مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

الثريا بعنقود الكرم المنور ، أو تشبيه نحو قوله (١) :

كأن مثار النّقع فوق رءوسنا ...

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

٢ ـ أو أن يكون المشبه به بعيد التشبيه عن المشبه ، كالخنفساء عن الإنسان ، قبل تشبيه أحدهما بالآخر في اللجاج ، أو البنفسج عن النار والكبريت ، قبل تصور التشبيه بين الطرفين.

٣ ـ أو أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن لكونه شيئا وهميا كما في قوله (٢)

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

٤ ـ أو مركبا خياليا كما في قوله (٣) :

وكأن محمرّ الشّقيق ...

[إذ](٤) تصوّب أو تصعّد

أعلام ياقوت نشرن ...

على رماح من زبرجد

٥ ـ أو مركبا عقليّا كما في قوله عز قائلا : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(٥) وكلما كان التركيب خياليا كان أو

__________________

(١) أورده عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ص ٩٦ وعزاه لبشار ، والرازي في نهاية الإيجاز ص ١٥٥ ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ١٨٠ ، والطيبى شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٠٦) بتحقيقى ، والعلوى في الطراز ١ / ٢٩١.

(٢) أورده القزوينى في الإيضاح ص ٢٧٥ وعزاه لامرئ القيس وذكر صدر البيت :

أيقتلنى والمشرفى مضاجعى ...

والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح ١ / ١١٠ بتحقيقي.

(٣) أورده عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص ١٣٩ ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١١٦ وهو للصنوبرى ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١١٠) بتحقيقى ، والعلوى في الطراز (١ / ٢٧٥)

(٤) في (غ) (إذا) والمثبت من (د).

(٥) سورة يونس ، الآية ٢٤.

٤٦١

عقليا ، من أمور أكثر ، كان حاله في البعد والغرابة أقوى.

قبول التشبيه :

وأما كون التشبيه مقبولا فالأصل فيه هو أن يكون الشبه صحيحا ، وقد تقدم معنى الصحة ، وأن يكون كاملا في تحصيل ما علق به من الغرض ، وأن يكون سليما عن الابتذال.

١ ـ مثل أن يكون المشبه به محسوسا أعرف شيء بأمر لون مخصوص ، أو شكل أو مقدار أو غير ذلك ، إذا كان الغرض من التشبيه بيان حال المشبه من جهة ذلك الأمر ، أو بيان مقداره على ما هو عليه ، فالنفس إلى الأعرف عندها أميل ، وله متى صادفته أقبل ، لا سيما فيما إلفها به أكمل ، لكن يجب في الثاني كون المشبه به ، مع ما ذكر ، على حد مقدار المشبه في وجه التشبيه ، لا أزيد ولا أنقص ، وكلما كان أدخل في السلامة عن الزيادة أو النقصان ، كان أدخل في القبول.

٢ ـ أو مثل أن يكون المشبه به أتم محسوس في أمر حسي ، هو وجه الشبه ، إذا قصد تنزيل المشبه الناقص منزلة الكامل ، أو قصد زيادة تقرير المشبه عند السامع لمثل ما تقدم ، أو مثل أن يكون المشبه به مسلم الحكم معروفه ، فيما يقصد من وجه التشبيه ، إذا كان الغرض من التشبيه : بيان إمكان الوجود ، أو محاولة التزيين ، أو التشويه. فقبول النفس لما تعرف ، فوق قبولها لما لا تعرف.

٣ ـ أو مثل أن يكون المشبه به في التشبيه الاستطرافي نادر الحضور في الذهن لبعده عن التصور ، أو نادر الحضور فيه مع المشبه لبعد نسبته إليه ، فالنفس تتسارع إلى قبول نادر يطلع عليها ، لما تتصور لديه من لذة التجدد ، وتتمثل من تعريه عن كراهة معاد.

رد التشبيه :

هذا وإنك متى تفطنت لأسباب قرب التشبيه وتقارب مسلكه ، وكذا لأسباب انخراطه من القبول في سلكه ، تفطنت لأسباب بعده وغرابته ، ولأسباب رده لرداءته ، ولن يذهب عليك أن مقرب التشبيه ، متى كان أقوى ، كان التشبيه أقرب ، وكذا

٤٦٢

مبعده ، متى كان أقوى ، كان أغرب ، وجرى لذلك في شأن قبوله ورده ، على نحو مجراه في شأن قربه وبعده.

التشبيه : أحكام متفرقة :

واعلم أن ليس من الواجب في التشبيه ذكر كلمة التشبيه ، بل إذا قلت : خ خ زيد أسد ، واكتفيت بذكر الطرفين عدّ تشبيها ، مثله إذا قلت : خ خ كأن زيدا الأسد ، اللهم إلّا في كونه أبلغ ، ولا ذكر المشبه لفظا ، بل إذا كان محذوفا ، مثله إذا قلت : أسد وأي أسد ، جاعلا المشبه به خبرا مفتقرا إلى المبتدأ كفى لقصر المسافة بين الملفوظ به في الكلام والمحذوف منه ، بشرائطه في قوة الإفادة.

