تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

وحاصله : أنّ الخبر الموافق فيه من احتمال الريب ما ليس في الخبر المخالف ، فلو علمنا بموافقة أحد الخبرين لمذهب بعض العامّة واحتملنا موافقة الخبر الآخر لمذهب بعض آخر منهم كان الرجحان في جانب ما احتملنا موافقته ، لأنّه أقلّ احتمالا بالنسبة إلى التقيّة من الخبر المعلوم موافقته ، وعليه فيخرج ذلك من المرجّحات المنصوصة ويدخل في المرجّحات الغير المنصوصة ، لاختصاص المرجّح المنصوص بالمخالف والموافق لمذهب كلّهم أو أكثرهم أو ما اشتهر من مذاهبهم.

وبالجملة هناك صور :

منها : المخالفة والموافقة لمذهب كلّهم.

ومنها : المخالفة والموافقة لمذهب أكثرهم.

ومنها : المخالفة والموافقة لما اشتهر من مذاهبهم.

ولا ريب في كون الأوّلين من المرجّحات المنصوصة وكذلك الثالث ظاهرا.

ومنها : الموافقة والمخالفة لمذهب بعضهم مع احتمال الموافقة في المخالف أيضا.

والأصل في عدم تحصّل الوجوه الثلاث الاول لنا : تعذّر الاطّلاع لنا على جميع مذاهب العامّة ، وعلى كون مذهب كلّهم أو مذهب أكثرهم في زمان الصدور شيئا واحدا ، وعلى أنّ الحكم الفلاني هو ما اشتهر من مذاهبهم ولو كان لبعضهم كأبي حنيفة هذا.

واعلم أيضا أنّ الصحيح من الوجوه الأربعة المحتملة في مرجّحية المخالفة لمذهب العامّة ـ مع قطع النظر عمّا بيّنّاه من أنّه لا يتحصّل لنا اليوم إلاّ بعضها ـ إنّما هو الوجه الأخير أيضا لضعف ما سواه.

وأضعف الوجوه أوّلها ، أمّا أوّلا : فلأنّه خلاف ما ينساق من مجموع أخبار التراجيح المتكفّلة لبيان المرجّحات من كون مبنى الترجيح على الكشف النوعي وهو قسيم للتعبّد.

وأمّا ثانيا : فلأنّه خلاف ما استقرّ عليه عمل العلماء قديما وحديثا من حمل الغير الموافق عند الترجيح بالمخالفة على التقيّة.

وأمّا ثالثا : فلأنّه خلاف ما ينساق من الأخبار المعلّلة بالحقّ والرشد والرشاد ، فيلزم من الالتزام به طرح جميع هذه الأخبار ، مع أنّه لا مدرك له إلاّ الإطلاق المتوهّم في الأخبار المطلقة.

ويدفعه : وجوب تنزيلها على الأخبار المعلّلة حملا للمطلق على المقيّد ، ويقرب منه في الضعف الوجه الثاني لعين الوجوه المذكورة مع خلوّه عمّا يشهد به. والاستشهاد له

٦٦١

بمرسلة داود بن الحصين ورواية الحسين بن خالد ، يزيّفه : ظهور ورود الخبرين في مقام آخر غير مقام التعارض ، لكون المراد بالموافقة للعامّة الموجبة لعدم كونه منهم عليهم‌السلام والمخالفة لهم الموجبة لكونه منهم عليهم‌السلام أي من شيعتهم إنّما هو الموافقة والمخالفة لهم في أصل المذهب.

ولا ريب أنّ الموافقة لهم في المذهب الّتي مرجعه إلى إنكار أمر الإمامة غير الأخذ بالخبر الموافق لمذهبهم ، فيبقى الأخيران ولا يبعد القول بصحّة كليهما لوجود شاهد في الأخبار على كليهما وإن كان شاهد أوّلهما أكثر.

ويمكن القول بانحصار الصحيح في الوجه الأخير كما أشرنا إليه ، لأنّ سابقه خلاف المشهور بين العلماء والمعهود من طريقتهم من الحمل على التقيّة ، مع أنّ تنزيل الترجيح بالمخالفة على هذا المعنى يؤول إلى إرجاع مرجّح جهة الصدور إلى مرجّح المضمون الكاشف ظنّا إجماليّا عن وقوع خلل في الخبر الخالي عن ذلك المرجّح الّذي مضمونه أبعد عن الواقع إمّا في صدوره أو دلالته أو جهة صدوره ، إذ مخالفة الخبر إذا كشفت عن كونه أقرب إلى الواقع الملازم لكون الخبر الموافق أبعد عن الواقع يظنّ معه إجمالا بوقوع خلل فيه إمّا في صدوره أو دلالته أو جهة صدوره كالشهرة بالقياس إلى الخبر الشاذّ حسبما بيّنّاه سابقا ، إذ الأقربيّة إلى الواقع والأبعديّة عنه صفتان للمضمون ، وهذا خلاف المعهود من طريقة الأصحاب والمنساق من أخبار الباب ، فلا بدّ من إرجاع هذا الوجه إلى الوجه الأخير ، على معنى كون أقربيّة الخبر المخالف بسبب المخالفة إلى الواقع إنّما هي باعتبار أضعفيّة احتمال التقيّة فيه بالقياس إلى احتمالها في الخبر الموافق ، ولا ينافيه التعليلات الموجودة في الأخبار المعلّلة ، لأنّها أيضا منزّلة على صورة الورود تقيّة ، إذ مصلحة التقيّة مع غيرها من سائر المصالح الباعثة على بيان خلاف الواقع متشاركتان في أصل الخبر لغير جهة بيان الواقع ، فمعنى كون الرشد أو الحقّ في خلافهم في تعليل الترجيح بمخالفة العامّة أنّ الخبر الموافق لصدوره على جهة التقيّة أو لاحتمال صدوره كذلك غير مطابق للرشد والحقّ أو أبعد عنهما ، فليتدبّر.

وبتذكّر بعض ما بيّنّاه في تضاعيف البحث يندفع ما ذكره المحقّق إعتراضا على الشيخ حيث إنّه قال في العدّة : « إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقه ».

قال المحقّق في المعارج ـ على ما حكي بعد حكاية هذه العبارة ـ : « والظاهر أنّ احتجاجه

٦٦٢

في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه‌السلام ، وهو إثبات مسألة علميّة بخبر الواحد.

ولا يخفى عليك ما فيه ، مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره ، فإن احتجّ بأنّ الأبعد لا يحتمل إلاّ الفتوى والموافق للعامّة يحتمل التقيّة فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل.

قلنا : لا نسلّم أنّه لا يحتمل إلاّ الفتوى ، لأنّه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه‌السلام وإن كنّا لا نعلم ذلك.

فإن قال : أنّ ذلك يسدّ باب العمل بالحديث.

قلنا : إنّما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقا ، فلا يلزم سدّ باب العمل » انتهى.

ملخّص ما ذكره في الاعتراض على تنزيل الخبر الموافق للعامّة على التقيّة معارضة احتمال التقيّة فيه باحتمال التأويل في الخبر الأبعد من قول العامّة بأن ينزّل على خلاف ظاهر يرى الإمام عليه‌السلام إرادته لمصلحة علمها ، فهو كما يحتمل الإفتاء بظاهره المخالف للعامّة يحتمل الإفتاء بخلاف ظاهره الموافق للعامّة.

ويدفعه : أنّ احتمال التقيّة في أحد المتعارضين لا يلتفت إليه إلاّ إذا تساويا من جميع الجهات الراجعة إلى الصدور والمتن والدلالة ، فإمّا أن لا يجري احتمال التأويل في الأبعد أو يجري نحوه في الموافق أيضا فيتعارضان ، فيبقى احتمال التقيّة في الموافق سليما.

