مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

وقد منع عن صحة انعكاسها بوجوه : منها ، إن قيل ، إن قولنا : خ خ كل إنسان يمكن بالإمكان الخاص أن يكون كاتبا قضية صادقة ، وكل ما يمكن بالإمكان الخاص أن يكون ، يمكن أيضا لا يكون ، فإذن : كل إنسان يمكن بالإمكان الخاص أن لا يكون كاتبا ، وكل ما يمكن في وقت ، يمكن في كل وقت ، والألزم الانتقال من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ، وهو محال : فإذن : كل إنسان يمكن أن يكون دائما لا كاتبا ، وكل ممكن بأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال ، وليفرض صدق قولنا دائما : خ خ لا إنسان من الناس بكاتب ، فهذه سالبة دائمة غير ممتنعة ، مع أن عكسها ، وهو قولنا : لا كاتب واحد بإنسان خ خ ، كاذب ؛ فعلمنا أن هذه السالبة لا تنعكس ، والجواب عندي هو : أن ادعاء الكذب لقولنا : خ خ لا كاتب واحد بإنسان ، غير صحيح ، مع الفرض المقدم ذكره ، وذلك أن كذبه ، إن كان ، لم يكن إلا لأن الكتابة لا تنفك عن الإنسان ، إلا أن دعوى لا انفكاكها عنه إما أن يكون في الوجود ، أو في التصور ، أو فيهما معا. لكن ادعاء كذبه في الوجود الخارجي ، إنما يصح عند فرض وجود كاتب إنسان ، لكن صحة فرض وجود الكاتب الإنسان ، الذي هو عين وجود الإنسان ، لكاتب ، مع صحة الفرض المقدم محال ، فادعاء كذبه في الوجود لا يصح ، وادعاء كذبه في التصور لا يصح أيضا ؛ لأن قولنا دائما : لا إنسان من الأناسي بكاتب ، إن أريد الدوام المتناول لأوقات التصور والوجود ، استلزم الفرض المقدم ، فرض تصور الإنسان لا مع الكتابة في جميع أوقات التصور ، فادعاء كذبه إنما يثبت إذا صح تصور الكاتب للإنسان ، الذي هو عين تصور الإنسان الكاتب ، لكن صحة فرض ذلك مع صحة الفرض المقدم محال ، فادعاء كذبه في التصور لا يصح ، وإن خصص الدوام بأوقات الوجود الخارجي دون أوقات التصور ، فادعاء كذبه في الوجود لم يصح للفرض المقدم ، وادعاء كذبه في التصور لم يصح لعدم اتحاد مورد انفكاك اللإنسان عن الكاتب ، ولا انفكاك الكاتب عن الإنسان ، وإذا كان ادعاء كذبه في الوجود الخارجي لا يصح ، وفي التصور لا يصح ، كان ادعاؤه فيها لا يصح أيضا ، ومنها إن قيل : ما حاصله هو : إن من المحتمل أن يكون سلب الشيء عن الشيء دائما ممكنا ، ولا يكون سلب الآخر عن الأول ، ممكنا ، وجوابه عندي : أنه راجع إلى التقرير الأول ، ودفعه بما تقدم ، ومنها إن قيل : صحة انعكاسها دائمة ، يقدح في حقية ما اختاره المتأخرون ، من أن عكس المثبتة الضرورية يجب أن يكون ممكنة

٥٨١

عامة ، وذلك أنه ، إذا ثبت أن عكس المنفية الدائمة منفية دائمة قدح في حقية ما ذكر ، وهو أنه يقال : إذا صدق بالضرورة خ خ كل إنسان حيوان ، صدق بالإطلاق العام : بعض الحيوان إنسان ، وإلا فدائما : خ خ لا شئ من الحيوان بإنسان ، فينعكس دائما : خ خ لا أحد من الناس بحيوان. وقد كان بالضرورة : خ خ كل إنسان حيوان ، هذا خلف ، وجوابه : أنا نمنع ، أن الحق هو ما اختاره المتأخرون ، بناء على المقدمة السابقة ، وسنزيده إيضاحا عند عكس الضرورة.

أحكام العرفيات الخاصة :

وأما العرفيات الخاصة ، فالمثبتة الكلية منها تنعكس بعضية وكنفسها ، فإذا صدق : خ خ كل كاتب متحرك ، لا دائما ، بل ما دام كاتبا ، صدق : خ خ بعض المتحرك كاتب ، لا دائما ، بل ما دام متحركا ، وإلا صدق نقيضه ، وهو : دائما لا شيء من المتحرك بكاتب ، وتنعكس : دائما لا شيء من الكاتب بمتحرك ، وقد كان : كل كاتب متحرك ؛ وكذلك البعضية منها تنعكس بعضية بحكم الخلف.

وأما المنفية الكلية منها كقولنا : لا شيء من الأبيض بأسود ، لا دائما ، بل ما دام أبيض ، فتنعكس كلية ، بدلالة الخلف ، أو لا ، وكنفسها عرفية خاصة لا عرفية عامة بحكم الخلف أيضا ، ثانيا : وذلك أنّا إذا جعلنا العكس دائما ، لزم أن يكون عكس عكسها ، وهو الأصل دائما ؛ لأن عكس الدائم دائم ، بعد ما كان الأصل : لا دائما ، وهو الخلف الثاني ، وقيل : الصواب أنها تنعكس عرفية عامة ، واستدل لذلك بأنه يصدق ، لا شيء من الكاتب بساكن لا دائما ، بل ما دام كاتبا ، ولا يصدق : لا شيء من الساكن بكاتب لا دائما بل ما دام ساكنا ، فإن بعض ما هو ساكن ، سلب عنه الكاتب ما دام موجودا ، وهو الأرض ، وإنه عندي غير متجه ؛ لأنّا إذا قلنا : خ خ لا شيء من الساكن بكاتب لا دائما بل ما دام ساكنا ، كان معناه : لا شيء من الساكن بكاتب لا لدوام وجوده ، بل لدوام وصفه. ويكون الغرض من ذلك هو أنهما إن تصاحبا في

٥٨٢

الدوام ، فلا [تضف](١) الحكم إلى الذات ، ولكن إلى الوصف أضفه ، وحديث الأرض ليس شيئا غير الذي نحن فيه ، فإنّا ، إذا نفينا الكتابة عن الأرض ، لا ننفيها عنها لكونها موجودة ، بل لاعتقاد أن السكون لازم لها ، ولذلك إذا سلبنا عن نفوسنا هذا الاعتقاد ، وتوهمنا الأرض كاتبة ، لم تأب كونها كاتبة مع كونها موجودة ، فما ذكر من أن قولنا : لا شيء من الساكن بكاتب لا دائما بل ما دام ساكنا ، قول كاذب ، ليس بكاذب.