وإنما الواجب في التشبيه إذا ترك المشبه أن لا يكون مضروبا عنه صفحا ، مثله إذا قلت : خ خ عندي أسد ، أو خ خ رأيت أسدا ، خ خ ونظرت إلى أسد ، فإنه لا يعد تشبيها ، وسيأتيك بيان حاله ، وإنما عد ، نحو : خ خ زيد أسد ، وقرينه المحذوف المبتدأ ، تشبيها لأنك حين أوقعت أسدا ، وهو مفرد غير جملة ، خبرا لزيد استدعى أن يكون هو إياه ، مثله في : خ خ زيد منطلق ، في أن الذي هو زيد بعينه منطلق ، وإلّا كان : خ خ زيد أسد مجرد تعديد ، نحو : خ خ خيل فرس ، لا إسنادا ، لكن العقل يأبى أن يكون الذي هو إنسان هو بعينه أسدا ، فيلزم لامتناع جعل اسم الجنس وصفا للإنسان ، حتى يصح إسناده إلى المبتدأ المصير إلى التشبيه بحذف كلمته قصدا إلى المبالغة ، وإذا عرفت أن وجود طرفي التشبيه يمنع عن حمل الكلام على غير التشبيه ، عرفت أن فقد كلمة التشبيه لا تؤثر إلّا في الظاهر ، وعرفت أن نحو : خ خ رأيت بفلان أسدا ، وخ خ لقيني منه أسد ، وهو خ خ أسد في صورة إنسان ، وخ خ إذا نظرت إليه لم تر إلّا أسدا ، وخ خ إن رأيته عرفت جبهة الأسد ، وخ خ لئن لقيته ليلقينك منه الأسد ، وخ خ إن أردت أسدا فعليك بفلان ، وخ خ إنما هو أسد ، وخ خ ليس هو آدميا بل هو أسد. كل ذلك تشبيهات لا فرق إلا في شأن المبالغة. فالخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله عزوجل قائلا : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ

٤٦٣

الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)(١) يعدان من باب التشبيه ، حيث بينا بقوله : (مِنَ الْفَجْرِ)(٢) ولو لا ذلك لكانا من باب الاستعارة.

مراتب التشبيه :

والحاصل من مراتب التشبيه ثمان :

إحداها : ذكر أركانه الأربعة ، وهي : المشبه ، والمشبه به ، وكلمة التشبيه ، ووجه التشبيه ، كقولك : خ خ زيد كالأسد في الشجاعة ، ولا قوة لهذه المرتبة.

وثانيتها : ترك المشبه ، كقولك : خ خ كالأسد في الشجاعة ، وهي كالأولى في عدم القوة.

وثالثتها : ترك كلمة التشبيه كقولك : خ خ زيد أسد في الشجاعة ، وفيها نوع قوة.

ورابعتها : ترك المشبه وكلمة التشبيه ، كقولك : خ خ أسد في الشجاعة ، في موضع الخبر عن زيد ، وهي كالثالثة في القوة.

وخامستها : ترك وجه التشبيه ، كقولك : خ خ زيد كالأسد ، وهي أيضا قوية لعموم وجه التشبيه.

وسادستها : ترك المشبه ووجه التشبيه ، كقولك : خ خ كالأسد ، في موضع الخبر عن زيد ، وحكمها كحكم الخامسة.

وسابعتها : ترك كلمة التشبيه ووجه الشبه ، كقولك : خ خ زيد أسد وهي أقوى الكل.

وثامنتها : إفراد المشبه به في الذكر ، كقولك : خ خ أسد ، في الخبر عن زيد ، وهي كالسابعة.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٨٧.

(١) سورة البقرة الآية ١٨٧.

٤٦٤

خاتمة

واعلم أن الشبه قد ينتزع من نفس التضاد ، نظرا إلى اشتراك الضدين فيه ، من حيث اتصاف كل واحد منهما بمضادة صاحبه ، ثم ينزل منزلة شبه التناسب ، بواسطة تمليح أو تهكم ، فيقال للجبان : خ خ ما أشبهه بالأسد ، وللبخيل : خ خ إنه حاتم ثان. والله المستعان.

٤٦٥

الأصل الثاني

من علم البيان في المجاز

ويتضمن التعرض للحقيقة ، والكلام في ذلك مفتقر إلى تقديم التعرض لوجه دلالات الكلم على مفهوماتها ولمعنى الوضع والواضع.

تقديم :

من المعلوم أن دلالة اللفظ على مسمى دون مسمى ، مع استواء نسبته إليهما ، يمتنع ، فيلزم الاختصاص بأحدهما ضرورة ، والاختصاص ، لكونه أمرا ممكنا ، يستدعي في تحققه مؤثرا مخصصا ، وذلك المخصص ، بحكم التقسيم ، إما الذات أو غيرها ، وغيرها إما الله ، تعالى وتقدس ، أو غيره ثم إن في السلف من يحكى عنه اختيار الأول ، وفيهم من اختار الثاني وفيهم من اختار الثالث. وأطبق المتأخرون على فساد الرأي الأول ، ولعمري ، إنه فاسد ، فإن دلالة اللفظ على مسمى ، لو كانت لذاته ، كدلالته على اللافظ ، وإنك لتعلم أن ما بالذات لا يزول بالغير لكان يمتنع نقله إلى المجاز ، وكذا إلى جعله علما ، ولو كانت دلالته ذاتية ، لكان يجب امتناع أن لا تدلنا على معاني الهندية كلماتها ، وجوب امتناع أن لا تدل على اللافظ لامتناع انفكاك الدليل عن المدلول ، ولكان يمتنع اشتراك اللفظ بين متنافيين ، كالناهل : للعطشان وللريان ، على ما تسمعه من الأصحاب ، لا منى ، لما تقدم لي أن تذكرت ، وكالجون : للأسود والأبيض ، وكالقرء : للحيض والطهر ، وأمثالها ، لاستلزامه ثبوت المعني مع انتفائه ، متى قلت : خ خ هو ناهل أو جون ، ووجوه فساده أظهر من أن تخفى ، وأكثر من أن تحصى ، مادام محمولا على الظاهر.

