مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

ومن القسم الثاني : [دائما](١) كل مجاز إما أن يكون لغويا ، وإما أن يكون عقليا ، وليس البتة شيء من الألفاظ المهملة إما لغويا وإما عقليا ، فيحصل دائما لا مجاز بمهمل.

ومن القسم الثالث : كلما كانت الكلمة حرفا كانت مبنية ، وليس البتة شيء إما منصرف وإما غير منصرف مبنيا ، فليس البتة كلمة هي حرف إما منصرفا وإما غير منصرف.

ومن القسم الرابع : دائما كل فعل إما ماض وإما مضارع وإما أمر ، وليس البتة شيء إذا كان حرفا أن يكون ماضيا أو مضارعا أو أمرا ، فليس البتة فعل بحرف.

الصورة الثالثة :

وفي الثالثة من القسم الأول : كلما كانت الكلمة مستعملة في غير معناها كانت مفتقرة إلى قرينة ، وكلما كانت الكلمة مستعملة في غير معناها كانت مجازا فيحصل : قد يكون إذا كانت الكلمة مفتقرة إلى قرينة أن تكون مجازا.

ومن القسم الثاني : دائما كل كلمة ، إما أن تكون حقيقة ، وإما أن تكون مجازا ، وكل كلمة دائما إما أن تكون اسما ، وإما فعلا ، وإما حرفا ، يحصل : إما الحقيقة وأما المجاز قد يكون إما اسما ، وإما فعلا ، وإما حرفا.

ومن القسم الثالث : كلما كانت الكلمة خماسية كانت اسما ، والكلمات الخماسية دائما إما على وزن قرطعب ، وإما على وزن جحمرش وإما على وزن سفرجل ، وإما على وزن قذعمل ، والاسم قد يكون إما على ، وإما على ، وإما على ، وإما على.

ومن القسم الرابع : دائما كل كلمة ملحقة ، إما ثلاثية وإما رباعية. وكلما كانت الكلمة ملحقة كانت مزيدة ، فأما الثلاثيات وأما الرباعيات قد تكون مزيدة.

الصورة الرابعة :

وفي الرابعة من القسم الأول : كلما كانت الكلمة استعارة كانت مفتقرة إلى نصب

__________________

(١) من (غ).

٦٠١

دلالة ، وكلما كانت الكلمة مستعملة لغير معناها ، روما للمبالغة في التشبيه ، كانت استعارة ، فيحصل : قد تكون إذا كانت الكلمة مفتقرة إلى نصب دلالة ، أن تكون مستعملة لغير معناها.

ومن القسم الثاني : دائما كل حقيقة من الكلم إما أن تكون تصريحا وإما أن تكون كناية ، ودائما إما الكلمة المستعملة في معناها وحده ، وإما المستعملة في معناها ومعنى معناها ، تكون حقيقة ، فيحصل : قد يكون إما التصريح ، وإما الكناية ، إما استعمالا للكلمة في معناها وحده ، وإما في معناها ومعنى معناها.

ومن القسم الثالث : كلما كان الاسم ممتنعا عن الصرف فهو في ضرورة الشعر يصرف ، ودائما كل ما كان إما جمعا ليس على زنته واحد ، وإما مؤنثا بالألف. فهو ممتنع عن الصرف ، فيحصل : قد يكون ما يصرف في ضرورة الشعر ، إما أن يكون جمعا ليس على زنة واحد ، وإما أن يكون مؤنثا بالألف.

ومن القسم الرابع : دائما كل مبني إما لازم البناء وإما عارض البناء ، وكلما دخل الاسم في الغايات كان مبنيا ، فيحصل : قد يكون بعض ما بناؤه لازم أو بناؤه عارض داخلا في الغايات.

٦٠٢

[الباب](١) الثالث

الاستدلال الذي إحدى جملتيه شرطية والأخرى خبرية

من تكملة علم المعاني في الاستدلال الذي إحدى جملتيه شرطية والأخرى خبرية

تركيب الدليل في هذا [الباب](٢) ، في كل صورة من الصور الأربع ، لا يزيد على أربعة أقسام : وهي : أن تكون السابقة خبرية واللاحقة إما متصلة وإما منفصلة ، وأن تكون اللاحقة خبرية والسابقة إما متصلة وإما منفصلة. وقد عرفت جميع ذلك ، فاعتبر التركيبات بنفسك.

الباب الرابع

القياسات ومجاريها وأحوالها

وإذ قد نجز الموعود في [الأبواب](٣) الثلاثة من فن الاستدلال ، فلو لا أن للأصحاب فصولا سواها يتكلمون فيها : كفصل القياسات المركبة ، وفصل القياسات الاستثنائية ، وفصل قياس الخلف ، وفصل عكس القياس ، وفصل قياس الدور ، وغير ذلك ، لختمنا الكلام في هذا الفن ، مؤثرين أن لا ننظمها في سلك الإيراد ، لرجوعها إما إلى مجرد اصطلاح ، وإما إلى فائدة قلما تخفى على ذي فطنة يتقن ما قد سبق ذكره ، ولكنا نقفو أثرهم اعتناء بإيضاح ما توخوه ، مع التنبيه على ما هنالك من وجوه الضبط عندنا.

القياسات المركبة :

فنقول : تركيب القياسات عبارة عن تركيب دليل فيه تركيب دليل ، إما لسابقته وإما للاحقته ، وإما لكلتيهما ، وقس على هذا. وأنا أذكر مثالا واحدا ، وهو قولنا : في دليل فيه دليل سابقته : كل جسم قرين كون في جهة معينة ، وكل كون حادث ، فكل جسم قرين حادث. وكل قرين حادث حادث ، فكل جسم حادث.

__________________

(١) في (د ، غ) : الفصل.

(١) في (د ، غ) : الفصل.

(٢) في (غ ، د) : الفصول.

