو أنّا نفعل هاهنا ، باسم المشبه ، ما نفعل في الاستعارة بالتصريح بمسمى المشبه ، كما أنّا ندّعي هناك الشجاع مسمّى للفظ الأسد ، بارتكاب تأويل على ما سبق ، حتى يتهيأ التفصي عن التناقض في الجمع بين ادعاء الأسدية ، وبين نصب القرينة المانعة عن إرادة الهيكل المخصوص ، ندّعي ههنا اسم المنية اسما للسبع ، مرادفا له بارتكاب تأويل ، وهو : أن المنية تدخل في جنس السباع لأجل

٤٨٧

المبالغة في التشبيه بالطريق المعهود ، ثم [نذهب](١) على سبيل التخييل إلى أن الواضع كيف يصح منه أن يضع اسمين لحقيقة واحدة وأن لا يكونا مترادفين؟ فيتهيأ لنا بهذا الطريق دعوى السبعية للمنية مع التصريح بلفظ المنية.

__________________

(١) في (ط) و (د) (تذهب).

٤٨٨

القسم الخامس

في الاستعارة الأصلية

هي أن يكون المستعار اسم جنس ، كرجل وأسد ، وكقيام وقعود ، ووجه كونها أصلية هو ما عرفت أن الاستعارة مبناها على تشبيه المستعار له بالمستعار منه ؛ وقد تقدم في باب التشبيه : أن التشبيه ليس إلّا وصفا للمشبه بكونه مشاركا للمشبه به في وجه ، والأصل في الموصوفية هي الحقائق ، مثل ما تقول : خ خ جسم أبيض أو خ خ بياض صاف ، وخ خ جسم طويل أو خ خ طول مفرط ، وإنما قلت : خ خ الأصل في الموصوفية هي الحقائق ، ولم أقل : خ خ لا يعقل الوصف إلا للحقيقة ، قصرا للمسافة حيث يقولون في نحو : خ خ شجاع باسل ، وخ خ جواد فياض ، وخ خ عالم نحرير ، إنّ : خ خ باسلا وصف لشجاع ، وخ خ فياضا وصف لجواد ، وخ خ نحريرا وصف لعالم.

القسم السادس

في الاستعارة التبعية

هي ما تقع في غير أسماء الأجناس : كالأفعال ، والصفات المشتقة منها ، وكالحروف ؛ بناء على دعوى أن الاستعارة تعتمد التشبيه ، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا. والأفعال ، والصفات المشتقة منها ، والحروف عن أن توصف بمعزل ، فهذه كلها عن احتمال الاستعارة في أنفسها بمعزل ، وإنما المحتمل لها ، في الأفعال والصفات المشتقة منها ، مصادرها ؛ وفي الحروف ، متعلقات معانيها. فتقع الاستعارة هناك ثم تسري فيها ، وأعني : بمتعلقات معاني الحروف ما يعبر عنها عند تفسيرها ، مثل قولنا : من : معناها ابتداء الغاية ، وإلى : معناها انتهاء الغاية ، وكي : معناها الغرض. فابتداء الغاية وانتهاء الغاية والغرض ليست معانيها ، إذ لو كانت هي معانيها ، والابتداء والانتهاء والغرض : أسماء ؛ لكانت هي أيضا أسماء ؛ لأن الكلمة إذا سميت اسما سميت لمعنى الاسمية لها ، وإنما هي متعلقات معانيها ، أي إذا أفادت هذه الحروف معان ، رجعت إلى هذه بنوع استلزام ، فلا تستعير الفعل إلّا بعد استعارة مصدره ، فلا تقول : نطقت الحال ، بدل خ خ دلت ، إلّا بعد تقرير استعارة نطق الناطق لدلالة الحال ، على الوجه الذي عرفت ، من إدخال دلالة الحال في جنس نطق الناطق لقصد المبالغة في التشبيه ، وإلحاق إيضاح دلالة

٤٨٩

الحال للمعنى بإيضاح نطق الناطق له ، وكذا إذا قلت : خ خ الحال ناطقة بكذا ، بدل : خ خ دالة على كذا ، وكذا قوله عز سلطانه : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١) في الاستعارة التهكمية ، بدل : فأنذرهم ، وقول قوم شعيب : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)(٢) بدل : السفيه الغوي ، لقرائن أحوالهم.