خواص الحروف :

ولكن الذي يدور في خلدي أنه رمز ، وكأنه تنبيه على ما عليه أئمة علمي : الاشتقاق والتصريف ، أن للحروف في أنفسها خواص بها تختلف كالجهر والهمس ، والشدة والرخاوة ، والتوسط بينهما ، وغير ذلك ، مستدعية في حق المحيط بها علما أن لا يسوى بينها ، وإذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى ، أن لا يهمل التناسب بينهما قضاء

٤٦٦

لحق الحكمة ، مثل ما ترى في الفصم بالفاء ، الذي هو حرف رخو ، لكسر الشيء من غير أن يبين ، و: القصم بالقاف ، الذي هو حرف شديد ، لكسر الشيء حتى يبين ، وفي : الثلم ، بالميم الذي هو حرف خفيف ، ما يبنى للخل في الجدار ،

و: الثلب ، بالباء الذي هو حرف شديد ، للخلل في العرض. وفي الزفير ، بالفاء لصوت الحمار ، و: الزئير ، بالهمز الذي هو شديد ، لصوت الأسد. وما شاكل ذلك.

خواص التراكيب :

وإن للتركيب : كالفعلان والفعلى ، بتحريك العين منهما مثل : النّزوان والحيدى ، وفعل مثل : شرف ، وغير ذلك ، خواص أيضا ، فيلزم فيها ما يلزم في الحروف ، وفي ذلك نوع تأثير لأنفس الكلم في اختصاصها بالمعاني.

هذا ، والحق بعد ، أما التوقيف ، والإلهام ، قولا بأن المخصص هو تعالى ؛ وأما الوضع والاصطلاح ، قولا بإسناد التخصيص إلى العقلاء والمرجع بالآخرة فيهما أمر واحد ، وهو الوضع.

لكن الواضع : إما الله ، عزوجل ، وإما غيره. والوضع عبارة عن تعيين اللفظة بإزاء معنى بنفسها ، وقولى : خ خ بنفسها احتراز عن المجاز إذا عينته بإزاء ما أردته بقرينة ، فإن ذلك التعيين لا يسمى وضعا ، وإذا عرفت أن دلالة الكلمة على المعنى موقوفة على الوضع ، وأن الوضع تعيين الكلمة بإزاء معنى بنفسها ، وعندك علم أن دلالة معنى على معنى غير ممتنعة ، عرفت صحة أن تستعمل الكلمة مطلوبا بها نفسها : تارة معناها الذي هي موضوعة له ، ومطلوبا بها أخرى : معنى معناها بمعونة قرينة. ومبنى كون الكلمة حقيقة ومجازا على هذا.

ما هي الحقيقة؟ :

فالحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع ، كاستعمال الأسد في الهيكل المخصوص ، فلفظ خ خ الأسد موضوع له بالتحقيق ولا تأويل فيه ، وإنما ذكرت هذا القيد ليحترز به عن الاستعارة ، ففي الاستعارة تعد الكلمة مشتملة فيما هي موضوعة له على أصح القولين ، ولا نسميها حقيقة ، بل نسميها مجازا

٤٦٧

لغويا لبناء دعوى المستعار موضوعا للمستعار له على ضرب من التأويل ، كما ستحيط بجميع ذلك علما في موضعه ، إن شاء الله تعالى.

ولك أن تقول الحقيقة : هي الكلمة المستعملة فيما تدل عليه بنفسها دلالة ظاهرة ، كاستعمال خ خ الأسد في الهيكل المخصوص ، أو خ خ القرء في أن لا يتجاوز الطهر والحيض غير مجموع بينهما ، فهذا ما يدل عليه بنفسه ما دام منتسبا إلى الوضعين ، أما إذا خصصته بواحد ، إما صريحا مثل أن تقول : خ خ القرء بمعنى الطهر ، وإما استلزاما مثل أن تقول : خ خ القرء لا بمعنى الحيض ، فإنه حينئذ ينتصب دليلا دالا بنفسه على الطهر بالتعيين ، كما كان الواضع عينه بإزائه بنفسه ، وأنه لمظنة فضل تأمل منك ، فاحتط ؛ وقولي : خ خ دلالة ظاهرة ، احتراز عن الاستعارة ، وستعرف وجه الاحتراز في باب الاستعارة.

ولك أن تقول : الحقيقة هي الكلمة المستعملة في معناها بالتحقيق ، والحقيقة تنقسم عند العلماء إلى : لغوية وشرعية وعرفية. والسبب في انقسامها هذا ، هو ما عرفت ، أن اللفظة تمتنع أن تدل على مسمى من غير وضع ، فمتى رأيتها دالة لم تشك في أن لها وضعا ، وأن لوضعها صاحبا. فالحقيقة لدلالتها على المعنى تستدعي صاحب وضع قطعا ، فمتى تعين عندك ، نسبت الحقيقة إليه ، فقلت : لغوية ، إن كان صاحب وضعها واضع اللغة. وقلت : شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع ، ومتى لم يتعين ، قلت : عرفية. وهذا المأخذ يعرفك أن انقسام الحقيقة إلى أكثر مما هي منقسمة إليه غير ممتنع في نفس الأمر.