٦٠٣

وتركيب القياسات عندهم ينقسم إلى : موصول ، وهو أن يكون الدليل المودع في الدليل قد وصل بذكر سابقته ولاحقته ، والحاصل منهما في المثال المذكور ، وإلى : مفصول ، وهو أن يكون قد فصل عنه ذكر الحاصل من جملتيه ، كما إذا قلت : كل جسم قرين كون في جهة معينة ، وكل كون في جهة معينة حادث ، وكل قرين حادث حادث ، وكل جسم حادث ؛ ولك أن تجعل الوصل : عبارة عن أن يوصل الدليل بالتصريح ، بجميع ما لا بد له منه في استلزامه للمطلوب.

والفصل : عبارة عن ترك شيء ، إذا علم موقعه ، فنقول في قولك : هذا مساو لذاك ، وذاك مساو لذلك ، فهذا مساو لذلك ، أنه مفصول. وفي قولك : هذا مساو لذاك ، وذاك مساو لذلك ، وكل مساو لمساو لشيء ، مساو لذلك الشيء ، فهذا مساو لذلك ، أنه موصول. وأن تقول في قولك : إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، وإن كان النهار موجودا فالأعشى يبصر ، والشمس طالعة فالأعشى يبصر : إنه مفصول. وفي قولك : والشمس طالعة ، فالنهار موجود ، فالأعشى يبصر ، إنه [موصول](١).

القياسات الاستثنائية :

والقياس الاستثنائي عبارة عن الاستدلال بثبوت الملزوم على ثبوت لازمه ، وبنفي اللازم على انتفاء ملزومه ، دون مقابليهما ، إلا فيما إذا كان اللازم مساويا. لكن ذلك لا يكون عن قوة النظم ، مثال الاستدلال بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم : إن كان هذا إنسانا ، فهو حيوان ، لكنه إنسان ، فيحصل : هو حيوان. ومثال الاستدلال بنفي اللازم على انتفاء ملزومه : إن كان إنسانا ، فهو حيوان ، لكنه ليس بحيوان ، فيحصل : ليس هو بإنسان. [وهو](٢) من الدلالات الواضحة المستلزم تكذيبها الجمع بين النقيضين استلزاما ظاهرا ، ولك أن تنزل الأول منهما منزلة الضرب الثاني من الصورة الأولى ؛ لأن قولنا : إن كان هذا إنسانا فهو حيوان في قوة : كل إنسان حيوان ، فتجعله لاحقة ،

__________________

(١) في (د) : مفصول.

(٢) في (غ) : وهما.

٦٠٤

وتجعل قولك : لكنه إنسان ، وهو في قوة : هو إنسان ، سابقة : وتركب الدليل هكذا : هو إنسان ، وكل إنسان حيوان ، فيحصل : هو حيوان ، وأن تنزل الثاني ، منزلة الضرب الرابع من الصورة الثانية ، ناظما قولك : لكنه ليس بحيوان ، في سلك : ليس هو بحيوان ، مركبا للدليل هكذا : هو ليس بحيوان ، وكل إنسان حيوان ، محصلا منه : ليس هو بإنسان. وأما مقابلاهما فلا ينتظمهما ، على ما سلكنا من الطريق ، ضرب من ضروب الصور ، فتأمل.

قياس الخلف :

وأما قياس الخلف فقد تكرر عليك ، غير مرة ، كونه ، دليلا مركبا من نقيض الحاصل من الدليل المذكور ومن إحدى جملتيه ، لبيان بطلان النقيض ، بوساطة أن الدليل متى صح تركيبه وصدقت جملتاه لزمه الحق ، واللازم ههنا منتف ، فيلزم انتفاء الملزوم ، وإذ لا شبهة في صحة التركيب وفي صدق إحدى الجملتين ، فالمتعين للكذب ، إذن ، هي الجملة الأخرى ، وهي النقيض ، توصلا بذلك كله إلى إثبات حقية الحاصل من الدليل المذكور سابقا. والخلف إذا نظم في سلك القياسات المركبة نظم لذلك ، ونسميه قياس الخلف إما : لأنه قياس يسوق إلى حاصل رديء ، وهو خلاف الحق ، فالخلف هو الكلام الرديء ، يقال : سكت ألفا ونطق خلفا. وإما لأنه قياس كأنه يأتي من وراء من ينكر حاصل الدليل السابق ، ويترك حمله بنفس الدليل ، فالخلف هو الوراء أيضا ، بناء على أن الإنسان متى اتصف بالإنكار لشيء ؛ وصف بأنه حول ظهره إليه ، وكذا إذا ترك العمل به ، وأبى قبوله ، قيل : نبذه وراء ظهره ، وعليه قوله علت كلمته : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ)(١) أي تركوا العمل به ، وربما جرى على ألسن الدخلاء في هذا الفن بضم الخاء ، وقد جرت العادة على تسمية خلف الخلف رد الخلف إلى المستقيم.

وخلف الخلف : هو أن تركب قياسا من نقيض الحاصل من الخلف ومن إحدى

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٨٧.

٦٠٥

جملتي الدليل السابق على خلف الخلف ، وتحصل منه المطلوب الأصلي ، وقد أغنت عبارتي : خلف الخلف ، مع كمال إيضاحها لمراد الأصحاب من : رد الخلف إلى المستقيم ، عن تطويلات تمس الحاجة إليها بدون هذه العبارة.

عكس القياس :

وأما عكس القياس فنظير الخلف من وجه ، وذلك أنه يؤخذ فيه ، مقابل حاصل الدليل ، إما بالتناقض مثل : ما إذا كان كل كذا وكذا ، فيوضع موضعه : لا كل كذا كذا. وإما بالتضاد مثل : ما إذا كان كل كذا كذا ، فيوضع موضعه : لا شيء من كذا كذا ، ويضم إليه إحدى جملتي الدليل ، ليحصل مقابل الجملة الأخرى احتيالا لمنع القياس.