أحكام العرفيات المطلقة :

وأما الضروريات المطلقة ، فالمثبتة الكلية ، منها تنعكس بالاتفاق ، لكن بعضية لاحتمال عموم الخبر ، وكنفسها ضرورية مطلقة عند المتقدمين ؛ لأنه متى صدق أن : بالضرورة : خ خ كل كاتب إنسان ، لزم أن يصدق أن : بالضرورة خ خ بعض الأناسي كاتب ؛ لأنه متى كان : خ خ كل كاتب إنسان ، لزم أن يكون : خ خ كاتب واحد إنسانا. وليفرض أنه زيد ، فزيد بعينه كاتب ، وهو بعينه إنسان من الأناسي ، فكونه إنسانا ، إن استحال أن لا يكون كاتبا ، لزم أنه بالضرورة أن بعض الأناسى كاتب ، وإن لم يستحل أن لا يكون ، لزم أن بعض الكاتبين لا بالضرورة إنسان. وقد كان : أن بالضرورة خ خ كل كاتب إنسان ، ويلزم الخلف.

والمتأخرون أبوا كونها ضرورية ، وقالوا : نعلم أن بالضرورة كل كاتب إنسان ، ولا نعلم أن بالضرورة خ خ بعض الناس كاتب ، بناء على المتعارف العامي. ثم اختلفوا من بعد فذهب بعضهم إلى انعكاسها مطلقة عامة ، محتجا بأنه : إذا صدق أن بالضرورة خ خ كل كاتب إنسان يلزم أن يصدق خ خ بعض الناس كاتب بالإطلاق ، وإلا صدق نقيضه : خ خ لا إنسان دائما بكاتب ، ويصدق عكسه ؛ خ خ لا كاتب بإنسان ، وقد كان : خ خ كل كاتب إنسان ، هذا خلف. وذهب بعضهم إلى انعكاسها ممكنة عامة محتجا بأن عكس الضروري قد يكون ضروريا ، مثل : بالضرورة خ خ كل إنسان ناطق ، وبالضرورة

__________________

(١) في (د): (تضعف).

٥٨٣

خ خ كل ناطق إنسان ، وقد يكون ممكنا خاصا مثل بالضرورة خ خ كل ضاحك إنسان ، وبالإمكان خ خ كل إنسان ضاحك ، والقدر المشترك بين الضروري والممكن الخاص إنما هو الممكن العام ، لا المطلق العام. وعلى هذا الرأي الأخير أكثر المتأخرين ، ونحن على رأي المتقدمين.

وأما المنفية الكلية منها ، فتنعكس كلية وكنفسها ، فإذا كان : بالضرورة خ خ لا إنسان بفرس ، كان بالضرورة : لا فرس بإنسان ، وإنه مستغن عن نصب الدلالة عليه ، فإن قولنا : بالضرورة خ خ لا إنسان بفرس ، معناه أن الفرسية والإنسانية يستحيل اجتماعهما لذاتيهما ، فكما أن بالضرورة خ خ لا إنسان بفرس ، كذلك : بالضرورة خ خ لا فرس بإنسان ، ثم إن شئت الدلالة قلت : إن لم يصدق بالضرورة خ خ لا فرس بإنسان صدق نقيضه ، وهو : بالإمكان العام بعض الأفراس إنسان ، وكل ما بالإمكان العام ، لا يلزم من فرض وجوده على بعض التقديرات محال ، فليفرض : بعض الأفراس إنسان ، ويلزم الخلف بالطرق التي عرفت.

أحكام الضروريات :

وأما الضروريات بشرط وصف المبتدأ ، فالمثبتة الكلية منها تنعكس بعضية ، لكن ممكنة عامة ، على رأي أكثر المتأخرين ، للوجه المذكور. والرأي عندي : انعكاسها ضرورة بالطريق المسلوك في الضرورية المطلقة.

وأما المنفية الكلية منها : فتنعكس كلية ، وكنفسها. والألزم أن يصدق نقيضها ، وهو : إما الإثبات الدائم ، أو في بعض الأوقات ، وأيّا كان اجتمع الخبر مع الوصف في وقته ، ولا يكون النفي ضروريا في جميع أوقات الوصف ، وكان المفروض [ضروريته](١) في جميع أوقاته ، هذا خلف.

وأما الضروريات المشروطة بشرط اللادوام : فالمثبتة الكلية منها تنعكس بالاتفاق ، وعلى رأي أكثر المتأخرين : ممكنة عامة ، وعلى رأينا ضرورية.

__________________

(١) في (د) : ضرورية.

٥٨٤

وأما المنفية الكلية منها فتنعكس كلية ، ثم عند المتأخرين مطلقة عرفية ، للحجة التي حكيت عنهم في انعكاس العرفية الخاصة عرفية عامة ، ونحن إذ دفعنا حجتهم تلك ، نقول : تنعكس كنفسها.

والضروريتان الوقتيان أمرهما في الانعكاس في الإثبات وفي النفي على نحو أخواتهما في الضرورة.

أحكام الممكنات :

وأما الممكنات : فليس يجب لها في النفي عند المتأخرين عكس ، لما رأوا : أن الشيء قد يصح نفيه عن آخر بالإطلاق ، مثل : نفي الضاحك عن الإنسان في قولك : بالإطلاق خ خ لا إنسان بضاحك خ خ ، فإنه يصدق ، ولا يصح نفي الإنسان عن الضاحك بالإطلاق ، مثل : لا ضاحك بإنسان خ خ فإنه يكذب عندهم على ما سبق ، وأما في الإثبات فيجب لها عندهم عكس ، لكن الاحتمال عندهم أن يكون الثبوت بين الشيئين بالإمكان من جانب ، مثل : خ خ الجسم متحرك خ خ بالإمكان ، وبالضرورة من جانب آخر ، مثل : خ خ المتحرك جسم خ خ بالضرورة ، لا يجعل عكسها ممكنا خاصا ، بل يجعل عاما ليشمل نوعي الثبوت ، وإذا صدق الإمكان المطلق ، ولا بد عندهم من أن يكون عاما ؛ لأن الأصل ، وهو : بالإمكان خ خ كل إنسان صادق خ خ ، أو خ خ بعض الناس صادق خ خ ، بأي إمكان شئت ، يلزم أن يكون عكسه ، وهو : خ خ بعض الصادقين إنسان خ خ بالإمكان العام ، والا لزم أنه : ليس بممكن أن يكون صادق واحد إنسانا ، ويلزم بالضرورة خ خ لا إنسان بصادق خ خ ، وقد خ خ كان كل إنسان صادق خ خ ، أو خ خ بعض الناس صادق خ خ ، هذا خلف. إن جميع ذلك ، كما ترى ، على المتعارف العامي. وقد عرفت ما عندنا فيه.

