يوسف بن محمّد بن علي السّكّاكي [ السّكّاكي ]
المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-1468-9
الصفحات: ٨٤٦
ومما يلحق بالتجنيس نظير قوله عزوجل : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)(١)(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ)(٢) وكثيرا ما يلحق بالتجنيس الكلمتان الراجعتان إلى أصل واحد في الاشتقاق ، مثل ما في قوله عز اسمه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ)(٣) وقوله : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ)(٤).
ومن جهات الحسن رد العجز إلى الصدر ، وهو أن يكون إحدى الكلمتين المتكررتين ، أو المتجانستين ، أو الملحقتين بالتجانس ، في آخر البيت ، والأخرى قبلها في أحد المواضع الخمسة من البيت وهي : صدر المصراع الأول ، وحشوه ، وآخره ، وصدر المصراع الثاني ، وحشوه ، كما إذا قلت :
مشتهر في علمه وحلمه ... |
|
وزهده وعهده مشتهر |
في علمه مشتهر وحلمه ... |
|
وزهده وعهده مشتهر |
في علمه وحلمه وزهده ... |
|
مشتهر وعهده مشتهر |
في علمه وحلمه وزهده ... |
|
وعهده مشتهر مشتهر |
والأحسن في هذا النوع أن لا يرجع الصدر والعجز إلى التكرار. ومن جهات الحسن القلب كقولك : خ خ حسامه فتح لأوليائه حتف لأعدائه. وأنه يسمى : مقلوب الكل ، أو كقوله : خ خ اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ، وأنه يسمى : مقلوب البعض ، وإذا وقع أحد المقلوبين قلب الكل في أول البيت والثاني في آخره سمي : مقلوبا مجنحا ، وإذا وقع قلب الكل في كلمتين أو أكثر شعرا أو غير شعر كقولك : خ خ كيل مليك ،
__________________
(١) سورة الشعراء الآية ١٦٨.
(٢) سورة الرحمن الآية ٥٤.
(٣) سورة الروم الآية ٤٣.
(٤) سورة الواقعة ، الآية ٨٩.
وخ خ خان إذا ناخ ، وقوله (١) :
آس أرملا إذا عرا ... |
|
وارع إذا المرء أسا |
مقلوبا مستويا.
ومن جهات الحسن [الأسجاع](٢) : وهي في النثر ، كما في القوافي في الشعر ، ومن جهاته الفواصل القرآنية ، والكلام في ذلك ظاهر.
ومن جهات الحسن الترصيع وهو أن تكون الألفاظ مستوية الأوزان متفقة الأعجاز أو متقاربتها ، كقوله عز اسمه : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٣) وقوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(٤) وكقوله : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ* وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٥) وأصل الحسن في جميع ذلك أن تكون الألفاظ توابع للمعاني لا أن تكون المعاني لها توابع ، أعني : أن لا تكون متكلفة ، ويورد الأصحاب هاهنا أنواعا ، مثل : كون الحروف منقوطة أو غير منقوطة ، أو البعض منقوطا والبعض غير منقوط بالسوية ، فلك أن تستخرج من هذا القبيل ما شئت ، وتلقب كلا من ذلك بما أحببت.
خاتمة :
وإذ قد تحققت أن علم المعاني والبيان هو : معرفة خواص تراكيب الكلام ، ومعرفة صياغات المعاني ، ليتوصل بها إلى توفية مقامات الكلام حقها ، بحسب ما يفي به قوة
__________________
(١) أورده فخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز ص ١٤١ وعزاه للحريرى ، وبدر الدين بن مالك في المصباح ص ٢٠٢. وعزاه للحريرى أيضا.
(٢) في (غ) والأسجاع.
(٣) سورة الغاشية ، الآيتان : ٢٥ ـ ٢٦.
(٤) سورة الانفطار ، الآيتان : ١٣ ـ ١٤.
(٥) سورة الصافات الآيتان : ١١٧ ـ ١١٨.
ذكائك ، وعندك علم أن مقام الاستدلال بالنسبة إلى سائر مقامات الكلام جزء واحد من جملتها ، وشعبة فردة من دوحتها ، علمت أن تتبع تراكيب الكلام الاستدلالي ، ومعرفة خواصها ، مما يلزم صاحب علم المعاني والبيان ، وحين انتصبنا لإفادته لزمنا أن لا نضن بشيء هو من جملته ، وأن نستمد الله التوفيق في تكملته.
[ولله الحمد أولا وآخرا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم](١).
__________________
(١) زيادة من (غ).
علم الاستدلال
أو
علم خواص تراكيب الكلام
علم الاستدلال
توطئة :
الكلام إلى تكملة علم المعاني وهي تتبع خواص تراكيب الكلام في الاستدلال ولو لا إكمال الحاجة إلى هذا الجزء من علم المعاني ، وعظم الانتفاع به لما اقتضانا الرأي أن نرخي عنان القلم فيه ، علما منّا بأن من أتقن أصلا واحدا من علم البيان ، كأصل التشبيه أو الكناية أو الاستعارة ، ووقف على كيفية مساقه لتحصيل المطلوب به ، أطلعه ذلك على كيفية نظم الدليل ، وكأني بكلامي هذا ، [وأين أنت عن تحققه](١) ، أعالج من تصديقك به ، ويقينك لديه ، بابا مقفلا لا يهجس في ضميرك سوى هاجس دبيبه ، فعل النفس اليقظى إذا أحست بنبأ من وراء حجاب ؛ لكنا إذا أطلعناك على مقصود الأصحاب من هذا الجزء على التدريج ، مقررين لما عندنا من الآراء في مظان الاختلاف بين المتقدمين منهم والمتأخرين ، رجعنا [في](٢) هذه المقالة بإذن الله تعالى محققين ، ورفعنا إذ ذاك الحجاب الذي يواري عنك اليقين.
