مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

وخامسها : أن لا تختلفا فيه هوية ، اختلافهما في نحو : خ خ بعض الناس كاتب ، أي : هذا بعض الناس ليس بكاتب ، أي ذاك.

وينوب عندي عن هذه الخمسة حرف واحد وهو : اتحاد المبتدأ ، وأنه أحوط إذا تأملت.

وسادسها : أن لا تختلفا في الخبر معنى ، اختلافهما في نحو : خ خ زيد مختار ، إذا أردت اسم الفاعل ، خ خ زيد ليس بمختار إذا أردت اسم المفعول.

وسابعها : أن لا تختلفا فيه قوة وفعلا ، اختلافهما في نحو : خ خ الخمر في الدن مسكر ، أي بالقوة ، خ خ الخمر فيه ليس بمسكر ، أي بالفعل.

وثامنها : أن لا تختلفا فيه إضافة ، اختلافهما في نحو : خ خ العشرة نصف ، أي نصف العشرين ، خ خ العشرة ليست بنصف ، أي نصف الثلاثين.

وتاسعها : أن لا تختلفا فيه نسبة إلى المكان ، اختلافهما في نحو : خ خ زيد كاتب ، أي في المسجد ؛ خ خ زيد ليس بكاتب ، أي في السوق.

وعاشرها : أن لا تختلفا فيه نسبة إلى الزمان ، اختلافهما في نحو : خ خ زيد كتب ، أي أمس ، خ خ زيد ما كتب ، أي [أول من أمس](١).

[وينوب عن هذه الخمسة أيضا ما هو أقل مما يذكر.

ولما ترى من توقف التناقض ؛ من اتحاد المبتدأ واتحاد الخبر ، يطلع على معنى قولي : أجمع للغرض ، وهو اتحاد الخبر](٢).

__________________

(١) في (د) : أول فقط ، وفي (غ) (غدا).

(٢) في (غ) و (د): (ومن اتحاد المبتدأ اتحاد الخبر يطلع على معنى قولى : أقل مما يذكر ، ولما ترى من توقف التناقض من أمس وينوب عن هذه الخمسة أيضا ، ما هو أجمع للغرض ، وهو اتحاد الخبر) والمثبت من (ط).

٥٦١

أصناف الجمل :

وما ذكرت على اتحاد المحكوم له ؛ وهو المثبت له أو المنفي عنه ، وعلى اتحاد المحكوم به : وهو المثبت أو المنفي ، ليتحد مورد الحكم في الإثبات والنفي ، حتى يتعين فيه أحدهما ، لعدم الواسطة بين الثبوت والانتفاء ، لا يخفي عليك حال أصناف الجمل التي سبق ذكرها ، وهي : صنف المهملات ، وصنف المعينات ، وصنف الكليات ، وصنف البعضيات في باب التناقض ، من أن البعضيات لا سبيل إلى تناقضها لتعذر إزالة اختلافهما بالهوية ، مع كونها بعضيات ، أعني : غير معينات.

وأما المعينات والكليات فلها سبيل إلى التناقض ، للطريق الميسر إلى تحصيل اتحاد المحكوم له فيها ، وتحصيل اتحاد المحكوم به.

أما اتحاد المحكوم له في المعينات ، فلا خفاء ، وأما اتحاده في الكليات ، فالطريق إلى تحصيله وضع اللاكل في مقابلة الكل ، كقولنا : خ خ كل إنسان كاتب ، خ خ لا كل إنسان كاتب ؛ وإن شئت : خ خ بعض الناس ليس بكاتب ، أو : خ خ إنسان ما ليس بكاتب ، لا يتفاوت ثلاثتها في معنى اللاكل ، إذا تأملت. ووجه حصول الاتحاد بذلك هو أن قولنا : كل إنسان كاتب ، معناه : كل واحد ، وأحد من الأناسي لا الكل المجتمع ، وقولنا : خ خ إنسان كاتب ، معناه : كل واحد ما ، من غير اشتراط الانفراد ، فهو داخل في كل واحد وأحد ، وأنه : أحد من آحاد الأناسي.

وأما تحصيل الاتحاد في المحكوم به ، فالطريق إليه فيما سوى الزمان النص عليه ، كقولنا : خ خ زيد كاتب ، للتورية ، خ خ بالقلم الفلاني ، بالقرطاس الفلاني للغرض الفلاني ، وما شاكل ذلك من القيود القادحة في التناقض ، بسبب التفاوت فيها.

ومن هذا ، يطلع على معنى قولي : خ خ شروط التناقض أكثر مما يذكر.

وأما في الزمان ، فبتقدير تعذر الطريق إلى تعيين جزء من أجزائه ، يصنع نظير ما سبق بوضع الدوام في أحد الجانبين ، مرادا به كل واحد وأحد من أجزاء الزمان بالاعتبار المذكور ، وللادوام في الجانب الآخر ، مرادا به بعض الأجزاء ، بالاعتبار المذكور ، من إلغاء اشتراط الانفراد وهذا تلخيص كلام الأصحاب.

٥٦٢

ولا بأس أن تضع هاهنا لوحا ينقش فيه ما تمس الحاجة إليه وما ذكرت وإن كان كافيا في معرفة نقائض الجمل لكن لقلة عهدك بما يتلى عليك لا استبداع أن يكون لتعيين كل منها أثر لديك لكن لامتناع تعيين النقيض بدون الطرف الآخر يظهر منه أن ذكر أنواع الجمل لازم.

أحوال الجملة :

فنقول ـ وبالله التوفيق ـ : الجملة ، إما أن تكون مثبتة أو منفية ، وكيف كان ؛ إما أن تكون مطلقة أو مقيدة ، ومرجع التقييد في الجمل الاستدلالية إلى الدوام واللادوام ، والضرورة واللاضرورة ، فلا بد من النظر فيها أولا ، ثم من النظر في تقييد الجمل بها ثانية ، لكن الدوام واللادوام أمرهما جلي وإنما الشأن في الضرورة.

اعلم أن الجملة لا بد من أن تكون : إما مثبتة أو منفية ، وكيف كانت ، فلا بد أن تكون : إما واجبة وإما غير واجبة ، وتحصل من هذا أصناف ثلاثة ، ثبوت واجب ، انتفاء واجب ، ثبوت وانتفاء غير واجب :

والأول : هو الوجوب ، والثاني : هو الامتناع ، والثالث : هو الإمكان الخاص المتناول نوعا واحدا ، وهذا الإيراد يسمى طبقة.