ولما تقدم أن العكس يلزم فيه رعاية النفي والإثبات ، لا يستعملون لفظ العكس حيث لا مراعى لذلك ، فلا يقولون في مثل : بالإمكان الخاص يمكن أن لا يكون خ خ كل إنسان كاتبا خ خ ، عكسه : خ خ بعض الكاتبين إنسان خ خ ، بالإمكان العام ، كما يقولون في مثل : بالإمكان الخاص يمكن أن يكون خ خ كل إنسان كاتبا خ خ ، عكسه خ خ بعض الكاتبين إنسان خ خ بالإمكان العام ، وقد ظهر : أن تفاوت الجمل في العكس ؛ إذا وقع لا يقع في الكم ، وذلك في المثبتة الكلية فحسب.

٥٨٥

القسم الثاني : في عكس النقيض

وهو عند الأصحاب في النوع الخبري ، أعني غير الشرط ، عبارة عن جعل نقيض الخبر مبتدأ ونقيض المبتدأ خبرا ، مثل أن تقول في قولك : خ خ كل إنسان حيوان ، خ خ كل لا حيوان لا إنسان. وفي قولك : خ خ بعض الناس كاتب ، خ خ بعض ما ليس بكاتب ليس بإنسان ، وفي قولك : لا إنسان بفرس ، خ خ بعض ما ليس بفرس هو إنسان ، وحاصله عندي يرجع إلى نفي الملزوم بنفي لازمه في عكس المثبت ، وإلى إثبات اللازم بثبوت ملزومه في عكس المنفي ، فتأمل واستعن فيه ، إن شئت ، بما قدمت لك في فصل ترجيح الكناية على الإفصاح ، بالذكر ، من كيفية الانتقال من اللازم إلى الملزوم.

ولا نشترط ههنا ما شرطنا في عكس النظير ، من أن لا يخالف الأصل والإثبات أو النفي.

ولنبتدىء بعكس نقيض المطلقة العامة : في المشهور أن لها عكس نقيض من جنسها ، وأن ذلك يتبين بالخلف ، فيقال : إذا صدق كل مؤمن صادق ، صدق خ خ كل من ليس بصادق ليس بمؤمن ، أي خ خ بعض من ليس بصادق مؤمن ، فينعكس : خ خ بعض المؤمنين ليس بصادق ، وقد كان : خ خ كل مؤمن صادق هذا خلف. لكن حيث عرفت أن لا تناقض بين المطلقتين ، لم يخف عليك أن لا خلف. ولكن إذا بين بالمقدمة المذكورة صح ، ويظهر لك من هذا أنك : إذا اعتبرت الدوام في أحد الجانبين ، أمكنك بيان عكس النقيض بالخلف ، فمتى صدق : خ خ كل مؤمن صادق ، صدق لا محالة : خ خ كل لا صادق دائما لا مؤمن ، بصفة الدوام ؛ وإنما قلنا : بصفة الدوام ؛ لأنه : إن صح ، ولو في وقت واحد ، لزم خلف.

وحاصله عندي هو : أن اللازم متى انتفى على الدوام ، انتفى الملزوم على الدوام.

وأما الضرورية المطلقة فهي تنعكس كنفسها ؛ لأن اللازم بالضرورة متى انتفى انتفى بالضرورة الملزوم ، ويندرج في ذلك سائر الضروريات.

وأما الممكنات : فمتى جعلت الإمكان جزء من الخبر ، انعكست ؛ لأنها حينئذ تلتحق بالضرورية ، لكون الإمكان لكل ممكن ضروريا له.

٥٨٦

تركيب الدليل :

وحيث كشفت لك القناع ، ونبهتك على ذلك بما أوردت ، عرفت أن التعرض للزيادة على المذكور تكرار محض ، والتكرار وظيفة المستفيد لا المفيد ، وإذ قد تلونا عليك في فصلي : التناقض والانعكاس ما تلونا ، لم يخف عليك إذا استحضرت مضمونهما : أن سابقة الدليل ولاحقته ، متى جعلتا مطلقتين ، امتنع أن تدل ، اللهم إلا في باب الإمكان ، وأنهما إذا اختلفتا في الأحوال : من الدوام واللادوام ، والضرورة واللاضرورة ، وامتزجتا في الدليل ، لزم اختلاف حال الحاصل منه ، فوجب أن ننبهك ، في عدة امتزاجات ، على كيفية تعرض الاعتبارات لحال الحاصل ، ثم نشرع بعد المفصلين الموعودين في : تركيب الدليل من شرطيتين معا ، وشرطية إحداهما دون الأخرى ؛ لكن الكلام في ذلك يستدعي مزيد ضبط لما تقدم ، فنقول :

إن الدليل في الصورة الأولى ، في ضرورياتها الأربعة ، مستبد بالنفس ، لا يحتاج إلى موضح لكمال اتضاحه لرجوعه : في الإثبات إلى أن : لازم لازم الشيء لازم لذلك الشيء بواسطة ، وفي النفي إلى أن : معاند لازم الشيء معاند لذلك الشيء بواسطة.

وأما في الثانية والثالثة والرابعة ، فمتى افتقر إلى معونة في الإيضاح أوضحناه ، إما بما قدمنا ذكره في تلخيص الخلاصة ، وإما بما عليه الأصحاب من الرد إلى الأولى ، تارة بوساطة العكس ، وأخرى بوساطة : الافتراض ، وهو تقدير البعض كلا لأفراده على ما سبق وثالثة بهما ، وإما بالخلف.

أما الرد ، فكما إذا كان الدليل من الضرب الأول من الثانية ، مثل : كل منصرف معرب ، ولا شيء من المثنى بمعرب ، فلا شيء من المنصرف بمثنى. فتعكس اللاحقة ، فيرتد إلى الضرب الثالث من الأولى ، ويحصل الحاصل بعينه.

وهذا العمل يعرف بذي عكس واحد ، لعكس يجرى في ضمن الدليل.

