مفتاح العلوم

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]

مفتاح العلوم

المؤلف:

يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦

شاكل ذلك ، ولكون (ما) ، للسؤال عن الجنس ، وللسؤال عن الوصف ، وقع بين فرعون وبين موسى ما وقع ؛ لأن فرعون حين كان جاهلا بالله ، معتقدا أن لا موجود مستقلا بنفسه سوى أجناس الأجسام ، اعتقاد كل جاهل لا نظر له ، ثم سمع موسى قال : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) سأل بما عن الجنس سؤال مثله فقال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢) كأنه قال : أي أجناس [الأجسام](٣) هو؟ وحين كان موسى عالما بالله ، أجاب عن الوصف ؛ تنبيها على النظر المؤدي إلى العلم بحقيقته الممتازة عن حقائق الممكنات ، فلما لم يتطابق السؤال والجواب عند فرعون الجاهل ، عجب من حوله من جماعة الجهلة ، فقال لهم (أَلا تَسْتَمِعُونَ)(٤) ثم استهزأ بموسى وجنّنه ف : (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)(٥) وحين لم يرهم موسى يفطنون لما نبههم عليه في الكرتين من فساد مسألتهم الحمقاء ، واستماع جوابه الحكيم غلظ في الثالثة ف : (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(٦) ويحتمل أن يكون فرعون قد سأل (بما) عن الوصف لكون رب العالمين عنده مشتركا بين نفسه وبين من دعاه إليه موسى في قوله : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) لجهله ، وفرط عتوه ، وتسويل نفسه الشيطانية له ذلك الضلال الشنيع من ادعاء الربوبية وارتكاب أن يقول : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)(٧) ونفخ الشيطان في خيشومه بتسليم أولئك البهائم له إياها ، وإذعانهم له بذلك ، وتلقيبهم إياه برب العالمين ، وشهرته فيما بينهم بذلك ، إلى درجات دعت السحرة إذ عرفوا الحق ، وخروا سجدا لله و: (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٨) إلى أن يعقبوه ، بقولهم : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)(٩) نفيا لاتهامهم أن يعنوا فرعون ، وأن يكون

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ١٦.

(٢) سورة الشعراء الآية ٢٣.

(٣) في (غ): (الإسلام) وهو تصحيف.

(٤) سورة الشعراء الآية : ٢٥.

(٥) سورة الشعراء الآية : ٢٧ ، ٢٨.

(٢) سورة الشعراء الآية ٢٣.

(٦) سورة النازعات الآية ٢٤.

(٧) سورة الشعراء الآية ٤٧ ، ٤٨.

(٤) سورة الشعراء الآية : ٢٥.

٤٢١

ذلك السؤال من فرعون على طماعية أن يجري موسى في جوابه على نهج حاضريه ، لو كانوا المسؤولين في وجهه بدله ، فيجعله المخلص لجهله بحال موسى ، وعدم اطلاعه على علو شأنه ، إذ كان ذلك المقام أول اجتماعه بموسى ، بدليل ما جرى فيه من قوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ* قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(١) فحين سمع المخلص لم [يكنه](٢) ، تعجب وعجب ، واستهزأ وجنّن ، وتفيهق بما تفيهق من : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)(٣)

وأما (من) فللسؤال عن الجنس من ذوي العلم ، تقول : من جبريل؟ بمعنى أبشر هو أم ملك أم جني ، وكذا : من إبليس؟ ومن فلان؟ ومنه قوله تعالى ، حكاية عن فرعون : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى)(٤) أراد : من مالككما ومدبر أمركما؟ أملك هو أم جني أم بشر؟ منكرا لأن يكون لهما رب سواه لادعائه الربوبية لنفسه ، ذاهبا في سؤاله هذا إلى معنى ألكما رب سواي ، فأجاب موسى بقوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)(٥) كأنه قال : نعم ، لنا رب سواك ، وهو الصانع الذي إذا سلكت الطريق الذي بين ، بإيجاده لما أوجد ، وتقديره إياه على ما قدر ، واتبعت فيه الخريت (٦) الماهر ، وهو العقل الهادي عن الضلال ، لزمك الاعتراف بكونه ربّا ، وأن لا رب سواه ، وأن العبادة له مني ومنك ، ومن الخلق أجمع ، حق لا مدفع له.

وأما (أي) فللسؤال عما يميز أحد المتشاركين في أمر يعمهما ، يقول القائل : عندي ثياب ، فتقول : أي الثياب هي؟ فتطلب منه وصفا يميزها عندك عما يشاركها في الثوبية ، قال ، تعالى ، حكاية عن سليمان : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها)(٧) أي : الإنسي أم

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآيتان : ٣٠ ـ ٣١.

(٢) في (غ): (يمكنه).

(٣) سورة الشعراء الآية ٢٩.

(٣) سورة الشعراء الآية ٢٩.

(٤) سورة طه ، الآية : ٤٩ ، ٥٠.

(٥) الخريت : الدليل الحاذق بالدلالة.

(٦) سورة النمل ، الآية ٣٨.

٤٢٢

الجني؟ وقال حكاية عن الكفار : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً)(١) أي أنحن أم أصحاب محمد؟

وأما (كم) فللسؤال عن العدد ، إذا قلت : كم درهما لك؟ وكم رجلا رأيت؟ فكأنك قلت : أعشرون أم ثلاثون أم كذا أم كذا ، وتقول : كم درهمك؟ وكم مالك؟ أي : كم دانقا؟ وكم دينارا؟ وكم ثوبك؟ أي كم شبرا؟ وكم ذراعا؟ وكم زيد ماكث؟ أي : كم يوما أو كم شهرا؟ وكم رأيتك؟ أي : كم مرة؟ وكم سرت؟ أي : كم فرسخا؟ وكم يوما؟ قال عزوجل : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ)(٢) أي : كم يوما أو كم ساعة؟. و: (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ)(٣) وقال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)(٤) ومنه قول الفرزدق (٥) :

كم عمة ، لك يا جرير ، وخالة ...

