تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

الحثّ الأكيد على الأخذ بأخبارهم والعمل بها ، وهي مطلقة ليس فيها اشتراط ذلك بأن يكون للآخذ ملكة فضلا عن كونها كلّيّة » انتهى (١).

والجواب : منع وجود ما يكون من الطرق المعهودة ما يكون حجّة بالخصوص ، ومنع نهوض الدلالة شرعا عليها ، والامور المدّعى دلالتها من الآيات والروايات الّتي منها ما ذكر هنا مدخولة على ما قرّر في محلّه ، والأخبار المذكورة هنا على فرض دلالتها على الحجّية المطلوبة في المقام وفرض شمولها لمحلّ البحث ممّا لا يمكن التعويل عليه في نظائر المقام لعدم الاعتداد بدلالتها لأنّ أقصى مراتبها الظنّ ، ولا بسندها لعدم كونه علميّا ومن المستحيل إثبات الظنّ بالظنّ ، هذا إذا أراد المتجزّي أن يحتجّ بها لعمل نفسه.

نعم لو احتجّ بها غيره ممّن غرضه استعلام حكم المسألة بحسب ظاهر الشرع ممّن يرى حجّية الظنّ المتعلّق بالأخبار وغيرها سندا ودلالة وغيرها كان له وجه ، غير أنّه لا يجدي لعمل المتجزّي إذا أراد البناء على اجتهاده باجتهاده هذا ، مع أنّ آية النفر بعد الغضّ عن المناقشات المتوجّهة إليها ممّا أشرنا إليه وغيره لا تنفي جواز التقليد في حقّه بعد البناء على أنّ الإنذار المأمور به فيها أعمّ ممّا هو بطريق الرواية والفتوى والحذر المأمور به فيها أعمّ من اتّباعه بطريق الاجتهاد أو التقليد.

نعم لو احتجّ على حكم المتجزّي لعمل نفسه بما قدّمناه من الأخبار البالغة حدّ التواتر معنى القاضية بجواز التعويل على الأخبار والآثار المرويّة عن أهل العصمة في موضع الوثوق والاطمئنان بالقياس إلى الصدور لم يكن به بأس ، إلاّ أنّه خارج عن مصبّ الاحتجاج المذكور كما لا يخفى وجهه على المتأمّل.

الحجّة الخامسة

أنّ المعاصرين لزمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام كانت طريقتهم العمل بالأخبار الّتي ترويها العدول ، والجمع بين ما تعارض منها بالطرق المقرّرة كحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد ، ومع التعذّر كانوا يأخذون بالأرجح والأقوى على الوجه المقرّر في الأخبار ، وهذه الطريقة لم يختصّ بمن كان منهم مجتهدا مطلقا متمكّنا من معرفة جميع الأحكام أو جملة يعتدّ بها منها بالنظر والاجتهاد ، بل كانت مشتركة بين الجميع من البالغين هذه الدرجة والقاصرين عنها ، فكان حالهم بالنسبة إلى الأخبار الّتي تروى لهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الفصول : ٣٩٦.

٢٠١

والأئمّة عليهم‌السلام كحال المقلّدين في هذا الزمان بالنسبة إلى الفتاوى الّتي تروى لهم عن المجتهدين ، فإنّها أيضا قد تشمل على عامّ وخاصّ ومطلق ومقيّد ونحو ذلك فيجمع بينها على الوجه المقرّر ، وقد يتعارض بحيث يتعذّر الجمع فيؤخذ بقول الأعدل والأوثق ويطرح الآخر.

ثمّ منهم من يتمكّن من استعمال ذلك في جميع الأحكام فيستعمله في الجميع ، ومنهم من يتمكّن منه في بعض دون بعض فيقتصر على ما يتمكّن منه.

وبالجملة فاولئك الّذين كانوا في زمن الأئمّة عليهم‌السلام كانوا إذا اجتهدوا في أخبارهم ورواياتهم كان مؤدّى اجتهادهم حجّة في حقّهم وإن عجزوا عن الاجتهاد في الكلّ أو في جملة يعتدّ بها ، كما أنّ المقلّد في زماننا هذا إذا اجتهد في معرفة فتاوى المجتهد كان مؤدّى اجتهادهم حجّة في حقّهم وإن عجزوا عن الاجتهاد في الكلّ أو في جملة يعتدّ بها.

نعم فرق بينهما من حيث إنّ عنوان « المجتهد » بالمعنى المصطلح عليه لا يصدق على المجتهد في معرفة فتاوى المجتهد بخلاف المجتهد في معرفة أخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام وهذا لا مدخل له في إثبات ما نحن بصدده من إثبات الحجّية ، وإذا ثبت جواز التجزّي في زمنهم بتقريرهم لأهل زمانهم عليه وإرشادهم إليهم ثبت جوازه في حقّ من عداهم ، لأنّ حكم الله في الأوّلين حكم الله في الآخرين ، إلى غير ذلك ممّا دلّ على الشركة في التكليف.

والجواب : منع تحقّق الفرض بالقياس إلى الموجودين في زمن الأئمّة عليهم‌السلام إذ القدر المعلوم وجوده ثمّة إنّما هو التجزّي في مقام الفعليّة دون التمكّن والملكة ، لسهولة الاجتهاد ووضوح طرق الاستنباط بالقياس إليهم وعدم ابتنائه على الظنون الّتي لو لا التمكّن منها لم يتأتّ الغرض ، كما أنّه لو لا جواز العمل بها لم يجز التعويل على الاجتهاد المبتني عليها ، بخلاف زماننا هذا لصيرورته من الامور الصعبة الّتي لا يحصل التمكّن منها إلاّ لأوحديّ من الناس بعد تحمّل رياضات كثيرة واقتحام مشاقّ متكثّرة ، فلذا صار فيه من جملة الحرف والصنائع المخصوصة بأهلها.