ما هو المجاز :

وأما المجاز فهو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق ، استعمالا في الغير ، بالنسبة إلى نوع حقيقتها ، مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع ، وقولي : بالتحقيق احتراز أن لا تخرج الاستعارة ، التي هي من باب المجاز ، نظرا إلى دعوى استعمالها فيما هي موضوعة له ، وقولي : استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها ، احتراز عما إذا اتفق ، كونها مستعملة فيما تكون موضوعة له ، لا بالنسبة إلى نوع حقيقتها ، كما إذا استعمل صاحب اللغة لفظ : خ خ الغائط ، مجازا فيما يفضل عن

٤٦٨

الإنسان من منهضم متناولاته ، أو كما إذا استعار صاحب الحقيقة الشرعية خ خ الصلاة : للدعاء ، أو صاحب العرف خ خ الدابة : للحمار ، والمراد بنوع حقيقتها اللغوية ، إن كانت إياها ، أو الشرعية أو العرفية ، أية كانت. وقولي : خ خ مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع ، احتراز عن الكناية ، فإن الكناية ، كما ستعرف ، تستعمل فيراد بها المكنى عنه ، فتقع مستعملة في غير ما هي موضوعة له ، مع أنا لا نسميها مجازا ، لعرائها عن هذا القيد.

ولك أن تقول : المجاز هو الكلمة المستعملة ، في غير ما تدل عليه بنفسها دلالة ظاهرة ، استعمالا في الغير ، بالنسبة إلى نوع حقيقتها ، مع قرينة مانعة عن إرادة ما تدل عليه بنفسها ، في ذلك النوع.

ولك أن تقول : المجاز هو الكلمة المستعملة في معنى معناها بالتحقيق استعمالا في ذلك بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع.

واعلم أنا لا نقول : في عرفنا ، استعملت الكلمة فيما تدل عليه ، أو في غير ما تدل عليه ، حتى يكون الغرض الأصلي طلب دلالتها على المستعمل فيه ، ومن حق الكلمة ، في الحقيقة ، التي ليست بكناية ، أن تستغني في الدلالة على المراد منها بنفسها عن الغير ، لتعينها له بجهة الوضع ، وأما ما يظن بالمشترك من الاحتياج إلى القرينة في دلالته على ما هو معناه ، فقد عرفت أن منشأ هذا الظن عدم تحصيل معنى المشترك الدائر بين وضعين ، وحق الكلمة في المجاز أن لا تستغني عن الغير في الدلالة على ما يراد منها ، ليعينها له ذلك الغير.

وسميت الحقيقة حقيقة لمكان التناسب ، وهو : أن الحقيقة إما خ خ فعيل ، بمعنى : مفعول من حققت الشيء أحقه ، إذا أثبته ، فمعناها المثبت ؛ والكلمة متى استعملت فيما كانت موضوعة له ، دالة عليه بنفسها ، كانت مثبتة في موضعها الأصلي ، وإما خ خ فعيل ، بمعنى : خ خ فاعل ، من حق الشيء يحق إذا وجب ، فمعناها الواجب وهو الثابت.

والكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له ثابتة في موضعها الأصلي ، واجب لها ذلك ، وأما التاء فهو عندي للتأنيث في الوجهين لتقدير لفظ الحقيقة قبل التسمية صفة مؤنث غير مجراة على الموصوف ، وهو الكلمة.

٤٦٩

وكذا المجاز سمي : مجازا لجهة التناسب ؛ لأن المجاز خ خ مفعل من جاز المكان يجوزه إذا تعداه ، والكلمة إذا استعملت في غير ما هي موضع له ، وهو ما تدل عليه بنفسها ، فقد تعدت موضعها الأصلي ، واعتبار التناسب في التسمية مزلة أقدام ، ربما شاهدت فيها من الزلل ما تعجبت ، فإياك والتسوية بين تسمية إنسان له حمرة بأحمر ، وبين وصفه بأحمر ، أن تزل. فإن اعتبار المعنى في التسمية لترجيح الاسم على غيره حال تخصيصه بالمسمى ، واعتبار المعنى في الوصف لصحة إطلاقه عليه ، فأين أحدهما عن الآخر ، وأن كثيرا سووا ، ثم سمعونا نقول : الله عز اسمه ، سمي : الله ، لكونه محار عقول ، اشتقاقا من كذا ، أو لكونه معبودا ، اشتقاقا من كذا ، فظنونا أسأنا ، فأخذوا يرمون ، والمرمى حيث بانوا وظلوا ، إله الخلق غفرا.

تحديد الحقيقة والمجاز :

وتحد الحقيقة والمجاز عند أصحابنا في هذا النوع بغير ما ذكرت.

يحدون الحقيقة هكذا : كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع وقوعا لا تستند فيه إلى غيره ، وإنما يقولون : خ خ واضع ، بالتنكير دون التعريف ليعم واضع اللغة ، وغيره من أصحاب الأوضاع المتأخرة عن وضع اللغة ، والضمير في : خ خ فيه ، يعود إلى الوقوع ، وفي : خ خ غيره ، يعود إلى الوضع ، وإنما يذكرون هذا القيد تقريرا للمعنى الأول ، مثل أن يقولوا : كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع ، لا ما وقعت له في غير وضع واضع ، والذي تقع له الكلمة في غير الوضع ، هو ما تتناوله عقلا بواسطة الوضع ، كما إذا وقعت للعشرة مثلا في الوضع ، فإنها تكون واقعة لخمسة وخمسة ، إلا أنها في وقوعها لخمسة وخمسة تستند إلى غير الوضع ، وهو العقل.