اعلم أن الكلام في الاستدلال يستدعي تقديم الكلام في الحد لافتقار الاستدلال ، كما ستقف عليه ، إلى معرفة أجزائه ومعرفة ما بينها من الملازمات والمعاندات ، والذي يرشد إلى ذلك هو الحد ، فلا غنى لصاحب الاستدلال عن أن يكون صاحب الحد ، ونحن على أن نورد ذلك في [قسمين](٣) : أحدهما في ذكر الحد وما يتصل به ، وثانيهما : في ذكر الاستدلال وما يتصل به.
__________________
(١) من (غ) و (د) وفي (ط): (إن أنت تحققه).
(٢) في (غ ، د) إلى.
(٣) في (غ ، د) فصلين.
[القسم](١) الأول
من تكملة علم المعاني في الحد وما يتصل به.
الحد : عندنا دون جماعة من ذوي التحصيل ، عبارة عن تعريف الشيء بأجزائه ، أو بلوازمه ، أو بما يتركب منهما ، تعريفا جامعا مانعا. ونعني بالجامع ، كونه : متناولا لجميع أفراده إن كانت له أفراد ، وبالمانع ، كونه آبيا دخول غيره فيه. فإن كان ذلك الشيء حقيقة من الحقائق ، مثل : حقيقة الحيوان والإنسان والفرس ، وقع تعريفا للحقيقة ، وإن لم يكن مثل : العنقاء أو مثل : المرسن ، وقع تفصيلا للفظ الدال عليه بالإجمال. وكثيرا ما نغير العبارة فنقول : الحد هو وصف الشيء وصفا مساويا ، ونعني : بالمساواة ، أن ليس فيه زيادة تخرج فردا من أفراد الموصوف ، ولا نقصان يدخل فيه غيره. فشأن الوصف هذا يكثر الموصوف بقلته ، ويقلله بكثرته ، ولذلك يلزمه الطرد والعكس. فامتناع الطرد علامة النقصان ، وامتناع العكس علامة الزيادة ، وصحتهما معا علامة المساواة ، والعبرة بزيادة الوصف ونقصانه ، الزيادة في المعنى والنقصان فيه ، لا تكثير الألفاظ وتقليلها في التعبير عن مفهوم واحد.
وهاهنا عدة اصطلاحات لذوي التحصيل ، لا بأس بالوقوف عليها ، وهي : أن الحقيقة إذا عرفت بجميع أجزائها ، سمي حدا تاما ، وهو أتم التعريفات ، وإذا عرفت ببعض أجزائها سمي : حدا ناقصا. وإذا عرفت بلوازمها سمي : رسما ناقصا. وإذا عرفت بما يتركب من أجزاء ولوازم سمي : رسما تاما.
ويظهر من هذا ، أن الشيء متى كان بسيطا امتنع تعريفه بالحد ، ولم يمتنع تعريفه بالرسم ، ولذلك يعد الرسم أعم ، كما يعد الحد أتم.
ولما كان المقصود من الحد هو التعريف ، لزم فيما يقدح في ذلك أن يحترز عنه ، فيحترز عن تعريف الشيء بنفسه ، مثل قول من يقول في تعريف الزمان : خ خ هو مدة الحركة ، والمدة هي الزمان.
__________________
(١) في (غ ، د) الفصل.
وعن تعريفه بما لا يعرف إلا به ، مثل قول من يقول في تعريف الخبر : خ خ هو الكلام المحتمل للصدق والكذب ، ثم يعرف الصدق خ خ بأنه الخبر المطابق.
وعن تعريفه بما هو أخفى ، مثل قول من يقول في تعريف الصوت : خ خ هو كيفية تحدث من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع انضغاطا بعنف.
وعن تعريفه بما يساويه ، مثل قول من يقول في تعريف السواد : خ خ هو ما يضاد البياض.
وهاهنا عقدة وهي ؛ أنّا نعلم علما قطعيا أن تعريف المجهول بالمجهول ممتنع ، وأن لا بد من كون المعرف معلوما قبل المعرّف ، وذلك يستلزم امتناع طلب التعريف واكتساب شيء به ، يبين ذلك أن المذكور في الحد ، إما أن يكون نفس المحدود أو شيئا غيره ؛ إما داخلا في نفس المحدود أو خارجا عنه ، أو متركبا من داخل وخارج ؛ فإن كان نفس المحدود ، لزم تعريف المجهول بالمجهول ، ولزم كون الشيء معلوما قبل أن يكون معلوما ؛ وفي ذلك كونه معلوما مجهولا معا من حيث هو هو ؛ وإن كان شيئا غيره ، فذلك بأي اعتبار فرض من الاعتبارات الثلاثة : إما أن يكون له اختصاص بنفس المحدود ، أو لا يكون ؛ فإن لم يكن ، لزم من طلب التعريف به لذلك المحدود دون ما سواه طلب [ترجيح](١) أحد المتساويين ، وإنه محال ؛ وإن كان ، فذلك الاختصاص إن لم يكن معلوما للمخاطب لزم ما لزم في غير المختص ، وإن فرض معلوما للمخاطب ، ولا شبهة في أن الاختصاص نسبة لأحد طرفيه إلى ثانيه متأخرة عنهما من حيث هما هما ، نازلة منزلة التركيب بين أجزاء ، استدعى كونه معلوما كون طرفيه معلومين من قبل ؛ ولزم الدور إذ لا يكون علم بالمحدود ما لم يسبق علم بالحد المختص به ، ولا يكون علم بالمختص به ما لم يكن علم باختصاص له به ، ولا يكون علم باختصاص له به ما لم يسبق علم بطرفي الاختصاص ، لكن أحد طرفيه هو نفس المحدود.