وأما الخلف ، فمثل أن تقول : إن لم يصدق : لا شيء من المنصرف بمبني صدق نقيضه ؛ وهو : بعض المنصرف مبني. وتضم إليه اللاحقة فيتركب دليل من الضرب الرابع ، من الأول ، هكذا : بعض المنصرف مبني ، ولا شيء من المبنيات بمعرب ، فيحصل : لا كل منصرف معرب. وقد كان : كل منصرف معرب ، وذلك أن تعكس

٥٨٧

النقيض فتقول : بعض المبني منصرف ، وتضم إليه السابقة لاحقة ، فيتركب دليل من الضرب الثاني من الأول ، هكذا : بعض المبني منصرف ، وكل منصرف معرب ، فيحصل : بعض المبنيات معرب. وقد كان : لا شيء من المبني بمعرب.

أو كما إذا كان الدليل من الضرب الثاني من الثانية ، مثل : لا شيء من المبنيات بمعرب ، وكل منصرف معرب ، فلا شيء من المبنيات بمنصرف ، فتعكس السابقة ثم تصير لاحقة ، فيتركب دليل من الضرب الثالث من الأول ، هكذا : كل منصرف معرب ، ولا شيء من المعربات بمبني ، فيحصل ، لا شيء من المنصرف بمبني ، ثم تعكس الحاصل فيحصل : لا شيء من المبنيات بمنصرف. ويعرف هذا العمل بذي العكسين : بعكس يجري في ضمن الدليل ، وعكس يجري في الحاصل منه.

وإن شئت الخلف بالطريقين قلت : فإن كذب : لا شيء من المبنيات بمنصرف ، صدق نقيضه ، وهو : بعض المبنيات منصرف ، وعندنا : كل منصرف معرب ، فيحصل منهما : بعض المبنيات معرب. وقد كان : لا شيء من المبنيات بمعرب ، أو عكست النقيض ، فقلت : بعض المنصرف مبني ، وعندنا : لا شيء من المبنيات بمعرب ، فيحصل : بعض المنصرف ليس بمعرب ، وقد كان : كل منصرف معرب.

وأما الافتراض ، فكما إذا كان الدليل من الضرب الرابع من الثانية ، مثل : بعض الكلم ليس بمعرب ، وكل منصرف معرب ، فبعض الكلم ليس بمنصرف. فتفرض البعض المبني من الكلم نوعا وقدره الغايات ، واجعله كلا ، فقل : لا شيء من الغايات بمعرب ، ثم اعمل عمل ذي العكسين فقل : كل منصرف معرب ، ولا شيء من المعرب بغاية ، يحصل : لا شيء من المنصرفات بغاية ، ثم اعكس الحاصل ، يحصل : لا شيء من الغايات بمنصرف. وهو عين معنى : بعض الكلم ليس بمنصرف. وإنما يصار إلى الافتراض ؛ لامتناع اللاحق في الصورة الأولى ، بعضية على ما عرفت.

وأما الخلف فهو إن كذب : لا شيء من الغايات بمنصرف ، صدق : بعض الغايات منصرف. ويضم إليه ، وكل منصرف معرب ، فيحصل بعض الغايات معرب. وقد كان : لا شيء من الغايات بمعرب ؛ ولك أن توجه الخلف بالطريق العكسي على ما تكرر ، وهو أن تعكس النقيض فتقول : بعض المنصرف غاية ، وعندنا : لا شيء من

٥٨٨

الغايات بمعرب ، فيحصل منه بعض المنصرف ليس بمعرب ، وقد كان : كل منصرف معرب.

أو كما إذا كان الدليل من الضرب الأول من الثالثة ، مثل كل حرف كلمة ، وكل حرف مبني ، فبعض الكلم مبني. فتعكس السابقة ، ويرتد الدليل إلى الضرب الثاني من الأول ، أو تسلك الخلف قائلا : إن لم يصدق بعض الكلم مبني ، صدق لا شيء من الكلم بمبني. وقد كان معنا : كل حرف كلمة ، ولا شيء من الكلم بمبني ، فيحصل : لا شيء من الحروف بمبني ، وقد كان كل حرف مبني ، أو تسلكه بالطريق العكسي.

وكما إذا كان الدليل من الضرب الثالث من الثالثة ، مثل : كل اسم كلمة ، وبعض الأسماء معرب ، فبعض الكلم معرب. فتعكس اللاحقة وتجعلها سابقة ، فتقول : بعض المعربات اسم ، وكل اسم كلمة ، فبعض المعربات كلمة. ثم تعكس الحاصل فيحصل : بعض الكلم معرب.

أو تسلك الخلف فتقول : وإلا فلا شيء من الكلم بمعرب ، وتضم إليه سابقة الدليل سابقة ، فيحصل من ذلك : لا شيء من الأسماء بمعرب ، وعندنا : بعض الأسماء معرب. أو تقول ، بعض العكس لنقيض الحاصل : فلا معرب بكلمة ، وتضم إليه لاحقة الدليل سابقة ، فيحصل من ذلك : بعض الأسماء ليس بكلمة ، وعندنا : كل اسم كلمة.

أو كما إذا كان من الضرب الخامس من الثالثة ، مثل : بعض الأفعال وارد على خمسة أحرف ، ولا شيء من الأفعال بخماسي ، فلا كل وارد على خمسة أحرف خماسي. فترد إلى الرابع من الأولى بعكس السابقة ، مثل : بعض الوارد على خمسة أحرف فعل ، ولا شيء من الأفعال بخماسي ، فلا وارد على خمسة أحرف خماسي. أو إلى الثالث من الأولى ، بالعكس مع الافتراض ، مثل كل وارد على بناء تفوعل فعل ولا شيء من الأفعال بخماسي ، فلا شيء من الوارد على تفوعل خماسي ، وهو عين معنى : فلا كل وارد على خمسة أحرف خماسي. أو تبين الخلف بطريقيه مثل : إن لم يصدق لا كل وارد على خمسة أحرف خماسي ، صدق كل وارد على خمسة أحرف خماسي ، وعندنا : بعض الأفعال وارد على خمسة أحرف ، فتجعل سابقة ، ويتركب الدليل هكذا : بعض الأفعال وارد على خمسة أحرف ، وكل وارد على خمسة أحرف خماسي ، فيحصل :

٥٨٩

بعض الأفعال خماسي وقد كان لا شيء من الأفعال بخماسي. والطريق الآخر معلوم.

أو كما إذا كان الدليل من الضرب الأول من الرابعة ، مثل : كل اسم كلمة ، وكل موصول اسم ، فبعض الكلم موصول : فتجعل السابقة لاحقة فتقول : كل موصول اسم ، وكل اسم كلمة ، فيحصل : كل موصول كلمة ، ثم تعكس الحاصل فيحصل : بعض الكلم موصول.