قياس الدور :

وأما قياس الدور : فهو أن يؤخذ عكس إحدى جملتي الدليل ، مع الحاصل من الدليل ، فيركب منهما دليل مثبت للجملة الأخرى ، ويصار إلى هذا في الجدل احتيالا ، عند ما تكون إحدى جملتي الدليل غير بينة ، فيغير المطلوب عن صورته اللفظية ، ليتوهم شيئا آخر ، ويقرن به عكس الجملة الأخرى من غير تغير الكمية ، مثل قولنا : كل إنسان متفكر ، وكل متفكر ضحاك ، فكل إنسان ضحاك. وقولنا : كل إنسان ضحاك ، وكل ضحاك متفكر ، فكل متفكر. وقولنا : كل متفكر إنسان ، وكل إنسان ضحاك ، فكل إنسان متفكر ضحاك. لكن هذا الاحتيال إنما يتمشى إذا كانت الأجزاء متعاكسة متساوية ، كما في المثال المضروب ، والذي ضربته من المثال يبين معنى تسميته قياس الدور ، فانظر.

٦٠٦

[فصل](١)

التقسيم والسبر والاستقراء والتمثيل

وإذ قد عثرت على القياسات ومجاريها وأحوالها ، وأن هنا أمورا شبيهة بالقياس ، فلا حرج أن نشير إليها إشارة خفيفة.

منها التقسيم والسبر وذلك : أن تجعل (٢) المبتدأ ملزوم أحد خبرين ، أو أخبار تحصرها ، ليتعين واحد من ذلك المجموع عند النفي لما عداه ، كما تقول : زيد إما في الدار أو في المسجد أو في السوق ، لكنه ليس في السوق ولا في المسجد ، فإذن هو في الدار. وإن هذا النوع ، متى صح حصره وصدق نفيه ، أفاد اليقين.

ومنها : الاستقراء ، وهو انتزاع حكم كلي عن جزئيات ، وأنه إذا تيسرت الإحاطة بجميع الجزئيات ، حتى لا يشذ عنها واحد ، أفاد اليقين. ومن للمستقرئ بذاك؟

ومنها التمثيل : وهو تعديد الحكم عن جزئي إلى آخر لمشابهة بينهما ، وأنه أيضا مما لا يفيد اليقين إلا إذا علم بالقطع أن وجه الشبه هو علة الحكم ، ولكن تسكب فيه العبرات.

فصل : في الدليل

وهذا أوان أن نثني عنان القلم إلى تحقيق ما عساك تنتظر منذ افتتحنا الكلام في هذه التكملة أن نحققه ، أو عل صبرك قد عيل له ، وهو : أن صاحب التشبيه ، أو الكناية ، أو الاستعارة ، كيف يسلك في شأن متوخاه مسلك صاحب الاستدلال ، وأنى يعشو أحدهما إلى نار الآخر والجد وتحقيق المرام [مظنة](٣) هذا ، والهزل وتلفيق الكلام مظنة هذا؟ فنقول ، وبالله الحول والقوة ، أليس قد تلي عليك : أن صور الاستدلال أربع لا

__________________

(١) من (د).

(٢) في (د) : تجهل.

(٣) في (د ، غ) : مئنة.

٦٠٧

مزيد عليهن ، وأن الأولى هي التي تستبد بالنفس ، وأن ما عداها تستمد منها بالارتداد إليها ، فقل لي : إن كانت التلاوة أفادت شيئا؟ هل هو غير المصير إلى ضروب أربعة؟ بل إلى اثنين؟ محصولهما إذا أنت وفيت النظر إلى المطلوب حقه ، إلزام شيء يستلزم شيئا ، فيتوصل بذاك إلى الإثبات. أو يعاند شيئا فيتوصل بذلك إلى النفي ، ما أظنك ، إن صدق الظن ، يجول في ضميرك حائل سواه.

ثم إذا كان حاصل الاستدلال ، عند رفع الحجب ، هو ما أنت تشاهد بنور البصيرة ، فوحقك إذا شبهت قائلا : خ خ خدها وردة ، تصنع شيئا سوى أن تلزم الخد ما تعرفه يستلزم الحمرة الصافية ، فيتوصل بذلك إلى وصف الخد بها.

أو هل إذا كنيت قائلا : خ خ فلان جم الرماد ، تثبت شيئا غير أن تثبت لفلان كثرة الرماد المستتبعة للقرى ، توصلا بذلك إلى اتصاف فلان بالمضيافية عند سامعك؟.

أو هل إذا استعرت قائلا : في الحمام أسد ، تريد أن تبرز من هو في الحمام في معرض من سداه ولحمته شدة البطش ، وجراءة المقدم مع كمال الهيبة ، فاعلا ذلك ليتسم فلان بهاتيك السمات؟.

أو هل تسلك إذا رمت سلب ما تقدم ، فقلت : خدها باذنجانة سوداء ، أو قلت : [قدر](١) فلان بيضاء ، أو قلت : في الحمام فراشة ، مسلكا غير إلزام المعاند بدل المستلزم ، ليتخذ ذريعة إلى السلب هنالك؟

أرأيت ، والحال هذا ، إن ألقي إليك زمام الحكم أتجدك لا تستحي أن تحكم بغير ما حكمنا نحن ، أو تهجس في ضميرك : أنى يعشو صاحب التشبيه أو الكناية أو الاستعارة إلى نار المستدل؟ ما أبعد التمييز بمجرده أن يسوغ ذلك ، فضلا أن يسوغه العقل الكامل ، والله المستعان.

هذا ، وكم ترى المستدل يتفنن فيسلك : تارة طريق التصريح فيتمم الدلالة ، وأخرى

__________________

(١) كذا في الأصول.