وحل هذه العقدة هو : أن المراد بالتعريف أحد أمرين : إما تفصيل أجزاء المحدود ،
__________________
(١) في (د) : ترجح.
وإما الإشارة إليه بذكر معنى يلزمه من غير دعوى ، فيكون مثل : الحاد في مقام التفصيل لجميع أجزاء المحدود ، مثل من يعمد إلى جواهر في خزانة الصور للمخاطب ، فينظمها قلادة بمرأى منه ولا يزيد.
وفي مقام الإشارة باللازم ، داخلا كان ذلك اللازم أو خارجا ، أو متركبا منهما ، مثل من يعمد إلى صورة هناك ، فيضع أصبعه عليها فحسب ، وهو السبب في أنا نقول : الحد لا يمنع ، إذ منعه ، إذا تأملت ما ذكرت ، جار مجرى أن تقول لمن بني عندك بناء : خ خ لا أسلم ، أما النقض فلازم ، لأن الحاد متى رجع إلى حد آخر يقدح في سلامة الحد المذكور ، قام ذلك منه مقام الهدم والنقض لما قد كان بني ، فاعرفه.
وفي الحد والرسم تفاصيل طوينا ذكرها حيث علمناها تمجها أذناك.
[القسم](١) الثاني
علم الاستدلال
من تكملة علم المعاني في الاستدلال ؛ وهو اكتساب إثبات الخبر للمبتدأ ، أو نفيه عنه ، بوساطة تركيب جمل ، وقولي : بوساطة تركيب جمل ، تنبيه على ما عليه أصحاب هذا النوع من إباء أن يسموا الجملة الواحدة حجة واستدلالا ، مع اكتساب إثبات ونفي بوساطتها ، مما يلزم من اندراج حكم البعض في حكم الكل ، كاستلزام : كل إنسان حيوان بعض الأناسي حيوان لا محالة. ومن الانعكاس على بعض الخبر في الثبوت كاستلزام كل إنسان حيوان أن بعض الحيوان إنسان ، وعلى كله في النفي العنادي كاستلزام لا إنسان بحجر ، أن لا حجر بإنسان ، وغير العنادية أيضا عندنا وسنقرره مثل : لا إنسان بضحاك بالفعل ، ومن نفي النقيض : كاستلزام كل إنسان حيوان أن ما ليس بحيوان ليس بإنسان : وستسمع لهذه المعاني تفاصيل بإذن الله. وإذ قد نبهناك على ذلك فنقول :
اعلم أن الخبر متى لم يكن معلوم الثبوت للمبتدأ بالبديهة ، كما في نحو : الإنسان حيوان ، أو معلوم الانتفاء عنه بالبديهة ، كما في نحو : خ خ الإنسان ليس بفرس ، بل كان بين بين ، نحو قولنا : خ خ العالم حادث ، فإن الحدوث ليس بديهي الثبوت للعالم ، ولا بديهي الانتفاء عنه.
وإذا أردنا العلم أو الظن ، لزم المصير إلى ثالث يشهد لذلك ، لكن من المعلوم أن ذلك الثالث ، ما لم يكن ذا خبر عن الطرفين ، أعني ذا نسبة إليهما ، لم يصح أن يشهد في البين نفيا أو إثباتا ، وإذا شهد لم يفد العلم أو الظن ما لم تكن شهادته واجبة القبول أو راجحته ، فيظهر من هذا أن : لا بد في الاستدلال للمطلوب من جملتين لا أنقص ، إحداهما : لنسبة الثالث إلى المبتدأ ، مثل قولنا : خ خ العالم قرين حادث. والثانية : لنسبته إلى الخبر ، مثل قولنا : وخ خ كل قرين حادث حادث.
__________________
(١) في (د) الفصل.
وأما الزيادة عليهما ، فمتى كان الثالث بين الانتساب إلى الطرفين فلا ، أي فلا يجب الزيادة ، أما إذا لم يكن بينه ، انقلب انتسابه ذلك مطلوبا ، وعادت الحالة الأولى جذعة في الافتقار إلى ثالث ، ولزم جملتان ، هناك ، متصفتان بنوع من البعد عن المطلوب الأصلي وهذا معنى قول أصحابنا في هذا النوع : أن الاستدلال مفتقر إلى جملتين قريبتين لا أزيد ولا أنقص.