هذا مضافا إلى ما يقال : من أنّه لو فرض اختصاص الخبر المخالف باحتمال التأويل وعدم تطرّقه في الخبر الموافق كان اللازم ارتكاب التأويل في الخبر المخالف ، لأنّ النصّ والظاهر لا يرجع فيهما إلى المرجّحات الاخر ، فما ذكره من المعارضة خارج عن معقد كلام الشيخ.

ثمّ اعلم أنّ المشهور بين العلماء قولا وعملا أنّ حمل الخبر على التقيّة لا يكون إلاّ مع الموافقة لمذهب العامّة ولو لبعضهم ، فالموافقة لهم شرط لحمله عليها ، خلافا لصاحب الحدائق في المقدّمة الثانية من مقدّمات الحدائق فأنكر اشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة ، فزعم أنّ التقيّة كما تحصل ببيان ما يوافق العامّة كذلك تحصل بمجرّد إلقاء الخلاف بين الشيعة كيلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم ، واستند في ذلك إلى روايات وردت في وجه اختلاف أخبارهم عليهم‌السلام المشتملة على قولهم : « نحن نلقي الخلاف بينكم » وفي بعضها

٦٦٣

التعليل : « بأنّه أبقى لنا ولكم ».

وبالجملة فالموافقة لهم غير لازمة في التقيّة ، فلا وجه للاقتصار في الحمل عليها على صورة الموافقة.

وفيه ـ مع أنّه ينافي ما تقدّم سابقا من قوله عليه‌السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه » ـ : أنّ التقيّة مع عدم موافقته العامّة ممّا لا يكاد يتعقّل ، إذ الخبر الّذي يحمل على التقيّة إمّا سليم عن المعارض أو له معارض ، وعلى الثاني إمّا أن لا يكون بينهما ترجيح ، بأن يكونا متساويين من جميع الوجوه ، أو يكون بينهما ترجيح ، وعلى الثاني إمّا أن يكون الترجيح من غير جهة التقيّة أو من جهة التقيّة.

وأيّا ما فالحمل على التقيّة بدون موافقة العامّة غير صحيح ، أمّا في الأوّل : فلأنّ حمل الخبر السليم عن المعارض على التقيّة لابدّ له من أمارة ولا تكون إلاّ الموافقة ، ولم نقف على من حمله على التقيّة بدونها ، حتّى أنّ المعترض أيضا لا يحمل عليها كيف وهو غير ممكن.

وأمّا في الثاني : فلأنّ حمل أحدهما على التقيّة مع فرض التساوي غير ممكن لقيام احتمالها في كليهما على نهج سواء ، فلابدّ لتخصيص أحدهما بذلك الحمل من مخصّص ولا مخصّص إلاّ الموافقة.

وأمّا في الثالث : وهو أن يكون بينهما ترجيح من غير جهة التقيّة كأن يكون أحد الخبرين مشهورا مثلا ، فهم في مثل ذلك لا يحملونه ولا صاحبه ـ وهو الخبر الشاذّ ـ على التقيّة ، بل يأخذون بموجب الشهرة ، وإن كان ولابدّ من الحمل عليها حينئذ فهو من دون أمارة تعيّن محلّها غير ممكن ، والشهرة لا تصلح أمارة عليه فلابدّ من اعتبار الموافقة.

وأمّا في الرابع : وهو أن يكون ترجيح بينهما من جهة التقيّة ، وهو أن يرجّح أحدهما بحمل صاحبه على التقيّة ، وهذا أيضا ممّا لا يمكن إلاّ إذا كان المحمول عليها موافقا للعامّة ، وإلاّ فلو كانا مخالفين لهم فهو أمارة عدم التقيّة ، ومعه كيف يحمل أحدهما عليها ، ولو كانا موافقين لهم فهو أمارة التقيّة فيهما ومعه كيف يحمل أحدهما عليها دون صاحبه؟

وبالجملة الخلاف الّذي زعمه بينه وبين المشهور لابدّ له من محلّ ، ولا يصلح شيء من الأقسام الأربعة محلاّ له ولا نعقل ممّا سواها ما يصلح محلاّ له ، هذا مع أنّ التقيّة قوليّة كانت أو فعليّة حكم اخذ في موضوعه الموافقة ، أمّا على الأوّل : فلأنّها عبارة عن إظهار الموافقة للعامّة.

٦٦٤

وأمّا على الثانية : فلأنّها عبارة عن العمل بما يوافقهم أو تطبيق العمل على مذهبهم.

ومن البيّن استحالة تحقّق الحكم منفكّا عن موضوعه.

فتحقيق المقام : أنّ مصالح صدور الخبر على خلاف الواقع كما أشرنا إليه سابقا كثيرة ، منها : إلقاء الخلاف بين الشيعة ، ومنها : التقيّة قوليّة أو فعليّة.

فالتقيّة مصلحة مقابلة لمصلحة إلقاء الخلاف بين الشيعة ، وعدم (١) الموافقة للعامّة لا تعتبر في الاولى مع اعتبارها في الثانية ، فالإيراد على المشهور بمنع اعتبارها في الثانية تعليلا بأنّها غير معتبرة في الاولى مع كونها في الطرف المقابل من الثانية كما ترى ، إلاّ أن يعتذر بجعله التقيّة للأعمّ وعليه مبنى عدم اعتبار الموافقة فيها وحينئذ فلا مشاحّة ، إلاّ أنّ النزاع معه حينئذ لفظيّ ببعض معانيه لرجوعه إلى تسمية إلقاء الخلاف بين الشيعة تقيّة.

وبالجملة الخلاف الّذي أحدثه إن كان معنويّا فممّا لا محصّل له ، وإن كان لفظيّا فممّا لا جدوى فيه.

ولعلّ منشاءه أنّه لمّا وجد أصحابنا المتأخّرين من العلاّمة ومن بعده أنّهم أحدثوا في تنويعهم الأخبار على أربعة أنواع وضعوا فيها اصطلاحا الصحيح والموثّق والحسن والضعيف ، وتخيّل من ذلك أنّ الباعث عليه اختلاف الأخبار المرويّة عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام غاية الاختلاف وكثرة تبائنها وتعارضها بمظنّة أنّ هذا الاختلاف إنّما نشأ من اختلاط الأخبار الكاذبة بالأخبار الصادقة ، ودسّ الأحاديث الموضوعة في الأحاديث المأثورة الصادرة منهم عليهم‌السلام ، فأخذوا بذلك التنويع ووضعوا ذلك الاصطلاح ، ليتميّز به الأخبار الصادقة عن الكاذبة والأحاديث المدسوسة عن الأحاديث المأثورة ، فأخذ رحمه‌الله بدفع هذا التوهّم ومنع وجود الأخبار الكاذبة في الأخبار الموجودة بأيدينا المودعة في الكتب الأربعة بدعوى أنّها قطعيّة الصدور ، لأنّ قدماء أصحابنا المحدّثين كالكليني والصدوق والشيخ وغيرهم من أرباب التصانيف رضوان الله عليهم وقدّس الله أرواحهم تعبوا خواطرهم في تصحيح تلك الأحاديث فنقّحوها ونقّبوها وأخرجوا منها الأخبار الكاذبة بقدر جهدهم وعلى حسب وسعهم ، فهذه الأخبار الّتي بأيدينا اليوم وصلت منهم إلينا مصفّاة منقّاة خالية عن الكاذبة والموضوعة بالمرّة ، فلا يمكن حينئذ توهّم اختلاطها بها لتمسّ الحاجة إلى التميّز والتشخيص.

ثمّ إن قلت : فما وجه هذا الاختلاف الموجود فيها ، ومن أيّ شيء حصل ذلك مع

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب ، و « الموافقة للعامّة » إلخ.