ومما نحن فيه قولهم للشمس : خ خ جونة لشدة ضوئها ، والجون الأسود ، وللغراب : أعور لحدة بصره ، وعلى هذا لا تستعير الحرف إلّا بعد تقدير الاستعارة في متعلق معناه.

الاستعارة ب" لعل" :

فإذا أردت استعارة خ خ لعل ، لغير معناها ، قدرت الاستعارة في معنى الترجي ، ثم استعملت هناك : لعل ؛ مثل أن تبني على أصول العدل ، ذاهبا إلى [أن](٣) الصانع حكيم ، تعالى وتقدس أن يكون في أفعاله عبث ، بل كل ذلك حكمة وصواب مفعول لغرض صحيح ، ما خلق الإنسان إلّا لغرض الإحسان ، وحين ركب فيه الشهوة الحاملة على فعل ما يجب تركه ، والنفرة الحاملة على ترك ما يجب فعله ، وأودع عقله المضادة لحكميهما ، حتى تنازعته أيدي الدواعي والصوارف ، فوقفت به حيث الحيرة ، لا متقدم له عنه ولا متأخر تحمله الحيرة على ما لا يورثه إلّا العناء ، إذا اتبع العقل وقع من النفس المشتهية النافرة في عناء ، وإذا اتبع النفس وقع من العقل الناهي الآمر في عناء ، لا مخلص هناك مما أوقعه في ورطة تلك الحيرة سفها ولا عبثا ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإنما فعل ذلك لغرض الإحسان ، وهو التكليف ، ليتمكن من اكتساب ما لا يحسن فعله في حقه ، ابتداء من التعظيم العظيم ، مع الدوام في ضمن التمتيع من أنواع المشتهيات بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على بال أحد ، مخلصة أن يشوبها منغص ما ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٢١.

(٢) سورة هود الآية ٨٧.

(٣) ساقطة من (ط).

٤٩٠

فيكتسبه إن شاء لا بالقسر ، ولذلك وضع زمام الاختيار في يده ممكّنا إياه من فعل الطاعة والمعصية ، مريدا منه أن يختار ما يثمر له تلك السعادة الأبدية ، مزيحا في ذلك جميع علله ، فتشبه حال المكلف الممكّن من فعل الطاعة والمعصية ، مع الإرادة منه أن يطيع باختياره ، بحال المرتجي المخير بين أن يفعل وأن لا يفعل ، ثم تستعير لجانب المشبه : لعل ، جاعلا قرينة الاستعارة علم العالم [بالذات](١) الذي لا يخفى عليه خافية ، يعلم ما كان وما [هو](٢) كائن وما سيكون ، قائلا : خلق الله الخلق لعلهم يعبدون ، أو لعلهم يتقون ، وعليه قول رب العزة علام الغيوب : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٣) ، ونظائره.

الاستعارة ب" اللام" :

وإذا أردت استعارة خ خ لام الغرض ، قدرت الاستعارة في معنى الغرض ، ثم استعملت لام الغرض هناك ، مثل أن يكون عندك ترتب وجود أمر على أمر ، من غير أن يكون الثاني مطلوبا بالأول ، ويكون الأول غرضا فيه فتشبّههه بترتّب وجود بين أمرين ، مطلوب بالأول منهما الثاني ، ثم تستعير للترتب المشبه كلمة الترتيب المشبه به في ضمن قرينة مانعة عن حملها على ما هي موضوعة له ، فتقول إذا رأيت عاقلا : قد أحسن إلى إنسان ثم آذاه ، ذلك أنه قد أحسن إليه ليؤذيه ، ومن ذلك قوله علت كلمته : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٤)

الاستعارة ب" ربما" :

وقد ظهر مما نحن فيه أن (ربما) في قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)(٥) ، حقها أن تعد من باب الاستعارة التهكمية ، وأن تعد تبعية على قول

__________________

(١) في (د) : الذات.

(٢) غير موجودة في (د).

(٣) سورة البقرة الآية ٢١.

(٤) سورة القصص الآية ٨.