وبذلك ظهر كمال الفرق بين زماننا وزمنهم ، ومنشأ هذا الفرق عدم ابتلائهم بوجوه من الاختلال توجب صعوبة الاستنباط ، مع عدم كون الاجتهاد في حقّهم إلاّ مجرّد فهم الأخبار الّذي لا يتفاوت فيه الحال بين آحاد أهل اللسان ، وابتلائنا بوجوه الاختلال من جهات شتّى الموجب لصيرورته من أصعب الامور الّتي لا يتمكّن من تحصيلها إلاّ بواسطة ملكة قوّية

٢٠٢

وقدرة قدسيّة. فأقصى ما ثبت جوازه بتقرير الأئمّة عليهم‌السلام إنّما هو التجزّي في مقام الفعليّة ، وهو ـ مع أنّه ليس بمحلّ كلام ـ لا يستلزم جواز ما هو من محلّ الكلام ، هذا مع أنّه لو تحقّق الفرض ثمّة توجّه إليه المنع أيضا لمكان الفرق بين الزمانين ، فإنّ الموجودين ثمّة كانوا متمكّنين من استعلام عدالة الراوي وتعيينه بالطرق المعتبرة في الشهادة ، وكانت الأوضاع معلومة لديهم غالبا بطريق القطع لكونهم من أهل الاستعمال ، وكانوا كثيرا مّا يعثرون على القرائن والأمارات الموجبة لكمال الوثوق برواية الضعيف أو عدمه برواية الثقة ، وحيث كانوا لا يعثرون بالأمارات كان لهم وثوق بعدمها لقرب عهدهم بل وحضورهم ، بخلاف الموجودين في زماننا الغير المتمكّنين من استعلام شيء ممّا ذكر بطريق القطع.

وبالجملة فاختلاف المدارك والأمارات بيننا وبينهم قلّة وكثرة ، قوّة وضعفا أوضح من أن يحتاج إلى بيان وأجلى من أن يطالب عليها برهان ، وحينئذ فجواز تعويل المتجزّي في ذلك الزمان على الأمارات المتداولة بينهم لا يوجب جواز تعويله في زماننا على الأمارات المتداولة بيننا ، لأنّ تقريرهم عليهم‌السلام إنّما ثبت في حقّ ظنون خاصّة فلا يتسرّى إلى غيرها ، هكذا قرّر الجواب الأخير بعض الفضلاء (١).

الحجّة السادسة

رواية أبي خديجة الموصوفة بالشهرة المرويّة في الفقيه وغيره ، وفيها : « انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم قاضيا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضيا فتحاكموا إليه » (٢).

وجه الدلالة : أنّ قوله عليه‌السلام : « شيئا » نكرة في سياق الإثبات فلا يعمّ.

قال بعض الأفاضل : « وقد ادّعي اشتهارها بين الأصحاب واتّفاقهم على العمل بمضمونها فينجبر بذلك ضعفها. » (٣)

فيندفع به المناقشة في سندها برميها على الضعف بأبي خديجة القاضي بعدم صلوحها للاستناد إليها ، كما يندفع المناقشة في دلالتها من جهة اختصاص ورودها بالقضاء بما في كلام بعض الأفاضل (٤) أيضا من دعوى الاتّفاق على عدم الفرق.

نعم يرد على الاحتجاج بها من حيث منع شمولها لمحلّ البحث ، نظرا إلى أنّ المأخوذ فيها العلم بشيء من الأحكام وهو ظاهر في الاعتقاد الجازم المطابق ، فإن اريد به العلم

__________________

(١) الفصول : ٣٩٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣ ح ٣٢١٦.

(٣ و ٤) هداية المسترشدين ٣ : ٦٤٨.

٢٠٣

بالحكم الواقعي فهو مفروض الانتفاء في المقام ، أو العلم بالحكم الظاهري ـ بمعنى الحكم الفعلي الواجب اتّباعه شرعا ـ فهو أيضا منتف في حقّ المتجزّي ، إذ الغرض إثبات كون مؤدّى اجتهاده حكما فعليّا في حقّه وهو غير ثابت مع قطع النظر عن الرواية فهو غير عالم بحكمه الفعلي فلا يشمله الرواية ، ومعه فلو أراد الاستناد إليها تحصيلا للعلم بحكمه الفعلي كان مؤدّيا إلى نحو من الدور كما لا يخفى.

وحمل « العلم » على الأعمّ أو خصوص الظنّ وإن كان ممكنا غير أنّه لابدّ له من دلالة معتبرة توجب الصرف وحيث كانت منتفية ـ كما في المقام ـ كان الظاهر حجّة ، هذا مع أنّ السند ما لم يكن علميّا ـ ولو بحسب الشرع ـ امتنع التعويل عليه في خصوص المقام كما مرّ مرارا.

حجّة القول بالمنع من التجزّي وجوه :

منها : ما تقدّم بيانه مع دفعه من لزوم الدور ، ولعلّك تكتفي بما مرّ من غير حاجة إلى إعادة الكلام.

ومنها : أصالة المنع من العمل بالظنّ الثابت من العقل والعمومات الناهية عن الأخذ به كتابا وسنّة ، خرج عنه ظنّ المجتهد المطلق بالإجماع فيبقى غيره تحت الأصل ، إذ لم يقم دليل قطعي على حجّية ظنّ المتجزّي كما قام على حجّية ظنّ المطلق ، واتّضح جوابه ممّا قرّرناه بما لا مزيد عليه فلا حاجة إلى الإعادة.

ومنها : استصحاب وظيفته الثابتة له قبل صيرورته مجتهدا من التقليد وإن لم يكن قلّد فعلا لقلّة مبالاة ونحوها ، واستصحاب الأحكام الثابتة له بالتقليد.

ويرد عليه امور :

أوّلها : ما تفرّد بإيراده بعض الأفاضل من : « أنّ جواز احتجاج المتجزّي بالأصل المذكور أوّل الكلام ، إذ لا فارق بين إجرائه الاستصحاب في المقام أو في المسائل الفقهيّة ممّا يجري فيه ذلك ، فلا يصحّ الاستناد إليه هنا إلاّ بعد إثبات كونه حجّة في حقّه ، ومعه يتمّ المدّعى من جواز تعويل المتجزّي على مؤدّى اجتهاده ولو كان من مؤدّى الاصول ، فلا يبقى له مجال إلى الأصل المذكور حينئذ » (١).