فدعاء قد حلبت على عشارى

فيمن روى بنصب المميز.

وأما (كيف) فللسؤال عن الحال ، إذا قيل : كيف زيد؟ فجوابه : صحيح أو سقيم أو مشغول أو فارغ أو شيخ أو جذلان ، ينتظم الأحوال كلها.

وأما (أين) فللسؤال عن المكان ، إذا قيل : أين زيد؟ فجوابه : في الدار ، أو في المسجد ، أو في السوق ، ينتظم الأماكن كلها.

__________________

(١) سورة مريم الآية ٧٣.

(٢) سورة الكهف ، الآية ١٩.

(٣) سورة المؤمنون ، الآية ١١٢.

(٤) سورة البقرة ، الآية ٢١١.

(٥) البيت من الكامل وهو للفرزدق في ديوانه (١ / ٣٦١) ، والإيضاح (١ / ٢٣٣) وخزانة الأدب (٦ / ٤٥٨ ، ٤٨٩ ، ٤٩٢ ، ٤٩٣ ، ٤٩٥ ، ٤٩٨) والدرر (٤ / ٤٥)

فدعاء : عوج وميل في المفاصل. والأفدع ، الذي يمشي على ظهر قدمه. اللسان (فدع).

٤٢٣

وأما (أنّي) فتستعمل تارة بمعنى : كيف ، قال تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(١) أي : كيف شئتم. وأخرى بمعنى (من أين) قال تعالى : (أَنَّى لَكِ هذا)(٢) أي من أين؟

وأما (متى) و (أيّان) فهما للسؤال عن الزمان ، إذا قيل : متى جئت؟ وأيّان جئت؟ قيل : يوم الجمعة ، أو يوم الخميس ، أو شهر كذا ، أو سنة كذا ، وعن علي بن عيسى الربعي (٣) ، رحمة الله عليه ، إمام أئمة بغداد في علم النحو : أن (أيّان) تستعمل في مواضع التفخيم كقوله عز قائلا : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)(٤)(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ)(٥).

واعلم أن هذه الكلمات كثيرا ما يتولد منها أمثال ما سبق من المعاني بمعونة قرائن الأحوال فيقال : ما هذا؟ ومن هذا؟ لمجرد الاستخفاف والتحقير ، وما لي؟ للتعجب قال تعالى ، حكاية عن سليمان : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ)(٦) وأي رجل؟ هو للتعجب وأيما رجل؟ وكم دعوتك؟ للاستبطاء ، وكم تدعوني؟ للإنكار ، وكم أحلم؟ للتهديد ، وكيف تؤذي أباك؟ للإنكار ، والتعجب والتوبيخ ، وعليه قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ)(٧) بمعنى التعجب ، ووجه تحقيق ذلك هو : أن الكفار في

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ٣٧.

(٣) علي بن عيسى الربعي النحوي ، صاحب أبي علي الفارسي ، درس الأدب على أبي سعيد السيرافي ، ودرس النحو على أبي علي الفارسي مدة عشرين سنة ، فقال عنه : ما بقي له شيء يحتاج أن يسأل عنه ، ولد سنة ٣٢٨ ه‍ ، ومات سنة ٤٢٠ ه‍. (تاريخ بغداد ١٢ / ١٧ ـ ١٨).

(٤) سورة القيامة الآية ٦.

(٥) سورة الذاريات ، الآية ١٢.

(٦) سورة النمل ، الآية : ٢٠.

(٧) سورة البقرة الآية : ٢٨ ، ٢٩.

٤٢٤

حين صدور الكفر منهم ، لا بد من أن يكونوا على إحدى الحالين : إما عالمين بالله ، وإما جاهلين به ، فلا ثالثة ، فإذا قيل لهم : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) وقد علمت أن (كيف) للسؤال عن الحال ، وللكفر مزيد اختصاص بالعلم بالصانع وبالجهل به ، انساق إلى ذلك فأفاد : أفي حال العلم بالله تكفرون؟ أم في حال الجهل به؟ ثم إذا قيد : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) بقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) وصار المعنى : كيف تكفرون بالله ، والحال حال علم بهذه القصة ، وهي أن كنتم أمواتا فصرتم أحياء ، وسيكون كذا وكذا ، صير الكفر أبعد شيء عن العاقل ، فصار وجوده منه مظنة التعجب. ووجه بعده ، هو أن هذه الحالة تأبى أن لا يكون للعاقل علم بأن له صانعا قادرا ، عالما حيّا ، سميعا بصيرا ، موجودا غنيّا في جميع ذلك عن سواه ، قديما غير جسم ولا عرض ، حكيما خالقا ، منعما مكلفا ، مرسلا للرسل ، باعثا مثيبا معاقبا ، وعلمه بأن له هذا الصانع يأبى أن يكفر ، وصدور الفعل عن القادر ، مع الصارف القوي ، مظنة تعجب وتعجيب ، وإنكار وتوبيخ ، فصح أن يكون قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) إلى آخر الآية ، تعجبا وتعجيبا ، وإنكارا وتوبيخا ، وكذلك يقال : أين مغيثك؟ للتوبيخ والتقريع والإنكار ، حال تذليل المخاطب ، قال تعالى : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(١) توبيخا للمخاطبين وتقريعا لهم ؛ لكونه سؤالا في وقت الحاجة إلى الإغاثة عمن كان يدعى له أنه يغيث ، وقال : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)(٢) للتنبيه على الضلال ، ويقال : أنّى تعتمد على خائن ، للتعجب والتعجيب والإنكار ، قال الله تعالى : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(٣) إنكارا وتوبيخا وقال : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ)(٤) استبعادا لذكراه ، ويقال : متى قلت هذا؟ للجحد والإنكار ، ومتى تصلح شأني؟ للاستبطاء.

__________________

(١) سورة القصص ، الآيات : ٦٢ و ٧٤.

(٢) سورة التكوير ، الآية ٢٦.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٩٥.