ويحدون المجاز هكذا : كل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضع لملاحظة بين الثاني والأول ؛ فتأمل قولي وقولهم.

واعلم أن الكلمة حال وضعها اللغوي ، لما عرفت من أن الحقيقة ترجع إلى إثبات الكلمة في موضعها ، وأن المجاز يرجع إلى إخراج الكلمة عن موضعها ، حقها أن لا تسمى حقيقة ولا مجازا ، كالجسم حال الحدوث لا يسمى ساكنا ولا متحركا.

وأما حال الوضعين الأخيرين ، فحقها كذلك ، لكن في الأول بإطلاق ، وفي

٤٧٠

الأخيرين بتقييد الحقيقة بنوعها ، مثل أن يقال : لا تكون حقيقة شرعية ولا مجازها ، ولا تكون حقيقة عرفية ولا مجازها ، وإن كان الإطلاق قد يحتمل.

وإذ قد تقدم إليك ما أحاطت به معرفتك ، فبالحري أن نشمر الذيل لتلخيص ما عند السلف ، وتخليصه مما يقع من الحشو في البين ، وأن نسوقه إليك مرتبا ترتيبا يقيد أوابد فوائدهم ، مقررا تقريرا يميط اللثام عن وجوه فرائدهم ، فاعلين ذلك لنطلعك على كنه ما أجروا إليه ، ونعثرك على شأو ما قد أناخوا لديه ، منبهين في أثناء المساق على ما يرونه وما نحن نراه ، فإذا استناخا من كمال تأملك في بحبوحة ذراه ، آثرت عن استطلاع طلعتهما (١) أيا شئت.

أقسام المجاز :

اعلم أن المجاز عند السلف من علماء هذا الفن قسمان : لغوي ، وهو ما تقدم ويسمى مجازا في المفرد ؛ وعقلي ، وسيأتيك تعريفه ويسمى مجازا في الجملة.

واللغوي قسمان : قسم يرجع إلى معنى الكلمة ، وقسم يرجع إلى حكم لها في الكلام ، والراجع إلى معنى الكلمة قسمان : خال عن الفائدة ، ومتضمن لها ، والمتضمن للفائدة قسمان : خال عن المبالغة في التشبيه ، ومتضمن لها ، وأنه يسمى الاستعارة ، ولها انقسامات ، فهذه فصول خمسة : مجاز لغوي راجع إلى المعنى خال عن الفائدة ، مجاز لغوي معنوي مفيد خال عن المبالغة في التشبيه : استعارة ، مجاز لغوي راجع إلى حكم الكلمة ، مجاز عقلي ، ويتلوه الكلام في : الحقيقة العقلية. وأنا أسوق إليك هذه الفصول بعون الله تعالى وهو المستعان.

__________________

(١) كذا في (ط) و (د) ، وفي (غ) طلعتها.

٤٧١

الفصل الأول

المجاز اللغوي الراجع إلى معنى الكلمة غير المفيد

هو أن تكون الكلمة موضوعة لحقيقة من الحقائق مع قيد ، فتستعملها لتلك الحقيقة لا مع ذلك القيد بمعونة القرينة ، مثل أن تستعمل المرسن ، وأنه موضوع لمعنى الأنف ، مع قيد أن يكون أنف مرسون ، استعمال الأنف من غير زيادة قيد بمعونة القرائن ، كقول العجاج (١) :

وفاحما ومرسنا مسرجا

يعني : أنفا يبرق كالسراج ، أو مثل : المشفر ، وهو موضوع للشفة ، مع قيد أن تكون شفة بعير ، استعمال الشفة ، فتقول : فلان غليظ المشفر ، في ضمن قرينة دالة على أن المراد هو الشفة لا غير ، أو مثل أن تستعمل الحافر ، وأنه موضوع للرجل مع قيد أن تكون رجل فرس أو حمار ، استعمال الرجل بالإطلاق ، اعتمادا على دلالة القرائن ، على ذلك سمي هذا القبيل : مجازا لتعديه ، عن مكانه الأصلي ، ومعنويا : لتعلقه بالمعنى لا بالحكم الذي سيأتيك ، ولغويا : لاختصاصه بمكانه الأصلي بحكم الوضع ، وغير مفيد : لقيامه مقام أحد المترادفين من نحو : ليث وأسد ، وحبس ومنع ، عند المصير إلى المراد منه.

__________________

(١) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٢٣ وعزاه للعجاج ، والقزويني في الإيضاح ص ٤٠٥.

والفاحم : الأسود البين الفحومة. المرسن : موضع الرسن من أنف الفرس ، الرّسن : ما كان من الأزمة على الأنف. والمسرج : من السرج وهو رحل الدابة.