٦٠٨

طريق الكناية ، إذا مهر ، مثل ما تقول للخصم : إن صدق ما قلت استلزم كذا ، واللازم منتف ، ولا تزيد فتقول :

تعريف الدليل :

وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم ، فلزم منه كذب قولك. وهل فصل القياسات ووصلها يشم غير هذا؟ وأما بعد ، فللمحصلين فيما نحن بصدده أشياء تسلك فيما بينهم ، فلنورد طرفا منها لمجرد التنبيه على نوعها ، من ذلك أن تعريف الدليل ممتنع ؛ لأن العلم بتركيب الدليل ، إن كان بالضرورة ، امتنع تعريفه ، وإن كان بالدليل ، لزم. إما الدور وإما التسلسل ، وهما باطلان ، ولا شيء سوى الضرورة والاستدلال ، فيجاب عنه : بأنّا لا نعرف تركيب الدليل ، وإنما ننبه عليه ، من له في ظننا استعداد التنبه ، فإن لم يتنبه ، محوناه عن دفتر المخاطبين. ولا شبهة في تفاوت النفوس لإدراك العلوم ، ومن ذلك : أن الاكتساب بالدليل ممتنع ، فإن إفادته للعلم ، إن كانت بالضرورة لزم منه الاشتراك في العلم ، فالدليل : اشتراك العلم بما يفيد ، واللازم ، كما هو غير خاف ، منتف ، فيجاب عن ذلك : بأنه تشكيك ، فيما يعلم كل أحد بالضرورة أن ليس كل علم ضروريا ، فيعترض عليه ، بأن تصحيح ذلك في حيز التعارض لكونه مشككا أيضا في إحدى الضرورات المتألف عنها السؤال ، فيجاب عن الاعتراض بأن التعارض ، إن كان أورثكم شكا في ضرورات سؤالكم ، فالاعتراض مقدوح فيه ، فلا يستحق الجواب. وإن كان لم يورث ، فهو اعتراف منكم بكون ضرورتنا قائمة ، فلا حاجة بنا إلى الجواب ، فيقدح في الجواب : بأن التعارض إذا أورث تشكيكا لنا أوجب مثله لكم ، فيصار في دفع القدح إلى أنه تمسك منكم بالدليل ، وأنه تناقض ، وإنما أخرت هذا ، ولك أن تقدمه ، ليقرع سمعك ما قد سبقه ، ومن ذلك : أن الاكتساب بالدليل : إن قيل به ، لزم في كل من هو عاقل : جمال أو حمال أو نظيرهما ، إذا نظروا أن يحصل لهم من العلوم العقلية ما قد تفرد به الأفراد ، لكون النظر في نفسه ممكنا ، والإلزام الجبر ، وكون أجزاء الدليل في ذهن كل أحد لامتناع القول باكتسابها ، على ما سبق في باب الحد ، وكون صحة تركيب الدليل وفساده غير مكتسبين ، تفاديا عن المحذورين : الدور والتسلسل.

٦٠٩

وكون الصادر علما مستغنيا عن الاكتساب للتفادي عن المحذورين ، ثم إن هذا اللازم معلوم الانتفاء لكل منصف ذي بصيرة ، فيقال : إن سلم لكم ما ذكرتموه في توجيه ما ألزمتم ، فهو ألزم لكم فيما إذا كانت العلوم عن آخرها مبرأة عن الاكتساب ، وهذا النوع الذي قد أردنا التنبيه عليه هو فوائد ، لئن أخذنا بك في شعبها ، وإنها لربما ضربت بعروقها إلى علوم لست من عالمها ، لتهيمن في أودية الحيرة ، خاسرا أكثر مما كنت قد ربحت ، فالرأي الرصين الترك عن آخرها ، ولنتكلم في فصل كنا أخرناه لهذا الموضع وهو : بيان حال المستثنى منه في كونه حقيقة أو مجازا فنقول :

المستثنى منه : حقيقة أو مجاز؟

إن أصحابنا في علم النحو ، حيث يصفون الاستثناء بأنه إخراج الشيء عن حكم دخل فيه غيره ، ويعنون أن ذلك الإخراج يكون بكلمات مخصوصة يعينونها ، وإنك لتعلم أن إخراج ما ليس بداخل غير صحيح ، فيظهر لك من هذا أن حق المستثنى عندهم ، كونه داخلا في حكم المستثنى منه ، وأن قولهم : لفلان علي عشرة دراهم إلا واحدا ، يستدعي دخول الواحد في حكم العشرة قبل إلا ، لكن دخول الواحد في حكم العشرة ، متى قدر من قبل المتكلم ، ناقض آخر الكلام أوله ، كما يشهد له الحال ؛ وقد سبق الكلام في التناقض ، فيلزم تقديره من قبل السامع.

وأن يكون استعمال المتكلم للعشرة مجازا في التسعة ، وأن يكون إلا واحدا قرينة المجاز ، ويفرع على اعتبار الدخول كون الاستثناء متصلا ، مثل : جاءني إخوتك إلا الأكبر ، أو قومك إلا زيدا منهم ، أصلا دون كونه منقطعا ، مثل : جاءني القوم إلا حمارا ، وكون كون دخول المستثنى في حكم المستثنى منه واجبا ، مثل ما سبق أصلا دون ما لا يكون واجبا ، مثل قولك : اضرب قوما إلا عمرا ، إذ لا يخفى أن دخول عمرو في حكم الضرب لا يجب وجوب دخول الواحد في العشرة ، أو الأكبر أو زيد في إخوتك وقومك ، ويفرع على اعتبار المجاز كون كون المستثنى أقل من المستثنى منه ، الباقي بعد الاستثناء ، مثل الأمثلة المذكورة أصلا ، نحو : لفلان علي عشرة إلا تسعة ، لكون الدخول الذي هو سبب الاستثناء مراعى في الأول ، وكون الدخول المراعى مع الوجوب أظهر منه عند عدم الوجوب في الثاني ، وكون تنزيل الأكثر منزلة الكل ،

٦١٠

الذي هو الطريق إلى المجاز فيما نحن فيه ، أدخل في المناسبة ، من تنزيل الأقل منزلة الكل في الثالث.