(٤) سورة الدخان ، الآية ١٣.

٤٢٥

وقد عرفت الطريق فراجع نفسك ، وإذا سلكتها فاسلكها عن كمال التيقظ لما لقنت ، فلا تجوز بعد ما عرفت أن التقديم يستدعي العلم بحال نفس الفعل ، وقوعا أو غير وقوع ؛ أزيدا ضربت؟ سائلا عن حال وقوع الضرب ، ولا : أأنت ضربت زيدا؟ بنية التقديم ، ولا ترضى : أزيدا ضربت أم لا؟ ولا : أأنت ضربت زيدا أم لا؟ بنية التقديم ولكن إن شئت (أم) فقل : أزيدا ضربت (أم) غيره؟ و: أأنت ضربت زيدا (أم) غيرك؟ وإن أردت بالاستفهام التقرير ، فأخذه على مثال الإثبات ، فقل حال تقرير الفعل : أضربت زيدا؟ أو : أتضرب زيدا؟ وقل حال تقرير أنه الضارب دون عمرو : أأنت ضربت زيدا؟ كما قال تعالى : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ)(١) أو أن زيدا مضروبه : أزيدا ضربت؟ وإن أردت به الإنكار ، فانسجه على منوال النفي ، فقل في إنكار نفس الضرب : أضربت زيدا؟ أو قل : أزيدا ضربت أم عمرا؟ فإنك إذا أنكرت من يردد الضرب بينهما ، تولد منه إنكار الضرب على وجه برهاني ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)(٢) وفي إنكار أنه الضارب : أأنت ضربت زيدا؟ وفي إنكار أن زيدا مضروبه : أزيدا ضربت؟ كما قال تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا)(٣) وقال : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ)(٤) ومنه أيضا قوله تعالى : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ)(٥) فتذكر ، ولا تغفل عن التفاوت بين الإنكار للتوبيخ على معنى : لم كان ، أو : لم يكون ، كقولك : أعصيت ربك؟ أو أتعصى ربك؟ وبين الإنكار للتكذيب على معنى : لم يكن ، أو : لا يكون كقوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ)(٦) وقوله : (أَصْطَفَى الْبَناتِ

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية ٦٢.

(٢) سورة الأنعام ، الآية ١٤٣.

(٣) سورة الأنعام ، الآية ١٤.

(٤) سورة الأنعام ، الآية ٤٠.

(٥) سورة القمر ، الآية ٢٤.

(٦) سورة الإسراء الآية : ٤٠.

٤٢٦

عَلَى الْبَنِينَ)(١) وقوله : (أَنُلْزِمُكُمُوها)(٢) وإياك أن يزل عن خاطرك التفصيل الذي سبق ، في نحو : أنا ضربت ، وأنت ضربت ، وهو ضرب ، من احتمال الابتداء ، واحتمال التقديم ، وتفاوت المعنى في الوجهين ، فلا تحمل نحو قوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ)(٣) على التقديم ، فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره ، ولكن احمله على الابتداء مرادا منه تقوية حكم الإنكار ، وانظم في هذا السلك قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ)(٤) وقوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ)(٥) وقوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)(٦) وما جرى مجراه.

وإذ قد عرفت أن هذه الكلمات للاستفهام ، وعرفت أن الاستفهام طلب ، وليس يخفى أن الطلب إنما يكون لما يهمك ويعنيك شأنه ، لا لما وجوده وعدمه عندك بمنزلة ، وقد سبق أن كون الشيء مهما جهة مستدعية لتقديمه في الكلام ، فلا يعجبك لزوم كلمات الاستفهام صدر الكلام ووجوب التقديم ، في نحو : كيف زيد؟ وأين عمرو؟ ومتى الجواب؟ وما شاكل ذلك.

__________________

(١) سورة الصافات الآية ١٥٣.

(٢) سورة هود ، الآية : ٢٨.

(٣) سورة يونس الآية : ٥٩.

(٤) سورة يونس : الآية : ٩٩.

(٥) سورة الزخرف ، الآية : ٤٠.

(٦) سورة الزخرف ، الآية : ٣٢.

٤٢٧

الباب الثالث

في الأمر

للأمر حرف واحد وهو اللام الجازم في قولك : ليفعل ، وصيغ مخصوصة سبق الكلام في ضبطها في علم الصرف ، وعدة أسماء ذكرت في علم النحو.

والأمر في لغة العرب عبارة عن استعمالها أعني استعمال نحو : لينزل ، وانزل ، ونزال وصه على سبيل الاستعلاء. وأما أن هذه الصور ، والتي هي من قبيلها ، هل هي موضوعة لتستعمل على سبيل الاستعلاء أم لا؟ فالأظهر أنها موضوعة لذلك ، وهي حقيقة فيه ، لتبادر الفهم عند استماع نحو : قم وليقم زيد ، إلى جانب الأمر ، وتوقف ما سواه من الدعاء ، والالتماس والندب ، والإباحة والتهديد ، على اعتبار القرائن. وإطباق أئمة اللغة على إضافتهم نحو : قم ، وليقم ، إلى الأمر بقولهم : صيغة الأمر ، ومثال الأمر ، ولام الأمر ، دون أن يقولوا : صيغة الإباحة ، ولام الإباحة ، مثلا يمد ذلك لك. وتحقيق معنى الحقيقة والمجاز موضعه في علم البيان ، فنذكره هناك إن شاء الله تعالى.