٦٦٥

فرض صدور الكلّ عن الأئمّة عليهم‌السلام؟

قلنا : منشأ الاختلاف في الأخبار غير منحصر في اختلاط الأخبار الكاذبة ودسّ الأحاديث الموضوعة ، بل قد يحصل تقيّة كما يدلّ عليه قولهم : « نحن نلقي الخلاف بينكم ».

فإن قلت : إنّ التقيّة يشترط فيها الموافقة للعامّة ، فلو فرض كون المتعارضين مخالفين لهم فلا يتطرّق إليهما احتمال التقيّة ، فكيف ينزّل الاختلاف في الأخبار على التقيّة مع عدم احتمالها.

قلت : نمنع اشتراط التقيّة بالموافقة ، لأنّها كما قد تحصل ببيان ما يوافق العامّة فقد تحصل بإلقاء الخلاف من دون أن يكون هناك موافقة ، واستشهد لذلك بجملة من الروايات الّتي ذكرها في المقدّمة الثانية (١) من مقدّمات الحدائق (٢) ، فمبنى مخالفته المشهور كما يظهر من كلامه على ذلك ظاهر.

ويرد عليه : أنّ ما ذكره في وجه اختلاف الأخبار وإن كان في الجملة حسنا متينا قابلا لأن يذكر في الكتب العلميّة يصدر من أهل العلم ، غير أنّه إنّما يسلّم في الجملة لا مطلقا ، بمعنى أنّ كلّ اختلاف في الأحاديث ليس ناشئا عن الأئمّة واقعا منهم عليهم‌السلام لمراعاة مصلحة إلقاء الخلاف بينهم وإن كان قد يكون لذلك ، بل الغالب من أسباب حصول الاختلاف بعد تسليم قطعيّة صدور الجميع أو الظنّ بها إنّما هو كثرة إرادة خلاف ظواهر تلك الأخبار لقرائن حاليّة ومقاميّة زالت بانقضاء زمان التخاطب ، أو بقرائن لفظيّة متّصلة اختفت علينا لكثرة ما تطرّق إلى الأحاديث من التقطيع أو النقل بالمعنى أو غير ذلك ، أو بقرائن لفظيّة منفصلة ذهبت عنّا بانطماس كتب الأحاديث واندراسها ، أو بغير قرائن لمصلحة التقيّة بناء على ما تقدّم من أنّ التقيّة قد تكون بالتأويل ، أو لمصلحة اخرى غير التقيّة علمها الإمام عليه‌السلام ، ومن ذلك ما روي : « أنّه لمّا سأله عليه‌السلام بعض أهل العراق وقال : كم آية تقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه‌السلام : ثمانون ، ولمّا بعد السائل فقال عليه‌السلام : هذا يظنّ أنّه من أهل الإدراك ، فقيل له : ما أردت بذلك ، وما هذه الآيات؟ فقال : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فإنّ الحمد والتوحيد لا يزيد على عشرة آيات ، ونافلة الزوال ثمان ركعات » ونحوه غيره ممّا يظفر عليه المتتبّع.

ويؤيّد ما ذكرنا ـ من كون الغالب من أسباب اختلاف الأحاديث إنّما هو إرادة خلاف

__________________

(١) والصواب : المقدّمة الاولى.

(٢) الحدائق ١ : ٨.

٦٦٦

ظواهرها الغير الظاهرة لنا ـ ما روي مستفيضا من « عدم جواز ردّ الخبر وإن كان ممّا ينكر ظاهره ، حتّى إذا قال للنهار أنّه ليل ولليل أنّه نهار ، معلّلا بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطّن له السامع فينكره فيكفر من حيث لا يشعر » ، والظاهر أنّ عليه مبنى طريقة الشيخ في التهذيبين من إخراجه الأخبار المتبائنة إلى محامل بعيدة لمجرّد المحافظة عليها عن الردّ والطرح.

ثمّ إنّ التقيّة في الخبر قد يكون لموافقته فتوى العامّة وهو الغالب المصرّح به في كثير من الأخبار ، وقد يكون لموافقته أخبارهم الّتي رووها ، وقد يكون لموافقة عمل عوامهم ، وقد يكون لموافقة عمل سلاطينهم ، وقد يكون لموافقة عمل قضاتهم كما نبّه عليه في المقبولة حيث أمر بالأخذ بما وافق ما هو أميل حكّامهم ، وقد يكون لموافقة قواعد [ هم ] وطرقهم في الاصول والفروع كالقياس والاستحسان وغيره.

تذنيب

قد عرفت سابقا أنّه إذا وقع التعارض بين مرجّح الصدور ومرجّح جهة الصدور فيما إذا ورد خبران أحدهما موافق للعامّة مع كون راويه أعدل والآخر مخالف للعامّة يرجّح مرجّح الصدور فيؤخذ بخبر الأعدل وإن كان موافقا ويطرح خبر العادل وإن كان مخالفا ، وليعلم أنّ الخبر الموافق لاحتماله التقيّة ممّا لم يجز الأخذ به على أنّ مؤدّاه الحكم الواقعي إلاّ بعد نفي الاحتمال المذكور بأصالة عدم التقيّة ، فلابدّ عند الترجيح بمرجّح الصدور من إعمال ذلك الأصل أيضا.

وقد يتوهّم أنّ تقديم خبر الأعدل هنا يحصل بملاحظة الأعدليّة مع انضمام أصالة عدم التقيّة ، فيستشكل بأنّه ينافي عموم ما دلّ على حجّية خبر العدل فإنّه يشمل الخبر المخالف كما يشمل الموافق أيضا.

وقضيّة صدورهما معا مع كون صدور المخالف قرينة على صدور خبر الأعدل على جهة التقيّة ، ومعه لا مجرى لأصالة عدم التقيّة ، لأنّ الأصل لا يعارض الدليل وهو العموم المذكور ، ويلزم منه تقديم مرجّح جهة الصدور على مرجّح الصدور عند التعارض عملا بعموم دليل الحجّية الّذي لا يعارض أصالة عدم التقيّة في جانب مرجّح الصدور ، نظير ما هو الحال في تعارض مرجّح الصدور ومرجّح الدلالة فيما ورد خبران أحدهما أظهر

٦٦٧

والآخر ظاهر مع كون راويه أعدل ، حيث لا يؤخذ فيه بمقتضى مرجّح الصدور مع انضمام أصالة الحقيقة في جانب الظاهر ، لأنّه يستلزم طرح خبر العادل الّذي هو الأظهر ، وهو ينافي عموم أدلّة حجّية خبر العدل ، فإنّه يقتضي صدورهما معا ، وينهض صدور الأظهر قرينة على كون المراد بالظاهر خلاف ظاهره طرحا لأصالة الحقيقة ، وهي لا تعارض عموم أدلّة الحجّية ، ولأجل ذا يقدّم مرجّح الدلالة على مرجّح الصدور.

وفيه من المغالطة ما لا يخفى ، أمّا أوّلا : فلأنّ الطرح اللازم من الترجيح لا ينافي أدلّة الحجّية إمّا لعدم كونه من جهة فقد المقتضي وهو الحجّية الذاتيّة ، بل لوجود المانع ، أو لأنّ أدلّة الحجّية إنّما اقتضت وجوب العمل بخبر العدل ما لم يمنعه المانع ، والتعارض مانع.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مستند ترجيح الخبر الموافق المستلزم لطرح الخبر المخالف ليس هو الأصل المذكور حتّى يقال : إنّه لا يصلح معارضا لعموم أدلّة الحجّية ، بل النصّ الدالّ بإطلاقه على وجوب الترجيح بالأعدليّة وغيرها من مرجّحات الصدور وهو مقبولة عمر بن حنظلة ، ولا ريب أنّه يصلح مخرجا من عموم الحجّية ، والأصل المذكور إنّما يتمسّك به لرفع المانع من العمل بالخبر الموافق بعد تقديمه على المخالف وهو احتمال التقيّة لا لأجل طرح المخالف.