ثانيها : أنّه قاصر عن إفادة تمام المدّعى لعدم شموله لمن بلغ متجزّيا ، إذ لم يجب عليه

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٦٥٣.

٢٠٤

قبل البلوغ شيء ليستصحب.

وأمّا ما ذكره غير واحد في دفعه من تتميمه بعدم القول بالفصل فواضح الضعف ، لو سلّم كونه إجماعا على عدم الفصل كاشفا عن كون الإمام مع إحدى الفريقين أو كون مرضيّه ومعتقده إحدى القضيّتين إمّا الإيجاب الكلّي أو السلب الكلّي ، لا مجرّد عدم اتّفاق القول بالفصل الغير المنافي لكون معتقد الإمام الفرق بين المسألتين المنحلّ إلى الإيجاب الجزئي والسلب الجزئي ، إذ غاية ما علم من الإجماع المذكور اتّحاد المسألتين في الحكم الواقعي فيلزم باختيار الفصل مخالفة الإمام بل مخالفة الحكم الواقعي بعنوان القطع واليقين ، وأمّا اتّحادهما في الحكم الظاهري أيضا المستفاد من الاصول الّتي منها الاستصحاب كما في المقام فغير معلوم لعدم انعقاد الإجماع عليه.

وبعبارة اخرى : أنّ عدم القول بالفصل إن رجع إلى الإجماع المركّب فهو في موارده دليل على الملازمة بين شطريه ، وغاية ما علم منه انعقاده على الملازمة بينهما في الأحكام الواقعيّة بخلاف الأحكام الظاهريّة لعدم ثبوت الإجماع على الملازمة فيها أيضا ، فلو كان دليل أحد الشطرين حينئذ ما كان من قبيل الاصول من استصحاب ونحوه لا قاضي بلحوق الشطر الآخر به في الحكم المستفاد من ذلك الأصل لعدم ثبوت الملازمة الشرعيّة بينهما في هذا الحكم ، فاختيار الفصل فرق بينهما في الحكم الظاهري وهو لا يستلزم الفرق في الحكم الواقعي ، كما أنّه ليس مخالفة للإمام بعنوان القطع ليكون محظورا.

ثالثها : أنّه معارض باستصحاب خلافه في المتجزّي المتسافل عن درجة الاجتهاد المطلق ، على معنى من يعرضه النسيان وزال ملكته العامّة إلى أن بقي منها ما يختصّ ببعض المسائل دون بعض ، وقصوره عن إفادة تمام المدّعى ينجبر بضميمة عدم القول بالفصل.

وما يقال في دفعه : من أنّ الاستصحاب الأوّل أكثر موردا وأغلب موضعا فيرجّح.

يدفعه : أنّ ذلك ممّا لا يعقل له وجه ، فإنّ الترجيح حقيقة معناه تقديم إحدى الأمارتين المتعارضتين على صاحبها المنحصر في كونه بطريق الورود لو كانت الاولى بمضمونها متعرّضة لرفع موضوع الاخرى ، أو بطريق الحكومة لو كانت الاولى بمضمونها متعرّضة لدليل اعتبار الاخرى بإخراجها عن عموم هذا الدليل من باب التخصيص أو عن إطلاقه من باب التقييد ، وغلبة المورد في الاستصحاب المفروض لا تصلح شيئا من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض أنّ الشكّ في هذا الاستصحاب ليس سببيّا ليوجب ارتفاعه

٢٠٥

بحسب الشرع ارتفاع ما هو مسبّب عنه وهو الشكّ الموجود في الاستصحاب الآخر كما لا يخفى ، كيف ولو كان الحال كذلك لم يكن حاجة في الترجيح إلى شيء آخر ، والغلبة المدّعاة أيضا لا تصلح لأن تفيد العلم بخلاف الاستصحاب المعارض لا عقلا كما هو واضح ، ولا شرعا لعدم نهوض الدلالة الشرعيّة على اعتبارها.

وأمّا الثاني : فلأنّ المفروض أنّ الاستصحابين بكليهما مندرجان في عموم أدلّة الاستصحاب على جهة سواء ، ولا يعقل كون دخول أحد فردي العامّ فيه موجبا لخروج الآخر عنه ، وغلبة وجود أحدها لا تصلح مخصّصة له ولا قرينة صارفة عن ظاهره ، ولا موجبة لانصراف الخطاب عرفا إلى ما قلّ مورده (١) وإلاّ لخرج أكثر الاستصحابات بلا دليل الحجّية ، وهو كما ترى ممّا لا يتفوّه به جاهل فضلا عن العالم الكامل.

ورابعها : أنّ الاستصحاب مع تبدّل موضوع المستصحب غير معقول ، فإنّ حقيقة معناه ـ على ما قرّر في محلّه ـ إبقاء القضيّة المتيقّنة في حال الشكّ على ما كانت عليها في آن اليقين من غير تغيير في شيء من أجزائها موضوعا ومحمولا وغيرهما ، بأن لا يكون بينهما اختلاف إلاّ في الزمان ، على معنى كون ظرف وجود القضيّة المتيقّنة هو الزمان السابق على ما هو ظرف وجودها مشكوكة وفي حال النسبة المأخوذة فيها ، من حيث كونها في الظرف الأوّل هو اليقين وفي الظرف الثاني هو الشكّ.