ولا شبهة في أن طلب المتصور ، على سبيل الاستعلاء ، يورث إيجاب الإتيان على المطلوب منه ، ثم إذا كان الاستعلاء ممن هو أعلى رتبة من المأمور استتبع إيجابه وجوب الفعل بحسب جهات مختلفة ، وإلّا لم يستتبعه ، فإذا صادفت هذه أصل الاستعمال بالشرط المذكور ، أفادت الوجوب ، وإلّا لم تفد غير الطلب ، ثم إنها حينئذ تولد بحسب قرائن الأحوال ما ناسب المقام ، إن استعملت على سبيل التضرع كقولنا : اللهم اغفر وارحم ، ولدت الدعاء ؛ وإن استعملت على سبيل التلطف ، كقول كل أحد لمن يساويه في المرتبة : افعل ، بدون الاستعلاء ، ولدت السؤال والالتماس كيف عبرت عنه ، وإن استعملت في مقام الإذن ، كقولك : جالس الحسن ، أو ابن سيرين ، لمن يستأذن في ذلك بلسانه أو بلسان حاله ، ولدت الإباحة ؛ وإن استعملت في مقام تسخط المأمور به ، ولدت التهديد ، على ما تقدم الكلام في أمثال ذلك.

٤٢٨

الباب الرابع

في النهي

للنهي حرف واحد وهو (لا) الجازم في قولك : لا تفعل ؛ والنهي محذو به حذو الأمر في أن أصل استعمال : لا تفعل ، أن يكون على سبيل الاستعلاء بالشرط المذكور ، فإن صادف ذلك ، أفاد الوجوب ، وإلا أفاد طلب الترك فحسب ، ثم إن استعمل على سبيل التضرع ، كقول المبتهل إلى الله : لا تكلني إلى نفسي ، سمي دعاء ، وإن استعمل في حق المساوي الرتبة لا على سبيل الاستعلاء ، سمي : التماسا ، وإن استعمل في حق المستأذن ، سمي : إباحة ، وإن استعمل في مقام تسخط الترك ، سمي : تهديدا.

والأمر والنهي حقهما الفور ، والتراخي يوقف على قرائن الأحوال ؛ لكونهما للطلب ، ولكون الطلب في استدعاء تعجيل المطلوب أظهر منه في عدم الاستدعاء له عند الإنصاف ، والنظر إلى حال المطلوب بأخويهما وهما : الاستفهام والنداء منبه على ذلك صالح ، ومما ينبه على ذلك تبادر الفهم ، إذا أمر المولى عبده بالقيام ، ثم أمره قبل أن يقوم ، بأن يضطجع وينام حتى المساء إلى أن المولى غير الأمر ، دون تقدير الجمع بينهما في الأمر ، وإرادة التراخي للقيام ، وكذا استحسان العقلاء عند أمر المولى عبده بالقيام أو القعود ، أو عند نهيه إياه ، إذا لم يتبادر إلى ذلك ذمه.

وأما الكلام في أن الأمر أصل في المرة أم في الاستمرار ، وأن النهي أصل في الاستمرار أم في المرة ، كما هو مذهب البعض ، فالوجه هو أن ينظر ، إن كان الطلب بهما راجعا إلى قطع الواقع ، كقولك في الأمر للساكن : تحرك ، وفي النهي للمتحرك : لا تتحرك ، فالأشبه المرة ، وإن كان الطلب بهما راجعا إلى اتصال الواقع ، كقولك في الأمر للمتحرك : تحرك ، ولا تظنن هذا طلبا للحاصل ، فإن الطلب حال وقوعه يتوجه إلى الاستقبال ، كما نبهت عليه في صدر القانون ، ولا وجود في الاستقبال قبل صيرورته حالا ، وقولك في النهي للمتحرك : لا تسكن ، فالأشبه الاستمرار.

واعلم أن هذه الأبواب الأربعة : التمني والاستفهام والأمر والنهي تشترك في الإعانة على تقدير الشرط بعدها ، كقولك في التمني : ليت لي مالا أنفقه ، على معنى : إن أرزقه أنفقه ، وقولك في الاستفهام : أين بيتك أزرك؟ على معنى أن تعرفنيه ، أو إن أعرفه

٤٢٩

أزرك ، وأما العرض ، كقولك : ألا تنزل تصب خيرا؟ على معنى : إن تنزل تصب خيرا ، فليس بابا على حدة ، وإنما هو من مولدات الاستفهام كما عرفت ، وقولك في الأمر : أكرمني أكرمك. قال تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي)(١) بالجزم ، وأما قراءة الرفع فالأولى حملها على الاستئناف دون الوصف ، لئلا يلزم منه أنه لم يوهب من وصف ؛ لهلاك يحيى قبل زكريا ، وقال تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ)(٢) ومنهم من يضمر لام الأمر مع : يقيموا ، إلا أن إضمار الجازم نظير إضمار الجار ، فانظر ، وقولك في النهي : لا تشتم يكن خيرا لك ، على معنى : إن لا تشتم يكن خيرا لك. وتقدير الشرط لقرائن الأحوال غير ممتنع ، قال تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ)(٣) على تقدير : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ، وقال تعالى : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ)(٤) على تقدير : إن أرادوا وليّا بحقّ ، فالله هو الولي بالحق لا ولي سواه ، وأمثال ذلك في القرآن كثيرة ، وكذا تقدير الجزاء لها كذلك ، قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ)(٥) وترك الجزاء وهو : ألستم ظالمين لذكر الظلم عقيبه في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

__________________

(١) سورة مريم الآيات ٥ ـ ٦. قرأ أبو عمرو والكسائي (يرثنى ويرث) بالجزم ، وقرأهما الباقون بالرفع.

اختلاف الإعراب في القراءات السبع ص ٢٩٢.

(٢) سورة إبراهيم الآية ٣١.

(٣) سورة الأنفال ، الآية ١٧.

(٤) سورة الشورى الآية : ٩.

(٥) سورة الأحقاف الآية : ١٠.

٤٣٠

الباب الخامس

في النداء

ما يتعلق بالنداء من حروفه وتفصيل الكلام في معانيها سبق التعرض لذلك في علم النحو ، فلا نتكلم فيه ، ولكن ههنا نوع من الكلام ، صورته صورة النداء ، وليس بنداء ، فننبه عليه.