(٥) سورة الحجر الآية ٢.

٤٩١

سيبويه في (رب) ، وأصلية على قول الأخفش ، رحمهما‌الله ؛ وقد سبق ذكر هذا الاختلاف في علم النحو.

قرينة الاستعارة التبعية :

واعلم أن مدار قرينة الاستعارة التبعية في الأفعال ، وما يتصل بها ، على نسبتها إلى الفاعل ، كقولك : نطقت الحال ، أو إلى المفعول الأول ، كقول ابن المعتز (١) :

قتل البخل وأحيا السّماحا

أو إلى الثاني المنصوب ، كقول الآخر (٢) :

صبحنا الخزرجية مرهفات

وكقول الآخر (٣) :

نقريهم لهذميات

أو إلى المجرور ، كقوله علت كلمته : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ، *) أو إلى الجميع ، كقوله (٤) :

تقري الرياح رياض الحزن مزهرة ...

إذا سرى النوم في الأجفان إيقاظا

__________________

(١) أورده الرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٤٣ وعزاه إليه وذكر صدر البيت :

جمع الحق لنا في إمام

وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٣٥ ، والقزويني في الإيضاح (٤٣١) ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١١٩) بتحقيقى.

(٢) أورده القزوينى في الإيضاح ص ٤٣١ وعزاه لكعب بن زهير وذكر تمام البيت :

أباد ذوى أرومتها ذووها

(٣) الشطر للقطامي الشاعر ، وتمام البيت :

نقريهم لهذميات نقدّ بها ...

ما كان خاط عليهم كلّ زراد.

(٤) أورده الرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٤٤ ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٣٦ ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١١٩) بتحقيقى ، والعلوى في الطراز (١ / ٢٣٨) وفيه : أيقاظا بفتح الهمزة .. والأجفان : أكمام الزهر.

٤٩٢

هذا ما أمكن من تلخيص كلام الأصحاب في هذا الفصل ، ولو أنهم جعلوا قسم الاستعارة التبعية من قسم الاستعارة بالكناية ، بأن قلبوا ، فجعلوا في قولهم : نطقت الحال بكذا ، الحال التي ذكرها عندهم قرينة الاستعارة بالتصريح ، استعارة بالكناية عن المتكلم بوساطة المبالغة في التشبيه على مقتضى المقام ، وجعلوا نسبة النطق إليه قرينة الاستعارة ، كما تراهم في قوله (١) :

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

يجعلون المنية استعارة بالكناية عن السبع ، ويجعلون إثبات الأظفار لها قرينة الاستعارة ، وهكذا ، لو جعلوا البخل استعارة بالكناية عن حي أبطلت حياته بسيف أو غير سيف فالتحق بالعدم ، وجعلوا نسبة القتل إليه قرينة ، ولو جعلوا أيضا خ خ اللهذميات استعارة بالكناية عن المطعومات اللطيفة الشهية على سبيل التهكم ، وجعلوا نسبة لفظ القرى إليها قرينة الاستعارة لكان أقرب إلى الضبط ، فتدبره.

تعريف الاستعارة :

وإذ قد عرفت ما ذكرت فلا بأس أن أحكي لك ما عند السلف في تعريف الاستعارة : حدها عند بعضهم : تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإنابة ، وعند الأكثر جعل الشيء الشيء لأجل المبالغة في التشبيه ، كقولك : رأيت أسدا في الحمام ؛ وجعل الشيء للشيء لأجل المبالغة في التشبيه ، كقولك : لسان الحال ، وزمام الحكم. ولا أزيد على الحكاية.

__________________

(١) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٢٨ وعزاه لأبي ذؤيب الهذلي ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٤٥ ، والطيبى في التبيان (١ / ٣٠٣) بتحقيقى ، والعلوى في الطراز (١ / ٢٣٢). وتمامه : ألفيت كل تميمة لا تنفع. وقد تقدم.