٤٧٢

الفصل الثاني

المجاز اللغوي الراجع إلى المعنى المفيد الخالي عن المبالغة في التشبيه

هو أن تعدي الكلمة عن مفهومها الأصلي بمعونة القرينة إلى غيره لملاحظة بينهما. ونوع تعلق ، نحو : أن تراد النعمة باليد ، وهي موضوعة للجارحة المخصوصة لتعلق النعمة بها ، من حيث إنها تصدر عن اليد ، ومنها تصل إلى المقصود بها ، وكذا إذا أردت القوة أو القدرة بها ، لأن القدرة أكثر ما يظهر سلطانها في اليد ، وبها يكون البطش ، والضرب والقطع ، والأخذ والدفع ، والوضع والرفع ، وغير ذلك من الأفاعيل التي تخبر فضل أخبار عن وجود القدرة ، وتنبىء عن مكانها أتم إنباء ، ولذلك تجدهم لا يريدون باليد شيئا لا ملابسة بينه وبين هذه الجارحة ، ونحو أن تراد المزادة بالرواية ، وهي في الأصل اسم للبعير الذي يحملها ، للعلاقة الحاصلة بينها وبينه بسبب حمله إياها ، أو أن يراد البعير بالحفض ، وهو متاع البيت ، بنحو من الجهة المذكورة ، ونحو أن يراد الرّجل بالعين إذا كان ربيئة من حيث أن العين لما كانت المقصودة في كون الرجل ربيئة ، صارت كأنها الشخص كله ؛ ونحو أن يراد النبت بالغيث ، كما يقولون : رعينا غيثا ، لكون الغيث سببا ؛ ونحو أن يراد الغيث بالسماء ، لكونه من جهتها ، يقولون : أصابتنا السماء ، أي الغيث ؛ ونحو أن يراد الغيث بالنبات ، كقولك : أمطرت السماء نباتا ، لكون الغيث سببا فيه أو بالسنام كقول من قال (١) :

أسنمة الآبال في سحابه

ومن هذا تعرف وجه تفسير من فسر إنزال أزواج الأنعام في قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ)(٢) بإنزال الماء ، لا سيما إذا نظر إلى ما ورد ، من أن كل ماء في الأرض فهو من السماء ، ينزله جل وعلا منها إلى الصخرة ، ثم يقسمه ؛ وقيل :

__________________

(١) أورده القزوينى في الإيضاح (٤٠١) بلا عزو وذكر صدر البيت :

أقبل في المسنّن من ربابة

، والطيبى في التبيان (١ / ٢٩٣) بتحقيقى.

(٢) سورة الزمر الآية ٦.

٤٧٣

هذا معنى قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ)(١) ومما نحن فيه قوله : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً)(٢) أي مطرا هو سبب الرزق ، وقوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ)(٣) ومما ينخرط في هذا السلك : هداه الله ، أي : ألطف به ، خ خ وأضله الله أي خذله بمنع ألطافه لكونها في حقه عبثا ، وقوله عز سلطانه (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي)(٤) أي العناد المستلزم للنار ، وقوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)(٥) لاستلزام أموال اليتامى إياها ، وقول القائل :

يأكلن كلّ ليلة أكافا (٦) ،

أي علفا بثمن أكاف ، للتعلق بين ذلك العلف وبين الأكاف ، وقولهم : أكل فلان الدم ، أي : الدية ، للتعلق بينهما.

ومن أمثلة المجاز قوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ)(٧) استعملت : قرأت ، مكان : أردت القراءة ، لكون القراءة مسببة عن إرادتها ، استعمالا مجازيا بقرينة الفاء في : فاستعذ ، والسنّة المستفيضة بتقديم الاستعاذة ، ولا تلتفت إلى من يؤخر

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٢١.

(٢) سورة غافر الآية ١٣.

(٣) سورة الذاريات ، الآية ٢٢.

(٤) سورة البقرة الآية ٢٤.

(٥) سورة النساء الآية ١٠.

(٦) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٢٥ وصدر البيت :

إن لنا أحمرة عجافا

والقزوينى في الإيضاح (٣٩٩) بلا عزو. والأكاف : من المراكب شبه الرّحال والأقتاب والجمع أكف.

(٧) سورة النحل الآية ٩٨.

٤٧٤

الاستعاذة ، فذلك لضيق العطن ، وقوله (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ)(١) في موضع : أراد نداء ربه ، بقرينة : (فَقالَ رَبِ) وقوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها)(٢) في موضع : أردنا هلاكها ، بقرينة : (فَجاءَها بَأْسُنا) والبأس : الإهلاك ، وقوله : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها)(٣) في موضع أردنا هلاكها بقرينة : (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي عن معاصيهم للخذلان ، ومنه : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)(٤) أي : أردنا إهلاكها ، إذ معنى الآية : كل قرية أردنا إهلاكها لم يؤمن أحد منهم ، أفهؤلاء يؤمنون؟ وما أدل نظم الكلام على الوعيد بالإهلاك! أما ترى الإنكار في : (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) لا يقع في المحز إلّا بتقدير : ونحن على أن نهلكهم.

وإنما حملت الامتناع عما ذكرت ، على ضيق العطن ، لأنه متى جرى فيما هو أبعد جريا مستفيضا ، يكاد يريك من إذا تكلم بخلافه كمن صلى لغير قبلة ، أليس كل أحد يقول للحفار : خ خ ضيق فم الركية ، وعليه فقس ، والتضييق ، كما يشهد له عقلك الراجح ، هو التغيير من السعة إلى الضيق ، ولا سعة هناك ، إنما الذي هناك هو مجرد تجويز أن يريد الحفار التوسعة ، فينزل مجوز مراده منزلة الواقع ، ثم يأمره بتغييره إلى الضيق ، أما يجب أن يكون في الأقرب أجرى وأجرى؟.

وأمثال ذلك مما تعدى الكلمة بمعونة القرينة عن معناها الأصلي إلى غيره لتعلق بينهما بوجه ، قويا كان أو ضعيفا ، واضحا أو خفيا ، وللتعلق بين الصارف عن فعل الشيء وبين الداعي إلى تركه ، يحتمل عندي أن يكون : " منعك" في قوله : علت كلمته : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)(٥) مرادا به : ما دعاك إلى أن لا تسجد؟ وأن يكون" لا" غير

__________________

(١) سورة هود الآية ٤٥.