وأمّا ثالثا : فلأنّ حمل الخبر على التقيّة في معنى الطرح فيشكل التعلّق في الحكم بصدورهما معا بأدلّة الحجّية ، لأنّ معنى حجّيّة خبر الواحد وجوب تصديق راويه ، ومعنى تصديقه ترتيب آثار الصدق على خبره ، ومعنى ذلك الأخذ بمضمونه والتعبّد بمدلوله على حسب الدلالات المعتبرة على أنّه حكم الله الواقعي ، وهذا كما ترى ممّا لا يتأتّى في الخبر المحمول على التقيّة ، لوضوح أنّ معناه عدم الأخذ بمضمونه والتعبّد بما هو مقتضاه وهذا في معنى الطرح ، فلم يترتّب على الأخذ بموجب أدلّة الحجّية ما هو الغرض المطلوب منها وهو التصديق بالمعنى المذكور.

لا يقال : إنّ معنى تصديق الراوي عدم تكذيبه ، أي عدم الحكم بكونه كاذبا في إخباره عن المعصوم ، وهذا كما ترى يتأتّى في الخبر المحمول على التقيّة أيضا ، لأنّا نصدّقه ولا نكذّبه ، ولكن يحمل خبره على التقيّة لأجل القرينة.

لعدم كون معنى التصديق المدلول عليه بأدلّة الحجّية ما يرجع إلى المخبر ، بل المراد به ما يرجع إلى الخبر ، أعني ترتيب آثار الصدق عليه بالأخذ بمضمونه والتعبّد بمقتضاه ، فالخبر المحمول على التقيّة لا يتناوله أدلّة الحجّية ، كما أنّ الخبر الضعيف الصادر من الفاسق

٦٦٨

لا يتناوله أدلّة الحجّية ، فإنّ معنى طرح الخبر الضعيف حسبما تداوله العلماء ليس هو تكذيب الراوي والحكم عليه بكونه كاذبا ، لأنّ ما أوجب الضعف فيه إنّما هو فسق الراوي وهو لا يصلح أمارة على الكذب لأنّه أعمّ.

غاية الأمر أنّه خال عن أمارة الصدق وهو العدالة ، فمعنى عدم حجّيته عدم جواز تصديقه بترتيب آثار الصدق عليه والأخذ بمضمونه ، وعليه فالخبر الموافق الّذي راويه أعدل إذا اريد حمله على التقيّة لا يترتّب عليه فائدة الحجّية فلا يتناوله أدلّتها ، وعلى تقدير تناولها له كان حمله على التقيّة طرحا له وأخذا بما يقابله من الخبر المخالف.

فدار الأمر بين طرح الخبر الموافق بحمله على التقيّة تقديما لمرجّح جهة الصدور وطرح الخبر المخالف بالحكم عليه بعدم الصدور رأسا تقديما لمرجّح الصدور وهو الأعدليّة ، ولا مزيّة للأوّل على الثاني ، بل المزيّة إنّما هي في جانب الثاني من جهة أصالة عدم التقيّة المعتضدة بظاهر الروايات القاضية بتقديم مرجّحات الصدور على مرجّحات جهة الصدور.

ولا يقاس هذا الأصل بأصالة الحقيقة الغير الصالحة لترجيح مرجّح الصدور على مرجّح الدلالة من النصوصيّة والأظهريّة ليلزم منه طرح النصّ أو الأظهر المنافي لأدلّة الحجّية ، فإنّ غاية ما يلزم من طرح أصالة الحقيقة في جانب الظاهر بعد الحكم بصدوره مع النصّ والأظهر إنّما هو التأويل فيه بحمله على معنى مجازي له يساعد عليه القرينة وهو نصوصيّة النصّ وأظهريّة الأظهر ، ولا ريب أنّ المعنى المجازي مع مساعدة القرينة عليه مدلول الدليل ومقتضاه ، والعمل بالدليل بالمعنى المتقدّم أعمّ من الأخذ بمدلوله الحقيقي والأخذ بمدلوله المجازي ، فلا طرح هنا أصلا بخلاف طرح أصالة عدم التقيّة ، فالفرق بينهما واضح.

المقام الثاني

فيما يتعلّق بتعارض مرجّح جهة الصدور لمرجّح الدلالة وتعارض مرجّح الصدور لمرجّح الدلالة ، وحيث إنّ جهة البحث فيهما واحدة جمعناهما في باب واحد.

واعلم أنّ مرجّح الدلالة عبارة عن كلّ مزيّة أوجبت كون دلالة أحد الخبرين أقوى ـ من جهة النصوصيّة أو الأظهريّة ـ من دلالة الخبر الآخر.

وقد أشرنا مرارا إلى أنّ مرجّحات الدلالة مقدّمة على سائر المرجّحات ، سواء كانت راجعة إلى الصدور أو جهة الصدور ، فالخبر الأقوى دلالة مقدّم على الأضعف دلالة ولو

٦٦٩

كان أصحّ سندا أو موافقا للكتاب أو مشهورا أو مخالفا للعامّة ما لم يعلم بصدور الأقوى على وجه التقيّة ، كما نبّه عليه قوله عليه‌السلام ـ في خبر أبي حيّون ـ : « أنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ، ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا » وقوله عليه‌السلام ـ في خبر داود بن فرقد ـ : « أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، أنّ الكلمة لتصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب ».

وممّا يقرّب ذلك أنّ صفات الراوي لا تزيد على التواتر وموافقة الكتاب لا يجعل الخبر أعلى من الكتاب ، وقد حقّق في محلّه جواز تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بأخبار الآحاد ، فحيثما رجع التعارض إلى تعارض الأظهر والظاهر يقدّم فيه الأظهر ولا يلتفت إلى سائر المرجّحات.

والسرّ فيه : أنّ الترجيح بقوّة الدلالة من الجمع المقبول العرفي الّذي هو أولى من الطرح ، وبذلك يخرج عن مورد أخبار التراجيح المسوقة لبيان حكم ما لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه قريب يقبله العرف ، وهذا هو معقد إجماع الغوالي اللئالي أو القدر المتيقّن من معقده.

ومن مشايخنا من قال ـ بعد ما صرّح بذلك ـ : « وما ذكرناه كأنّه ممّا لا خلاف فيه » حاكيا لاستظهاره عن بعض مشايخه المعاصرين له.

ولكن ربّما يظهر من المحكيّ من عبارة الشيخ عن الاستبصار والعدّة خلاف ذلك ، حيث إنّه في الأوّل بعد ما ذكر حكم الخبر الخالي عن المعارض قال : « وإن كان هناك ما يعارضه فينبغي أن ننظر في المتعارضين فيعمل على أعدل الرواة في الطريق ، وإن كانا سواء في العدالة عمل على أكثر الرواة عددا ، وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وكانا عاريين عن القرائن الّتي ذكرناها ينظر فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الّذي يحتاج مع العمل به إلى طرح الخبر الآخر ، لأنّه يكون العامل به عاملا بالخبرين معا ، وإن كان الخبران يمكن العمل بكلّ منهما وحمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحا أو تلويحا لفظا أو منطوقا أو دليلا للخطاب وكان الآخر عاريا عن ذلك كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار ، وإذا لم يشهد لأحد التأويلين شاهد آخر وكانا متحاذيين كان مخيّرا

٦٧٠

في العمل بأيّهما » انتهى (١).