وأما المصير إلى فروع هذه الأصول عند البلغاء ، فمن باب الإخراج ، لا على مقتضى الظاهر بتنزيلها منزلة أصولها بوساطة جهة من جهات البلاغة ، قال تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ)(١) وقال : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ)(٢) بناء على التغليب فيهما ، وقال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(٣) بتقدير حذف المضاف ، وهو إلا سلامة من أتى الله ، مدلولا عليه بقرائن الكلام ، منزلة السلامة المضافة منزلة المال والبنين ، بطريق قولهم : عتاب فلان السيف ، وأنيسه الإصداء.

وقوله (٤) :

واعتبوا بالصّيلم

ولك أن تحمل قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) على معنى : لا ينفع شيء ما ، حمل قولك : خ خ لا ينفع زيد ولا عمرو ، على معنى : خ خ لا ينفع إنسان ما. ويكون من منصوب المحل ، وقال القائل (٥) :

وبلدة ليس بها أنيس ...

إلّا اليعافير وإلا العيس

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٤ ؛ الإسراء : ٦١ ؛ طه : ١١٦ ؛ الكهف : ٥٠.

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٥٧.

(٣) سورة الشعراء ، الآيتان : ٨٨ ـ ٨٩.

(٤) البيت من الكامل وهو لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص ٨٠ ولسان العرب (١ / ٥٧٨) (عتب) ، (١٢ / ٣٤٠) (صلم) ، وتهذيب اللغة (٢ / ٢٧٨) (١٢ / ١٩٩) ، وتاج العروس (٣ / ٣١١) (عتب) ، (صلم) وسمط اللآلى ص ٥٠٣.

(٥) البيت وهو لجران العود في ديوانه ص ٩٧ وخزانة الأدب ١٠ / ١٥ ـ ١٨ والدر (٣ / ١٦٢) ، وبلا نسبة في الإيضاح (٢ / ٤١٧) الأشباه والنظائر (٢ / ٩١) والإنصاف (١ / ٢٧١) ، المصباح (١٢٧) وخزانة الأدب (٤ / ١٢١ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، ٧ / ٣٦٣ ، ٩ / ٢٥٨ ، ٣١٤) وشرح شذور الذهب ص ٣٤٤ ، ولسان العرب (٦ / ١٩٨) (كنس) ويروى بسابسا مكان وبلدة.

٦١١

على معنى أنيسها اليعافير والعيس ، أي أنيسها ليسوا إلا إياها. وقال (١) :

وقفت فيها أصيلانا أسائلها ...

أعيت جوابا ، وما بالربع من أحد

إلا أوادي (٢) ...

 ...

أراد : إن كان الآدي يعد أحدا فلا أحد فيه بها إلا هو.

وكذا في الفرعين الآخرين فتأملهما ، فقد اطلعت على جهات البلاغات ، فلا تقل : خ خ اضرب قوما إلا عمرا ، إلا لإظهار كمال الإبقاء على عمرو ، فإن المبقي على الشيء ينزل البعيد من احتمالات ضرره منزلة أقربها ، أو لوجه آخر مناسب مستلزم لإيجاب الدخول في باب البلاغة ؛ ولا تنس قولي : في باب البلاغة ، وكذا لا تقل : لفلان علي ألف ألا تسعمائة وتسعة وتسعين ، إلا إذا أردت أن تنزل ذلك الواحد منزلة الألف لجهة من الجهات الخطابية ، وقد عرفتها.

ولامتناع كون الشيء غير نفسه لا تصحح استثناء الكل من الكل ، فلا تقل : لفلان علي ثلاثة دراهم إلا ثلاثة ، ولكن أردف الثاني ما يخرجه عن المساواة ، فقل ، إن شئت : لفلان علي ثلاثة دراهم إلا ثلاثة إلا اثنين إلا أربعة إلا واحدا ، فليلزم درهمان لنزول : علي ثلاثة إلا ثلاثة إلا اثنين منزلة : لفلان علي أربعة ، لوقوع الاثنين في درجة الإثبات لكونهما مستثنيين عن ثلاثة هي في درجة النفي ، لكونها في محل الاستثناء عن ثلاثة مثبتة.

وإن كان تحقيق استثنائها عندك موقوفا على تبين مقدار خروجها عن المساواة

__________________

(١) البيت من البسيط وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٤ ، والأغاني (١١ / ٢٧) والإنصاف (١ / ١٧٠) ، وخزانة الأدب (٢ / ١٢٢ ، ١٢٤ ، ١٢٦) (١١ / ٣٦) ، والدر ٣ / ١٥٩ وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٢٦٠ ، والإنصاف (١ / ١٧٠) ورصف المباني (ص ٣٢٤).

الرّبع : المنزل والدار بعينها ، لسان اللسان (ربع).

(٢) في (غ) : أوارى.

٦١٢

للمستثنى منه ، ولزوم الاثنين ، من قولك : علي أربعة إلا أربعة إلا واحدا ، بالطريق المذكور في إثبات الأربعة ، و: لفلان علي ثلاثة إلا ثلاثة إلا ثلاثة إلا ثلاثة إلا واحدا ، فليلزم الثلاثة : لوجوب الواحد الواقع في درجة الإثبات ، ووجوب واحد آخر من الثلاثة الثالثة عن الواحد ، وآخر ثالث من الثلاثة الخامسة عنه ، وهي : الثلاثة الأولى. و: لفلان علي ثلاثة دراهم إلا ثلاثة إلا واحدا إلا اثنين إلا ثلاثة إلا اثنين ، فليلزم : واحد لإسقاط الاثنين الآخرين من الثلاثة التي فيها ، الواقعة في درجة الإثبات ، وإخراج الواحد الباقي منها بعد الإسقاط من الاثنين قبله الساقطين ، وإسقاط الواحد الباقي منهما من الواحد قبله ، المجتمع من الواحد للباقي من الثلاثة الأولى ، المسقط عنها الاثنان الباقيان من الثلاثة المسقطة ، المخرج عنها الواحد بالإثبات.