ولك أن تورد التقسيم على غير هذا الوجه. فتقول : الثبوت ، إما أن يكون واجبا أو لا يكون ، وتسمي لا وجوب الثبوت إمكانا ، ثم تنوعه نوعين : وجوب عدم وهو الامتناع ، ولا وجوبه وهو الجواز. وهذا الإيراد طبقة أخرى. أو تقول : العدم : إما أن يكون واجبا أو لا يكون ، وتسمى لا وجوب العدم إمكانا ، ثم تنوعه إلى وجوب الوجود ، وإلى جواز الوجود ، فيكون الإمكان عاما شاملا لنوعين ، وهذا الإيراد طبقة ثالثة. وهذه الطبقات ومقبلاتها ، فيما بينهما من التلازم والتآخذ ما لا يخفى.

والمناهج هناك لسالكيها معرضة ، ولكن لقلة اعتيادك أن تسلكها ، ووهي الأسباب بينك وبين أن تملكها ، نرى الرأي أن لا نقتصر على اتضاح أمرها ، وأن نختصر الكلام في الإفصاح بذكرها ، وها هو ذا يقرع في صماخيك.

٥٦٣

طبقات الجمل :

هذه الطبقات في باب اللزوم قسمان : قسم لزومه من الجانبين ، فهو متلازم متعاكس ، وقسم لزومه من أحد الجانبين.

والقسم الأول : أنواع ثلاثة :

أحدها : واجب أن يوجد ، ممتنع أن لا يوجد ، ليس بالممكن العام أن لا يوجد ، وكذلك مقابلات هذه : وهي ليس بواجب أن يوجد ، ليس بممتنع أن لا يوجد ، ممكن عاما أن لا يوجد.

وثانيها : واجب أن يوجد ، ممتنع أن يوجد ، ليس بالممكن العام أن يوجد ، وكذا مقابلاتها وهي : ليس بواجب أن لا يوجد ، ليس بممتنع أن يوجد ، ممكن عاما أن يوجد.

وثالثها : من الممكن الخاص ، وينعكس مبينه على مشوشه ، وذلك : يمكن أن يكون : يمكن أن لا يكون ؛ ومقابلاهما.

والقسم الثاني : أنواع ثلاثة :

أحدها : واجب أن يوجد ، يلزمه قولنا : خ خ ليس بواجب أن لا يوجد. وليس بممتنع أن يوجد ، ويمكن عاما أن يوجد ، ويلزمه أيضا ، نفي الإمكان الخاص مبينا ومشوشا ، وتفسير المبين والمشوش ، يأتيك عن قريب ، وذلك قولنا : ليس بممكن خاص أن يوجد ، ليس بممكن خاص أن لا يوجد.

وثالثها : من الممكن الخاص ، قولنا : خ خ ممكن أن يكون وأن لا يكون ، يلزمه : ليس بواجب أن يكون ، ليس بواجب أن لا يكون ، ليس بممتنع أن يكون ، ليس أن لا يكون ، ممكن عاما أن يكون ، ممكن عاما أن لا يكون ، وأيما عاقل فهم ما تلونا لم [يجب](١) أن نصف الواجب لذاته ممكنا ، وإنما أقول هذا القول لبعض الدخلاء في هذه

__________________

(١) في (د) و (غ): (يجبن).

٥٦٤

الصناعة ، حيث يجيبون ويبنون أسولة على ما يبنون ، ونحن على أن نسوق الكلام على قسيمة الوجوب أو الإمكان العام ، فنتكلم في الوجوب ، ونسميه : الضرورة ، ثم نتكلم في الإمكان العام ، ونسميه : اللاضرورة.

الضرورة (أو الوجوب):

الكلام في الضرورة : لها اعتباران :

أحدهما أن تكون سابقة : وهو الوجوب بالذات.

أو بالعلة المتقدم على الوجوب المترتب عليه عقلا ، وما بينهما أن تكون لاحقة ، وهو امتناع العدم في أن تحقق الوجود ، وهذه الثانية يقال لها : ضرورة بشرط وجود الخبر ، ويقال في مثاله : خ خ الإنسان بالضرورة كاتب ، ما دام كاتبا ، وقلما يصار إليها في الدلائل.

والأولى تجعل قسمين : ضرورة مطلقة ، وضرورة متعلقة بشرط.

ويراد بالضرورة المطلقة أن تكون حقيقة المبتدأ ممتنعة الانفكاك عن ذلك الخبر مطلقا ، كقولنا : خ خ واجب الوجود لذاته موجود ، فكون واجب الوجود لذاته موجودا ضروري له مطلقا ، أو باعتبار وجوده كقولنا : خ خ الجسم قابل للعرض ، فقبول العرض ضرورة للجسم ، باعتبار وجوده لا بالإطلاق ، اللهم إلا إذا جعلت الوجود غير زائد على الماهية ، كما هو الراجح عندنا ، فحينئذ تكون الضرورة المطلقة راجعة إلى الضرورة بالذات ، وما سواها راجعة إلى الضرورة بالعرض.

ويراد بالمتعلقة بالشرط : أن تكون حقيقة المبتدأ ، لأجل اتصافها بصفة ، غير منفكة عن ذلك الخبر ، كقولنا : خ خ المتحرك بالضرورة متغير ، فإن حقيقة المبتدأ هي موصوف المتحرك ، وهو الشيء الذي له التحرك ، وضرورة تغير ذلك الموصوف ، إنما هو بشرط اتصافه أي ما دام متحركا ، وهذه الضرورة العرضية ضرورة بحسب الوصف ، أو لأجل حصولها في وقت من أوقات وجودها مضبوط ، كوقت الكسوف للشمس ، أو لغيرها

٥٦٥

مما ينكسف من الكواكب أو غير مضبوط : كوقت [النفس](١) للإنسان ، أو لغيره مما له رئة ، أو : كوقت السعال لمن به ذات الجنب ، وهذه الضرورة العرضية ضرورة بحسب الوقت.

أقسام الضرورة :

فيحصل من أقسام الضرورة أربعة : ثلاثة سابقية ، وواحد لاحقي.

والثلاثة السابقية : واحد منها ذاتي ، واثنان عرضيان : أحدهما : وصفي ، والآخر : وقتي ، وهي عند الأصحاب هكذا : ضرورة مطلقة ، ضرورة بحسب الوصف ، ضرورة بحسب الوقت ، ضرورة بشرط وجود الخبر.

اللاضرورة (الإمكان العام):

الكلام في الإمكان المسمى : باللاضرورة ، ونحن نذكر حاصل ما فيه عند الأصحاب على اختلاف آرائهم ، فنقول : الإمكان ينقسم إلى أربعة أقسام : عام ، وخاص ، وأخص ، وأخص الأخص.