وفي الثاني قال : « وأمّا الأخبار إذا تعارضت وتقابلت فإنّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيح يكون بأشياء :

منها : أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنّة المقطوع بها والآخر مخالفا ، فإنّه يجب العمل بما وافقهما وترك ما يخالفهما ، وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقّة والآخر يخالفه وجب العمل بما يوافقه وترك ما يخالفه ، فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك وكانت فتيا الطائفة مختلفة نظر في حال رواتهما ، فإن كان رواته عدلا وجب العمل به وترك غير العدل ، وسنبيّن القول في العدالة المرعيّة في هذا الباب ، فإن كان رواتهما جميعا عدلين نظر في أكثرهما رواتا وعمل به وترك العمل بقليل الرواة ، فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقهم ، وإن كان الخبران موافقين للعامّة أو مخالفين لهم نظر في حالهما ، فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على وجه من الوجوه وضرب من التأويل وإذا عمل بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر وجب العمل بالخبر الّذي يمكن مع العمل به العمل بالخبر الآخر ، لأنّ الخبرين جميعا منقولان مجمع على نقلهما وليس هنا قرينة يدلّ على صحّة أحدهما ولا ما يرجّح أحدهما على الآخر ، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ، ولا يعمل بالخبر الّذي إذا عمل به وجب إطراح العمل بالآخر ، وإن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادّهما وتنافيهما أو أمكن حمل كلّ واحد منهما على ما يوافق الآخر على وجه كان الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء » انتهى (٢).

وظاهره رحمه‌الله في العبارتين أنّ الترجيح يلاحظ بين النصّ والظاهر فضلا عن الأظهر والظاهر ، فظاهر كلامه يشمل العامّ والخاصّ مع أنّ وجوب الأخذ بالخاصّ وإرجاع العامّ إليه إجماعيّ ، حتّى أنّه نقل عنه في موضع من العدّة ما يناقض ما ذكره هنا ، حيث صرّح في باب بناء العامّ على الخاصّ بأنّ الرجوع إلى الترجيح والتخيير إنّما هو في تعارضين العاميّن دون العامّ والخاصّ ، بل لم يجعلهما من المتعارضين أصلا.

واستدلّ على العمل بالخاصّ بما حاصله : أنّ العمل بالخاصّ ليس طرحا للعامّ بل

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٤.

(٢) عدّة الاصول ١ : ١٤٧.

٦٧١

حمل له على ما يمكن أن يريده الحكيم ، وإنّ العمل بالترجيح والتخيير فرع التعارض الّذي لا يجري فيه الجمع.

وعزى ما في العدّة أيضا إلى ظاهر كلام بعض المحدّثين حيث أنكر حمل الخبر الظاهر في الوجوب أو التحريم على الاستحباب والكراهة لمعارضة خبر الرخصة ، بزعم أنّه طريق جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب.

وربّما نسب نحوه إلى بعض الأعلام حيث إنّه في باب بناء العامّ على الخاصّ بعد ما حكم بوجوب البناء قال : « وقد يستشكل بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامّة أو موافق للكتاب ، وفيه : أنّ البحث منعقد لملاحظة العامّ والخاصّ من حيث العموم والخصوص لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ، إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العامّ من جهة مرجّح خارجي وهو خارج عن المتنازع » انتهى.

وفي النسبة نظر ، لجواز أن يكون مراده من المرجّحات الخارجيّة الموجبة للتجوّز في الخاصّ ما يرجع إلى الدلالة لا ما يرجع إلى الصدور أو جهة الصدور أو المضمون ، ومرجعه إلى القرينة الموجبة للتجوّز في الخاصّ ، وإن كان يأباه ما ذكره في تقرير الإشكال ، لأنّ المخالفة والموافقة يوجب الطرح لا التجوّز كما هو واضح.

وكيف كان فما يظهر من الشيخ ومن وافقه ضعيف. لأنّه خلاف المشهور وما عليه الجمهور ، وخلاف الإجماع المنقول على نحو هذا الجمع ، وخلاف مقتضى الروايتين المتقدّمتين ، وخلاف مقتضى أخبار التراجيح ، وخلاف طريقة العرف وأهل اللسان حيث إنّهم يجعلون نصوصيّة النصّ وأظهريّة الأظهر قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الظاهر من تخصيص أو تقييد أو تجوّز آخر.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يسلّم في النصّ أو الأظهر والظاهر المقطوعي الصدور إذا ورد في كلام متكلّم واحد ، ومحلّ البحث في المتعارضين ما لم يقطع بصدورها.

قلت : أدلّة حجّية خبر العدل صيرّتهما كمقطوعي الصدور ، لأنّ مقتضاها وجوب الحكم بصدورهما معا ، ووجوب تصديق مخبريهما تصديقا خبريّا ، على معنى الحكم بصدق خبريهما والأخذ بمدلول كلّ منهما على أنّه حكم الله الواقعي ، وحينئذ فصدور النصّ أو الأظهر قرينة على التجوّز في الظاهر وإرادة خلاف ظاهره كما في مقطوعي الصدور.

لا يقال : هذا طرح لأصالة الحقيقة في جانب الظاهر وهو خروج عن مقتضى أدلّة

٦٧٢

حجّية أصالة الحقيقة ، كما أنّ طرح النصّ خروج عن مقتضى أدلّة حجّية السند ، فالأمر دائر بين طرح سند وطرح دلالة ومرجعه إلى طرح أصالة الحقيقة ، والثاني ليس بأولى من الأوّل ، فلا بدّ لترجيح الثاني على الأوّل من مرجّح وليس إلاّ مرجّح الصدور أو مرجّح جهة الصدور مثلا.

لمنع التعارض الّذي اشير إليه بدعوى الدوران ، فإنّ أصالة الحقيقة أصل تعليقي معلّق جريانه على فقد القرينة على خلاف الحقيقة.

وقد عرفت أنّ صدور النصّ أو الأظهر قرينة على التجوّز في الظاهر ، فأدلّة حجّية السند حاكمة على أدلّة حجّية أصالة الحقيقة.

وقضيّة ذلك تعيّن طرح دلالة الظاهر ، لعدم جريان أصالة الحقيقة بل لا دلالة مع عدم جريانها فلا طرح ، بخلاف ما لو قدّم شيء من المرجّحات الاخر على مرجّح الدلالة فيلزم بذلك من الطرح ما ينافي أدلّة حجّية السند ، فليتدبّر.

فمرجع الكلام في هذا المقام إلى أنّ قاعدة وجوب الترجيح والرجوع إلى المرجّحات على تقدير وجودها لا يجري فيما أمكن الجمع بين المتعارضين بالتأويل والتصرّف في أحدهما المعيّن وإخراجه إلى ما لا ينافيه صاحبه الّذي هو بنفس وجوده شاهد به وقرينة عليه كالنصّ والظاهر الّذي منه الخاصّ والعامّ والأظهر والظاهر مطلقا ، بل يجب فيه الجمع على الوجه المذكور ، لأنّ حفظ السند فيه مقدّم على حفظ الدلالة ، لقيام قرينة داخليّة على إخراج أحدهما المعيّن وهو الظاهر إلى خلاف ظاهره ، فيجري فيه أدلّة الصدور في جانب النصّ أو الأظهر ولا معارض لها في جانب أدلّة أصالة الحقيقة في جانب الظاهر ، لأنّها في حدّ أنفسها مقيّدة بعدم القرينة على خلاف الحقيقة ، والنصّ أو الأظهر بنفس صدوره قرينة.

وكما لا يجري في هذا القسم قاعدة الترجيح على تقدير وجود المرجّحات الراجعة إلى الصدور أو جهة الصدور أو المضمون ، فكذلك لا تجري فيه قاعدة التخيير المعلّقة على فقد المرجّحات والتساوي من جهتها ، لاختصاصها كقاعدة الترجيح بما لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه يقبله العرف ، فإنّه أولى من الطرح جزما.