ويظهر أيضا أن لا بد للجملتين من تركيب له خاصية في إيجاب قبول الشهادة أو ترجيحه ، وهو أن يكون ردها ، أو التوقف عندها ، بالنظر إلى وجه التركيب ، موقوفا على الجمع بين النقيضين.
وإذا عرفت هذا ، فاعلم أن جملتي الاستدلال : تارة تكونان خبريتين معا ، وتارة تكونان شرطيتين معا ، وتارة تختلفان خبرا وشرطا. وأنا أذكر جميع ذلك بتوفيق الله تعالى في ثلاثة أبواب :
الباب الأول
في الاستدلال الذي جملتاه خبريتان
وإنما قدمت الخبرية على الشرطية ، لما سبق في علم المعاني ، أن الجملة الشرطية جملة خبرية مخصوصة ، والمخصوص متأخر عن المطلق.
اعلم أن تركيب الجملتين في الاستدلال ، لرجوع أجزائها إلى ثلاثة من بينها يتكرر واحد ، وهي : مبتدأ المطلوب ، وخبر المطلوب ، والثالث المتكرر ؛ لا يزيد على أربع صور في الوضع :
إحداها : أن يتكرر الثالث خبر المبتدأ المطلوب ، ومبتدأ لخبره.
وثانيتها : أن يتكرر خبرا لجزئي المطلوب.
وثالثتها : أن يتكرر مبتدأ لهما.
ورابعتها : أن يتكرر مبتدأ المبتدأ المطلوب ، وخبرا لخبره. وتسمى الجملة التي فيها مبتدأ المطلوب : السابقة ، تسمية لها بحكم المبتدأ ، أو بحكم ورودها سابقة على صاحبتها في وضع الدليل في الغالب ، كما سترى والتي فيها خبر المطلوب : اللاحقة ، تسمية لها بحكم الخبر ، وبحكم ورودها لاحقة للأولى في وضع الدليل.
والجمل المستعملة في الاستدلال لا تخرج عن أقسام أربعة : إما أن تكون مثبتة ، أو لا تكون ، وهي : المنفية ؛ وكل واحدة منهما : إما أن تكون كلية ، كقولنا في الإثبات : خ خ كل اسم كلمة ، وفي النفي : خ خ لا فعل بحرف ، أو خ خ لا تكون ، وهي البعضية ، كقولنا في الإثبات : خ خ بعض الكلم اسم ، وفي النفي : خ خ لا كل كلمة اسم ، أو خ خ بعض الكلم ليس باسم ، وتسمى هذه الجمل مستعملات ، لاستعمالها في الاستدلال ، وبناء الدلائل عليها.
وأما البعضية المتناولة للمعين كقولنا : خ خ هذا الإنسان شجاع ، أو خ خ زيد شجاع ، أو خ خ غلام عمرو شجاع ، ولنسمها : خ خ معينة ، فقلما يصار إليها في الدلائل ، فلا ندخلها في المستعملات. ولكنا لا نحظر عليك المصير إليها إن انتفعت بها.
وأما الجملة التي لا تكون مبينة الحال في الكل وخلافه ، مثل قولنا : خ خ المؤمن غرّ كريم (١) ، سميت : خ خ مهملة ، ولاحتمالها الكل وخلافه إن استعملت لم تستعمل إلا في المتيقن ، وهو البعض. ولطلب اليقين في الاستدلال لا تترك الحقيقة فيه إلى المجاز ، ولا التصريح إلى الكناية ، فاعرف.
وتأليف الجملتين الواقع في كل صورة من الأربع لا يزيد على ستة عشر ضربا ، لوقوع السابقة إحدى الجمل الأربع ، ووقوع اللاحقة مع السابقة كيف كانت ، إحدى أربعها أيضا. ولهذه الصور الأربع ترتب ، فالصورة التي يجعل الثالث فيها خبر المبتدأ المطلوب ، ثم مبتدأ لخبره ، تقدم لكونها أقرب من الطبع ، كما ستقف على ذلك إذا استطلعت طلعها كلها ؛ والصورة التي وضعها جعل الثالث فيها خبر المبتدأ المطلوب ثم خبرا لخبره ، تجعل ثانية لها ، لموافقتها إياها في الوضع الأول من وضعي جملتها ؛ والصورة التي وضعها جعل الثالث فيها مبتدأ لمبتدأ المطلوب ، ثم مبتدأ لخبره ، تؤخر عن الثانية ، وتجعل ثالثة لموافقتها الأولى في الوضع الأخير من وضعي جملتها ؛ والصورة التي يجعل الثالث فيها مبتدأ لمبتدأ المطلوب ، ثم خبرا لخبره ، تؤخر عن الثانية والثالثة لمخالفتها الأولى في وضعي جملتها. وهذه الصور الأربع تشترك في أنه لا يتركب ، في أية كانت ، دليل من سابقة ولاحقة بعضيتين ولا منفيتين في درجة واحدة ، ولا سابقة منفية ولاحقة بعضية ، كما سنطلعك عليه إذا اكتسبت قدرا من الإلف.