وملخّصه : اشتراط كون القضيّة المشكوكة هي المتيقّنة بعينها موضوعا ومحمولا ، ومرجعه إلى اشتراط بقاء الموضوع على ما هو عليه في القضيّة المتيقّنة وهو في المقام ليس من هذا الباب ، ضرورة أنّ

موضوع التقليد والأحكام المتفرّعة عليه ليس هو هذا الشخص من حيث هو كذلك ، بل هو من حيث اندراجه في عنوان كلّي وهو المكلّف الغير المتمكّن من الاجتهاد لفقده الملكة الّتي بها يقتدر على الاستنباط أصلا ورأسا ، فموضوع القضيّة المتيقّنة هو هذا العنوان الكلّي.

ولا ريب أنّ محلّ الفرض بعد صيرورته متجزّيا بالمعنى المفروض في المقام خرج عن هذا العنوان ودخل في عنوان آخر مشكوك الحكم من بدو الأمر ، وهو المتمكّن من الاجتهاد في بعض المسائل ، فالمتجزّي ملحوظ من حيث اندراجه في هذا العنوان ، وكونه حال اليقين مندرجا في العنوان الأوّل لا ينفع في اتّحاد موضوع القضيّتين ، لفرض خروجه

__________________

(١) كذا في الأصل ، والّذي يقتضيه السياق هكذا : « ولا موجبة لانصراف الخطاب عرفا عمّا قلّ مورده الخ ». والله العالم.

٢٠٦

عنه بتغيّر حالته الاولى ، فالقضيّة المشكوكة حينئذ ليست بعين القضيّة المتيقّنة لتعدّد موضوعيهما ، ومعه لا يعقل إجراء حكم إحدى القضيّتين في القضيّة الاخرى إلاّ بدلالة خارجيّة وهي منتفية في المقام.

وخامسها : أنّ الاستصحاب مع وجود رافع الشكّ ممّا لا معنى له ، وما تقدّم من البيان في الاستدلال على حجّية ظنّ المتجزّي رافع له جدّا.

ومنها : أنّ الظنّ ما لم ينته إلى القطع يكون في حكم الشكّ ، بل معنى عدم انتهائه إلى القطع انتهاؤه إلى الشكّ لبطلان التسلسل فيكون وجوده بمنزلة عدمه ، فيكون الظانّ حينئذ جاهلا بتكليفه فيما ظنّ به من المسائل كما أنّه جاهل في غير ما ظنّ به ، فيندرج بذلك في أدلّة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم في استعلام الأحكام الشرعيّة ، وهذا معنى وجوب التقليد على المتجزّي.

وجوابه يظهر بملاحظة ما تقدّم في تضاعيف كلماتنا المتقدّمة ، ومحصّله : المنع من عدم انتهاء ظنّ المتجزّي إلى القطع ، مع أنّ العمدة من أدلّة رجوع الجاهل إلى العالم هو الإجماع.

وقد تبيّن أنّه غير ثابت في مثل هذا الجاهل ، وغيره أيضا غير ظاهر الشمول لمثل هذا الجاهل ، وكيف كان فهذا الوجه في غاية السقوط كسوابقه.

ومنها : ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة المرويّة عن الصادق عليه‌السلام وفيها : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما » (١).

بتقريب : أنّ الجمع المضاف حقيقة في العموم ، فإن لم يكن يراد به الاستغراق الحقيقي فلا أقلّ من حمله على العرفي ، بأن يعرف جملة وافية من الأحكام بحيث يعدّ مع علمه بها عارفا بالأحكام.

وفيه أوّلا : أنّ المستفاد من الرواية نصبه عليه‌السلام العارف بالأحكام الناظر في الحلال والحرام للحكومة والقضاء وأمره أصحابه بالترافع إليه ، وهذا ممّا لا تعلّق له بمقام حجّية الظنّ القاضية بقيامه مقام العلم.

وبالجملة إثبات موضوع حكم بدليل ذلك الحكم ممّا لا يعقل ، والحكم المستفاد منها معلّق على المعرفة الظاهرة في العلم ، فهي غير متعرّضة للظنّ إثباتا ولا نفيا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٢٠ ، باب ٣١ من أبواب كيفيّة الحكم ، ح ٢.

٢٠٧

حتّى بالنسبة إلى المجتهد المطلق.

غاية ما في الباب قضاؤها باختصاص الإذن في الحكومة بالعارف للأحكام ، ومفاده أن لا يجوز للمتجزّي مباشرة الحكومة ، وهذا ليس معنى عدم حجّيّة ظنّه في حقّه ولا حجّيّة ظنّ المطلق له ولمقلّديه ، وعدم جواز الحكومة له لا ينافي جواز عمله بظنّه في الأحكام المتعلّقة به ، لجواز كون الترافع إليه ملحقا بتقليد الغير إيّاه فلا يجوز الأوّل كما لا يجوز الثاني على ما سنقرّره.

وثانيا : أنّ النظر والعرفان بكليهما ظاهران في الفعليّين ، فحمل « الأحكام » على العموم بكلّ من الوجهين المذكورين ينافي ما اتّفقوا عليه من عدم اعتبار العموم في مقام الفعل.

وثالثا : أنّ سبق ذكر الحلال والحرام المنحلّين ظاهرا إلى الخمس المعروفة يقضي بكون الأحكام مرادا بها خصوص أحكام القضاء ، فإرادة العموم لو كانت مسلّمة لعلّها من جهة أنّ جواز القضاء بين الناس مشروط بمعرفة جميع أحكامه كما نصّ عليه الفقهاء ، ولازمه أن لا يجوز للعارف ببعض أحكامه أن يقضي بينهم ، وهذا ممّا لا ينافي جواز عمله بظنّه في الامور الراجعة إليه ، كما أنّ عدم جواز تقليد الغير له لا ينافيه.

ورابعا : أنّ « الأحكام » لو كان المراد بها ما يرادف الحلال والحرام أو ما يعمّهما ـ كما عليه مبنى الاستدلال ـ فلابدّ وأن يحمل الإضافة فيها على إرادة الجنس ، بقرينة ظهور الحلال والحرام في إرادة الجنسيّة.

ومن البيّن أنّ التصرّف في لفظ واحد أولى منه في لفظين ، مع أنّهما أظهر في إرادة الجنس من « الأحكام » في إرادة العموم ، فلا بدّ من طرح ظهورها عملا بالأظهر.