وبالجملة فلا إشكال ولا ينبغي التأمّل في عدم جريان القاعدتين في هذا القسم ، كما أنّه لا إشكال ولا ينبغي التأمّل في جريانهما فيما لو كان طريق الجمع بين المتعارضين بالتأويل والتصرّف فيهما معا وصرف كلّ منهما عن ظاهره إلى خلافه بتخصيص ونحوه

٦٧٣

بحيث يحتاج إلى شاهدين وقرينتين مستقلّتين مفقودتين ، كالمتبائنين اللذين منه ما ورد في خبر من قوله عليه‌السلام : « ثمن العذرة سحت » وما ورد في آخر من قوله عليه‌السلام : « لا بأس ببيع العذرة » ، لصدق التعارض عرفا وشمول أخبار الترجيح والتخيير ، لوضوح أنّه يشملهما قول الراوي : « يرد عنكم خبران مختلفان » مع عدم إمكان الجمع بينهما بوجه عرفي وإن احتمل عقلا ، ولا معارض لها من جانب أدلّة الصدور لفرض كونها مقيّدة بالإمكان المنتفي هاهنا.

نعم ربّما يشكل الحال فيما لو كان طريق الجمع بالتأويل والتصرّف في أحدهما لا بعينه وإخراجه إلى ما يوافق صاحبه المحتاج تعيينه إلى شاهد خارجي يصلح قرينة عليه مع فرض انتفائه كما في العامّين من وجه ، كقوله : « اغسل ثوبك عن أبوال ما لا يؤكل لحمه » مع قوله عليه‌السلام : « لا بأس بخرء الطير » بل مطلق الظاهرين كقوله : « اغتسل للجمعة » مع قوله : « ينبغي غسل الجمعة » بناء على تساوي ظهور الأوّل باعتبار الصيغة في الوجوب لظهور الثاني باعتبار المادّة في الاستحباب من دون مزيّة لأحدهما على الآخر كما يظهر من بعض الأصحاب ، فإنّ إجراء قاعدة الترجيح أو التخيير فيه المستلزم لطرح أحدهما لا يخلو عن إشكال : من عموم الأخبار الآمرة بالترجيح مع وجود المرجّحات والتخيير مع فقدها ، لوضوح أنّه يصدق التعارض بينهما عرفا ويندرجان في خبرين مختلفين بالقياس إلى مادّة الاجتماع فيشملهما قول الراوي « يرد عنكم خبران مختلفان ».

ومن عموم أدلّة السند لهما معا القاضي بوجوب الحكم بصدورهما والتعبّد والأخذ بهما فلا داعي إلى العدول والخروج عنها.

غاية الأمر وجوب التوقّف في مدلوليهما بالقياس إلى محلّ التعارض لمكان الإجمال الناشئ من معارضة أصالة الحقيقة في أحدهما لمثلها في الآخر للعلم الإجمالي بعد الأخذ بالسندين بإرادة خلاف ظاهر أحدهما من غير تعيين ، فلا محيص من طرح ظاهر أحدهما لا بعينه وأصالة الحقيقة فيه.

ولا يبعد منع جريان الترجيح والتخيير هنا والقول بوجوب الأخذ بالسندين نظرا إلى وجود المقتضي وفقد المانع ، فإنّ المقتضي على ما عرفت عموم ما دلّ على حجّية خبر الواحد المتناول لكلّ من الظاهرين المتعارضين ، فإنّه يقتضي وجوب تصديق المخبرين والحكم بصدور الخبرين ، ولا مانع منه في جانب الأخبار الآمرة بالترجيح والتخيير ولا في جانب أدلّة حجّيّة الظواهر وأصالة الحقيقة.

٦٧٤

أمّا الأوّل : فلأنّ إشكال التعارض ينشأ من شبهة الدلالة فلا يرجع فيها إلى المرجّحات الواردة في أخبار الترجيح الراجعة تارة إلى الصدور واخرى إلى جهته وثالثة إلى المضمون.

وتوضيحه : أنّ التعارض ممّا يوجب التحيّر في العمل بالمتعارضين ، وهو قد يحصل بالنسبة إلى الصدور أو جهته مثلا ، فلا يدرى أنّ أيّا من الخبرين صدر أو أيّا منهما لم يصدر ، أو أنّ أيّا منهما صدر على وجه بيان الواقع وأيّا منهما صدر على وجه التقيّة ، وقد يحصل بالنسبة إلى الدلالة بعد إحراز السند بعنوان القطع أو الظنّ أو التعبّد فلا يدرى أنّ أيّا منهما اريد ظاهره وأيّا منهما اريد خلاف ظاهره ، فإن كان الخبر من قبيل القسم الأوّل لا بدّ فيه من الرجوع إلى قواعد الترجيح وإعمال المرجّحات الواردة في الأخبار المستلزم لطرح أحد السندين ، ومع فقدها فالتخيير المستلزم للطرح أيضا ، ولذا ورد في سؤالات هذه الأخبار قوله : « بأيّهما آخذ؟ » ـ أو « بأيّهما نأخذ؟ » نظرا إلى أنّ كلمة « أيّ » سؤال عن التعيين ، فتكون قاضية بأنّ تعيّن طرح أحد السندين كان مفروغا عنه عند السائل وسؤاله إنّما كان عن تعيينه ، وصدر الجواب عن الأئمّة عليهم [ السلام ] على حسب ما زعموه بذكر المرجّحات الّتي وجودها وفقدها معيار الأخذ والطرح بقولهم : « خذ بكذا ، واترك كذا ، وتخيّر إذن ».

وإن كان من قبيل القسم الثاني فلا بدّ من الرجوع إلى القرائن الخارجيّة المعتبرة في إحراز الدلالة وتشخيص المراد ، وعلى تقدير عدم وجودها لا مناص من الوقف اجتهادا والأخذ بالاصول على حسب ما يناسب المقام عملا.

والظاهر أنّه في تعارض العامّين من وجه بل ومطلق الظاهرين من قبيل القسم الثاني كما في مقطوعي الصدور ، إذ الكلام بعد تنزيلهما منزلة مقطوعي الصدور وفرض صدورهما ـ أخذا بموجب أدلّة حجّية السند ـ فالتحيّر حينئذ من جهة الدلالة ، للعلم الإجمالي بإرادة خلاف ظاهر أحدهما وهو غير معيّن ، فلا منافاة في أدلّة الترجيح والتخيير للأخذ بالسندين هنا حتّى تكون مانعة عن الأخذ ، مع أنّ السند الّذي يطرح على ما هو اللازم من الترجيح أو التخيير إن اعتبر بالقياس إلى تمام مدلول أحد العامّين فهو ممّا لا داعي إليه ، لإمكان العمل بهما معا في مادّتي افتراقهما ، وإن اعتبره بالقياس إلى بعض مدلوله وهو مورد الاجتماع فهو غير معقول لأنّ السند لا يتبعّض ، والأصل فيه أنّ العامّ الصادر عن المتكلّم إنّما يصدر صدورا واحدا يتساوى نسبته إلى جميع الأفراد ، فلا يعقل الأخذ به بالنسبة إلى بعض الأفراد وطرحه بالنسبة إلى البعض الآخر.

٦٧٥

نعم إنّما يتبعّض الدلالة بحسب إرادة المتكلّم بإرادة بعض الأفراد دون بعض ، وهذا هو الّذي يوجب الإجمال عند فقد القرينة على التعيين ، غير أنّه من لوازم الأخذ بالسندين لا من آثار طرح أحدهما بالقياس إلى بعض مدلول العامّ.

وبالجملة التفكيك بين أفراد العامّ في الصدور وبالنسبة إلى السند بأن يؤخذ به بالنسبة إلى مورد الافتراق ويطرح بالنسبة إلى مورد الاجتماع غير معقول ، هذا على القول بكون العمل بالأخبار من باب الطريقيّة وظنّ الصدق ورجحان الصدور.