فالعام : هو ما ينفي ضرورة واحدة فحسب ، إما ضرورة العدم ، وإما ضرورة الوجود ، فينفي المتصف به صالحا لضرورة الوجود لما هو ، أو لضرورة العدم لما هو.

والخاص : هو ما ينفي الضرورتين ، فينفي المتصف به صالحا لضرورة من الضرورات ، لكن من قبيل السابقة دون قبيل اللاحقة.

والأخص : هو ما ينفي ضرورات القبيلتين جمع ، فلا ينفي المتصف به صالحا لا لضرورة سابقة ، ولا لضرورة لاحقة.

لكن في أخص الأخص كلام : فبعضهم يحققه في الحال وفي الاستقبال ، وبعضهم يأباه في الحال دون الاستقبال ، وبعضهم يأبى تحققه أصلا ، وهو الأشبه لاستتباعه في الحال : ضرورة الوجود أو العدم اللاحقة ، وفي الاستقبال : ضرورة العدم اللاحقة ،

__________________

(١) في (د) و (غ): (التنفس).

٥٦٦

فتأمله ، فإني أرى عالما من الناس يتعجبون من هذا القول ، وأنا أتعجب من تعجبهم ، ويوردون في إبطال هذا القول حججا يكفى في إبطالها مجرد تلخيص محل النزاع ، وأما إثباته في الاستقبال ، فلا وجه له عندي سوى تخصيص الضرورة اللاحقة بالوجود دون العدم بوساطة العناية لا غير ، تشبثا فيها بأن الضرورة اللاحقة متى ذكرت ، ذكرت مع الوجود.

إطلاق الجمل وتقييدها :

وإذ قد قرع سمعك ما تلونا عليك ، لزم أن نتكلم في إطلاق الجمل وفي تقييدها ، بما سبق ذكره ، ثم نتكلم في النقائض. وقبل أن نشرع في ذلك ننبهك على أصل كلي ، وهو مزلة أقدام في هذا الفن لا بد من التنبه له ، وهو : أن اعتبار كلمة النفي جزء من المدخول عليه ، مغاير لاعتبارها غير جزء منه. ولذلك يمتنع : اللاموجود أسود ، والمعدوم هو لا أسود. وقد تقدم تحقيق هذا في علم المعاني ، في فصل وصف المعرف ، ويسمى هذا : إثباتا مشوشا. ولا يمتنع : ليس الموجود أسود ، والمعدوم ليس هو أسود ، في الإثبات المشوش ، ويصح : ليس المعدوم أسود ، في النفي المبين ، وإذا عرفت الإثبات المشوش والنفي المبين ، فقس عليهما الإثبات المبين والنفي المشوش. وكما تصورت في النفي ما ذكرت فتصوره بعينه في جانب الإمكان والضرورة ، والدوام واللادوام ، بينما إذا جعلت أجزاء من المبتدأ والخبر ، وبينما إذا جعلت جهات الحكم الجملة ، في الإثبات أو في النفي ، مستجمعا لتمام تصوره مثابة رؤيتك.

ثم من بعد التنبيه نقول : المبتدأ ، كليا كان أو بعضيا. إذا أثبت له الخبر ، كقولنا :

خ خ كل إنسان ناطق ، خ خ أو بعض الناس فصيح. أو نفي عنه ، كقولنا : لا إنسان بعالم غيب ، أو لا كل فصيح بشاعر ، من غير بيان أنه مشروط أو لا مشروط ، وأنه دائم أو لا دائم ، وأنه ضروري أو لا ضروري ، سميت : الجملة مطلقة عامة.

ومن الناس من يزعم : أن الجملة لا تصدق إلا مع الدوام ، ولو صدق في زعمه لامتنع قولنا : خ خ بعض الأجسام ساكن ؛ لكن إما دائما وإما غير دائم ، ولا يمتنع ، وله وجه دفع.

ومن الناس من يزعم : أن الجملة لا تصدق كلية إلا مع الضرورة ، لكن جزم العقل

٥٦٧

بأن حكم أفراد النوع يصح أن لا يختلف ، يستلزم إذا صحت اللا ضرورة في فرد من أفراد النوع ، أن تصح في الكل. وأنك تعرف معنى الكل ما هو ، وهو كل فرد فرد لا الكل المجتمع المصحح للتفاوت بين حالي انفراد الأفراد واجتماعها.

ومن الناس من يزعم : أن النفي الكلي يستلزم شرط الوصف ، يعني أنه إذا قيل : خ خ لا أبيض يجامع للبصر ، ومعناه على ما عرفت : لا شيء مما له البياض ، أفاد : ما دام أبيض ، فعلى زعمه تسمى الجملة مطلقة عرفية لما في العرف من إضافة الحكم إلى الوصف.

والحاصل من المطلق الحقيقي هو ، ما ترى ، نوع واحد. هذا في باب الإطلاق ، وإذا لا شرطنا ، وعندنا ذات وصفة ، وقيدنا وعندنا ، دوام ولا دوام ، وضرورة ولا ضرورة ، حصل من ذلك أنواع كثيرة.

ولكنا نذكر من ذلك ما أنت مفتقر إليه في الحال ، وإذا أتقنته صار لك عمدة في الباقي.

فنقول في نوع اعتبار الشرط والتقييد بالدوام واللادوام : الجملة ، التي يبين فيها أن الخبر في الثبوت أو الانتفاء يدوم للمبتدأ بدوام ذاته من غير التعرض للوصف ، تسمى خ خ وجودية دائمة ، ويلزم فيها ، إذا كانت للذات صفة تحتمل اللادوام ، أن لا تخرج دوام الخبر إلى لا دوامه.

والجملة ، التي يبين فيها أن الخبر يدوم للمبتدأ بدوام وصفه ، من غير التعرض للذات ، تسمى : خ خ عرفية عامة.

والجملة ، التي يبين فيها أن الخبر لا يدوم للمبتدأ بدوام ذاته ، تسمى : خ خ وجودية لا دائمة. ويلزم فيها إذا كانت للذات صفة دائمة أن لا تخرج لا دوام الخبر إلى الدوام.

والجملة ، التي يبين فيها أن الخبر يدوم للمبتدأ بدوام وصفه ، لا بدوام ذاته ، تسمى : خ خ عرفية خاصة لوقوعها في مقابلة خ خ العرفية العامة.

فهذه أنواع أربعة من المقيدات بالدوام واللادوام ، مع اعتبار شرط.