ولفلان علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحدا إلا اثنين إلا ثلاثة إلا أربعة إلا خمسة إلا ستة إلا سبعة إلا ثمانية إلا تسعة ، فيلزم واحد ؛ لأنك إذا قلت : علي عشرة إلا تسعة ، لزم واحد ، ثم قلت : إلا ثمانية ، صار اللازم تسعة ، ثم إذا قلت : إلا سبعة ، بقي اللازم اثنين ، ثم إذا قلت : إلا ستة ، صار اللازم ثمانية ، ثم إذا قلت : إلا خمسة ، بقي اللازم ثلاثة ، ثم إذا قلت : إلا أربعة صار اللازم سبعة ، ثم إذا قلت : إلا ثلاثة ، بقي اللازم أربعة ، ثم إذا قلت : إلا اثنين ، صار اللازم ستة ، ثم إذا قلت : إلا واحدا ، بقي اللازم خمسة ، ثم إذا قلت : إلا اثنين ، صار اللازم سبعة ، ثم إذا قلت : إلا ثلاثة ، بقي اللازم أربعة ، ثم إذا قلت : إلا أربعة صار اللازم ثمانية ، ثم إذا قلت : إلا خمسة ، بقي اللازم ثلاثة ، ثم إذا قلت : إلا ستة ، صار اللازم تسعة ، ثم إذا قلت : إلا سبعة ، بقي اللازم اثنين ، ثم إذا قلت : إلا ثمانية ، صار اللازم عشرة ، ثم إذا قلت : إلا تسعة بقي اللازم واحدا ، هذا.

ثم إذا فرقت بين : (إلا) للاستثناء ، وبينها للوصف ، بمعنى : (غير) ، مثل ما إذا قلت : لفلان علي ثلاثة دراهم إلا اثنان ، بالرفع ، لزمت الثلاثة ، وإذا قلت : ما علي لفلان ثلاثة دراهم إلا اثنان ، احتمل ، من حيث أصول النحو ، أن لا يلزمه شيء ، إذا حمل الرفع على الوصف ، واحتمل أن يلزمه اثنان ، إذا حمل الرفع على البدل. وعلى هذا فقس ، تستخرج ما شئت من فتاوى ذات لطف ودقة ، بإذن الله تعالى.

٦١٣

فصل : وجه الإعجاز في الاستدلال

وإذ قد أفضى بنا القلم إلى هذا الحد من علمي المعاني والبيان ، وما أظنك يشتبه عليك ، وأنك منذ وفقنا لتحريك القلم فيهما لتشاهد ما تشاهد ، أنّا ما سطرنا ما سطرنا إلا وجل الغرض توخي إيقاظك مما أنت فيه ، من رقدة غباك عن ضروب افتنانات في النسج لحبير الكلام على منوال الفصاحة ، وإبداع وشيه بتصاوير عن كمال التأنق في ذلك إشدادا وإلجاما ، عسى إن استيقظت أن يضرب لك بسهم ، حيث ينص الإعجاز للبصيرة تليله ، ويقص على المذاق دقيقه وجليله ، فتنخرط في سلك المنقول عنهم في حق كلام رب العزة : إن له الحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، وإنه يعلو وما يعلى ، وما هو بكلام البشر ؛ فتستغني بذلك عن قرع باب الاستدلال ، وأن لا تتجاذبك أيدي الاحتمالات في وجه الإعجاز ، فلنقصص عليك ما عليه المتحرفون عن هذا المقام.

اعلم أن قارعي باب الاستدلال ، بعد الاتفاق على أنه معجز ، مختلفون في وجه الإعجاز.

فمنهم من يقول : وجه الإعجاز : هو أنه ، عز سلطانه ، صرف المتحدين لمعارضة القرآن عن الإتيان بمثله بمشيئته ، لا أنها لم تكن مقدورا عليها فيما بينهم في نفس الأمر ، لكن لازم هذا القول كون المصروفين عن الإتيان بالمعارضة على التعجب من تعذر المعارضة ، لا من نظم القرآن ، مثله إذا قال لك مدع شيئا : حجتي في دعواي هذا أني أضع الساعة يدي على نحري ، ويتعذر ذلك عليك ، ووجدت حجته صادقة ، فإن التعجب في ذلك يكون منصرفا إلى تعذر وضع يدك على النحر ، لا إلى وضع المدعي يده على نحره ، واللازم كما ليس يخفى ، منتف.

ومنهم من يقول : وجه إعجاز القرآن وروده على أسلوب مبتدأ مباين لأساليب كلامهم في خطبهم وأشعارهم ، لا سيما في مطالع السور ، ومقاطع الآي ، مثل : يؤمنون ، يعملون ، لكن ابتداء أسلوب ، لو كان يستلزم تعذر الإتيان بالمثل ، لاستلزم ابتداء أسلوب الخطبة أو الشعر. إذ لا شبهة في أنهما مبتدآت ، تعذر الإتيان بالمثل. واللازم كما ترى منتف.

٦١٤

ومنهم من يقول : وجه إعجازه ، سلامته عن التناقض ، لكنه يستلزم كون كل كلام إذا سلم من التناقض ، وبلغ مقدار سورة من السور ، أن يعد معارضة. واللازم بالإجماع منتف.

ومنهم من يقول : وجه الإعجاز الاشتمال على الغيوب ، لكنه يستلزم قصر التحدي على السور المشتملة على الغيوب دون ما سواها ، واللازم بالإجماع أيضا منتف.