فالأقوى تعيّن عمل المتجزّي بظنّ نفسه وعدم جواز الرجوع له إلى ظنّ غيره مع كون الأوّل عملا عن معرفة والثاني عملا لا عن معرفة ، ولا ريب في رجحان الأوّل في نظر العقل ، هذا إذا كان الناظر لمعرفة حكمه غيره من المجتهدين ، وإذا كان نفسه ناظرا في معرفة حكمه فلمّا كان أمره دائرا بين المحذورين : حرمة التقليد وحرمة العمل بالظنّ ، فالمتعيّن في حقّه اتّباع العلم وانتهاء عمله إليه في المسألة الفرعيّة أو الاصوليّة أو العمل بالاحتياط ، فإن تأمّل وحصل له اليقين بجواز بنائه على ظنّه ومؤدّى اعتقاده أو بجواز تقليده الغير يبني عليه ، وإلاّ فلا مناص من الاحتياط ، هذا هو تحقيق المقام في المتجزّي بالقياس إلى عمل نفسه.

٢٠٨

أصل

وللاجتهاد المطلق شرائط يتوقّف عليها *. وهي بالإجمال : أن يعرف جميع ما يتوقّف عليه إقامة الأدلّة على المسائل الشرعيّة الفرعيّة ، وبالتفصيل

__________________

وأمّا بالقياس إلى عمل الغير على معنى تقليد العامي له في مظنوناته فنورد البحث عنه في مباحث التقليد بعون الله وحسن توفيقه.

* ومعنى توقّفه عليها توقّفه في تحقّقه ووجوده الخارجي.

وقضيّة ذلك كون الاجتهاد مرادا به هنا معناه الملكي ، ضرورة أنّ ما يذكره من الامور الآتية إنّما يوجب اجتماعها جمع حصول الملكة المقتدر بها على استنباط الأحكام الفرعيّة من الأدلّة الشرعيّة ، لا حصول الاستنباط الفعلي للأحكام عن أدلّتها.

نعم هي شروط له باعتبار الفعل بالواسطة ، لأنّ الملكة بنفسها من شروطه كما نبّهنا عليه في مطاوي تعريف الفقه.

ولك أن تقول ـ بعد البناء على اعتبارها شروطا للفعل كما هو ظاهرهم بل صريح بعضهم ـ : ولا ينافيه عدم حصوله بمجرّد اجتماعها ما لم يفرض جامعها لمقام النظر والاستفراغ ، على معنى كونها شروطا له كونها ممّا يتولّد منها أو ينتزع عنها ما هو شرط له في الحقيقة وهو الملكة والقوّة النفسانيّة المقتدر بها على الاستنباط.

وكأنّه إلى هذا المعنى يشير عبارة التهذيب حيث إنّه أخذ بذكر شرائط المجتهد فقال : « والضابط فيه تمكّن المكلّف من إقامة الأدلّة على المسائل الشرعيّة الفرعيّة ، وإنّما يتمّ ذلك بامور أحدها معرفة اللغة » إلى آخره.

وأصرح منها في إفادة هذا المعنى عبارة المنية قائلا : « الشرائط الّتي يتوقّف عليها كون المكلّف مجتهدا يجمعها شيء واحد وهو كونه بحيث يتمكّن من الاستدلال بالدلائل الشرعيّة على الأحكام الشرعيّة ، لكن حصول هذه الملكة للمكلّف مشروط بامور أحدها ... » إلى آخره.

والمراد بشرطيّة هذه الامور بأجمعها كونها شروطا للاجتهاد الكلّي بالمعنى المفروض بالقياس إلى عامّة المسائل.

وأمّا بالقياس إلى البعض فالشرط ما يحتاج إليه من الامور المذكورة في خصوص المسألة بالخصوص دون غيره ، إذ ليس كلّ مسألة بحيث تتوقّف على كلّ واحد منها كما لا يخفى ، ولذا ترى أنّ العلاّمة في النهاية بعد ما فرغ عن ذكرها قال : « وهذه شرائط المجتهد

٢٠٩

المطلق المتصدّي للحكم والإفتاء في جميع مسائل الفقه ، أمّا الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي في معرفته ما يتعلّق بتلك المسألة وما لا بدّ منه فيها. »

ووافقه عليه السيّد في المنية قائلا : « واعلم أنّ اجتماع هذه العلوم إنّما هو شرط في المجتهد المطلق ، أمّا المجتهد في مسألة معيّنة خاصّة فلا يشترط إلاّ علمه بما يتعلّق بتلك المسألة من الاصول المذكورة عند من يجوّز تجزّي الاجتهاد » انتهى.

وعليه فما في عبارة المصنّف كغيرها لجماعة (١) من قيد الإطلاق يراد به الاحتراز عن الاجتهاد في البعض كما تكرّر نظيره منه في الأصل السابق ، لا أنّ المراد به تعميم الحكم بالقياس إلى المطلق والمتجزّي.

فما في كلام بعض المحقّقين ـ وتبعه غيره من الشرّاح ـ من أنّه يحتمل إرادة التعميم بالنسبة إلى مجتهد الكلّ والمتجزّي ليس على ما ينبغي.

ثمّ إنّ تعليلاتهم في جملة من الشروط تقضي بكونها من شروط الوجود كما هو المقطوع به أيضا بحكم الوجدان.

فما في مفاتيح السيّد ـ من الاستدلال على الاشتراط تارة : بأصالة عدم جواز العمل بالظنّ حيث لا يكون عالما بالنحو أو الصرف أو اللغة ، وأصالة عدم جواز تقليد من لم يعلم هذه العلوم. واخرى : بالعمومات المانعة عن العمل بغير العلم خرج منها ظنّ العالم بها بالدليل ، ولا دليل على خروج غيره فيبقى مندرجا تحتها ـ ليس بسديد ، لأنّ ذلك إنّما يستقيم إذا كانت العلوم المذكورة شروطا للصحّة والمفروض خلافه.