ونقول في نوع اعتبار الشرط والتقييد بالضرورة واللاضرورة ، والجملة التي يبين فيها أن الخبر ضروري للمبتدأ ، ما دامت ذاته موجودة ، تسمى : خ خ ضرورية مطلقة ، ولا

٥٦٨

فرق بينها وبين خ خ الوجودية الدائمة إلا اعتبار معنى الضرورة ، فاعرفه.

والجملة التي يبين فيها أن الخبر ضروري لمبتدأ ، ما دام موصوفا من غير التعرض لزيادة ، تسمى : الضرورية بشرط الوصف ، ولها عموم من عدة جهات ، فتأملها.

والجملة التي يبين فيها أن الخبر ضروري للمبتدأ ، ما دام موصوفا مع زيادة [إلا](١) ، ما دامت ذاته موجودة ، تسمى : خ خ المشروطة الخاصة.

والجملة التي يبين فيها أن الخبر ضروري للمبتدأ ، في وقت معين من أوقات وجوده ، تسمى : خ خ وقتية مضبوطة.

والجملة التي يبين فيها أن الخبر ضروري للمبتدأ ، لا في وقت معين ؛ تسمى : خ خ وقتية غير مضبوطة.

فهذه أنواع خمسة من المقيدات بالضرورة مع اعتبار شرط ، وقد كان يمكن اعتبار الضرورة لا مقيدة بحيث كانت نوعا سادسا مندرجة فيه الضرورات الخمس المتقيدة فتركناه ، ولكن يصار إليه حينا.

وأما اللاضرورة ، فحيث عرفت أنّا قلنا : خ خ إمكان عام ، وخاص ، وأخص ، وأخص الأخص ، عرفت أنه إذا قلنا : خ خ إمكان ، من غير التعرض لقيد من هذه القيود كان اعتبارا له خامسا أعم من الأربعة.

فالجملة إذا قيدت بالإمكان المطلق ، أفادت الشياع في أنواع الإمكان الأربعة ، ولا تحسبنها مطلقة عامة ، فتلك لا تتعرض لنفي الضرورة وهذه تتعرض لنفيها ، ثم إذا قيدتها بعام ، وبخاص ، وبأخص الأخص ، وهو الإمكان الاستقبالي ، على ما عرفناك ، حصلت من مجموع ذلك خمسة أنواع للجمل كما ترى.

النقائض :

وإذ قد حصلنا من الجمل القدر المحتاج إليه ، لزم أن نفي بالوعد في تحقيق النقائض ،

__________________

(١) في (د) ، (غ) (لا).

٥٦٩

فتقول : أما البعضيان ؛ فقد عرفت أن لا سبيل إلى تناقضهما ، لتعذر الطريق إلى اتحاد المحكوم له فيهما باحتمال تغاير هو بين المبتدأين ، وأما الكليتان : فصحة اجتماعهما في الكذب لاحتمال اختصاص الصدق بغيرهما ، وهو اللاكل ، تسد الطريق إلى تناقضهما.

وأما المطلقتان العامتان : فلا سبيل إلى تناقضهما لتعذر الطريق إلى اتحاد المحكوم به فيهما ، لاحتمالهما اللادوام المصير لهما إلى البعض من الزمان ، المتعذر الاتحاد باحتمال تغاير هو بين البعضين ، فحال المطلقتين العامتين من جانب الخبر ، كحال البعضيتين من جانب المبتدأ ، فحيث عرفت أن البعضية لا ينقاضها إلا الكلية ، فاعرف أن المطلقة العامة لا ينقاضها إلا الدائمة. ومن هذا يتحقق أن قول من يقول بصحة تناقض المطلقتين مفتقر إلى تأويل ، ولعل المراد المطلقات اللفظية المستتبعة للدوام معنى ، كقولنا : خ خ كل إنسان حيوان أو خ خ ناطق أو خ خ ضحاك وما شاكل ذلك ، وأما الوجودية الدائمة وهي كقولنا : خ خ كل جسم ما دام موجود الذات قابل للعرض ، نقيضتها اللادائمة المحتملة للمخالف الدائم ، وهو [المنتقي](١) في جملة الأوقات. وللموافق اللادائم وهو المنتفي لا في جملتها. وأما العرفية العامة : وهي قولنا : خ خ كل إنسان حيوان ما دام إنسانا ، فحين قيد ثبوت الخبر بدوام الوصف ، وأطلق في جانب حقيقة المبتدأ ، وقد عرفت أن إطلاق الخبر في حق المطلق ، له حكم اللادائم ، فقد حصل الدوام مع الوصف ، واللادوام مع الذات. فيلزم في النقض : إما نفي الخبر مع الوصف ، أو اللادوام مع الذات فيلزم في البعض إما نفي الخبر عن حقيقة المبتدأ على الدوام ، أو نفيه عن الوصف لا على الدوام. وأما [الوجودية](٢) اللادائمة : وهي مثل قولنا : خ خ كل أبيض مفرق للبصر لا ما دام موجودا ، فحين أثبت فيها الخبر بقيد لا دوام الوجود وإطلاقه فيما عداه ، لزم في نقيضتها : إما النفي أو الإثبات الدائم. وأما العرفية الخاصة ، وهي كقولنا : خ خ كل أبيض مفرق للبصر لا ما دام موجودا بل ما دام أبيض ، فحين أثبت فيها الخبر بقيد لا دوام الوجود ودوام الصفة ، لزم في نقيضتها : إما النفي الدائم ، أو الإثبات

__________________

(١) في (ط) : المنفى.

(٢) في (د): (الموجودية).

٥٧٠

الدائم ، أو النفي المقيد ، وهو في بعض أوقات البياض ، أي أوقات صفة المبتدأ. وأما الضرورية المطلقة : فنقيضتها اللاضرورية. وهي الممكنة العامة ؛ وأما الضرورة المشروطة بوصف المبتدأ ، وهي كقولنا : خ خ كل أبيض بالضرورة مفرق للبصر ما دام أبيض ، فحين أثبت فيها الخبر ، بإطلاقه في حق المبتدأ أو تقييده بالضرورة ، وبدوام الوصف ، لزم في نقيضتها : إما النفي الدائم ، أو الإثبات الدائم الخالي عن الضرورة ، أو النفي في بعض أوقات الوصف. وأما الضرورية المشروطة الخاصة : وهي كقولنا : خ خ كل أبيض مفرق للبصر بالضرورة ما دام أبيض ، لا ما دام موجود الذات ، فحين أثبت فيها الخبر بقيد الضرورة ، وقيد دوام الوصف ، وقيد لا دوام الذات ، لزم في نقيضتها : إما النفي الدائم ، أو جواز حصوله مع عدم الوصف ، أو جواز لا حصوله مع تحقيق الوصف. وأما الوقتية المضبوطة : فنقيضتها رفع الضرورة في ذلك الوقت ، وأما غير المضبوطة ، فنقيضتها رفع الضرورة في جميع الأوقات.