تلك الصورة هي قولهم : أما أنا فأفعل كذا أيها الرجل ، ونحن نفعل كذا أيها القوم ، واللهم اغفر لنا أيتها العصابة ، يراد بهذا النوع من الكلام الاختصاص على معنى : أنا أفعل كذا متخصصا بذلك من بين الرجال ، ونحن نفعل كذا متخصصين من بين الأقوام ، واللهم اغفر لنا مخصوصين من بين العصائب.

واعلم أن الطلب كثيرا ما يخرج لا على مقتضى الظاهر ، وكذلك الخبر ، فيذكر أحدهما في موضع الآخر ، ولا يصار إلى ذلك إلا لتوخي نكت قلما يتفطن لها من لا يرجع إلى دربة في نوعنا هذا ، ولا يعض فيه بضرس قاطع ، والكلام بذلك متى صادف متممات البلاغة افتر لك عن السحر الحلال بما شئت.

ومن المتممات ما قد سبق لي : أن نظم الكلام إذا استحسن من بليغ لا يمتنع أن لا يستحسن مثله من غير البليغ ، وإن اتحد المقام ، إذ لا شبهة في صحة اختلاف النظم ، مقبولا وغير مقبول عند اختلاف المقام ، فلا بد لحسن الكلام من انطباق له على ما لأجله يساق ، ومن صاحب له عرّاف بجهات الحسن لا يتخطاها ، وإلّا لم يمتنع حمل الكلام منه على غيرها ، ويتعرى عن الحسن لذهاب كسوته ، ولا بدّ مع ذلك من إذن لافتنانات البلاغة مصوغة ، فما الآفة العظمى ، والبلية الكبرى ، لتلك الافتنانات إلّا من أصمخة هي لغيرها مخلوقة ، إذا اتصل بذويها كلام لا ترى به الدر الثمين ، مسخه لهم جهلهم مسخا يفوقه قيمة المشخلب (١).

__________________

(١) المشخلب : كلمة عراقية ليس على بنائها شىء من العربية ، وتتخذ من الليف والخرز أمثال الحلى.

٤٣١

ولأمر ما تجد القرآن متفاوت القدر ارتفاعا وانحطاطا بين العلماء في نوعنا هذا وبين الجهلة. والجهات المحسنة لاستعمال الخبر في موضع الطلب تكثر ، تارة تكون قصد التفاؤل بالوقوع ، كما إذا قيل لك في مقام الدعاء : أعاذك الله من الشبهة ، وعصمك من الحيرة ، ووفقك للتقوى ، ليتفاءل بلفظ المضي على عدها من الأمور الحاصلة ، التي حقها الإخبار عنها بأفعال ماضية ، وأنه نوع مستحسن الاعتبار ، وقل لي إذا حسن اعتبار ما هو أبعد ، كإباء الكتاب في حق المخدّرات لفظ (حر استها) (١) ، وما هو أبعد وأبعد ، كإباء أهل الظرف إهداء السفرجل ، فما ظنك بالقريب؟ وهل خلع هارون على كاتبه إذ سأله عن شيء فقال : لا وأيد الله أمير المؤمنين ، إلا لأنه لم يسمع ما عليه الأغبياء فيما بينهم من : لا أيدك الله ، بترك الواو ، أو غير هارون حين خرج إلى ناحية لمطالعة عماراتها ، وقد تراءت له في طريقه أشجر من بعيد ، فسأل عنها كاتبا يصحبه ، فقال الكاتب : شجرة الوفاق ، تفاديا عن لفظ الخلاف ، فكساه.

أفترى ذلك لغير ما نحن فيه ، أو هل حين غضب الداعي على شاعره أبي مقاتل الضرير حين افتتح :

موعد أحبابك للفرقة غد

أغضبه شيء غير معنى التفاؤل ، حتى قال له : موعد أحبابك يا أعمى ، ولك المثل السوء ؛ وأمر بإخراجه. وهل تسمية العرب الفلاة : مفازة ، والعطشان : ناهلا ، واللديغ : سليما ، وما شاكل ذلك ، إلّا من باب التفاؤل؟ فالمفازة هي المنجاة ، والناهل هو الريان ، والسليم هو ذو السلامة.

وتارة لإظهار الحرص في وقوعه ، فالطالب ، متى تبالغ حرصه فيما يطلب ، ربما انتقشت في الخيال صورته لكثرة ما يناجي به نفسه ، فيخيل إليه غير الحاصل حاصلا ،

__________________

(١) الحر : بتخفيف الراء ، الفرج ، وأصله حرح ـ بكسر الحاء وسكون الراء ، ومنهم من يشدد الراء ، وليس بجيد ، وفي صحيح البخاري ك الأشربة ، واللباس : ليكونن من أمتى أقوام يستحلون الحر ... الحديث.

والاست : العجز ، وقد يراد بها حلقة الدبر.

٤٣٢

حتى إذا حكم الحس بخلافه ، غلّطه تارة ، واستخرج له محملا أخرى. وعليه قول شيخ المعرة (١) :

ما سرت إلّا وطيف منك يصحبني ...

سرّى أمامي وتأويبا على أثري

يقول : لكثرة ما ناجيت نفسي بك انتقشت في خيالي ، فأعدك بين يدي مغلطا للبصر بعلة الظلام ، إذا لم يدركك ليلا أمامي ، وأعدك خلفي إذا لم يتيسر لي تغليطه حين لا يدركك بين يدي نهارا ، وتارة لقصد الكناية ، كقول العبد للمولى ، إذا حول عنه الوجه : ينظر المولى إلى ساعة.

ووجه حسنه : إما نفس الكناية ، إن شئت ، وإما الاحتراز عن صورة الأمر ، وإما هما. وتارة لحمل المخاطب على المذكور أبلغ حمل بألطف وجه ، كما إذا سمعت من لا تحب أن ينسب إلى الكذب يقول لك ، تأتيني غدا ، أولا تأتيني ؛ وتارة مناسبات أخر فتأملها ، ففيها كثرة.