فهذه أقوال أربعة ، يخمسها ما يجده أصحاب الذوق من أن وجه الإعجاز : وهو أمر من جنس البلاغة والفصاحة ، ولا طريق لك إلى هذا الخامس إلا طول خدمة هذين العلمين ، بعد فضل إلهي من هبة يهبها بحكمته من يشاء ، وهي النفس المستعدة لذلك. خ خ فكل ميسر لما خلق (١) ، ولا استبعاد في إنكار هذا الوجه ممن ليس معه ما يطلع عليه ، فلكم سحبنا الذيل في إنكاره ، ثم ضممنا الذيل ما أن ننكره ، فله الشكر على جزيل ما أولى ، وله الحمد في الآخرة والأولى.

[خاتمة](٢) :

هذا وحين نرى الجهل قد أعمى جماعات عن علو شأن التنزيل ، حتى تعكسوا في ضلالات اعتقدوها لجهلهم مطاعن قامت على صحتها الأدلة ، فما ديدن الجهال إلا كذلك ، يقيمون ما نص لديه الجهل تليله ، مقام ما قص عليه العقل دليله ، فلئن لم يحرك ها هنا القلم ، ليقفن المبتغي بين منزلي حصول وفوات ، وكأني بمقامي هذا أسمعه

__________________

(١) هذه قطعة من حديث طويل أخرجاه في الصحيحين عن علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ مرفوعا : ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ، ومقعده من الجنة قالوا : يا رسول الله ، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال : اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له ، أما من كان من أهل السعادة ، فسييسر لعمل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة ، فسييسر لعمل الشقاوة ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) الآية. وانظر في شرحه شرح الطيبى على مشكاة المصابيح ٢ / ٥٣٧ ح ٨٥ ط نزار الباز مكة المكرمة ـ بتحقيقى.

(٢) في (د) : فصل.

٦١٥

ينشدني (١) :

فإيه أبا الشدّاد إنّ وراءنا ...

أحاديث تروى بعدنا في المعاشر

يدعوني بذلك إلى تتمة الغرض من علمي المعاني والبيان ، في تحصيل ما قد اعترض مطلوبا ، كما ترى ، فها نحن لدعوته مجيبين ، بإملاء ما يستمليه المقام في فنين ، يذكر في أحدهما ما يتعلق بالنظم ، توخيا لتكميل علم الأدب ، وهو إتباع علم المنثور وعلم المنظوم ، وتفصيلا لشبه يتمسك بها من جهته ، ثم يذكر في الثاني دفع المطاعن ، فاعلين ذلك ؛ تحقيقا لظن نظنه أنك منا طامع في أن نسوق إليك الكلام على هذا الوجه.

وإن أحببت سبب الظن فأصخ : أليس متى جاء دافع وهي مفصلة عندك ، كان أجلب لثلج الصدر ، منك إذا جاء وهي مجملة؟ وهل إذا فضل المتكلم العالم بمداخل الفلسفة ومخارجها على المتكلم الجاهل بذلك ، فضل عليه بغير هذا؟.

لا أسيء بك الظن ، فأعدك عن تحقق ذلك على ريبة ، فقل لي وقد ألفت أن أكون المتطلب لك من المقامين أفضلهما ، وشبه الجهلة فيما نحن بصدده مختلفة فمن عائدة إلى علم الصرف ، ومن عائدة إلى علم النحو ، ومن عائدة إلى علم المعاني والبيان ، ومرجع ذلك كله إلى علم المنثور ، وقد ضمن اطلاعك كتابنا هذا على تفاصيل الكلام هناك. ومن عائدة إلى علم المنظوم وهو علم الشعر ، ونحن إلى الآن ما قضضنا عن التعرض له الخيام ، أفلا يورثنا ذا أن نظنك تنزع إلى المألوف ، وأنك بتلك الطماعية موصوف ، وهذا أوان أن نسوق إليك الحديث (٢).

__________________

(١) البيت من الطويل.

(٢) في هامش (غ) : في (ب): (والله أعلم ، تم قسم الاستدلال).

٦١٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

علم الشعر ودفع المطاعن

مقدّمة

الفن الأول من تتمة الغرض من علم المعاني وهو : الكلام في الشعر ، وفيه ثلاثة فصول : أحدها : في بيان المراد من الشعر ؛ والثاني : فيما يخصه لكونه شعرا ، وهو الكلام في الوزن. وثالثها : فيما يتبع ذلك على أقرب القولين فيه ، كما نطلعك على ذلك ، وهو الكلام في القافية.

٦١٧

الفصل الأول

في بيان المراد من الشعر

قيل : الشعر عبارة عن كلام موزون مقفى ، وألغى بعضهم لفظ : المقفى ، وقال : إن التقفية ، وهي القصد إلى القافية ورعايتها لا تلزم الشعر ، لكونه شعرا بل لأمر عارض ، ككونه مصرعا ، أو قطعة أو قصيدة ، أو لاقتراح مقترح ، وإلا فليس للتقفية معنى غير انتهاء الموزون ، وأنه أمر لا بد منه ، جار من الموزون مجرى كونه مسموعا ؛ ومؤلفا ، وغير ذلك ، فحقه ترك التعرض ولقد صدق.

ومن اعتبر المقفى قال : الموزون قد يقع وصفا للكلام ، إذا سلم عن عيبى : قصور وتطويل ؛ فلا بد من ذكر التقفية تفرقة ، لكن وصف الكلام بالوزن ، للغرض المذكور ، لا يطلق وأقام بعضهم مقام الكلام اللفظ الدال على المعنى ، ولا بد لمن يتكلم بأصول النحو من ذلك ، مع زيادة ؛ وهي : أن تكون الدلالة بوساطة الوضع ، على ما يذكر في حد الكلمة ، وإلا لزم ، إذا قلت مثلا (١) :

ألا إن رأي الأشعريّ أبي الحسن ...

ومتّبعيه في القبيح وفي الحسن

وإن كان منسوبا إلى الجهل عن قلى ، ...