(٢) سورة الأعراف الآية ٤.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٩٥.

(٤) سورة الأنبياء الآية ٦.

(٥) سورة الأعراف الآية ١٢.

٤٧٥

[صلة](١) قرينة للمجاز ، ونظيره : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ)(٢)

ومن أمثلة المجاز : المستثنى منه في باب الاستثناء ، وتحقيق الكلام في ذلك مفتقر إلى التعرض للتناقض ، وسينشعب من علم المعاني شعبة تثمر المصير إلى ما له وعليه ، فالرأي أن نؤخر الكلام في الاستثناء إلى الفراغ عن تلك الشعبة ، وهي شعبة علم الاستدلال ، وتسميته مجازا لغويا ومعنويا لما تقدم ، ومفيدا : لتضمنه شبه شاهد لتحقق ما أنت تريد به ، وسيأتيك تقرير هذا المعنى في الأصل الثالث ، بإذن الله تعالى ، وأما معنى كونه : خاليا عن المبالغة في التشبيه ، فموضحه الفصل الذي يليه.

__________________

(١) من (د).

(٢) سورة طه الآيتان ٩٢ ـ ٩٣.

٤٧٦

الفصل الثالث

الاستعارة

في الاستعارة هي : أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر ، مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به ، دالا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص المشبه به ، كما تقول : خ خ في الحمام أسد وأنت تريد به الشجاع ، مدّعيا أنه من جنس الأسود ، فتثبت للشجاع ما يخص المشبه به ، وهم اسم جنسه ، مع سد طريق التشبيه بإفراده في الذكر ، أو كما تقول : خ خ إن المنية أنشبت أظفارها (١) ، وأنت تريد بالمنية : السبع ، بادعاء السبعية لها ، وإنكار أن تكون شيئا غير سبع ، فتثبت لها ما يخص المشبه به ، وهو : الأظفار. وسمي هذا النوع من المجاز استعارة ، لمكان التناسب بينه وبين معنى الاستعارة.

وذلك أنا متى ادعينا في المشبه كونه داخلا في حقيقة المشبه به ، فردا من أفرادها ، برز فيما صادف من جانب المشبه به ، سواء كان اسم جنسه وحقيقته ، أو لازما من لوازمها ، في معرض نفس المشبه به ، نظرا إلى ظاهر الحال من الدعوى ، فالشجاع ، حال دعوى كونه فردا من أفراد حقيقة الأسد ، يكتسي اسم الأسد اكتساء الهيكل المخصوص إياه ، نظرا إلى الدعوى ، والمنية ، حال دعوى كونها داخلة في حقيقة السبع ، إذا أثبت لها مخلب أو ناب ، ظهرت مع ذلك ظهور نفس السبع معه في أنه كذلك ينبغي ، وكذلك الصورة المتوهمة على شكل المخلب أو الناب ، مع المنية المدعى أنها سبع ، تبرز في [تسميتها](٢) باسم المخلب بروز الصورة المتحققة المسماة باسم المخلب من غير فرق ، نظرا إلى الدعوى.

وهذا شأن العارية ، فإن المستعير يبرز معها في معرض المستعار منه ، لا يتفاوتان إلا في أن أحدهما إذا فتش عنها مالك والآخر ليس كذلك. وهاهنا سؤال وجواب

__________________

(١) قال أبو ذؤيب الهذلي :

وإذا المنية أنشبت أظفارها ...

ألفيت كل تميمة لا تنفع.

والبيت ذكره الطيبى في التبيان (١ / ٣٠٣) بتحقيقى.

(٢) في (د) (تسميها)

٤٧٧

تسمعهما في فصل الاستعارة بالكناية.

ويسمى المشبه به ، سواء كان هو المذكور أو المتروك ، مستعارا منه ، واسمه مستعارا. والمشبه به ، مستعارا له. والذي قرع سمعك ، من أن الاستعارة تعتمد إدخال المستعار له في جنس المستعار منه ، هو السر في امتناع دخول الاستعارة في الأعلام ، اللهم إلا إذا تضمنت نوع وصفية لسبب خارج ، تضمن اسم خ خ حاتم الجود ، وخ خ مادر البخل (١) ، وما جرى مجراهما.

وأما عد هذا النوع لغويّا ، فعلى أحد القولين ، وهو المنصور ، كما ستقف عليه ، وكان شيخنا الحاتمي ، تغمده الله برضوانه ، أحد ناصريه ، فإن لهم فيه قولين :

أحدهما : أنه لغوي ، نظرا إلى استعمال الأسد في غير ما هو له عند التحقيق ، فإنا ، وإن ادعينا للشجاع الأسدية ، فلا نتجاوز حديث الشجاعة حتى ندعي للرجل صورة الأسد ، وهيئته وعبالة (٢) عنقه ، ومخالبه وأنيابه ، وما له من سائر ذلك من الصفات البادية لحواس الأبصار. ولئن كانت الشجاعة من أخص أوصاف الأسد وأمكنها ، لكن اللغة لم تضع الاسم لها وحدها ، بل لها في مثل تلك الجثة ، وتلك الصورة والهيئة ، وهاتيك الأنياب والمخالب ، إلى غير ذلك من الصور الخاصة في جوارحه ، جمع.