وأما الممكنة المطلقة : وهي كقولنا : خ خ كل مؤمن صادق لا بالضرورة ، فحين أثبت فيها الخبر مطلقا من جهة الدوام ، مقيدا باللاضرورية ، لزم في نقيضتها : إما النفي الدائم ، وإما الإثبات بالضرورة ، ثم إن احتمل التقييد باللاضرورة الإطلاق ، أعني : دوام اللاضرورة ولا دوامها ، لزم في نقيضتها دوام اللاضرورة. وأما الممكنة العامة : فنقيضتها الضرورية المطلقة ، كما تقدمت معها ، لكون التناقض من الجانبين. وأما الممكنة الخاصة : فنقيضتها رفع الإمكان الخاص : إما بالوجوب والامتناع ، وأما الممكنتان الباقيتان : فأمرهما ظاهر ، والله الهادي.

٥٧١

الفصل الثاني

في العكس

وأنه قسمان عكس نظير ، وعكس نقيض :

القسم الأول في عكس النظير

هو في الخبر ، أعني الخبر المطلق ، دون الشرط الذي هو خبر مخصوص ، عبارة عن تصيير خبر المبتدأ مبتدأ ، والمبتدأ خبرا ، مع تبقية الإثبات أو النفي بحاله ، والصدق والكذب بحاله ، دون الكم ، كما ستعرف.

لما عرفت أن لا غنى لصاحب الاستدلال عن معرفة مظان الانعكاس ، ومعرفة كيفية وقوعه فيها كليا أو بعضيا ، لزمنا أن نتكلم في عكوس الجمل المذكورة ، لكن الكلام هناك ، حيث نراه ، لا يستغني عن تقديم الكلام في [مسندي](١) الأصحاب ، لزمنا أن نطلعك عليهما.

أحدهما : طريق الافتراض ، وله وجهان : أحدهما : فرض البعض كلا لأفراده ، وثانيهما هو المقصود هنا ، وحاصله تعيين بعض من كلّ قد حكم عليه بحكم ، وجعل ملزوما للازم ليتوصل بتعيينه إلى بيان أن كل ملزوم لازم ، لا بد من أن يكون لازما لبعض أفراد لازمه ، ذلك مثل أن تريد : أن الإنسان ، الذي هو ملزوم الحيوان ، لا بد من أن يكون لازما لبعض أفراد الحيوان ، فتقصده فتقول : خ خ هذا الحاضر إنسان وإنه كما يصدق عليه أنه إنسان ، يصدق عليه أنه بعض الحيوان ، وأنه يمتنع أن يكون إنسانا ، وأن لا يكون بعض الحيوان ، فظهر : أن الإنسان لا بد من أن يلزم بعض الحيوان.

وثانيهما : طريق الخلف ، وحاصله إثبات حقيقة المطلوب ببطلان نقيضه ، مثل أن يقول : خ خ إن لم يصدق بعض الحيوان إنسان ، صدق نقيضه : لا شيء من الحيوان بإنسان ، و [يستلزم](٢) : خ خ لا إنسان حيوان ، وأنه باطل. هذا ، وعسى أن يكون لنا إلى

__________________

(١) في (د): (مسندين) وهو خطأ.

(٢) في (د): (يلزم).

٥٧٢

حديث الخلف في آخر التكملة عود.

مناظرة بين المتقدمين والمتأخرين :

وقبل أن نشرع فيما نحن له ، فاعلم أن المتأخرين قد خالفوا المتقدمين في عدة مواضع من هذا الباب ، كما ستقف عليها ، وخطؤوهم ، وكل من يأتي يرى رأي المتأخرين ، وعندي أن المتقدمين ما أخطئوا هناك ، وأنا أذكر هاهنا كلاما كليا ؛ ليكون مقدمة لما نحن له ، فأقول ، وبالله التوفيق.

كل أحد لا يخفى عليه معنى قولنا مع قوله : مع ، [تراهم](١) يقولون : الوجود والعدم لا يجتمعان معا ، ولا يرتفعان معا. ويقولون : الملزوم ، بوصف كونه ملزوما ، لا يعقل إلا مع اللازم. ويقولون : إذا انتفى اللازم انتفى معه الملزوم ، ويقولون : اعتبار الذات مع الصفة يغاير اعتبار الذات لا مع الصفة. هذا كله لبيان أن معنى مع : المعلوم ، فلا نتخذه محل نزاع.

ثم نقول : ولا يخفى أن معنى : خ خ مع ، في تحققه ـ سواء فرض في الذهن أو في الخارج ـ مفتقر إلى طرفين لا محالة ، وإذا تحقق ، امتنع اختصاصه بأحدهما دون الآخر. لكن متى صدق على شيء أنه مع آخر ، تصورا أو غير تصور ، كيف شئت ، استلزم أن يصدق على ذلك الآخر بأنه مع ذلك الشيء بذلك الاعتبار ، وإلّا لزم أن يكون ال خ خ مع حاصلا حين ما لا يكون حاصلا ، وإذا عرفت أن ال خ خ مع عند تحققه أمر ، كما ينتسب إلى أحد طرفيه ينتسب إلى الآخر من غير تفاوت ، ظهر أن أي اعتبار قدر [ال خ خ مع](٢) الحاصل من إطلاق أو لا إطلاق ، ومن دوام أو لا دوام ، ومن ضرورة أو لا ضرورة ، امتنع أن يختص ذلك بأحد الطرفين ، دون صاحبه الواقع طرفا له ثانيا ، فإن كان هذا مع ذاك في التصور ، أو في الخارج ، كان ذاك مع هذا في ذلك التصور ، أو في ذلك الخارج ، والألزم المحذور المذكور ، وهو أن يكون ال خ خ مع حاصلا حين ما لا يكون ، لامتناع اختصاصه بأحدهما ، وإذا كان هذا مع ذاك دائما ، كان ذاك مع هذا في أوقات دوامه ،

__________________

(١) في (غ): (ما تراهم).

(٢) في (غ ، د): (للمع).