الصورة الأولى :
وإذ قد عرفت ذلك ، فنقول : أما الصورة الأولى ، فإنها تستشهد في المطالب الأربعة ، وهي : الإثبات الكلي ، والإثبات البعضي ، والنفي الكلي ، والنفي البعضي ؛ وتشهد لذلك شهادة بينة لما أنه يجعل الثالث لازما لكل مبتدأ المطلوب أو لبعضه ، ثم يجعل خبر المطلوب لازما لكل الثالث ، فيحصل منه ثبوت خبر المطلوب لمبتدأه حصولا جليا ، لما أن لازم لازم الشيء لازم لذلك الشيء ، والألزم القدح في أحد اللزومين. إما
__________________
(١) بعض حديث صحيح تقدم تخريجه.
لزوم خبر المطلوب للثالث ، وإما لزوم الثالث لمبتدأ المطلوب. ويلزم الجمع بين النقيضين ، أو يجعل خبر المطلوب معاندا لكل الثالث ، فيحصل منه نفي خبر المطلوب عن مبتداه ، لما أن معاند لازم الشيء معاند لذلك الشيء والألزم القدح ، إما في إلزام الملازم ، وإما في عناد المعاند. ويلزم الجمع بين النقيضين.
أضرب الصورة الأولى :
وتركيب الدليل في هذه لا يزيد على أربعة أضرب :
أحدها : سابقة مثبتة كلية ولاحقة مثلها. والحاصل ثبوت كلي. كقولنا : خ خ كل جسم مؤلف ، وكل مؤلف ممكن ، يلزم منه : خ خ كل جسم ممكن.
وثانيها : سابقة مثبتة بعضية ولاحقة مثبتة كلية. والحاصل ثبوت بعضي ، كقولنا :
خ خ بعض الموجودات إنسان ، وكل إنسان حيوان ، يلزم منه : خ خ بعض الموجودات حيوان.
وثالثها : سابقة مثبتة كلية ولاحقة منفية كلية. والحاصل نفي كلي ، كقولنا : خ خ كل جسم مؤلف ولا مؤلف بقديم ، يلزم منه : خ خ لا جسم بقديم.
ورابعها : سابقة مثبتة بعضية ولاحقة منفية كلية. والحاصل : نفي بعضي ، كقولنا : خ خ بعض الحيوانات فرس ، ولا فرس بإنسان ، يلزم منه : خ خ بعض الحيوانات ليس بإنسان.
وإنما لزم في هذه الصورة كون السابقة مثبتة ، لأنها متى كانت منفية لم يلزم من ثبوت خبر المطلوب للثالث ثبوته لمبتدأ المطلوب ، لانتفاء الثالث عن المبتدأ ، واحتمال ما ثبت للثالث أن لا يتجاوزه ، كقولنا : خ خ لا إنسان بفرس ، وكل فرس صهال ، ولم يلزم نفيه أيضا لاحتمال أن يكون ما ثبت للثالث أعم ، كقولنا : خ خ لا إنسان بفرس ، وكل فرس حيوان.
وإنما لزم كون اللاحقة كلية ؛ لأنها متى كانت بعضية لم يلزم من ثبوت خبر المطلوب لبعض الثالث ثبوته لمبتدأ المطلوب ، لاحتمال أن يكون البعض اللازم لمبتدأ المطلوب غير البعض الملزوم لخبره ، مثل قولنا : خ خ كل إنسان حيوان ، وبعض الحيوان فرس ، لا يلزم منه ثبوت الفرسية للإنسان ، أو غير المعاند لخبره ، مثل قولنا : خ خ كل جسم محدث ، وبعض المحدثات ليس بفرس ، لا يلزم منه نفي الفرسية عن الأجسام.
وما عرفت من وجوب كون السابقة مثبتة ، وكون اللاحقة كلية ، هو الذي قصر ضروب [بالغات](١) ، هذه الصورة على أربعة ، أسقط ثبوت السابقة ثمانية ، وكلية اللاحقة أربعة.
الصورة الثانية :
وأما الصورة الثانية : وهي أن يجعل الثالث خبرا لكل واحد من جزأي المطلوب ، فلا تستشهد لثبوت مبتدأ لاحقتها لمبتدأ سابقتها البتة ، لصحة انتفاء أحد الشيئين عن الآخر مع اشتراكهما في لازم واحد ، كانتفاء الفرسية عن الإنسان مع الاشتراك في الحيوانية ، وإنما تستشهد لنفي مبتدأ لاحقتها وهو : خبر المطلوب ، عن مبتدأ سابقتها وهو : مبتدأ المطلوب ، وذلك بأن يجعل الثالث لازما ، لأحد المبتدأين ، ومعاندا للآخر كليا ، المبتدأ في اللاحقة البتة ، فإنه سواء لازم هذا وعاند ذاك ، أو عاند هذا ولازم ذاك ، فرق بينهما محالة متى كان كليا ، ويلزم الانتفاء. والألزم القدح : إما في اللزام أو في العناد ، ويلزم الجمع بين النقيضين ، ثم النفي في كونه كليا أو بعضيا يكون بحسب مبتدأ السابقة.
أضرب الصورة الثانية :
وتركيب الدليل في هذا الصورة لا يزيد على أربعة أضرب :
أحدها : سابقة مثبتة كلية.
[وثانيهما : سابقة منفية كلية ، ولاحقة مثبتة كلية](٢)
والحاصل فيهما نفي كلي ، مثال الأول : خ خ كل جسم متحيز ، وخ خ لا عرض بمتحيز ، يلزم : خ خ لا جسم بعرض ، ومثال الثاني : خ خ لا عرض بمتحيز ، وكل جسم متحيز ، يلزم : لا عرض بجسم.