ولو كانت وضعته لتلك الشجاعة التي تعرفها لكان صفة لا اسما ، ولكان استعماله ، فيمن كان على غاية قوة البطش ونهاية جراءة المقدم ، من جهة التحقيق لا من جهة التشبيه ، ولما ضرب بعرق في الاستعارة إذ ذاك البتة ، ولانقلب المطلوب بنصب القرائن ، وهو منع الكلمة عن حملها على ما هي موضوعة له ، إلى إيجاب حملها على ما هي موضوعة له.

__________________

(١) في المثل : ألأم من مادر ، وهو جد بنى هلال بن عامر ، وفي الصحاح : هو رجل من هلال بن عامر بن صعصعة ؛ لأنه سقى إبله فبقى في أسفل الحوض ماء قليل ، فسلح فيه ، ومدر به حوضه بخلا أن يشرب من فضله : لسان العرب (مدر).

(٢) العبل : الضخم من كل شىء.

٤٧٨

وثانيهما : أنه ليس بلغويّ بل عقليّ نظرا إلى الدعوى ، فإن كونه لغويّا يستدعي كون الكلمة مستعملة في غير ما هي موضوعة له ، ويمتنع مع ادعاء الأسدية للرجل ، وأنه داخل في جنس الأسود ، فرد من أفراد حقيقة الأسد ، وكذا مع ادعاء كون الصبيح الكامل الصباحة أنه شمس ، وأنه قمر وليس البتة شيئا غيرهما أن يكون إطلاق اسم الأسد على ذلك ، عن اعتراف بأنه رجل ، أو إطلاق اسم الشمس أو القمر على هذا عن اعتراف بأنه آدمي ، لقدح ذلك في الدعوى. وقل لي : مع الاعتراف بأنه آدمي ، غير شمس وغير قمر في الحقيقة ، أن يكون موضع تعجب ،

قوله (١) :

قامت تظلّلني من الشمس ...

نفس أعزّ عليّ من نفسي

قامت تظللني ، ومن عجب ...

شمس تظللني من الشمس

أو موضع نهي عن التعجب ، قوله (٢) :

لا تعجبوا من بلى غلالته ...

قد زرّ أزراره على القمر

وقوله (٣) :

__________________

(١) أوردهما محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢١٠ وعزاهما لابن العميد ، وعبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص ٢٤٤ ، والرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٥٢ ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤١٥ ، والطيبى في التبيان (١ / ٢٩٨) بتحقيقى.

(٢) أورده عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغه ص ٢٤٦ ، والرازي في نهاية الإيجاز ص ٢٥٣ وهو لابن طباطبا العلوى ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٢٩ ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢١٠ ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤١٥.

(٣) أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص ١٣٠ وهو لأبي المطاع ناصر الدولة بن حمدان ، والجرجاني في الإشارات ص ٢١٠ ، والقزويني في الإيضاح ص ٤١٥ والعلوى في الطراز (١ / ٢٣١).

والمعاجر : مفرد المعجر. والعجار : ثوب تلفه المرأة على استدارة رأسها ثم تجلبب فوقه بجلبابها.

٤٧٩

ترى الثياب من الكتّان يلمحها ...

نور من البدر أحيانا فيبليها

فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ...

والبدر في كل وقت طالع فيها؟

ومع الإصرار على دعوى أنه أسد ، وأنه شمس ، وأنه قمر ، يمتنع أن يقال : لما تستعمل الكلمة فيما هي موضوعة له ، ومدار ترديد الإمام عبد القاهر ، قدس الله روحه ، لهذا النوع بين اللغوي تارة ، وبين العقلي أخرى على هذين الوجهين ، جزاه الله أفضل الجزاء ، فهو الذي لا يزال ينور القلوب في مستودعات لطائف نظره ، لا يألو تعليما ، وإرشادا ، لكنك إذا وقفت على وجه التوفيق بين إصرار المستعير على ادعائه الأسدية للرجل ، وبين نصبه في ضمن الكلام قرينة دالة على أنه ليس الهيكل المخصوص ، مصدقة عنده ، كشف لك الغطاء.

اعلم أن وجه التوفيق هو أن تبنى دعوى الأسدية للرجل على ادعاء أن أفراد جنس الأسد قسمان بطريق التأويل : متعارف ، وهو الذي له غاية جرأة المقدم ، ونهاية قوة البطش مع الصورة المخصوصة ؛ وغير متعارف : وهو الذي له تلك الجراءة وتلك القوة ، لا مع تلك الصورة ، بل مع صورة أخرى ، على نحو ما ارتكب المتنبي هذا الادعاء ، في عد نفسه وجماعته من جنس الجن ، وعد جماله من جنس الطير ، حين قال :

نحن قوم [ملجن](١) في زي ناس ...

فوق طير لها شخوص الجمال (٢)

مستشهدا لدعواك هاتيك بالمحيلات العرفية ، والتأويلات المناسبة ، من نحو حكمهم إذا رأوا أسدا هرب عن ذئب خ خ أنه ليس بأسد ، وإذا رأوا إنسانا لا يقاومه أحد خ خ أنه ليس بإنسان ، وإنما هو أسد ، أو هو أسد في صورة إنسان ، وأن تخصص تصديق القرينة بنفيها المتعارف الذي يسبق إلى الفهم ، ليتعين ما أنت تستعمل الأسد فيه ، ومن البناء

__________________

(١) يعنى : من الجن.

(٢) أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ٢١١ وعزاه للمتنبى ، والقزوينى في الإيضاح ص ٤١٦ وفيه [نحن قوم م الجن] والبيت من قصيدة له مطلعها :

صلة الهجر لى وهجر الوصال ..

نكسانى في السقم نكس الهلال

٤٨٠