٤٩٣

القسم السابع والقسم الثامن

في تجريد الاستعارة وترشيحها

اعلم أن الاستعارة في نحو : خ خ عندي أسد ، إذا لم تعقب بصفات أو تفريع كلام ، لا تكون مجردة ولا مرشحة ، وإنما يلحقها التجريد أو الترشيح إذا عقبت بذلك ، ثم إن الضابط هناك أصل واحد ، وهو أنك قد عرفت أن الاستعارة لا بد لها من مستعار له ومستعار منه ، فمتى عقبت بصفات ملائمة للمستعار له ، أو تفريع كلام ملائم له ، سميت : مجردة ، ومتى عقبت بصفات أو تفريع كلام ملائم للمستعار منه ، سميت : مرشحة.

مثالها في التجريد أن تقول : خ خ ساورت أسدا شاكي السلاح ، طويل القناة ، صقيل العضب ، وخ خ حاورت بحرا ما أكثر علومه ، وما أجمعه للحقائق ، وما أوقفه على الدقائق.

ومثالها في الترشيح أن تقول : خ خ ساورت أسدا هصورا عظيم اللبدتين ، وافي البراثن ، منكر الزئير ؛ وخ خ جاورت بحرا زاخرا لا يزال يتلاطم أمواجه ، ولا يغيض فيضه ، ولا يدرك قعره. ولا أعني بالصفات الصفات النحوية ، بل الوصف المعنوي كيف كان. ومبنى الترشيح على تناسي التشبيه ، وصرف النفس عن توهمه ، حتى لا تبالي أن تبني على علو القدر وسمو المنزلة ، بناءك على العلو المكاني والسمو ، كما فعل أبو تمام إذ قال (١) :

ويصعد حتّى يظنّ الجهول ...

بأنّ له حاجة في السّماء

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٣٨ وعزاه لأبي تمام ، والرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٥٢ ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٢٥ ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٣٤.

٤٩٤

وابن الرومي إذ قال (١) :

أعلم الناس بالنجوم بنو نو ...

بخت علما لم يأتهم بالحساب

بل بأن يشاهدوا السماء سموّا ...

بترقّ في المكرمات الصعاب

مبلغ لم يكن ليبلغه الطا ...

لب إلا [بتلكم](٢) الأسباب

وكما قال أيضا (٣) :

يا آل نوبخت لا عدمتكم ...

ولا تبدلت بعدكم بدلا

إن صحّ علم النجوم كان لكم ...

حقا ، إذا ما سواكم انتحلا

كم عالم فيكم وليس بأن قا ...

س ولكن بأن رقى فعلا

أعلاكم في السماء مجدكم ...

فلستم تجهلون ما جهلا

شافهتم البدر بالسؤال عن ال ...

أمر إلى أن بلغتم زحلا

وتلزم المستعار له ما يلزم المستعار منه من [العجب](٤) أو غير التعجب مما لا يليق إلا بالمستعار منه ، كما فعل من قال :

قامت تظللّني ، ومن عجب ...

شمس تظللني من الشمس (٥)

ومن قال :

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٣٩ وعزاه لابن الرومى ، وآل نوبخت : أسرة اشتغلت بعلم الفلك والنجوم في العصر العباسي.

(٢) في (غ) بتكلم.

(٣) أورده القزويني في الإيضاح ص ٤٣٤ وعزاه لابن الرومي ، وعبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص ٢٤٤ ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٢٥.

(٤) في (غ) التعجب.

(٥) سبق تخريجه.

٤٩٥

لا تعجبوا من بلى غلالته ...

قد زرّ أزراره على القمر (١)

ومن قال (٢) :

أتتنى الشمس زائرة ...

ولم تك تبرح الفلكا

ومن قال (٣) :

ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه

أو ما ترى هؤلاء فيما فعلوا كيف نبذوا أمر التشبيه وراء ظهورهم ، وكيف نسوا حديث الاستعارة كأن لم تخطر منهم على بال ، ولا رأوها ولا طيف خيال ، وإذا كانوا مع التشبيه والاعتراف بالأصل يسوغون أن لا يبنوا إلا على الفرع ، ويقولون (٤) :

هي الشمس مسكنها في السّما ...

ء فعز الفؤاد عزاء جميلا

فلن تستطيع إليها الصعو ...

د ولن تستطيع إليك النّزولا

أو يقولوا (٥) :

وعد البدر بالزيارة ليلا ...