__________________
(١) في (د) بالنعات. وفي (غ) : تأليفات.
(٢) من (غ) ، وهو سقط في (د) ، و (ط).
وثالثها : سابقة مثبتة بعضية ، ولاحقة منفية كلية.
ورابعها : سابقة منفية بعضية ، ولاحقة مثبتة كلية. والحاصل فيهما نفي بعضي ، مثال : الأول : خ خ بعض الموجودات حيوان ، وليس شيء من الحجر بحيوان ، يلزم : خ خ بعض الموجودات ليس بحجر. ومثال الثاني : خ خ كل لا موجود حيوان ، وكل فرس حيوان ، يلزم : خ خ لا كل موجود فرس.
وإنما لزم في هذه الصورة كون اللاحقة كلية ، لأنها متى كانت بعضية احتملت في البعض [الآخر](١) اللزام ، ولم يلزم من رد شهادتها محذور ، ووجوب اختلاف السابقة واللاحقة نفيا وإثباتا.
ووجوب كون اللاحقة كلية ، هما اللذان صيرا ضروب [بالغات](٢) هذه الصورة :
أربعة ، عطل الأول ثمانية وعطل الثاني أربعة.
وهاهنا دقيقة لا بد من أن ننبهك عليها ، وهي : أن اختلاف السابقة واللاحقة ، نفيا وإثباتا ، ربما كان في نفس النفي والإثبات ، فيمتنع حينئذ اتفاقهما في أن يكون منفيتين أو مثبتتين معا ، وربما كان في خصوص النفي ؛ أو خصوص الإثبات ، مثل أن يكون النفي في إحداهما ضروريا وفي الأخرى غير ضروري ، أو أن يكون الإثبات كذلك ، فلا يمتنع اتفاقهما في نفس النفي أو نفس الإثبات.
الصورة الثالثة :
وأما الصورة الثالثة ، [وهو](٣) أن يجعل الثالث مبتدأ لكل واحد من جزأي المطلوب ، فلصحة عناد الشيء الواحد للمتوافقين ، كالحجرية : للناطقية ، والإنسانية ، وللمتباينين : كالحجرية : للإنسانية ، والفرسية ، لا تصلح أن تستشهد بجعل الثالث معاندا
__________________
(١) من (غ) وهو سقط في (د ، ط).
(٢) في (غ) تأليفات.
(٣) في (غ) : وهي.
لهما ، لا للإثبات ولا للنفي ، لكن يجعل إما ملزوما لكل واحد منهما ، فتشهد لاجتماعهما ، وإلا لزم القدح في كونه ملزوما ، ويلزم الجمع بين النقيضين ، وإما ملزوما لأحدهما معاندا للآخر ، فتشهد لافتراقهما ، والألزم القدح في كونه ملزوما معاندا ، ويلزم الجمع بين النقيضين.
لكن لاحتمال أن يكون اللازم أعم من الملزوم لا تثبت ولا تنفى إلا بقدر ما ينعكس الملزوم على اللازم ، وهو بعض أفراد اللازم ، ويلتزم جعله ، أعني جعل الثالث ، ملزوما في السابقة ألبتة ، وكليا إما في الجملتين وإما في إحداهما ؛ لأن السابقة بتقدير كونها منفية مباينا مبتدؤها للخبر ، كما في قولنا : خ خ لا إنسان من الأناسي بفرس ، إذا أثبتنا بعدها للإنسان لازما ، احتمل أن يكون أعم ، مثل قولنا : وخ خ كل إنسان حيوان ، فلم يلزم أن ينفى عن جميع الأفراس ، ولا عن بعضها الحيوانية : بخلافه إذا أثبتنا أولا ، ونفينا ثانيا فقلنا : خ خ كل إنسان حيوان ، ولا إنسان من الأناسي بفرس ، فإنه يلزم أن ينفي عن بعض الحيوان الفرسية ، وهذا [كاف](١) في التنبيه ، وإنما لزم فيها أن لا تعرى عن كلية ؛ لأن السابقة واللاحقة ، متى كانتا بعضيتين ، احتمل البعضان التغاير ، ولم يلزم اتحاد المبتدأين ، فلا يتحقق لخبريهما اجتماع.
أضرب الصورة الثالثة :
وتركيب الدليل في هذه الصورة لا يزيد على ستة أضرب :
أحدها : سابقة مثبتة كلية ولاحقة مثلها ، وثانيها : سابقة مثبتة بعضية ولاحقة مثبتة كلية ، وثالثها : سابقة مثبتة كلية ، ولاحقة مثبتة بعضية ، والحاصل في هذه الثلاثة ثبوت بعضي.
مثال الأول : كان إنسان حيوان ، وكل إنسان ناطق ، يلزم بعض الحيوان ناطق.
ومثال الثاني : بعض الناس قصير ، وكل إنسان ضحاك ، يلزم بعض القصار ضحاك.
__________________
(١) في (د) و (غ) : كان.
ومثال الثالث : كل إنسان حيوان ، وبعض الناس كاتب ، يلزم : بعض الحيوان كاتب.
ورابعها : سابقة مثبتة كلية ، ولاحقة منفية كلية.
وخامسها : سابقة مثبتة بعضية ، ولاحقة منفية كلية.