٥٧٣

وإلا كان ال خ خ مع ، في وقت من الأوقات ، مع أن لا يكون فيه ، وإذا كان هذا مع ذاك على سبيل الضرورة ، بمعنى لا ينفك عنه البتة ، كان ذاك مع هذا على سبيل الضرورة ، وإلا صح انفكاكه عنه ، فيكون ال خ خ مع حاصلا مع أن لا يكون حاصلا. وإذا تصورت ما ذكرت في ال خ خ مع فتصوره بعينه في اللا خ خ مع من أنه متى لم يكن هذا مع ذاك ، لم يكن ذاك مع هذا ، وإلا كان ال خ خ مع حين لا يكون ؛ فإذا صدق : هذا الإنسان ليس بكاتب ، أي معنى الكاتب ليس مع هذا الإنسان ، صدق لا محالة. إن هذا الإنسان ليس مع معنى الكاتب. وإلا كان ال خ خ مع حاصلا ، حيث ليس هو بحاصل ، وكما تصورت اللامعية بين هذا الإنسان وبين الكاتب واجبة التحقق من الجانبين ، فأنت إذا نقلتها عن البعض إلى الكل مثل : خ خ [لا إنسان من الناس](١) بكاتب في هذه الساعة ، فتصورها ؛ أعني هذه اللامعية ، كذلك واجبة التحقق من الجانبين ، للوجه المقرر ، وكما تصورتها بين الإنسان وبين الكاتب ، وإذا أقمت مقام الكاتب الضاحك ، أو غيره مما شئت ، وقلت : هذا الإنسان ليس بضاحك بالإطلاق ، فتصور اللامعية بينهما من الجانبين بالإطلاق ، على موجب ما شهد له عقلك مما نبهت عليه.

وإذا أتقنت ما قرع سمعك ، فقل لي ، إذا صدق عندك : لا إنسان من الناس بضاحك في وقت ما ، فلا تقطع أن ما يتصور من معنى الضاحك يجب أن لا يكون مع إنسان من الأناسي في وقت ما ، وقع قطعك بأن الضاحك يجب أن لا يكون مع إنسان من الأناسي في وقت ، أفلا تقطع بأن كل إنسان يحتمل أن لا يكون مع الضاحك في وقت ما ، ما أظنك يشتبه عليك شيء من ذلك؟ بل لا بد من أن يكون عندك أظهر من الشمس إن صدق أن الضاحك ليس مع الإنسان يستلزم صدق : أن الإنسان ليس مع الضاحك ، وقد ظهر بين بياننا هذا أن سلب الضاحك عن الإنسان ، يستلزم سلب الإنسان عن الضاحك ، من غير شبهة. فإن قلت : وكلامك هذا مستدع أن لا يتفاوت جهة ال خ خ مع واللا خ خ مع في العكس ؛ ونراها تتفاوت عند المتأخرين ، أليسوا على أن إثبات الإنسانية مع عدم الضاحكية ، في قولك : لا إنسان بضاحك يصح ، وأن إثبات

__________________

(١) في (ط): (الإنسان من الناس).

٥٧٤

الضاحكية مع عدم الإنسانية في قولك : خ خ لا ضاحك بإنسان ، يمتنع ، لاستلزامه عندهم نفي الإنسان مع إثباته ؛ لكون الكلام مفروضا في الخاص المفارق؟ وأليسوا على أن الجهة في قولك : خ خ الضاحك إنسان ، جهة وجوب معلومة بضرورة العقل ، وفي قولك : خ خ الإنسان ضاحك ، جهة إمكان عام لا يعلم العقل منه إلا ذلك القدر ، ولذلك يمتنع أن يعرف أن في الوجود ضاحكا مع الشك في وجود الضاحك؟ وأليسوا على أنك تصدق إذا قلت : خ خ الإنسان يمكن أن يكون ضاحكا بالإمكان الخاص وتكذب : إن قلت : خ خ الضاحك يمكن أن يكون إنسانا بالإمكان الخاص؟.

قلت : للمتقدمين أن يقولوا هذه تغليطات ، من حق المتأمل المتفطن أن لا يلتبس عليه وجه الصواب فيها.

بيان وجه التغليط في الصورة الأولى هو أنك إذا قلت : خ خ لا إنسان بضاحك ، في معنى إثبات الإنسان ونفي الضاحك : إما أن يكون نفي الضاحك مع اعتبار كونه خاصا للإنسان أولا ، فإن كان الثاني ، كان دعوى امتناع : خ خ لا ضاحك بإنسان ، كاذبة عند كل عاقل متفطن بلا ريبة ، وإن كان الأول ، كان في قولنا : لا إنسان بضاحك ، عند تلخيص معنى الضاحك ، نازلا منزلة لا إنسان بإنسان ضاحك ، ويكون حاصل معنى الكلام : خ خ في الوجود إنسان لا إنسان ضاحك ، مستفادا منه عقلا : خ خ في الوجود إنسان ، بوصف الإطلاق. خ خ لا إنسان ضاحك ، بالتقييد.

ودعوى امتناع عكس هذا دعوى غير محصل ؛ لأنه متى صح أن يقال : خ خ في الوجود إنسان بوصف الإطلاق ، لا إنسان يوصف بوصف الإطلاق.

وبيان وجه التغليط في الصورة الثانية : هو أنا إذا قلنا : الجهة في الأصل والعكس لا تتغير ، كان المراد : أن الجهة متى اتصفت عند العقل بوجوب أو امتناع أو ضرورة في موضع ، أصلا كان ذلك الموضع أو عكسا ، أفاد اتصافها ، في أيهما كان عنده شيء من ذلك ، اتصافها به في صاحبه ، مستويان في العلم باشتراكهما في تلك الجهة. فإذا علم العقل أن كل ضاحك يجب أن يكون إنسانا ، أفاده ذلك العلم أن إنسانا ما ، بحسب

٥٧٥

تقدير الضاحك في القضية السالفة ، إن [ذهنيا](١) وإن خارجيّا ، يجب أن يكون ضاحكا ، يتبين ذلك ، أن العقل ، إنما يوجب كون الضاحك إنسانا من حيث اعتبار كونه خاصا ، يكون مفهومه مفهوما مجموعا من صفة مخصوصة وموصوف مخصوص ، وتحقق المجموع بدون ما هو جزء له ممتنع ، فيوجب مع الضاحك ، متى فرض تحقق له ، ذهني أو خارجي ، تحققا لإنسان ذهنيا أو خارجيا ، ومتى فرض العقل للضاحك تحققا كيف كان ، أفاده ذلك أن إنسانا ما يجب أن يكون ضاحكا ، من حيث إن جزء المتحقق ، باعتبار كونه جزءا من المتحقق ، يستلزم في تحققه ذلك ، امتناع الانفكاك عن الجزء الآخر ، لكونه مأخوذا معه في اعتبار التحقق.