وإن شئت الخلف قلت وإلا فلا شيء من الكلم موصول ، وتجعله لاحقة لسابقة الدليل المتقدم ، فتقول : كل اسم كلمة ، ولا شيء من الكلم بموصول ، فيحصل : لا شيء من الأسماء بموصول. وعندنا ، بحكم العكس لسابقة الدليل المتقدم : بعض الأسماء موصول ، فالخلف لازم.

وكذا إذا كان من ضربها الخامس مثل : لا شيء من الكلم بمهمل ، وكل فعل كلمة ، فلا شيء من المهمل بفعل : تقول : كل فعل كلمة ، ولا شيء من الكلم بمهمل ، فلا شيء من الأفعال بمهمل. فلا شيء من المهمل بفعل ، وخلفه أن تقول و: إلا ، فبعض المهمل فعل ، وتجعله سابقة لقولك : كل فعل كلمة ، فتقول : بعض المهملات فعل ، وكل فعل كلمة ، فبعض المهملات كلمة ؛ وعندنا ، بحكم العكس لسابقة الدليل المتقدم : لا شيء من المهملات بكلمة ، هذا خلف.

وكذا إذا كان من ضربها الثاني مثل : كل اسم دال على معنى ، وبعض الألفاظ اسم ، فبعض الدال على المعنى لفظ ، تقول : بعض الألفاظ اسم ، وكل اسم دال على معنى ، فيحصل : بعض الألفاظ دال على معنى ، ثم تعكس الحاصل ، فيحصل : بعض الدال على المعنى لفظ ، وخلفه ، على ما عرفناك ، تقول : وإلا : فلا شيء من الدال على المعنى بلفظ ، وتجعله لاحقة لقولك : كل اسم دال على المعنى ، فيحصل : لا شيء من الأسماء بلفظ. ثم تقول ، وعندنا بحكم العكس للاحقة أصل الدليل : بعض الأسماء لفظ. ويلزم الخلف.

وكذا إذا كان من ضربها الثالث ، مثل : كل منصرف معرب ، ولا شيء من الأفعال بمنصرف ، فلا كل معرب فعل. تعكس الجملتين. وإنه من قبيل ذي عكس واحد ؛ لبقاء السابقة سابقة ، واللاحقة لاحقة ، فتقول : بعض المعرب منصرف ، لا شيء من المنصرف

٥٩٠

بفعل فيحصل : لا كل معرب فعل.

وقد عرفناك الطرق فاسكلها بنفسك ، ومتى أتقنت ما ذكر ، أمكنك تحصيل المطالب بطرق معلومة مضبوطة الأسماء ، وقد انضم إلى ذلك ما اخترنا نحن في عكوس الجمل ، من بقاء جهاتها محفوظة على ما سبق تقرير ذلك.

تفاوت الامتزاجات بين المتقدمين والمتأخرين :

ونحن إن [نسوق] الكلام إلى الآخر ، على أقرب الوجوه وأدخلها في الضبط أمكن ، ولكن في البين واقع يورث تشويشا ، فلا بد من تداركه ، وهو : أن بين المتقدمين والمتأخرين في الامتزاجات تفاوتا في الحكم يقدح في ضبط الكلام في مواضع ، ويشوش الأمر على المتعاطين ، فالرأي : أن نطلعك على السبب في وقوع التفاوت ، ثم نصرح لك بما نحن فاعلوه هناك من اختيار الأقرب إلى الضبط ، والعمل بالأليق.

اعلم أن التفاوت بين رأي المتقدمين ورأي المتأخرين حيث وقع ، وقع ؛ لأن المتقدمين لأجل تطلب الضبط اختاروا في الحاصل من الدليل أقل ما يلزم منه ، أعني : أعم الاحتمالين ، ولعمري ، ما فاتهم فائت ، وقد حصلوا على قانون مضبوط ، وهو جعل الحاصل تابعا لأعم جملتي الاستدلال ، إلا فيما كان اللازم من الدليل في الظهور مساويا لأقل ما يلزم منه ، وما ركبوا في اختيارهم لما اختاروه نوع بدعة. كيف ، وإن مبني الدليل كما عرفت على استفادة اليقين منه؟ والتشبث بأقل ما يلزم في باب اكتساب اليقين مما له قدم صدق في ذلك.

وأما المتأخرون : فقد بنوا رأيهم على ما يلزم من الدليل البتة ، من غير محاباة وغير التفات إلى مطلوب آخر في البين.

ونحن ، على أن نوفق بين الرأيين ، فنأخذ أقل ما يلزم من الدليل ابتداء ، ثم ننظر في الزيادة المحتملة ، إن وجدناها لازمة أخذناها أجزاء ، وهذا حين أن نشرع في الامتزاجات ، ذاكرين منها عدة أمثلة ليستعان بها فيما سواها.

٥٩١

أما الصورة الأولى ، فإذا ركبت الدليل فيها من سابقة دائمة ، ولاحقة مطلقة عامة ، مثل ما إذا قلت : خ خ كل إنسان ما دام موجود الذات ضحاك أي له قوة الضحك ؛ خ خ وكل ضحاك ضاحك بالفعل بالإطلاق ، كان الحاصل مطلقا بالاتفاق ، وهو : خ خ كل إنسان ضاحك بالفعل. وإذا قلبت ، فجعلت السابقة مطلقة عامة ، واللاحقة دائمة ، مثل ما إذا قلت : خ خ كل إنسان ضاحك بالفعل بالإطلاق ، وخ خ كل ضاحك بالفعل ما دام موجود الذات ضحاك ، أطلقنا الحاصل ابتداء ، ثم ننظر فنرى في اللاحقة الخبر ، لكونه مقيدا بدوام وجود الذات ، راجعا إلى تقييد ذات وجود الموصوف بالدوام ، دام له الوصف أو لم يدم ، فننقل الحاصل [من](١) الإطلاق إلى الدوام أجزاء ، ونقول اللازم : خ خ كل إنسان ما دام موجود الذات ضحاك.

و [كما](٢) عرفت هذا في الدائمة ، يجب أن تعرفه في الضرورية المطلقة ، بأن تجعل الحاصل مطلقا إذا ركبت الدليل من : سابقة ضرورية مطلقة ، ولاحقة عامة مطلقة ، مثل قولك : خ خ الله عز اسمه حي بالضرورة ، وخ خ كل حي مدرك للمدرك بالإطلاق ، فالله عز اسمه مدرك للمدرك بالإطلاق. وإذا قلبت فقلت : مثلا خ خ الإنسان ضاحك بالفعل بالإطلاق ، وخ خ الضاحك بالفعل ضحاك بالضرورة ، حصل الإطلاق ، أولا ، والضرورة ثانيا بالطريق المذكور.