وما من آية من آي القرآن واردة على هذا الأسلوب إلا مدارها على شيء من هذه النكت ، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ)(٢) في موضع : لا تعبدوا. (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ)(٣) في موضع : لا تسفكوا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ

__________________

(١) شيخ المعرة : أبو العلاء المعري : أحمد بن عبد الله بن سليمان .... التنوخي المعري. كنيته أبو العلاء ، ولد بالمعرة سنة ٣٦٣ ه‍ ، قرأ اللغة والنحو على أبيه بالمعرة ، وكان عالما باللغة والنحو والأدب ، وكانت وفاته سنة ٤٤٩ ه‍.

والبيت من البسيط له الإيضاح (١ / ١٨٣) ، والمصباح (٩٣) ، ديوان سقط الزند (١ / ١١٨) وشرح عقود الجمان ص ٨٢٩.

السرى : السير ليلا ، والتأويب : ضد السرى ، وهو قطع النهار سيرا.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٨٣ ، ٨٤.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٨٣ ، ٨٤.

٤٣٣

بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(١) موضع : آمنوا وجاهدوا ، فانظر.

ومن هذا القبيل قول كل من يقول من البلغاء في الدعاء : رحمه‌الله ، أو يرحمه.

ومن الجهات المحسنة لإيراد الطلب في مقام الخبر ، إظهار معنى الرضا بوقوع الداخل تحت لفظ الطلب إظهارا إلى درجة كأن المرضي مطلوب ، قال كثير (٢) :

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

فذكر لفظ الأمر بالإساءة ثم عطف عليه بلفظ : (أو) الأمر بضد الإساءة ؛ تنبيها بذلك على أن ليس المراد بالأمر الإيجاب المانع عن الترك ، لكن المراد هو الإباحة التي تنافي تخير المخاطب بين أن يفعل ، وأن لا يفعل ، فاعلا كل ذلك لتوخي إظهار مزيد الرضى بأي ما اختارت في حقه من الإساءة أو الإحسان ، أو توخي إظهار نفي أن يتفاوت جوابه بتفاوته وقوعا وعدم وقوع ، كما يقول : صم أولا تصم ، (فإني لا أترك الصيام) ، توهم من تخاطب أنك تطلب منه أن يصوم وينظر في حالك ، أو لا يصوم وينظر ليتبين ثباتك على الصيام ، صام هو أو لم يصم ، وعليه قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)(٣) وكذا قوله :

__________________

(١) سورة الصف ، الآيتان : ١٠ ـ ١١.

(٢) هو كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة ، من خزاعة ، كان رافضيا. وعزة محبوبته كني ، بها ، وهو مدح بني أمية ، جعله ابن سلام في الطبقة الأولى من الإسلاميين. توفي سنة ١٠٥ ه‍. معجم الشعراء ، طبقات الشعراء ، الشعر والشعراء ، الأغاني ، المؤتلف والمختلف ، اللآلىء ، وفيات الأعيان ، معاهد التنصيص ، خزانة الأدب ، وغيرها.

والبيت من الطويل وهو وفي ديوانه ص ١٠١ والتنبيه والإيضاح (١ / ٢١) والإيضاح (١ / ٢٤٢) والأغاني (٩ / ٣٨) وأمالى القالى (٢ / ١٠٩) وتاج العروس (١ / ٢٧٤) والتبيان (١ / ٢٥٦) ويروى (ملولة) بدل (ملومة) وتمام البيت :

لدينا ولا مقلية إن تقلّت.

(٣) سورة التوبة ، الآية ٨٠.

٤٣٤

(أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)(١) ، وما شاكل ذلك من لطائف الاعتبارات ، والأمر في باب التعجب من نحو : أكرم بزيد ، على قول من يقول : إنه بمعنى الخبر ؛ آخذا همزته من قبيل : ذي كذا ، جاعلا الباء زائدة ، مثلها في : (كَفى بِاللهِ)(٢) [منخرط](٣) في هذا السلك.

ولهذا النوع ، أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر ، أساليب متفننة ، إذ ما من مقتضى كلام ظاهري إلّا ولهذا النوع مدخل فيه بجهة من جهات البلاغة ، على ما ننبه على ذلك منذ اعتنينا بشأن هذه الصناعة ، وترشد إليه تارة بالتصريح ، وتارات بالفحوى ، ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتسرب من أفانين سحرها ، ولا كالأسلوب الحكيم فيها ، وهو : تلقي المخاطب بغير ما يترقب ، كما قال (٤) :

أتت تشتكي عندي مزاولة القرى ...

وقد رأت الضيفان ينحون منزلي

فقلت كأنّي ما سمعت كلامها ...

هم الضيف جدّي في قراهم وعجّلي

أو السائل بغير ما يتطلب ، كما قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ)(٥) قالوا في السؤال : ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ، ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا؟ فأجيبوا بما ترى. وكما قال : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(٦) سألوا عن بيان ما ينفقون ، فأجيبوا ببيان

__________________

(١) سورة التوبة الآية ٥٣.

(٢) سورة النساء ، الآية ٦ ، وكثير من الآيات غيرها.

(٣) في (غ): (منخرما).

(٤) البيتان من الطويل ينسبان لحاتم الطائى ، وهما في الإيضاح (١ / ١٨٣) بلا عزو.

(٥) سورة البقرة الآية ١٨٩.

(٦) سورة البقرة ، الآية ٢١٥.

٤٣٥

المصرف ، ينزل سؤال السائل منزلة سؤال غير سؤاله ؛ لتوخي التنبيه له بألطف وجه ، على تعديه عن موضع سؤال هو أليق بحاله أن يسأل عنه ، أو أهم له إذا تأمل.

وإن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور ، وأبرزه في معرض المسحور ، وهل ألان شكيمة الحجاج لذلك الخارجي ، وسل سخيمته ، حتى آثر أن يحسن على أن يسيء ، غير أن سحره بهذا الأسلوب ، إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله : لأحملنك على الأدهم ، فقال متغابيا : مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ، مبرزا وعيده في معرض الوعد ، متوصلا أن يريه بألطف وجه أن امرأ مثله في مسند الإمرة المطاعة خليق بأن يصفد (١) لا أن يصفد (٢) وأن يعد ، لا أن يوعد.