وإنسان ما جزء من الضاحك [المفروض تحققه](٢) ، فيجب امتناع تحققه بدون ما يقوم المجموع ، الذي هو مفهوم الضاحك ، المتركب من الصفة والموصوف ، لكونه مأخوذا مع الضاحك في تحققه ، أعني تحقق الضاحك ، فالجهة كما ترى تتحد عند العقل في القضيتين ، وخ خ كل ضاحك إنسان بالوجوب إنسان ما ، أو خ خ بعض الأناسي ضاحك بالوجوب.

وبيان وجه التغليط في الصورة الثالثة هو [أنا متى](٣) قلنا : بعض الأناسي ضاحك بالإمكان الخاص ، لم يكن المعنى : أن الضاحك لا يجب لإنسان ، عند فرض وجود ضحك في الدنيا ، مثلا كالقائم : حيث لا يجب لإنسان عند فرض وجود قيام في الدنيا ، وإنما المعنى : أن الضاحك لا يجب لإنسان ، بشرط أن لا يفرض وجود للضحك ، كما لا يفرض له عدم ، أما إذا فرض وجود له ، وجب الضاحك للإنسان لا محالة ، وكيف لا يجب ، والكلام مفروض في أن الضحك خاص بالإنسان؟ وقولنا : إن ضاحكا خ خ إنسان لا يرد إلا على فرض وجود الضحك. فالجهتان لا تختلفان إلا لاختلاف فرضي الضحك بالحاصل ، إن قولنا : خ خ بعض الأناسي ضاحك بالإمكان الخاص ، ليس عكسه :

__________________

(١) في (ط): (ذهبنا).

(٢) في (د) : الفروض متحققة.

(٣) من (غ) وفي (ط): (أمامنى).

٥٧٦

إن ضاحكا إنسان. فإن الضاحك هاهنا غير الضاحك هناك ، فالضاحك هناك غير مأخوذ باعتبار الثبوت له ، والضاحك هاهنا مأخوذ باعتبار الثبوت له ، فتأمل ما ذكرت.

فالمقام ملبس [ولأمر ما](١) ، جرى فيه ما جرى ، إذ فرع عليه المتأخرون ، فدونوا ما دونوا ، وما قصروا في تطبيق التفريعات ، قدس الله أرواحهم ، ولكن الأصل فيه ما فيه ، وقد سمينا نحن هذا الملبس : متعارفا عاميّا ويظهر من هذا : أن إثبات عكس المنفية البعضية ليس بذلك الممتنع كما يدعيه القوم ، وإنما أطنبت ، مع أن عادتي الاختصار ، لا سيما والأقل من القليل مما ذكرت كان يكفي ، فإنك في مقامك هذا ، لا كما تراك من جمعي المتقدمين والمتأخرين ، بين أطواد وأطواد ، وإذ قد ذكرنا ما ذكرنا ، [فلنرجع](٢) إلى المقصود.

أحكام المطلقات العامة :

أما المطلقات العامة : فالمثبتة الكلية منها مثل قولنا : كل اسم كلمة تنعكس بعضية.

وبيان انعكاسها : إما بالافتراض : وهو أنه يمكن الإشارة إلى واحد من آحاد هذا الكل ، محكوما عليه بالاسمية ، إما دائما أو في وقت ما ، وإلا فلا يكون من آحاد هذا الكل. ونحن نتكلم في واحد من آحاده ، فذلك الواحد ، وأفرضه لفظ خ خ رجل ، فلفظ رجل بعينه : اسم ، وهو بعينه : كلمة ، فالاسم كلمة ، والكلمة اسم. فيصدق : بعض الكلم اسم ، وهو المطلوب. وإما بالخلف وهو : أن كل واحد من الأسماء ، إذا كان كلمة ، صدق قولنا : خ خ بعض الكلم اسم ، وإلا صدق نقيضه ، وهو : لا شيء من الكلم ، ما دام كلمة ، باسم ، فيلزم : لا شيء من الأسماء بكلمة ، بوساطة ما قررنا في المقدمة. وقد كان كل اسم كلمة ، هذا خلف. وأما جعل انعكاسها بعضيا : فلاحتمال كون الخبر أعم.

__________________

(١) من (غ) وفي (ط) و (د) : ولا مبرما.

(٢) في (د): (فلترجع) بالتاء المثناة فوق.

٥٧٧

وأما المثبة البعضية فتنعكس بعضية. ويبين انعكاسها منها بالافتراض أو بالخلف ، فالافتراض : هو أن تقول : بعض الأسماء كلمة ، وذلك البعض : رجل ، بحكم الفرض والتعيين ، فهو : اسم وكلمة ، وكلمة واسم فبعض الكلم اسم. والخلف هو أن تقول : بعض الأسماء كلمة ، فبعض الكلم اسم ، وإلا فلا شيء من الكلم ، ما دامت كلمة ، باسم ، بحكم النقيض ، ولا شيء من الأسماء بكلمة ، بحكم العكس ، بالطريق المذكور. وقد كان بعض الأسماء كلمة هذا خلف.

وأما جهة كونهما مطلقتين ، فعند المتقدمين لا تتغير ، وعند المتأخرين تتغير إلى الإمكان العام ، وعمدتهم في ذلك هو : أنهم يقولون : المثبتة الضرورية كقولنا : خ خ كل متحرك جسم بالضرورة ، لا يجب أن يكون عكسها مطلقا عاما كقولنا : خ خ بعض الأجسام متحرك بالإطلاق ، وإنما يجب أن يكون ممكنا عاما كقولنا : خ خ بعض الأجسام متحرك بالإمكان العام ، والممكن العام لا يجب أن يكون موجودا. ثم بعد هذا يقولون : فإذا لم يجب في عكس الضرورية الإطلاق ، فأولى أن لا يجب في المطلقة العامة ؛ فإن أقوى درجات المطلقة العامة هي أن تكون ضرورية ، لاحتمال المطلق العام إياها ، ثم إذا كان نفس الضروري ، لا يجب أن يكون عكسه مطلقا عاما ، فالقول : بأن عكس المطلق العام يجب أن يكون عكسه مطلقا عاما ، خطأ ، لكنا نقول : قولكم ، يصدق كل متحرك جسم بالضرورة ، ولا يصدق بعض الأجسام متحرك بالضرورة ، لا يلزم منه أنه إذا لم يصدق بالضرورة أن لا يصدق بغير الضرورة ، ونحن إذا بينا صدقه بغير الضرورة ، ثبت ما نقول من أن المثبتة الكلية ، إذا صدقت ، لزم أن يصدق عكسها.