وأمّا على القول به من باب التعبّد الصرف فقد يظنّ جواز التفكيك وإمكان التبعيض ، لجواز أن يتعبّدنا الله سبحانه بأخذ السند في بعض المدلول دونه في البعض الآخر ، غير أنّه سهو لأنّ التعبّد بالخبر عبارة عن التعبّد بمدلوله من دون نظر فيه إلى الواقع ولا إلى أنّه صدر أو لا؟ فالتفكيك هنا في الحقيقة راجع إلى المدلول ولا كلام فيه لا إلى السند والصدور.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأخذ بالسندين لا يستتبع خروجا عن مقتضى أدلّة حجّية الظاهر ، بأن يلزم معه طرح ظاهر لا يلزم طرحه على تقدير طرح أحد السندين ، إذ على التقديرين لا بدّ من الأخذ بظاهر واحد ، وهو ظاهر أحد المتعارضين معيّنا على تقدير طرح أحد السندين ، أو مردّدا فيه بين هذا وذاك على تقدير الأخذ بالسندين ، فلم يتفاوت الحال بينهما بالقياس إلى أدلّة حجّية الظاهر لتكون تلك الأدلّة مانعة عن الأخذ بالسندين.

فإن قلت : إنّ المقتضي للأخذ بهما معا غير موجود لما تقدّم الإشارة إليه في مسألة تعارض الصدور مع جهة الصدور من الإيراد على من قدّم مرجّح جهة الصدور على مرجّح الصدور استنادا إلى أدلّة التعبّد بالسند والحكم بالصدور ، من أنّ هذا تعبّد بالسند لأجل إبطال العمل بالرواية بسبب حملها على التقيّة وهذا غير مفيد ولم يظهر من أدلّة السند شمولها لنحو هذا التعبّد به بل هو في معنى الطرح له ، لأنّ أدلّة التعبّد به إنّما أوجبته ليظهر فائدته في العمل بالدلالة والأخذ بالمدلول ، بل لا معنى لوجوب تصديق الراوي العدل في روايته إلاّ وجوب الأخذ بمضمون خبره ومدلول روايته ، وهذا بعينه يرد عليك هنا لأنّك تعبّدت بالسندين لأجل إبطال العمل بالدلالة وإهمال المدلول فيهما معا ، فلم يظهر من أدلّة السند شمولها لمثل ذلك ، لوضوح أنّ الأخذ بالسندين إن كان للعمل بهما في غير محلّ التعارض ـ كمادّتي افتراقهما إن كانا عامّين من وجه ، والقدر المشترك بين مضمونيهما وهو مطلق الرجحان إن كانا نظير « اغتسل » و « ينبغي » ـ فهو ليس من المتنازع فيه ، لأنّ القائل

٦٧٦

بطرح أحد السندين لا يقول به حتّى بالنسبة إلى غير محلّ التعارض ، وإن كان للعمل بهما في مورد التعارض فهو غير مفيد من جهة مانعيّة الإجمال.

قلت : ليس الأمر كما ذكرت ، إذ كما أنّ البيان بالنسبة إلى الدلالة والأخذ بالمضمون من فوائد الأخذ بالسند فكذلك الإجمال أيضا من فوائده بل من أعظم الفوائد ، ضرورة أنّه لولاه لكان التعبّد بالتكليفي المستفاد من أحدهما من إيجاب أو تحريم متعيّنا ولم يكن عنه مندوحة شرعا ، بخلاف ما لو حصل الإجمال من جهة التعارض فإنّه أوجب الرجوع إلى الاصول والقواعد ، وكأنّ الشارع رخّصنا في نحو هذا المقام بأن نأخذ بسندي المتعارضين معا ليترتّب عليه فائدة الإجمال وهو الرجوع إلى الاصول والعدول عن التكليفي الّذي أوجبه أحد الخبرين في محلّ التعارض على تقدير طرح صاحبه.

هذا كلّه بخلاف المتبائنين اللذين طريق الجمع بينهما يحتاج إلى التأويل فيهما معا وحكمنا فيهما بوجوب الترجيح والرجوع إلى المرجّحات ، فإنّ المقتضي للأخذ بالسندين هنا أيضا وإن كان موجودا وهو عموم ما دلّ على حجّية السند إلاّ أنّه مشغول بالمانع من الاقتضاء وهو عموم دليل حجّية الظاهر وأصالة الحقيقة ، إذ لو بنينا على الجمع بين سنديهما لزم طرح أصالة الحقيقة الّتي كانت باقية على حالها على تقدير طرح سند إحداهما ، فالأمر دائر بين طرح سند واحد وطرح ظاهر واحد ، وأمّا الظاهر الآخر فهو تابع لسنده فعلى تقدير سلامة السند كان مطروحا لا محالة وعلى تقدير عدم سلامة السند لا يبقى ظاهر حتّى يكون طرحه منافيا لأدلّة حجّية الظواهر ، والّذي يقابل السند المردّد بين طرحه وعدم طرحه إنّما هو ظاهر واحد وهو ظاهر سند نقطع إجمالا بسلامته بسبب القطع الإجمالي بصدور أحدهما لا بعينه ، فالأمر دائر بين طرح هذا الظاهر وبين إبقائه ، فالقول بدوران الأمر حينئذ بين طرح ظاهرين وطرح سند وظاهر ليس على ما ينبغي ، بل فاسد الوضع كما أشرنا إليه في مسألة أولويّة الجمع من الطرح ، فإذا دار الأمر بين طرح سند وإبقاء ظاهر وبين طرح ظاهر وإبقاء السند يقع التعارض بين أدلّة الحجّية من الطرفين ، فإنّ أدلّة السند تقضي بطرح الظاهر وأدلّة أصالة الحقيقة تقضي بطرح السند ، فطرح الظاهر ليس بأولى من طرح السند ، إلاّ أنّ أدلّة حجّية الظاهر يعضدها أخبار الترجيح والتخيير لكونها أخصّ موردا من أدلّة السند ، ضرورة صدق التعارض عرفا وصدق الخبرين المختلفين وشمول السؤال عن التعيين بكلمة « أيّ » الكاشف عن اعتقاد السائل بوجوب الأخذ

٦٧٧

بأحدهما وطرح الآخر مع ورود الجواب على طبق معتقده من دون إنكار عليه متكفّلا لبيان ما يميّز المأخوذ من المطروح ، فينهض ذلك دليلا على أنّ الظاهر مقدّم على السند.

ولكن يرد على البيان وجوه :

الأوّل : منع كون اللازم على تقدير الأخذ بالسندين طرح ظاهر واحد ، لأنّ المفروض على هذا التقدير تطرّق التأويل إلى كلا المتعارضين ، فالأمر يدور بين طرح سند وطرح ظاهرين.

الثاني : منع صلاحية أدلّة أصالة حجّية الحقيقة لمعارضة أدلّة السند ، فإنّ الخبرين يصيران بمقتضى أدلّة حجّيّة السند بمنزلة مقطوعي الصدور ، وكما أنّ المتبائنين إذا كانا مقطوعي الصدور ينهض صدورهما قرينة على التأويل في كلّ منهما فكذلك فيما هو بمنزلتهما ، فقضيّة أدلّة حجّية السند وجوب الحكم بصدور الخبرين على وجه حمل كلّ منهما على معناه الحقيقي أو أحدهما على معناه الحقيقي والآخر على معناه المجازي أو كلّ منهما على معناه المجازي ، لأنّ الكلام إنّما هو بعد فرض صدورهما معا وهو لا يخلو عن أحد الوجوه الثلاث.

وقضيّة ذلك حكومة أدلّة السند على أدلّة حجّية أصالة الحقيقة.