ومن هنا صار بعض المحقّقين ـ على ما في محكيّ المصنّف ـ إلى منع كون علم الكلام من هذه الجملة ، تعليلا بأنّه من لوازم الاجتهاد وتوابعه لا من مقدّماته وشرائطه ، واستحسنه المصنّف.

ووجه كونه من اللوازم والتوابع : أنّ الاجتهاد المتضمّن للنظر في الأدلّة الشرعيّة المتعارفة إنّما لفائدة التديّن بالمجتهدات ، فلا يتأتّى في الخارج عادة إلاّ ممّن يعتقد حقّية هذه الشريعة ، وهو يستلزم الإذعان بوجود الصانع وتنزّهه عمّا يمتنع عليه ، والإذعان بثبوت الشرائع الّتي منها هذه الشريعة المستلزم للإذعان بحقّيّة الأنبياء الّذين منهم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يتأتّى بحسب الخارج من منكري الصانع ولا من منكري الشرائع ولا من منكري هذا الشرع بالخصوص ، لا لانتفاء ما هو من مقدّمات وجوده في حقّهم بل لانتفاء ما هو من فوائده وغاياته التابعة له.

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢١٠

نعم إنّما يصحّ عدّه من الشروط بالقياس إلى الفقه بناء على ما اخترناه وقرّرناه في حدّه من : « أنّه العلم بالأحكام الفعليّة » ضرورة أنّ العلم بالأحكام الفعليّة لا يتأتّى إلاّ بمقدّمتين قطعيّتين ، يحرز صغراهما بالأدلّة الاجتهاديّة المتعارفة وكبراهما بالأدلّة الكلاميّة ، ولعلّه لأجل ذا أخذه المصنّف في مفتتح الكتاب كغيره من مبادئه المتقدّمة عليه بحسب المرتبة ، وإن كان لا يلائمه مختاره في جنس حدّه من حمل « العلم » على الاعتقاد الراجح ، فتأمّل.

ويمكن أن يكون ذكره ثمّة لمجرّد كونه من العلوم المتقدّمة عليه بحسب الرتبة ولو كان ذلك لمجرّد كونه من مقولة التوابع واللوازم ، فلا يناقض ما صنعه ثمّة لما صنعه هنا من عدم جعله إيّاه من شروط الاجتهاد.

أمّا أوّلا : فلعدم اتّحاد الفقه والاجتهاد بحسب المفهوم والمصداق على ما مرّ تحقيقه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ تقدّم شيء على شيء لا يستلزم الشرطيّة ، وإنّما ذكره ثمّة لأنّ من دأب قدماء المصنّفين أن يتعرّضوا في مفتتح كتبهم لذكر مرتبة العلم بالقياس إلى غيره من العلوم تقدّما وتأخّرا ، وأسقطه هنا لعدم كونه من جملة الشروط.

وبما ذكرنا ظهر السرّ في عدم استقصائه الشروط المذكورة هنا بأجمعها ثمّة مثل العلم بالآيات والأحاديث المتعلّقين بالأحكام والقوّة القدسيّة ، لعدم كونها من مقولة العلوم الّتي يلاحظ المرتبة بينها وبين غيره.

نعم يشكل الحال بالقياس إلى العلم بأحوال الرواة ، لدخول علم الرجال في عداد العلوم ، إلاّ أن يمنع كونه على حدّ سائر العلوم المدوّنة كما لا يخفى ، فتكون حال العلم بأحوال الرواة من باب العلم بآيات الكتاب والأخبار المتعلّقة بكلّ باب ، أو يقال : بمنع كون مقصوده ثمّة حصر العلوم المتقدّمة على الفقه فيما ذكره ليضرّ خروج علم الرجال.

وبما عرفت جميعا يظهر فساد ما اعترض على كلام المصنّف هنا من أنّ ما ذكره من الشرائط هنا يخالف ما ذكره هناك ، لأنّه اعتبر هناك علم الكلام ونفاه هنا ، واعتبر هنا القوّة القدسيّة وعلم الرجال وعلمي التفسير والحديث ولم يعتبرها هناك.

وفي كلام بعض الأعيان : أنّ ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم تسعة ، ثلاثة من العلوم الأدبيّة ، وثلاثة من المعقولات ، وثلاثة من المنقولات.

فالأوّل من الأوّل علم اللغة ، والثاني علم الصرف ، والثالث علم النحو.

والأوّل من الثاني علم الاصول ، والثاني علم الكلام ، والثالث علم المنطق.

٢١١

أن يعلم من اللّغة ومعاني الألفاظ العرفيّة ما يتوقّف عليه استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة ولو بالرجوع إلى الكتب المعتمدة. ويدخل في ذلك معرفة النحو والتصريف *

__________________

والأوّل من الثالث علم تفسير آيات الأحكام ، والثاني العلم بأحاديثها ، والثالث علم الرجال.

* ومعرفة هذين العلمين إنّما تدخل في معرفة اللغة الّتي يراد بها هنا معاني الألفاظ الموضوعة لها باعتبار موادّها أو هيأتها الإفراديّة أو التركيبيّة وضعا حقيقيّا أو مجازيّا منوطا بالعلائق المرخّص فيها من الواضع.

والاولى هي المعاني الواصلة من الصدر الأوّل من أهل اللغة أو المودعة في كتب اللغة الّتي دوّنها أربابها المعروفون الّتي وضع لها موادّ الألفاظ كمادّة « السماء » و « الأرض » و « الماء » و « الغسل » و « المسح ».

والثانية هي المعاني التصريفيّة الّتي يتعرّض لها علماء الصرف ووضع لها هيآت الاشتقاقيّة كهيآت فعلي الماضي والمضارع ، وهيآت فعلي الأمر والنهي ، وهيآت أسماء الفاعلين والمفعولين وغيرهما.