وليكن هذا آخر كلامنا الآن في علم المعاني ، منتقلين عنه إلى علم البيان ، بتوفيق الله تعالى وعونه ، حتى إذا قضينا الوطر من إيرادنا منه لما نحن له استأنفنا الأخذ في التعرض للعلمين ، لتتميم المراد منهما بحسب المقامات ، إن شاء الله تعالى (٣).

__________________

(١) صفد : أعطى الصفد وهو العطاء ، وصفده يصفده : أوثقه وشده في الحديد وغيره.

(١) صفد : أعطى الصفد وهو العطاء ، وصفده يصفده : أوثقه وشده في الحديد وغيره.

(٢) في بعض النسخ (رب أعن على إتمام المطلوب ، والحمد لله أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ، والصلاة على نبيه محمد وآله الطاهرين. في أواخر جمادى الثاني سنة ٧٣٨ في مدينة السّلام ببغداد).

٤٣٦

علم البيان

الفصل الثاني

علم البيان

تمهيد :

والخوض فيه يستدعي تمهيد قاعدة وهي : أن محاولة إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة ، بالزيادة في وضوح الدلالة عليه ، والنقصان بالدلالات الوضعية ، غير ممكن. فإنك إذا أردت تشبيه الخد بالورد في الحمرة مثلا ، وقلت : خد يشبه الورد ، امتنع أن يكون كلام مؤد لهذا المعنى بالدلالات الوضعية أكمل منه في الوضوح أو أنقص ، فإنك إذا أقمت مقام كل كلمة منها ما يرادفها ، فالسامع ، إن كان عالما بكونها موضوعة لتلك المفهومات ، كان فهمه منها كفهمه من تلك ، من غير تفاوت في الوضوح ، وإلا لم يفهم شيئا أصلا ، وإنما يمكن ذلك في الدلالات العقلية ، مثل أن يكون لشيء تعلق بآخر ولثان ولثلاث ، فإذا أريد التوصل بواحد منها إلى المتعلق به ، فمتى تفاوتت تلك الثلاثة في وضوح التعلق وخفائه ، صح في طريق إفادته الوضوح والخفاء.

وإذا عرفت هذا ، عرفت أن صاحب علم البيان له فضل احتياج إلى التعرض لأنواع دلالات الكلم ، فنقول : لا شبهة في أن اللفظة متى كانت موضوعة لمفهوم ، أمكن أن تدل عليه من غير زيادة ولا نقصان بحكم الوضع ، وتسمى هذه دلالة المطابقة ودلالة وضعية. ومتى كان لمفهومها ذلك ، ولنسمه أصليّا ، تعلق بمفهوم آخر ، أمكن أن تدل عليه بوساطة ذلك التعلق بحكم العقل ، سواء كان ذلك المفهوم الآخر داخلا في مفهومها الأصلي ، كالسقف مثلا في مفهوم البيت ، ويسمى هذا دلالة التضمن ، ودلالة عقلية أيضا ، أو خارجا عنه ، كالحائط عن مفهوم السقف ، وتسمى هذه دلالة الالتزام ، ودلالة عقلية أيضا ، ولا يجب في ذلك التعلق أن يكون مما يثبته العقل ، بل إن كان مما يثبته اعتقاد المخاطب ، إما لعرف أو لغير عرف ، أمكن المتكلم أن يطمع من مخاطبه ذلك في صحة أن ينتقل ذهنه من المفهوم الأصلي إلى الآخر ، بواسطة ذلك التعلق بينهما في اعتقاده.

٤٣٧

وإذا عرفت أن إيراد المعنى الواحد على صور مختلفة لا يتأتى إلا في الدلالات العقلية ، وهي : الانتقال من معنى إلى معنى بسبب علاقة بينهما ، كلزوم أحدهما الآخر بوجه من الوجوه ، ظهر لك أن علم البيان مرجعه اعتبار الملازمات بين المعانى.

ثم إذا عرفت أن اللزوم إذا تصور بين الشيئين ، فإما أن يكون من الجانبين ، كالذي بين الأمام والخلف بحكم العقل ، أو بين طول القامة وبين طول النجاد بحكم الاعتقاد ، أو من جانب واحد ، كالذي بين العلم والحياة بحكم العقل ، أو بين الأسد والجراءة بحكم الاعتقاد ، ظهر لك أن مرجع علم البيان اعتبار هاتين الجهتين : جهة الانتقال من ملزوم إلى لازم ، وجهة الانتقال من لازم إلى ملزوم.

ولا يربك بظاهره الانتقال من أحد لازمي الشيء إلى الآخر ، مثل ما إذا انتقل من بياض الثلج إلى البرودة ، فمرجعه ما ذكر ، ينتقل من البياض إلى الثلج ، ثم من الثلج إلى البرودة ، فتأمل.

وإذا ظهر لك أن مرجع علم البيان هاتان الجهتان ، علمت انصباب علم البيان إلى التعرض للمجاز والكناية. فإن المجاز ينتقل فيه من الملزوم إلى اللازم ، كما تقول : رعينا غيثا ، والمراد لازمه ، وهو النبت ، وقد سبق أن اللزوم لا يجب أن يكون عقليّا ، بل إن كان اعتقاديّا ، إمّا لعرف أو لغير عرف ؛ صح البناء عليه ، وإما نحو قولك : أمطرت السماء نباتا ، أي : غيثا ، من المجازات المنتقل فيها عن اللازم إلى الملزوم ، فمنخرط في سلك : رعينا الغيث.

وفصل ترجيح المجاز على الحقيقة ، والكناية على التصريح ، إذا انتهينا إليه ، يطلعك على كيفية انخراطه في سلكه ، بإذن الله تعالى. والمطلوب بهذا التكلف هو الضبط ، فاعلم.