الثالث : منع جريان أخبار وجوب الترجيح أو التخيير فيما لو كان التحيّر الناشئ من التعارض من جهة اشتباه الدلالة وعدم تبيّن المراد من المتعارضين ، ضرورة أنّه بعد فرض صدور الخبرين عملا بموجب أدلّة السند كان التحيّر واقعا في تشخيص المراد ، إذ لا يدرى أنّ المعنى المجازي الّذي اريد من كلّ من المتعارضين ما هو؟

وقضيّة ذلك وجوب التوقّف لأجل الإجمال العرضي الحاصل من التعارض كما في العامّين من وجه وما بمعناهما.

غاية الأمر أنّ الإجمال في الثاني لجهالة ما اريد منه معناه المجازي وهنا لجهالة المعنى المجازي الّذي اريد من كلّ منهما.

وبالتأمّل في ذلك ينقدح أنّ ما ذكرناه من أنّ الأمر في المتبائنين دائر بين طرح ظاهرين وطرح سند بمعزل عن التحقيق ، إذ لا معنى للظهور مع طروّ الإجمال اللازم من الجمع السندي ، فلا ينبغي مقابلة أدلّة حجّية السند لأدلّة حجّية الظواهر وإن اريد بها الظواهر الأوليّة ، إمّا لحكومة أدلّة السند على أدلّة الظاهر فينهض صدور كلّ قرينة على التجوّز في

٦٧٨

آخر أو لانتفاء موضوع أدلّة حجّية الظواهر.

ومن هذا كلّه سقط ما قد يقال ـ لتقريب التعارض إلى الذهن ـ : من أنّ طرح السند لابدّ له من داع إليه ، كما أنّ طرح الظاهر لابدّ له من قرينة عليه ، وكما أنّ طرح الظاهر بلا قرينة غير جائز فكذلك طرح السند بلا داع إليه غير جائز ، فكلّ من هذين محذور لا ينبغي ارتكابه ، والأمر في المتبائنين دائر بين المحذورين وهما طرح السند بلا داع والتجوّز بلا قرينة ، ومن يرتكب التجوّز فإنّما يرتكبه فرارا عن محذور طرح السند بلا داع ، فيجعل الفرار عن ذلك داعيا إلى ارتكاب التجوّز وقرينة عليه ، كما أنّ من يلتزم بطرح السند فإنّما يلتزم به للفرار عن التجوّز بلا قرينة فيجعل ذلك قرينة عليه ، ويدفع كلاّ منهما أنّ هذين محذوران في درجة واحدة ولا يصلح الفرار عن شيء منهما داعيا إلى الالتزام بصاحبه ولا قرينة عليه.

وفيه : أنّ المحذور إنّما هو طرح السند ، ومع حفظه فليس فيه طرح ظاهر لا بالظهور الأوّلي لوجود القرينة ولا بالظهور الثانوي لمكان الإجمال ، وكذلك لا ينبغي مقابلة أدلّة السند بأخبار الترجيح والتخيير لعدم كون التعارض فيه موجبا لاشتباه حال السند أو المضمون ، بل موجب لاشتباه حال الدلالة لعدم القرينة على خصوص المعنى المجازي المحتمل في كلّ من المتعارضين.

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ إخراج المتبائنين عن أخبار الترجيح والتخيير بنحو هذا البيان في غاية الإشكال ، لكونه خلاف طريقة أهل العرف وخلاف عمل العلماء.

والأولى إناطة اندراجهما والعدم في هذه الأخبار بكون المراد من عدم إمكان الجمع المأخوذ في مصبّها عدم إمكانه عقلا ـ بأن لم يقبل شيء منهما التأويل بوجه ، فلا يندرجان فيها لقبولهما التأويل على هذا الوجه ـ أو عدم إمكانه عرفا بأن لم يكن التأويل المحتمل مقبولا عند أهل العرف باعتبار عدم القرينة المعتبرة عليه من نفس المتعارضين ولا من الخارج ، فيندرجان فيها لعدم مساعدة قرينة معتبرة على ما يحتمل فيهما من التأويل ، احتمالان أظهرهما الثاني كما رجّحناه في مسألة أولويّة الجمع من الطرح لوجوه عديدة تقدّم ذكرها ثمّة ، وعمدتها إطلاق أخبار الترجيح سؤالا وجوابا مع انضمام ترك الاستفصال ، فإنّ قوله : « يرد عنكم خبران مختلفان » معناه في متفاهم العرف خبران مختلفان اختلافا لا يمكن معه الأخذ بهما معا بل لا بدّ من طرح أحدهما والأخذ بالآخر فبأيّهما نأخذ أو آخذ؟ وقوله عليه‌السلام

٦٧٩

في الجواب : « خذ بكذا ، أو اترك كذا » مطلق في عدم إمكان الأخذ بالنسبة إلى ما هو بحسب العقل وما هو بحسب العرف ، ومفيدا للعموم بانضمام ترك الاستفصال ، مع أنّ عليه بناء العرف وعمل العلماء قديما وحديثا ، بخلاف العامّين من وجه اللذين بنينا فيهما على الجمع لإمكان الأخذ بهما معا في الجملة بالقياس إلى مادّتي افتراقهما ، فلا داعي إلى الترك الكلّي وطرح أحدهما رأسا على ما هو لازم الترجيح والتخيير ، وعدم إمكان العمل بهما في مادّة الاجتماع لا يوجب طرحا لعدم إمكان التبعيض في السند ، بل غايته التوقّف من جهة الإجمال العرضي ولا ضير فيه.

ويشكل الحال في ظاهرين لم يكن لشيء منهما مورد عمل في الجملة كما في العامّين من وجه مع مشاركتهما لهما في العنوان من حيث كون طريق الجمع بينهما بالتأويل في أحدهما لا بعينه ، كقوله : « اغتسل للجمعة » و « ينبغي الغسل للجمعة » على تقدير تساويهما في الظهور ، فهل يلحقان بالعامّين من وجه في وجوب الجمع السندي بينهما ثمّ التوقّف اجتهادا أو الرجوع إلى الأصل عملا لمكان الإجمال العرضي ، غير أنّه في العامّين من وجه في الجملة وهنا مطلقا ، أو يلحقان بالمتبائنين في وجوب الترجيح أو التخيير المستلزمين لطرح سندي؟ احتمالان أظهرهما الثاني لعين ما ذكرناه في المتبائنين من إطلاق أخبار التراجيح باعتبار عدم إمكان العمل بهما ولو في الجملة على وجه مقبول عرفي ، فيجب فيهما الأخذ بالراجح وطرح المرجوح.

نعم على تقدير عدم التساوي بأن يكون لأحدهما مزيّة على صاحبه في الظهور بحيث دخل في عنوان الأظهر يخرجان عن عنوان الظاهرين ويدخلان في عنوان الأظهر والظاهر ، فيجري عليهما حكمها من وجوب الجمع بالأخذ بالأظهر وإرجاع التأويل إلى الظاهر كما في المثال المذكور ، بناء على كون « ينبغي » باعتبار ندرة استعماله في الوجوب أظهر في الاستحباب من صيغة الأمر في الوجوب باعتبار شيوع استعمالها في الاستحباب ، وكذا الحال في العامّين من وجه إذا كان لأحدهما مزيّة في الظهور بمثابة يدخل معها في الأظهر ، فيدخلان حينئذ في عنوان الأظهر والظاهر فيؤخذ بعموم : « أظهرهما » ويرجع التخصيص إلى صاحبه ، ولعلّه الغالب في تعارض العامّين من وجه.

بل قد يقال : إنّه قلّما يتّفق فيهما ما لم يكن أحدهما أظهر من صاحبه ، ومن مصاديقه ما كان عموم أحدهما بالوضع والآخر بالعقل من جهة السكوت في معرض البيان ، وما كان

٦٨٠