والثالثة هي المعاني النحويّة الّتي يتعرّض لها علماء النحو ووضع لها تراكيب الألفاظ الإعرابيّة كالفاعليّة والمفعوليّة والإضافة ونحوها ممّا لا يحصى.

ووجه الحاجة إلى هذه العلوم مع وضوحه أنّ الاجتهاد لا يتحقّق إلاّ بإعمال الأدلّة الّتي منها الكتاب والسنّة اللذين هما من مقولة الألفاظ.

ومن البيّن أنّ استفادة المطلب من الألفاظ لا يتأتّى إلاّ بمعرفة أوضاعها الطارئة لها بكلّ من الأنحاء الثلاثة المذكورة ومعانيها الثابتة لها من جهة هذه الأوضاع.

وإن شئت لاحظ عبارة المنية المعلّلة للحاجة إلى النحو « باختلاف معاني اللفظ الواحد العربيّ عند اختلاف حركاته الاعرابيّة كما تقول : « ما أحسن زيد » و « ما أحسن زيد » و « ما أحسن زيد » ، فإنّ الأوّل تعجّب ومعناه : شيء أحسن زيدا ، والثاني خبر ومعناه : ما صار زيد ذا حسن ، والثالث استفهام ومعناه : أيّ خلق من أخلاق زيد أو أيّ عضو من أعضائه أحسن؟

ودلالة هذه الحركات على هذه المعاني إنّما تستفاد من علم النحو » انتهى.

وأمّا من قال في نفي الحاجة إلى هذه العلوم أنّ العربي القحّ بعد ما تتبّع الأحاديث

٢١٢

واطّلع على عرف القرآن والحديث مستغن عنه ـ على ما حكاه الوحيد في رسالة الاجتهاد والأخبار ـ فهو متهافت لا يلتفت إلى مقالته أو غافل عن حقيقة مقصود المقام.

وتوضيحه : أنّ المقصود من اشتراط معرفة هذه العلوم الثلاث أن يحصل لمريد الاجتهاد حالة نفسانيّة بها يتمكّن من فهم معاني موادّ ألفاظ العرب وتراكيبها مفردة ومركّبة ، مادّية وهيئيّة ويميّز بين حقائقها ومجازاتها ووجوه دلالاتها ممّا يتعلّق بهذه العلوم ويتعرّض لبيانها أربابها ، على وجه يكفي في استفادة المطالب المقصودة من الكتاب والسنّة بحسب العرف والعادة ، سواء كانت أصليّة كما لو كان من فصحاء أهل لسان العرب ، أو طارويّة كما لو كان أجنبيّا أو غير فصيح فحصّلها بتعلّم العلوم المذكورة ، فالعربي القحّ إن اريد به ما لا يخرج عن هذا الضابط فاعتباره اعتراف بالاشتراط.

ومن أطلق هذا الشرط من العامّة والخاصّة لا أظنّ أنّه يريد به ما زاد على الضابط المذكور ، ضرورة أنّه لا فارق بين العربي المفروض وبين الأجنبيّ المتعلّم للعلوم المذكورة إلاّ في أنّ الثاني يعرف الاصطلاحات المحدثة المتداولة عند أرباب هذه العلوم والأوّل لا يعرفها وهذا لا يصلح فارقا في الحكم ، إذ معرفة الاصطلاحات لا مدخليّة لها في فهم معاني الألفاظ واستفادة المطالب المقصودة من الكتاب والسنّة ليضرّ انتفاؤها في حصول الغرض الأصلي.

وإن اريد به ما لا يبلغ الحدّ المذكور فدعوى استغنائه عن العلوم المذكورة واضح المنع.

وإن اريد به ما يدخل في الضابط مع اقترانه بدعوى كفاية ما له من الحالة النفسانيّة في الاستنباط وعدم افتقاره إلى شيء آخر ، فهو ـ مع أنّه ممّا لا يتحمّله العبارة المتقدّمة ـ كلام راجع إلى نفي الحاجة إلى الشروط الاخر الآتية الّتي منها معرفة علمي الاصول والرجال ، وسنورد ما يتعلّق به من إصلاح أو إفساد.

ومن الفضلاء من قال : « إنّ هذا الشرط إنّما يعتبر غالبا بالنسبة إلى أمثال زماننا حيث اندرس فيه اللغة العربيّة وانحصر سبيل معرفتها في المراجعة إلى الكتب المدوّنة.

وأمّا بالنسبة إلى العرب الموجودين في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام فلا حاجة لهم إلى معرفة هذه العلوم المحرّرة » إلى آخره.

وهذا كما ترى بناء منه على كون معرفة العلوم المذكورة مرادا بها ما يحصل بمراجعة كتبها المدوّنة والمدارسة عند أربابها ، ولذا استدرك عقيب العبارة المذكورة بقوله : « ولو اريد

٢١٣

بهذه العلوم غاياتها اشترك وجه الحاجة بين الجميع » وقد عرفت ضعف توهّم الاختصاص.

ثمّ إنّ تخصيصه العرب الموجودين في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام بعدم الحاجة إلى معرفة هذه العلوم المحرّرة غير واضح الوجه ، فإنّ فصحاء العرب العارفين بمزايا اللغة العربيّة المايزين بين حقائقها ومجازاتها وبين القديمة والمحدثة من معانيها لا حاجة لهم إلى مراجعة الكتب المدوّنة في هذه العلوم وإن كانوا من أهل الأزمنة المتأخّرة إلى زماننا هذا.