وإذا ركبته فيها من : سابقة ضرورية مطلقة ، ولاحقة عرفية ، مثل ما إذا قلت : خ خ كل جسم بالضرورة متحيز ، وكل متحيز ما دام متحيزا كائن في جهة ، فلكون اللازم منه ، وهو الضرورة في الحاصل ، مساويا في الظهور لأقل ما يلزم ، وهو الدوام ، جعلنا الحاصل ضروريا من غير تدريج.

ويمتنع تركيبه فيها من السابقة الضرورية المطلقة ، واللاحقة العرفية الخاصة ؛ لامتناع اجتماعهما في الصدق ، فتأمل. وإنما أوصيك لتحريك بعض الأصحاب قلمه هنا بنوع من الاعتراض.

__________________

(١) في (غ ، د): (عن).

(٢) في (غ ، د) كلما.

٥٩٢

وكذا يمتنع تركيبه فيها من : سابقة دائمة ، ولاحقة عرفية خاصة ، لمثل ذلك.

وإذا ركبته فيها من سابقة ممكنة ، ولاحقة ضرورية ، مثل ما إذا قلت : خ خ كل إنسان متحرك بالإمكان ، وخ خ كل متحرك جسم بالضرورة ، حكمنا بالتدريج قائلين ابتداء : خ خ كل إنسان جسم بالإمكان ثم بالضرورة ثانيا :

وإذا ركبته فيها من : سابقة مطلقة ، ولاحقة ممكنة عامة ، أو بالقلب ، وهو : من سابقة ممكنة عامة ، ولاحقة مطلقة ، فقلت : خ خ كل عاقل مفكر بالإطلاق ، وخ خ كل مفكر واصل إلى الحق بالإمكان العام ، أو قلت : خ خ كل مسيء نادم بالإمكان العام ، وخ خ كل نادم تائب بالإطلاق ، كان الحاصل أعم الاحتمالين ، وهو : الإمكان العام ، لاحتمال الإطلاق الضرورية.

وأما الصورة الثانية ، فحال الامتزاجات فيها ـ على رأينا ـ في بقاء الجهات محفوظة في العكس ، على نحو حالها في الصورة الأولى من غير تفاوت ؛ لارتدادها إليها بوساطة عكس اللاحقة في ضربيها الأول والثالث من غير زيادة عمل ، وبوساطة السابقة وجعلها لاحقة ، ثم عكس الحاصل في ضربها الثاني بوساطة الافتراض ، والعكس في السابقة وجعلها لاحقة ، ثم عكس الحاصل في ضربها الرابع.

وحين عرفت أن هذه الصورة لا تصلح إلا للنفي ، وقد نبهت على أن النفي إما أن يكون : نفيا للإثبات ، أو نفيا لخصوصية في الإثبات ، كالضرورة وكالدوام ، أو نفيا لخصوصية في النفي لمثل ذلك ، عرفت لا محالة : أن تركيب الدليل فيها من منفيتين معا ، أو من مثبتتين معا ، إذا اختلفتا في الخصوصية لم يكن ممتنعا.

والصورة الثالثة أيضا ، لارتدادها إلى الأولى بعكس السابقة في ضروبها الأربعة : الأول والثاني والرابع والخامس وبالافتراض في اللاحقة في ضربها الثالث ، أو عمل العكسين ، وبالافتراض في اللاحقة لا غير في ضربها السادس.

واعمل في الصورة الرابعة في ردها إلى الأولى بالطرق التي علمت ، فإنا ما اجتهدنا في حفظ الجهات في باب العكس ، إلا لهذا المقام ، والمتأخرون ما وقعوا في التطويلات ، وتدوينهم لما دونوا من الأسفار ، إلا لعدو لهم في العكس عن حفظ الجهة ، وأول حامل حملهم ، فيما أرى ، على العدول عنه : المتعارف العامي ، ثم سائر ما حكينا عنهم في مواضع.

٥٩٣

وإن هذا النوع ، نوع متى اضطرب شيء منه ، استتبع اضطرب أشياء ، فاعلم.

خاتمة :

وحاصل الأمر أنك حين عرفت أن العكس حافظ للجهة ، وأن الحاصل من الصور الثلاث : الثانية ، والثالثة ، والرابعة ، يمكن تحصيله منهن على نحو تحصيله من الأولى من غير تفاوت ، بالطرق المذكورة ، وهي : الافتراض والعكس والعكسان ، فمتى أتقنت حال الامتزاجات في الصورة الأولى ، أغناك ذلك فيما عداها بسلوك الطرق المعلومة ، عن استئناف تأمل في الحاصل من امتزاجاتهن ، وليكن هذا آخر كلامنا في هذا الفصل.

٥٩٤

[الباب](١) الثاني

في الاستدلال الذي جملتاه شرطيتان

إنك بعد أن وقفت على خواص تراكيب الاستدلالات في الفصل السابق ، مع أصولها المحتاج إليها ، وفروعها اللائقة بها ، لا نراك تفتقر في هذا الفصل إلا إلى مجرد الوقوف على الأحوال في الشرط : من الإثبات والنفي ، والتقييد بالكل والبعض والإهمال ، ومن التناقض والانعكاس. فحري بنا أن نوقفك على ذلك فنقول وبالله التوفيق.

أما الشرط ، فقد وقفت على كلماته في علم النحو ، وعلى تحقيقه في علم المعاني ، فلا نعيد ذلك. ولكن الأصحاب ألحقوا بكلمات الشرط : خ خ كلما ، وإن كانت أصول النحو تأبى ذلك ، لما تقرر أن كلمات الشرط حقها أن تجزم ، وليس هو من الجزم في شيء ، وإنما هو : (كل) الشمول ، قد دخل على : (ما) المصدرية المؤدية معنى الظرف ، على نحو : خ خ أتيتك مقدم الحاج ، وانتصب في قولك : خ خ كلما أكرمتني أكرمتك ، لإضافته إلى الظرف ، مفيدا معنى : خ خ كل وقت إكرامك إياي أكرمك.

واصطلحوا في كلمة : الترديد ، وهي إما على تسميتها كلمة شرط ، وليس من الشرط في شيء ، وإنما حاصله ترديد المبتدأ ، قبل دخول العوامل وبعده ، بين خبرين أو أكثر ، كقولك : خ خ زيد إما قائم ، وخ خ إما قاعد ، وخ خ إما ، وإما .. وخ خ إن زيدا إما قائم ، وإما قاعد ؛ وخ خ كان زيد إما قائما ، وإما قاعدا ؛ وأظن زيدا إما قائما وإما قاعدا ... وكقولك : خ خ زيد إما أن يكون قائما وإما أن يكون قاعدا ، إذ أصل الكلام ، بوساطة أصول النحو وعلم المعاني ، حال زيد إما كونه قائما ، وإما كونه قاعدا. أي حاله : إما القيام وإما القعود ، وكقولك : خ خ إما أن يكون زيد قائما وإما أن يكون قاعدا. إذ أصل الكلام الواقع : إما كون زيد قائما ، وإما كونه قاعدا ، أي الواقع إما قيام زيد وإما قعوده.