وسادسها : سابقة مثبتة كلية ، ولاحقة منفية بعضية ، والحاصل في هذه الثلاثة نفي بعضي.
مثال الرابع : كل إنسان حيوان ، ولا إنسان بفرس ، يلزم بعض الحيوان ليس بفرس.
ومثال الخامس : بعض الحيوان أبيض ، ولا حيوان بحجر ، يلزم بعض البيض ليس بحجر.
ومثال السادس : كل إنسان ناطق ، وبعض الناس ليس بكاتب ، يلزم بعض الناطقين ليس بكاتب.
والسبب في أن كانت ضروب تأليفات هذه الصورة ستة ، هو : أن وجوب كون السابقة مثبتة أهمل ثمانية ، والتزام أن لا تعرى عن كلية أهمل اثنين.
الصورة الرابعة وأضربها :
وأما الصورة الرابعة ، فيجعل الثالث فيهما لازما في اللاحقة ، كلية أو بعضية كيف كانت ، لمبتداها الذي هو خبر المطلوب ، فيصير بعضه مستلزما لخبر المطلوب استلزاما بحكم الانعكاس ، ويجعل كله في السابقة ليشمل البعض المستلزم لخبر المطلوب ملزوما لخبرها الذي هو مبتدأ المطلوب ، فيصير مستلزما لبعض مبتدأ المطلوب ، وهو القدر الذي يصح انعكاسه عليه ، ويجمع بين جزأى المطلوب في الضربين جمعا بعضيّا ، والألزم القدح في أحد الاستلزامين ، ويلزم الجمع بين النقيضين.
مثال الأول : كل إنسان حيوان ، وكل ناطق إنسان ، يلزم منه : بعض الحيوان ناطق. ومثال الضرب الثاني : كل إنسان ناطق ، وبعض السود إنسان ، يلزم منه : بعض الناطق أسود.
أو يجعل الثالث في اللاحقة معاندا لكل مبتداها ، فينعقد العناد بينهما كليّا من الجانبين ، ويجعل كله أو بعضه كيف كان ملزوما لخبر السابقة ، فيصير مستلزما لبعض الخبر الذي هو مبتدأ المطلوب ، ومعاندا لكل خبر المطلوب ، ويفرق بين الخبرين تفريقا بعضيا ، والألزم القدح في كونه مستلزما معاندا ، ويلزم الجمع بين النقيضين.
مثال الضرب الأول منهما : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الأفراس بإنسان ، يلزم منه : لا كل حيوان فرس. ومثال الضرب الثاني منهما : بعض الحيوانات أبيض ، ولا شيء من الحجر بحيوان ، يلزم منه لا كل أبيض حجر.
أو يجعل الثالث لازما في اللاحقة كلية ، مستلزما بعضه لكل مبتداها ، و [يجعله](١) مباينا في السابقة كليا ، فيصير مباينا لكل مبتدأ المطلوب ، مستلزما لكل خبره ، ويفرق بينهما تفريقا كليا والألزم القدح في كونه مباينا مستلزما ، ويلزم الجمع بين النقيضين ، والذي صير ضروب هذه الصورة الستة عشر إلى خمسة التفصيل المذكور وهو : كلية السابقة مثبتة في الإثبات ، وكليتها منفية في النفي مع كلية اللاحقة ، وكلية اللاحقة منفية ، والسابقة كيف كانت.
واعلم أن خلاصة هذه الصور الأربع وضروب تأليفاتها التسعة عشر راجعة إلى حرف واحد وهو : أن المبتدأ متى لم يكن معلوما من نفسه مجامعته للخبر فيثبت ، أو مفارقته له فينفي [بطلب](٢) ثالث بينهما يجمعهما أو يفرقهما ، ثم الحاكم في جمع الثالث أو تفريقه أحكام أصلين : أحدهما : أن لزوم الشيء لكل آخر أو بعضه ينعكس بعضيا ، وأن عناد الشيء لكل آخر ينعكس كليا ، فملزوم اللازم مستلزم لبعض أفراد اللازم بالقطع استلزاما من الجانبين : استواء وانعكاسا ، وثانيهما : أن المستلزم لا ينفك عن المستلزم ، فإن كان المستلزم ثبوت شيئين اجتمعا ، وإن كان ثبوت واحد وانتفاء آخر تفرقا ، فأنت متى وجدت الثالث متحدا ، إما لكونه كلا في السابقة واللاحقة ،
__________________
(١) في (د) و (غ) يجعل.
(٢) في (د) و (غ) يطلب.
بنيت على الكل الجمع والتفريق. وإما لكونه بعضا مندرجا في الكل متحدا به ، بنيت على البعض الجمع والتفريق.
وأنا أوضح لك هذا في الصور الأربع.
أما في الصورة الأولى فيجعل الثالث لازما لمبتدأ المطلوب كله أو بعضه ، ويصير بعضه ، أعني بعض الثالث ، مستلزما لذلك الكل أو البعض ، بطريق الانعكاس ، ثم يجعل كله ، أعني كل الثالث ، ليتحد البعض المستلزم لكل المبتدأ أو لبعضه ، مستلزما لخبر المطلوب بطريق الاستواء ، فيصير البعض ، المتّحد به مع استلزامه للمبتدأ ، مستلزما للخبر ، ويجمع بينهما كليا في أحد الضربين ، أو بعضيّا في الآخر ، أو معاندا لخبر المطلوب ، فيفرق كليّا في ضرب وبعضيّا في ضرب.