فإذا ما وفّى قضيت نذوري

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) أورده محمد بن علي بن محمد الجرجاني في الإشارات ص ٢٢٤ وعزاه لبشار ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤٣٥.

(٣) أورده عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص ٢٤٥ وذكر تمام البيت :

ولا رجلا قامت تعانقه الأسد

والقزوينى في الإيضاح ص ٤٣٥ وهو للمتنبي.

(٤) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢٢٤ وعزاه للعباس بن الأحنف ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٣٩ ، والقزوينى في الإيضاح (٤٣٦).

(٥) أورده عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص ٢٥٣ وعزاه لسعيد بن حميد.

٤٩٦

قلت :

يا سيدي ولم تؤثر اللي ...

ل على طلعة الصباح المنير

قال لي :

لا أحب تغيير رسمي ...

هكذا الرسم في طلوع البدور

أو يقولوا (٢) :

قلت : زوري فأرسلت : أنا آتيك سحره

قلت : فالليل كان أخفى وأدنى مسرّه

فأجابت بحجة زادت القلب حسره

أنا شمس وإنما تطلع الشمس بكره

فهم إلى تسويغ ذلك مع جحد الأصل في الاستعارة أقرب.

شروط الاستعارة :

وإذ قد عرفت أقسام الاستعارة فاعلم أن الاستعارة لها شروط في الحسن إن صادفتها حسنت ، وإلا عريت عن الحسن ، وربما اكتسبت قبحا ، وتلك الشروط : رعاية جهات حسن التشبيه التي سبق ذكرها في الأصل الأول بين المستعار له والمستعار منه في الاستعارة بالتصريح التحقيقية ، والاستعارة بالكناية ، وأن لا تشمها في كلامك من جانب اللفظ رائحة من التشبيه ، ولذلك نوصي في الاستعارة بالتصريح أن يكون الشبه بين المستعار له والمستعار منه جليّا بنفسه ، أو معروفا سائرا بين الأقوام ، وإلا خرجت الاستعارة عن كونها استعارة ، ودخلت في باب التعمية والألغاز ، كما إذا قلت : رأيت عودا مسقيا أوان الغرس ، وأردت إنسانا مؤدبا في صباه ، أو قلت : رأيت خ خ إبلا مائة لا تجد فيها راحلة وأردت : الناس ؛ وأما حسن الاستعارة التخييلية فبحسب حسن الاستعارة بالكناية متى كانت تابعة لها ، كما في قولك : فلان بين أنياب المنية ومخالبها ،

٤٩٧

ثم إذا انضم إليها المشاكلة ، كما في قوله عز اسمه : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(١) ، كانت أحسن وأحسن ، وقلما تحسن الحسن البليغ غير تابعة لها ، ولذلك استهجنت في قول الطائي (٢) :

لا تسقني ماء الملام فإنّني ...

صبّ قد استعذبت ماء بكائي

أنواع الاستعارة :

ولما أن الاستعارة مبناها على التشبيه ، تتنوع إلى خمسة أنواع ، تنوع التشبيه إليها : استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي أو بوجه عقلي ، واستعارة معقول لمعقول ، واستعارة محسوس لمعقول ، واستعارة معقول لمحسوس.

فمن النوع الأول قوله عز اسمه : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(٣) ؛ فالمستعار منه هو : النار ، والمستعار له هو : الشيب ، والجامع بينهما هو : الانبساط ، ولكنه في النار أقوى ، فالطرفان حسيان ووجه الشبه حسيّ.

ومن الثاني قوله عز اسمه : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)(٤) ، فالمستعار له : الريح والمستعار منه : المرء ، والجامع : المنع من ظهور النتيجة والأثر ، فالطرفان : حسيان ووجه الشبه : عقلي. وكذلك قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ)(٥)

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية : ١٠. وما ذهب إليها الشيخ من المشاكلة في الآية غير مسلّم على مذهب أهل الحق ، فصفة اليد ثابته على الحقيقة له سبحانه ، والقول بإثبات الصفة لا يمنع إثبات لوازمها من الإعانة والرعاية والإنعام والتأييد وغير ذلك ، فهذا كله فرع إثبات الصفة ، فلا ينبغى أن يكون ذريعة لنفيها ، وقد أبعد الشيخ النجعة هنا حيث جعلها من قبيل المشكلة.