لرأي حقيق بالتأمل ، فاعلمن

أن لا يعد البيت الأول شعرا ، لكونه غير كلام بأصول النحو ، مع كونه شعرا من غير شبهة ، ولا الثاني وحده.

ثم اختلف فيه ، فعند جماعة : أن لا بد فيه من أن يكون وزنه ، لتعمد صاحبه إياه ، والمراد بتعمد الوزن هو : أن يقصد الوزن ابتداء ، ثم يتكلم مراعيا جانبه ، لا أن يقصد المتكلم المعنى وتأديته بكلمات لائقة من حيث الفصاحة في تركيب لتلك الكلمات توجبه البلاغة ، فيستتبع ذلك كون الكلام موزونا. أو أن يقصد المعنى ، ويتكلم بحكم

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما من نظم المؤلف ضربا للمثل.

٦١٨

العادة على مجرى كلام الأوساط ، فيتفق أن يأتي موزونا.

وعند آخرين : أن ذاك ليس بواجب ، لكن يلزمه أن يعد كل لافظ في الدنيا شاعرا إذ ما من لافظ ـ إن تتبعت ـ إلا وجدت في ألفاظه ما يكون على الوزن ، أو ما ترى إذا قيل لباذنجاني : خ خ بكم [تبع](١) ألف باذنجانة؟ فقال : خ خ أبيعها بعشرة عدليات. كيف تجد القولين على الوزن؟ أو إذا قيل لنجار : خ خ هل تم ذاك الكرسي؟ فقال : خ خ نعم ، فرغت منه يوم الجمعة ، كيف تجد الأول في الأوزان والثاني أيضا؟ وعلى هذا إذا قيل لجماعة : خ خ من جاءكم يوم الأحد؟ فقالوا : خ خ زيد بن عمرو بن أسد.

وتسمية كل لافظ شاعرا مما لا يرتكبه عاقل عنده إنصاف ، فالصحيح هو الرأي الأول ، لا يقال : فيلزم أن يجوز فيمن قال قصيدة أو قطعة أن لا يسمى شاعرا بناء على تجويز أن لا يكون تعمد ذلك ، وامتناعه ظاهرا ، فالواجب هو أن العقل يصحح الاتفاق في القليل دون الكثير ، وإلا فسد عليك الإسلام في مواضع. فلا تمار. والمروي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : خ خ من قال ثلاثة أبيات فهو شاعر ، شاهد صدق لما ذكرنا ، لإفادته أنه يمتنع تجويز عدم التعمد بالأبيات الثلاثة ، فلا بد من كونها شعرا ، ومن كون قائلها شاعرا من تعمد ، دون قائل الأقل.

فالشعر إذن : هو القول الموزون وزنا عن تعمد ، وأرى أن شيخنا الحاتمي ذلك الإمام في أنواع من الغرر ، الذي لم يسمع بمثله في الأولين ، ولن يسمع به في الآخرين ، كساه الله حلل الرضوان ، وأسكنه حلل الروح والريحان ، كان يرى هذا الرأي.

والرأي الأول حقه إذا سمي شعرا أن يسمى مجازا ؛ لمشابهته الشعر في الوزن ، ومذهب الإمام أبي إسحاق الزجاج في الشعر هو : أن لا بد من أن يكون الوزن من الأوزان التي عليها أشعار العرب ، وإلا فلا يكون شعرا ، ولا أدري أحدا تبعه في مذهبه هذا.

__________________

(١) أصلها تبيع ، ولكنه راعى فيها الوزن فحذفها تخفيفا.

٦١٩

الفصل الثاني

في تتبع الأوزان

اعلم أن النوع الباحث عن هذا القبيل يسمى علم العروض : وما أهم السلف فيه إلا تتبع الأوزان التي عليها أشعار العرب ، فلا يظنن أحد الفضول عندهم في الباب ، من ضم زيادة على ما حصروه ، ليست في كلام العرب ، فضلا على الإمام الخليل بن أحمد ذلك البحر الزاخر ، مخترع هذا النوع ، وعلى الأئمة المغترفين منه من العلماء المتقدمين به ، في ذلك ، رضوان الله عليهم أجمعين ؛ وإلا فمن أنبأ لهم لم يكونوا يرون الزيادة على التي حصروها من حيث الوزن مستقيمة ، والزيادة عليها تنادي بأرفع صوت (١) :

لقد وجدت مكان القول ذا سعة ...

فإن وجدت لسانا قائلا فقل

لا للطبع المستقيم أن يزيد عليها شيئا ، ولا [حاكم](٢) في هذه الصناعة إلا استقامة الطبع وتفاوت الطباع في شأنها معلوم ، وهي المعلم الأول المستغني عن التعلم ، فاعرف وإياك إن نقل إليك وزن منسوب إلى العرب ، لا تراه في الحصر ، أن تعد فواته قصورا في المخترع ، فلعله تعمد إهماله لجهة من الجهات ، أو أي نقيصة في أن يفوته شيء ، هو في زاوية من زوايا النقل لا زوايا العقل ، على أنه إن عد قصورا ، كان العيب فيه لمقدمي عهده ، حيث لم يهيئوا لإمام مثله ما يتم له المطلوب من مجرد نقل الرواة ومجرد الاستظهار بذلك ، اللهم صبرا.

فصل : أوزان أشعار العرب

وإذ قد وقفت على هذا ، فاعلم أن أوزان أشعار العرب ، بوساطة الاستقراء لمختلفاتها ، ترجع عند الخليل بن أحمد ، رحمه‌الله ، بحكم المناسبات المعتبرة على وجهها في الضبط ، والتجنب عن الانتشار ، إلى خمسة عشر أصلا ، يسميها : بحورا.

__________________

(١) البيت من البسيط.

(٢) في (د) : جاءكم ، وهو تصحيف.

٦٢٠