نعم يبقى أن يقال : بالضرورة تتغير إلى الاستدلال ، لكنا نقول : المطلوب من الضرورة في القضايا هو العلم ، فإذا حصل العلم ، كان النزاع فيما وراء ذلك نزاعا لا تضايق فيه ، وبيان صدقها بغير الضرورة هو أنا نقول : إذا صدق كل متحرك جسم ، فصدقه ـ سواء قدر في الذهن أو في الخارج ، أو فيهما معا ـ لا يصح إلا بأن يكون الجسم مع المتحرك بذلك التقدير ، وإذا كان الجسم مع المتحرك ، لزم في بعض المتحرك أن يكون مع الجسم بذلك التقدير ، وإلا لزم أن يكون ال خ خ مع حاصلا حين لا يكون حاصلا ، لما سبق من التقرير ، ومن تحقيق أن مثل قول القائل : كل متحرك جسم بالضرورة ، ويصدق ويكذب : بعض الأجسام متحرك بالضرورة ، قول من باب

٥٧٨

التغليط ، وبناء على المتعارف العامي.

وأما المنفية الكلية منها : فعند المتقدمين تنعكس ، وترى جماعة يبينون انعكاسها بتكلف ، فيقولون : إذا صدق بالإطلاق : خ خ لا إنسان بكاتب ، صدق : خ خ لا كاتب بإنسان بالإطلاق ، وإلا صدق نقيضه ، وهو : خ خ بعض الكتبة دائما إنسان ، فذلك البعض كاتب وإنسان دائما ، وخ خ إنسان دائما وكاتب ، وقد كان : خ خ لا إنسان بكاتب ، وهذا خلف. وعند المتأخرين ، دعوى انعكاسها غير صحيحة أصلا ، لقولهم : يصدق بالإطلاق : خ خ لا إنسان بضاحك ، ويكذب بهذا الإطلاق : خ خ لا ضاحك بإنسان ، وعندهم أيضا : أن الخلف غير مستقيم ، لما أن قيد الدوام في قولهم : خ خ بعض الكتبة دائما إنسان ، ينصرف إلى الإنسان ، ويبقى الكاتب مطلقا ، كما أنه مطلق في الأصل ، وهو : خ خ الإنسان بكاتب. ولا تناقض بين المطلقتين ، وعندهم إذا انعكست ، لا بد من انقلاب الإطلاق العام إلى الإمكان العام ، ويقولون : الإطلاق العام في الإثبات أقوى حالا من الإمكان العام فيه ، ثم إن الضرورية ، التي هي أقوى في الإثبات من المطلقة العامة فيه ، تنقلب في الانعكاس عندهم إلى الإمكان تارة ، فيرون ، فيما دون الضرورية ، بقاءها في الانعكاس على الإطلاق العام خطأ ، وأما نحن ، فعلى صحة انعكاسها ، وعلى أن قدح المتأخرين في الخلف صحيح ، دون قدحهم في الدعوى ، وعندنا أن الجهة لا تتغير ، ويخيل بيان صحة الدعوى ودفع قدحهم فيها ، وأن الجهة لا تتغير على المقدمة المذكورة ، وأما سائر ما حكينا عنهم فستقف على ما عندنا هنالك شيئا فشيئا.

أحكام الوجوديات الدائمة :

وأما الوجوديات الدائمة ، فالمثبتة الكلية منها تنعكس كنفسها بالافتراض ، يقال : إذا صدق كل جسم ، ما دام موجودا ، قابل للعرض ، أمكن أن يعين واحد من ذلك الكل ، فذلك الواحد جسم ، وقابل للعرض ما دام موجودا ، وهو بعينه قابل للعرض ما دام موجودا وجسم ، وبالخلف يقال : إذا صدق كل جسم ما دام موجودا قابل للعرض ، صدق بعض القابل للعرض ما دام موجودا جسم ، وإلا صدق نقيضه وهو : لا شيء من القابل للعرض بجسم ، وتنعكس بوساطة المقدمة السابقة : لا شيء من الأجسام يقابل للعرض. وقد كان كل جسم قابل للعرض ، وإذا انعكست ، انعكست بعضية ؛ لاحتمال

٥٧٩

كون الخبر أعم.

والمثبتة البعضية منها تنعكس كنفسها بالطريقين ، وبعضية للاحتمال المذكور.

وأما المنفية الكلية منها فتنعكس كلية وكنفسها بحكم الخلف ، وهي أنه : إذا صدق لا شيء من الأجسام ما دام موجودا عرض ، صدق لا شيء من الأعراض ما دام موجودا جسم ، وإلا صدق نقيضه ، وهو : بعض الأعراض جسم ، ويلزم بحكم الافتراض بعض الأجسام عرض ، وقد كان : لا شيء من الأجسام بعرض ، هذا خلف.

وأما الوجوديات اللادائمة فأمرها على نحو ما ذكر.

أحكام العرفيات المطلقة :

وأما العرفيات المطلقة : فالمثبتة الكلية منها ، وكذا البعضية تنعكسان ، بالافتراض أو بالخلف ، بعضيتين لاعتبار احتمال أن يكون الخبر أعم ، ثم عند المتأخرين : مطلقتين عامتين لا مطلقتين عرفيتين ، بناء منهم لذلك على المتعارف العامي من أنه : يصح أن يكون ثبوت شيء لآخر لازما ، كثبوت الجسم للمتحرك ، في قولنا : خ خ كل متحرك جسم. وأن لا يكون ثبوت ذلك الآخر لذلك الشيء لازما ، كثبوت المتحرك للجسم في قولنا : خ خ بعض الأجسام متحرك. ورأينا انعكاسهما مطلقتين عرفيتين بناء على ما قدمنا.

وأما المنفية الكلية منها ، فتنعكس كلية ، وكنفسها عرفية مطلقة ، ويبين ذلك بطريق الخلف ، وهو أنه : إذا صدق : لا فعل بحرف ما دام فعلا ، لزم أن يصدق لا حرف بفعل ما دام حرفا ، وإلا صدق نقيضه ، وهو : بعض الحروف فعل. إذا كان بعض الحروف فعلا ، لزم منه بعض الأفعال حرف ، وقد كان لا شيء من الأفعال بحرف ، ويبين اللزوم تارة بطريق الافتراض ، مثل أن يفرض : أن ذلك البعض هو لفظة : خ خ من ، فتكون بعينها حرفا وفعلا ، وتكون هي بعينها فعلا وحرفا. فيكون ما هو فعل حرفا.

وتارة بطريق الانعكاس وهو أنه : إذا صدق بعض الحروف فعل ، صدق بعض الأفعال حرف ، على ما سبق من انعكاس البعضية بعضية ، ولكن يلزمك في هذا الثاني أن يكون تصحيحك لعكس المثبتة البعضية بغير الخلف ؛ لئلا يلزم الدور.

٥٨٠