__________________

(١) في (غ ، د) : الفصل.

٥٩٥

أقسام الشرط :

أو ترديد الخبر بين المخبر عنهما ، أو أكثر ، كقولك : خ خ جاءني إما فلان وإما فلان وإما فلان. وجعلوا الشرط قسمين : شرط انفصال : وهو ما أدي بإما على نحو : هذا الاسم إما أن يكون معربا وإما أن يكون مبنيا ؛ وشرط اتصال هو ما عداه.

والأصحاب ، حين سبقونا إلى التعرض لهذا الجزء من علم المعاني ، أعني علم الاستدلال ، ونراهم ما آلوا فيه جهدا ، آثرنا أن نتبعهم في ذلك مسامحين ، قضاء لحق الفضل لهم :

فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ...

[بسعدى](١) شفيت النفس قبل التندّم

ولكن بكت قبلي ، فهيج لي البكا ...

بكاها ، فقلت : الفضل للمتقدم

أحوال الاستدلالات في الشرط :

اعلم أن الإثبات في الشرط هو : كون الاتصال والانفصال قائما. فالاتصال كقولك : خ خ إن أكرمتني أكرمتك ، وخ خ إن لم تهني لم أهنك ، وخ خ إن أكرمتني لم أهنك ، أو خ خ إن لم تهني أكرمتك ، والانفصال كقولك : خ خ إما أن يقوم زيد ، وخ خ إما أن يقوم عمرو ، وخ خ إما أن لا يقوم زيد ، وخ خ إما أن لا يقوم عمرو ، أو خ خ إما أن يقوم زيد وخ خ إما أن لا يقوم عمرو ، وخ خ إما أن لا يقوم زيد وخ خ إما أن يقوم عمرو.

وأما النفي فيه ، فهو سلب الاتصال أو الانفصال ، كقولك : خ خ ليس إن أكرمتني أهنك ، أو ليس خ خ إما أن يقوم زيد ، وخ خ إما أن يقوم عمرو.

والإثبات الكلي في الشرط هو عموم الاتصال ، كقولنا : خ خ كلما أكرمتني أكرمتك أو دائما خ خ إن أكرمتني أكرمتك ، أو عموم الانفصال ، كقولك : دائما خ خ إما أن يكون زيد كاتبا ، وخ خ إما أن يكون قارئا.

والنفي الكلي فيهما هو عموم الاتصال أو الانفصال على وجه يسد الطريق إلى

__________________

(١) في (بعض النسخ): (بعدى).

٥٩٦

تحققهما ، كقولك : خ خ ليس البتة إذا أساء زيد عفوت عنه ، وخ خ ليس البتة إما أن تأتيني ، وخ خ إما أن آتيك.

والإثبات البعضي فيهما بخلاف الكلي ، كقولك : خ خ قد يكون إذا جاء زيد جاء عمرو ، وخ خ قد يكون زيد إما كاتبا وإما قارئا.

والنفي البعضي (ليس كلما) وليس دائما.

والإهمال هو إطلاق الحكم بالاتصال أو الانفصال من غير تعرض للزيادة ، كقولك : خ خ إن قام زيد قام عمرو ، وخ خ إما أن يقوم زيد وخ خ إما أن يقوم عمرو ، خ خ وليس إذا كان كذا كان كذا ، خ خ وليس إما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا.

وأما أمر التناقض فيه فعلى نحو ما سبق ، يوضع في مقابلة : كلما كان ، ليس كلما كان ، وفي مقابلة : دائما إما ، وإما ليس دائما إما وإما ، وفي مقابلة ليس البتة ، في المتصل وفي المنفصل ، قد يكون.

وأما العكس فله في الشرط المتصل وجه ، وهو جعل الجزاء شرطا ، والشرط جزاء ، دون المنفصل. وحكم العكس على ما سبق المثبت الكلي أو البعضي : مثبت بعضي ، والمنفي الكلي : منفي كلي.

تركيب الشرط في الاستدلال :

واعلم أن تركيب الشرط يتفاوت ، فتارة يكون من خبريتين نحو : متى كانت الكلمة استعارة كانت مجازا مخصوصا. وتارة من خبرية وشرطية ، إما متصلة ، نحو : إن أريد بالكلمة الحقيقة ، فمتى استعملت لم تحتج إلى قرينة ، وإما منفصلة ، نحو : إن أريد بالكلمة الحقيقة ، فإما أن تكون حقيقة بالتصريح ، وإما أن تكون كناية ، وتارة من شرطية متصلة وخبرية ، نحو إن كان متى كانت الاستعارة على سبيل الكناية لزمتها استعارة تخييلية ، كان بين هاتين الاستعارتين مزيد تعلق ، وتارة من شرطية منفصلة وخبرية ، نحو : إما أن تكون هذه الكلمة إما استعارة أصلية أو استعارة تبعية ، وإما أن لا تكون استعارة أصلا ، وتارة من شرطيتين متصلتين ، نحو : إن كان متى كانت الكلمة مجازا ، كانت مسبوقة بحقيقة لم تكن مجازا ؛ أو منفصلتين ، نحو : إما أن يكون هذا

٥٩٧

المستعمل إما حقيقة بالتصريح وإما كناية ، وإما أن يكون إما مجازا مرسلا وإما استعارة. وتارة تكون من متصلة ومنفصلة نحو : إن كان كلما كانت الكلمة مستعملة في معناها ، فهي حقيقة ، فإما أن تكون الكلمة حقيقة ، وإما أن لا تكون مستعملة في معناها ، وتارة من منفصلة ومتصلة ، نحو : إما أن تكون الاستعارة إما أن تكون لغوية ، وإما أن تكون عقلية ، وإما أن تكون متى كانت الاستعارة لم تكن إلا لغوية ، وتارة تكون من شرطيات ، نحو : إن كان الناطق لازما مساويا للإنسان ، صح إن كان متى كان كلما كان هذا إنسانا فهو ناطق ، كان كلما كان ناطقا فهو إنسان ، فيكون متى كان كلما لم يكن أن يكون إنسانا لم يكن أن يكون ناطقا ، كان كلما لم يكن أن يكون ناطقا لم يكن أن يكون إنسانا ، فهذه عشرون جملة خبرية صارت جملة واحدة شرطية.