وأما في الصورة الثانية : فالثالث يجعل إما لازما للمبتدأ كله أو بعضه ، ويصير بعض أفراده مستلزما للمبتدأ الكلي أو البعضي بطريق الانعكاس ، ثم يجعل كل الثالث لطلب الاتحاد ، معاندا للخبر ، فتفرق في أحد الضربين كليا ، وفي الآخر بعضيا ، وإما معاندا للمبتدأ كله أو بعضه ، ثم يجعل كله ، لأجل الاتحاد ، مستلزما للخبر كله ، فيفرق أيضا كليا في أحد الضربين ، وبعضيا في الآخر.
وأما في الصورة الثالثة ، فيجعل الثالث كله أو بعضه ملزوما لمبتدأ المطلوب ويصير مستلزما لبعض أفراده بطريق الاستواء ، ثم يجعل كله أو بعضه مع الكلي ، وكله البتة مع البعضي لطلب الاتحاد : إما ملزوما لخبر المطلوب فيجمع في الأضرب الثلاثة بعضيا ، وإما معاندا فيفرق في الأضرب الثلاثة بعضيّا.
وأما في الصورة الرابعة ، فيجعل الثالث كله ملزوما لمبتدأ المطلوب ، ويصير مستلزما لبعض أفراده بطريق الاستواء ، ثم يجعل لازما لكل خبر المطلوب أو لبعضه ، ويصير بعض أفراده المتحد لكل المستلزم لبعض أفراد المبتدأ مستلزما لذلك الخبر ، فيجمع بينهما في الضربين بعضيا ، أو يجعل الثالث كله ، أو بعضه ملزوما لمبتدأ المطلوب ، ويصير ذلك الكل ، أو ذلك البعض ، مستلزما لبعض أفراد المبتدأ ، ثم يجعل معاندا لكل خبر المطلوب ، طلبا للاتحاد ، فيفرق في الضربين بعضيّا ، أو يجعل الثالث معاندا لكل مبتدأ المطلوب ، ثم يجعل لازما لكل خبر المطلوب ، ويصير بعض أفراده مستلزما كل الخبر ،
ويتحد البعض المستلزم بالكل المعاند ، فيفرق كليّا.
ويظهر من هذا : أن الدليل يمتنع تركيبه من سابقة ولاحقة بعضيتين لاحتمال عدم الاتحاد ، ومن متفقتين في درجة النفي ، على ما سبق التنبيه عليه ، لعدم استلزامهما الجمع والتفريق ، لاحتمال انتفاء الشيء الواحد عن متوافقين وعن متباينين. ومن سابقة منفية ولاحقة بعضية ، لعدم استلزام الجمع والتفريق. ولما ترى من مبنى معرفة صحة الدليل على العلم بالحكمين النقيضين ، ومن افتقاره إلى معرفة انعكاس الجمل ، لزمنا أن نورد في حل عقدهما الموربة ، وفك قيودهما المكربة ، فصلين : أحدهما : لتتبع قيود التناقض ، وثانيهما : لتتبع الانعكاس.
الفصل الأول
في الكلام في الحكمين النقيضين
الحكمان النقيضيان هما اللذان لا يصح اجتماعهما معا ، ولا ارتفاعهما معا ، بخلاف المتضادين. فالمتضادان : لا يصح اجتماعهما ولكن يصح ارتفاعها ، ولذلك ترى الأصحاب يحدون التناقض بين الجملتين بأنه اختلافهما ، بالنفي والإثبات ، اختلافا يلزم منه لذاته كون : إحداهما صادقة ، والأخرى كاذبة مثل : خ خ هذا حيوان ، خ خ هذا ليس بحيوان ؛ وقولهم : خ خ لذاته ، احتراز عن مثل : خ خ هذا إنسان ، خ خ هذا ليس بناطق ، لكونه غير مسمى فيما بينهم بالتناقض لعذر لهم ، وعسى أن يعثر عليه.
شروط التناقض :
ونذكر للتناقض شروطا ، وهي عندي أكثر مما تذكر ، وإلا فأقل. ومساق كلامي هذا يطلعك على معنى ذلك.
أحدها : أن لا تختلف الجملتان في المبتدأ حقيقة اختلافهما في نحو : خ خ العين تبصر أي الجارحة المخصوصة. العين لا تبصر ، أي عين الماء.
وثانيها : أن لا تختلفا فيه [جزءا](١) أو جملة ، اختلافهما في نحو : خ خ عين زيد سوداء ، أي حدقتها ، خ خ عين زيد ليست بسوداء ، أي جملتها.
وثالثها : أن لا تختلفا فيه شرطا ، اختلافهما في نحو : خ خ الأسود جامع للبصر ، أي ما دام أسود ، الأسود ليس بجامع للبصر ، أي زال كونه أسود ، لأن قولنا : خ خ الأسود جامع للبصر ، معناه الشيء الذي له السواد.
ورابعها : أن لا تختلفا فيه إضافة ، اختلافهما في نحو : خ خ الأب حاضر ، أي أبو زيد ، خ خ الأب ليس بحاضر ، أي أبو عمرو.
__________________
(١) في (د) جزاء.