(٢) أورده فخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٥٤ وعزاه لأبي تمام ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٤٢.

(٣) سورة مريم ، الآية : ٤.

(٤) سورة الذاريات الآية ٤١.

(٥) سورة يس ، الآية : ٣٧.

٤٩٨

فالمستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل ، والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلدته ، فالطرفان حسيان ، والجامع هو ما يعقل من ترتب أحدهما على الآخر. وكذلك قوله : (فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(١) فالمستعار له الأرض المزخرفة المتزينة ، والمستعار منه النبات ، وهما حسيان ، والجامع الهلاك ، وهو أمر معقول ، وكذلك قوله : (حَصِيداً خامِدِينَ)(٢) فأصل الخمود للنار.

ومن الثالث قوله عز اسمه : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(٣) ، فالرقاد مستعار للموت ، وهما أمران معقولان ، والجامع عدم ظهور الأفعال ، وقوله : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا)(٤) فالقدوم : هو مجيء المسافر بعد مدة ، مستعار للأخذ في الجزاء بعد الإمهال ، وهما أمران معقولان ، والجامع وقوع المدة في البين ، وقوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) أيها (الثَّقَلانِ)(٥) ، فالفراع وهو الخلاص عن المهام ، والله ـ عز سلطانه ـ لا يشغله شأن عن شأن ، وقع مستعارا للأخذ في الجزاء وحده ، وذلك أمر عقلي ، والطرفان عقليان ؛ وقوله : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)(٦) وكذا قوله : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)(٧) ؛ فالغيظ والتغيظ مستعاران من الحالة الوجدانية التي تدعو إلى الانتقام للحالة المتوهمة من نار الله ، أعاذنا الله منها برحمته وفضله ، وقوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ)(٨) فالمستعار منه هو إمساك اللسان عن الكلام ، وإنه أمر معقول ، والمستعار له تفاوت

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ١٥.

(٣) سورة يس ، الآية : ٥٢.

(٤) سورة الفرقان ، الآية : ٢٣.

(٥) سورة الرحمن ، الآية : ٣١.

(٦) سورة الملك ، الآية : ٨.

(٧) سورة الفرقان ، الآية : ١٢.

(٨) سورة الأعراف ، الآية : ١٥٤.

٤٩٩

الغضب عن اشتداده إلى السكون ، وإنه أيضا أمر وجداني عقلي ، والجامع هو أن الإنسان مع الغضب ، إذا اشتد ، وجد حالة للغضب كأنها تغريه ، وإذا سكن وجده كأنه قد أمسك عن الإغراء.

ومن الرابع قوله عز اسمه : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ)(١) ، فأصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل ، والدمغ لإذهاب الباطل ، فالمستعار منه حسي ، والمستعار له عقلي ، وقوله : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ)(٢) ، فأصل المساس في الأجسام ، ثم وقع مستعارا لمقاساة الشدة ، وقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ)(٣) فالمستعار منه ضرب الخيمة أو ما شاكلها ، وإنه أمر حسي ، والمستعار له التثبيت ، وإنه أمر عقلي. وكذا قوله : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ)(٤) فأصل الزلزال التحريك العنيف ، ثم وقع مستعارا لشدة ما نالهم. وقوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(٥) ، فالصدع وهو كسر الزجاجة ببذل الإمكان ، وإنه أمر حسي ، مستعار لتبليغ الرسالة ببذل الإمكان ، وإنه أمر عقلي. وقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا)(٦) فأصل الخوض في الماء ثم وقع مستعارا لذكر الآيات ، وكل خوض ذمه الله في القرآن فهو من هذا القبيل ، وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ)(٧) ، فالوادي مستعار للأمر ، والهيمان : الاشتغال به على سبيل التحير ، فالمستعار منه في هذه الأمثلة حسي ، والمستعار له عقلي.

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ١٨.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢١٤.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٦١.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢١٤.

(٥) سورة الحجر ، الآية : ٩٤.

(٦) سورة الأنعام ، الآية : ٦٨.

(٧) سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٥.

٥٠٠