حقيقة الاتصال :

واعلم أن الاتصال يسمى حقيقيا ، متى كان بحيث يلزم من تحقق الشرط تحقق الجزاء ، نحو : إن كانت اللفظة موضوعة للمعنى فهى كلمة ، وإن كانت كلمة فهي موضوعة للمعنى ، أو إن كانت اسما فهي كلمة ، أو إن لم تكن كلمة لم تكن اسما.

ويسمى غير حقيقي متى لم تكن كذلك ، كما إذا قلت : إن كان الاسم علما فهو مرتجل ، كحمدان وعمران وغطفان ، وإن كان العلم مرتجلا فهو غير قياسي : كموظب ومكوزة ومحبب وحيوة.

حقيقة الانفصال :

وأما الانفصال فالحقيقى : هو ما يراد به المنع عن الجمع وعن الخلو معا ، كقولك : كل اسم فإما أن يكون معربا وإما أن يكون مبنيا ، فلا شيء من الأسماء يجمع عليه الإعراب والبناء معا ، أو يسلبان عنه معا.

وغير حقيقي : هو ما يراد به المنع عن الجمع فحسب ، كقولك ، لمن يقول في ضمير أنه منفصل مجرور ، الضمير إما أن يكون منفصلا وإما أن يكون مجرورا ، تريد أن الانفصال والانجرار لا يجتمعان لضمير ، لا أنهما لا يرتفعان عنه ، كيف والمتصل المرفوع أو المنصوب في البين ، أو ما يراد به المنع عن الخلو ، كقولك لهذا القائل : الضمير إما أن لا يكون منفصلا وإما أن لا يكون مجرورا ، تريد أنه لا يخلو عنهما معا ، أعني عدم كونه

٥٩٨

منفصلا ، وعدم كونه مجرورا ؛ لأنه بتقدير خلوه عن عدمهما معا يستلزم اتصافه بوجودهما معا ؛ لامتناع الواسطة بين وجود الشيء وعدمه ، فيكون منفصلا مجرورا معا.

ثم في كلام العرب تراكيب للجمل في غير الشرط ، إذا تأملتها وجدتها تنوب مناب الشرطيات ، كقولك : لا يتوب المؤمن عن الخطيئة ويدخل النار ، بواو الصرف ، ينوب هذا عن الشرطي المتصل مناب : إن تاب المؤمن عن الخطيئة لم يدخل [النار](١) ، ومن المنفصل مناب : إما أن لا يتوب وإما أن يدخل النار ، وكقولك : لا أخليك أو تؤدي إلى الحق ، بالنصب ، ينوب هذا عن الشرطي المتصل مناب : إن لم أخلك أديت إلى الحق ، ومن المنفصل مناب إما أن لا تكون تخلية وأما أن يكون أداء ، وكقولك إن شئت : ليس يتوب المؤمن عن الخطيئة إلا ويدخل الجنة.

وفي أمثال هذه التراكيب كثرة فمن أحب الاطلاع عليها ، فليخدم علم النحو ، وما سبق من علم المعاني.

قانون الشرطيات :

والقانون في الشرطيات المتصلة أن تنزل الشرط منزلة المبتدأ ، والجزاء منزلة الخبر ، ثم تركب الدليل منها ، على نحو ما سبق من الصور الأربع ، مراعيا الشروط المذكورة ، المصيرة للضروب الستة عشر في كل من الأربع ، إلى ما عرفت من الأربعة والأربعة والستة والخمسة.

وأما الشرطيات المنفصلة ، فليست إلا خبريات ، على ما عرفناك من الأصل في خ خ أما لا فرق ، إلا أن في الخبريات ، في النفي أو في الإثبات ، تعين الخبر للمبتدأ ، والمنفصلة لا تعينه ، وإنما تجعله أحد ما تعدد فتركب الدليل منها على نحو تركيبه من الخبريات ، ووضع الدليل إما أن يكون من شرطتين متصلتين ، أو منفصلتين ، أو من سابقة متصلة ولاحقة منفصلة ، أو بالعكس : فهذه أقسام أربعة. ونحن نورد من كل واحد منها مثالا ، في كل واحدة من الصور ، في ضرب واحد ، ليقاس عليه سائر الضروب.

__________________

(١) من (غ).

٥٩٩

صور الاستدلال الذي جملتاه شرطيتان :

الصورة الأولى :

نقول في الأولى من القسم الأول : كلما كانت الكلمة مستعملة في معناها كانت حقيقة بالتصريح ، وكلما كانت حقيقة بالتصريح ، كانت في الاستعمال مستغنية عن قرينة ، فيحصل : كلما كانت مستعملة في معناها ، كانت في الاستعمال مستغنية عن قرينة.

ومن القسم الثاني : دائما كل مزيد ؛ إما أن يكون مزيدا للإلحاق ، وإما أن يكون مزيدا لغير الإلحاق ، ودائما كل مزيد للإلحاق إما أن يكون ملحقا بالرباعي ، وإما أن يكون ملحقا بالخماسي ، ودائما كل مزيد لغير الإلحاق إما أن يكون مزيد ثلاثي ، وإما مزيد رباعي ، وإما مزيد خماسي ، فيحصل : دائما كل مزيد إما ملحق بالرباعي ، وإما ملحق بالخماسي ، وإما غير ملحق ، إما مزيد ثلاثي وإما مزيد رباعي وإما مزيد خماسي.

ومن القسم الثالث : كلما كانت اللفظة دالة على معنى مستقل بنفسه غير مقترن بزمان ، كانت اسما ، ودائما كل اسم : إما أن يكون معربا وإما أن يكون مبنيا ، فيحصل :

دائما كل لفظة دالة على معنى مستقل بنفسه غير مقترن بزمان ، إما أن تكون معربة ، وإما أن تكون مبنية.

ومن القسم الرابع : دائما إما أن يكون المعرب اسما ، وإما أن يكون فعلا مضارعا ، وكلما كان المعرب اسما كان في الإعراب أصلا ، وكلما كان مضارعا كان في الإعراب متطفلا ، فيحصل : إما أن يكون المعرب أصلا في الإعراب ، وإما أن يكون متطفلا فيه.

الصورة الثانية :

ونقول في الثانية من القسم الأول : كلما كانت الكلمة كناية ، كانت مستعملة في معناها ومعنى معناها ، وليس البتة إذا كانت الكلمة مجازا أن تكون مستعملة في معناها ومعنى معناها ، فيحصل ليس البتة إذا كانت كناية أن تكون مجازا.

٦٠٠