وإن الكناية ينتقل فيها من اللازم إلى الملزوم ، كما تقول : فلان طويل النجاد ، والمراد طول القامة الذي هو ملزوم طول النجاد ، فلا يصار إلى جعل النجاد طويلا أو قصيرا ، إلا لكون القامة طويلة أو قصيرة ، فلا علينا أن نتخذهما أصلين.

وإذ لا يخفى ، أن طريق الانتقال من الملزوم إلى اللازم طريق واضح بنفسه ، ووضوح طريق الانتقال من اللازم إلى الملزوم إنما هو بالغير ، وهو العلم بكون اللازم

٤٣٨

مساويا للملزوم أو أخص منه ؛ فلا عتب في تأخير الكناية لكونها ، بالنظر إلى هذه الجهة ، نازلة من المجاز منزلة المركب من المفرد ، ثم إن المجاز ، أعني الاستعارة ، من حيث إنها من فروع التشبيه ، كما ستقف عليه ، لا تتحقق بمجرد حصول الانتقال من الملزوم إلى اللازم ، بل لا بد فيها من تقدمة تشبيه شيء بذلك الملزوم في لازم له ، تستدعي تقديم التعرض للتشبيه ، فلا بد من أن نأخذه أصلا ثالثا ، ونقدمه ، فهو الذي إذا مهرت فيه ، ملكت زمام التدرب في فنون السحر البياني.

الأصل الأول

من علم البيان في الكلام في التشبيه

لا يخفى عليك أن التشبيه مستدع طريقين ، مشبها ومشبها به.

واشتراكا بينهما من وجه ، وافتراقا من آخر ، مثل أن يشتركا في الحقيقة ، ويختلفا في الصفة ، أو بالعكس ، فالأول : كالإنسانين : إذا اختلفا صفة : طولا وقصرا.

والثاني : كالطويلين ، إذا اختلفا حقيقة : إنسانا وفرسا ، وإلا فأنت خبير بأن ارتفاع الاختلاف من جميع الوجوه ، حتى التعين يأبى التعدد ، فيبطل التشبيه ؛ لأن تشبيه الشيء لا يكون إلا وصفا له بمشاركته المشبه به في أمر ، والشيء لا يتصف بنفسه ، كما أن عدم الاشتراك بين الشيئين في وجه من الوجوه يمنعك محاولة التشبيه بينهما ، لرجوعه إلى طلب الوصف حيث لا وصف ، وأن التشبيه لا يصار إليه إلّا لغرض ، وأن حاله تتفاوت بين القرب والبعد ، وبين القبول والرد ؛ هذا القدر المجمل لا يحوج إلى دقيق نظر ، إنما المحوج هو تفصيل الكلام في مضمونه ، وهو طرفا التشبيه ، ووجه التشبيه ، والغرض في التشبيه وأحوال التشبيه ، ككونه : قريبا أو غريبا ، مقبولا أو مردودا ، فظهر من هذا أن لا بد من النظر في هذه المطالب الأربعة ، فلننوعه أربعة أنواع :

طرفا التشبيه :

النوع الأول : النظر في طرفي التشبيه : المشبه والمشبه به ، إما أن يكونا مستندين إلى الحس : كالخد عند التشبيه بالورود ، في المبصرات ، وكالأطيط عند التشبيه بصوت الفراريج في المسموعات ، وكالنكهة عند التشبيه بالعنبر في المشمومات ، وكالريق عند

٤٣٩

التشبيه بالخمر في المذوقات ، وكالجلد الناعم عند التشبيه بالحرير في الملموسات. وإما ما يستند إلى الخيال : كالشقيق عند التشبيه بأعلام ياقوت منشرة على رماح من الزبرجد ، فهو في قرن الحسيات ملزوز (١) ، تقليلا للاعتبار ، وتسهيلا على المتعاطي.

وإما أن يكونا مستندين إلى العقل : كالعلم إذا شبه بالحياة ، وإما أن يكون المشبه معقولا ، والمشبه به محسوسا : كالعدل إذا شبه بالقسطاس ، وكالمنية إذا شبهت بالسبع :

وكحال من الأحوال إذا شبهت بناطق أو بالعكس من ذلك : كالعطر إذا شبه بخلق كريم.

وأما الوهميات المحضة كما إذا قدرنا صورة وهمية محضة مع المنية مثلا ، ثم شبهناها بالمخلب أو بالناب المحققين ، فقلنا : افترست المنية فلانا ، بشيء هو لها شبيه بالمخلب أو بشيء هو لها شبيه بالناب ، أو مع الحال ، ثم شبهناها باللسان ، فقلنا : نطقت الحال بشيء هو لها شبيه باللسان ، فملحقة بالعقليات ، وكذا الوجدانيات ، كاللذة والألم ، والشبع والجوع ؛ فاعرفه.

وجه التشبيه :

النوع الثاني : النظر في وجه التشبيه. لما انحصر التشبيه بين أن يكون الاشتراك بالحقيقة ، والافتراق بالصفة تارة ، مثل جسمين : أبيض وأسود ، وكذا مثل أنف ومرسن (٢) ، فهما مشتركان في الحقيقة ، وهو العضو المعلوم ، وإنما يفترقان : باتصاف أحدهما بالاختصاص بالإنسان ، واتصاف الآخر بالاختصاص بالمرسونات ، وما جرى مجراهما ، من نحو شفة وجحفلة ، ورجل وحافر ، وبين أن يكون الاشتراك بالصفة تارة ، والافتراق بالحقيقة أخرى ، مثل : طويلين جسم وخط ، والوصف حين انحصر بين أن يكون مستندا إلى الحس : كالكيفيات الجسمانية ، مثل : الاتصاف بما يدرك بالبصر من الألوان والأشكال ، والمقادير والحركات ، وما يتصل بها من الحسن والقبح ، وغير ذلك ،

__________________

(١) ملزوز : مقرون ، من لز الشىء بالشىء : ألزمه إياه.

(٢) المرسن : الأنف : وجمعه مراسن.

٤٤٠