إلاّ أن يقال : إنّ العرف كثيرا مّا يتبدّل ، والمعاني الموجودة في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام كثيرا مّا تتغيّر بالنقل ونحوه ، والعبرة في خطابات الشرع إنّما هي بتلك المعاني لا غير ، والموجودين في العرف من العرب لا معرفة لهم بتلك المعاني غالبا إلاّ من جهة مراجعة الكتب المدوّنة في هذا الشأن كغيرهم من غير العرب ، فيرجع الكلام حينئذ في اعتبار هذا الشرط بالنسبة إلى اللغة بالمعنى المقابل للنحو والصرف إلى اشتراط معرفة المعاني الّتي يتحمّلها ألفاظ الكتاب والسنّة ولو بضميمة الاصول وغيرها من المطالب الاصوليّة المقرّرة للتوصّل إلى تعيين مرادات الخطابات ، الّتي منها ما يترجّح في النظر في مسألتي تعارض العرف واللغة وتعارض الراوي والمرويّ عنه ، سواء كانت تلك المعاني هي المعاني الأصليّة الواصلة من الصدر الأوّل من أهل اللغة أو المعاني المعلوم وجودها في زمن الخطاب أو المعاني المودعة في الكتب المدوّنة ، أو المعاني العرفيّة الموجودة في العرف الحاضر ، ويدخل في هذا الضابط المعاني الشرعيّة الثابتة لجملة كثيرة من الألفاظ بعنوان الحقيقة بالقياس إلى عرف الشارع على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها أو بعنوان المجاز بالقياس إلى عرفه أيضا على القول الآخر.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : لا يعتبر في معرفة اللغة بالمعنى الأعمّ استحضار مسائلها فعلا وحفظها عن ظهر القلب ، بل يكفي فيها التمكّن من مراجعة الكتب المحرّرة في العلوم الثلاث أو مراجعة أهلها ، كما نصّ عليه غير واحد من الأجلّة ومنهم المصنّف في قوله : « ولو بالرجوع إلى الكتب المعتمدة » والوجه في ذلك ـ بعد قضاء الوجدان القطعي بعدم مدخليّة الاستحضار الفعلي والحفظ عن ظهر القلب فيما هو مقصود المقام من الاشتراط ـ أنّه المعلوم من طريقة الأعيان خلفا عن سلف من لدن بناء الاجتهاد إلى يومنا هذا.

الثاني : لا يجب كون هذه المعرفة بالقياس إلى كلّ واحد من العلوم الثلاثة بطريق

٢١٤

الاجتهاد ، على معنى بذل الوسع بمزاولة موارد استعمالات العرب وممارسة كلمات الأقدمين من فصحائهم من الخطب والقصائد ومسافرة مواطنهم ومخالطة قبائلهم على حدّ ما كان يصنعه الأوّلون من أئمّة هذه الصناعات ، بل قد يحرم الاجتهاد بهذا المعنى إذا استلزم تعطيل الأحكام وتعويق أمر الاجتهاد والقضاء والإفتاء ، بل يكفي فيها الاعتماد على ما في الكتب المحرّرة لما تقدّم من أنّه المعهود من طريقة الأساطين قديما وحديثا ، وعليه ففي وجوب كون تلك المعرفة المستندة إلى مراجعة الكتب وغيرها بالغة حدّ الجزم وعدمه بالاكتفاء بالمعرفة الظنّية وجهان ، من أنّ القدر المتيقّن للاستنباط الّذي علم برضا الشارع به هو القصر على المعرفة الجزميّة ، وإنّ أساطين هذا الشأن لم يعهد منهم التزامهم بتحصيل الجزم بالمطالب المتعلّقة بهذه العلوم.

لكنّ الإنصاف : أنّ قول أهل اللغة في الغالب ولو بمعونة بعض القرائن الداخلة والخارجة ولا سيّما الصرفيّون ثمّ النحاة منهم ممّا يفيد الجزم بالمطلب في الغالب ، وما لا يحصل به الجزم من كلامهم ـ كما لو كان من الموارد الخلافيّة عندهم مع كون الاختلاف فيه عظيما ـ نادر ، ولم يعلم من سيرة العلماء الآخذين بكلامهم أنّهم يكتفون بالظنّ في مطالبهم خصوصا المطلق منه ، لجواز كون اعتمادهم على كلامهم اعتمادا على ما يغلب اتّفاقه من حصول الجزم.

فالوجه حينئذ أن يقال : إنّه في موضع إمكان حصول المعرفة الجزميّة ولو بمراجعة الكتب المتعدّدة من غير استلزامه لتعطيل الأحكام أو العسر والحرج المقطوع بنفيهما في الشرع يجب مراعاتها اقتصارا على القدر المتيقّن ، وفي غيره لا بدّ من الظنّ الاطمئناني والاعتماد النفساني ، سواء حصل بمراجعة كتاب واحد أو ما زاد عليه ، من غير أن يكون له حدّ معلوم (١) ولا عدد محدود ، ولعلّه إلى اعتبار هذا المعنى يشير وصف الاعتماد وغيره في عبارة المصنّف وغيره بقوله : « ولو بالرجوع إلى الكتب المعتمدة ».

وأمّا ما عن كشف اللثام من قوله : « ولا يضرّ الافتقار في كثير من دقائق ذلك إلى الرجوع إلى الكتب المعتمدة في العلوم المذكورة ، ولكن لابدّ من التتّبع بحيث يحصل العلم العادي أو الظنّ بأحد طرفي ما يتردّد فيه ، ولا يقتصر على كتاب واحد أو كتابين كما ترى كثيرا من الفقهاء يقتصرون في المسألة اللغويّة على نحو الصحاح وحده ، والنحويّة على

__________________

(١) وفي الأصل : « معدوم » وهو سهو من قلمه الشريف ، والصواب ما أثبتناه في المتن.

٢١٥

المفصّل أو كتاب سيبويه » إلى آخره فإن رجع إلى ما قرّرناه فمرحبا بالوفاق ، وإلاّ فيدخل في قول من لا دليل عليه إلاّ مجرّد دعواه.

وأمّا ما عساه يقال في سند دعوى كفاية الظنّ المطلق هاهنا من : أنّه يستلزم الظنّ بالحكم الشرعي وهو حجّة لدليل الانسداد وغيره وملزوم الحجّة لابدّ وأن يكون حجّة ، كما قيل به في سند دعوى حجّية الظنّ الحاصل من قول اللغوي بالخصوص في غير المقام.

ففيه ـ بعد منع كلّية هذه القاعدة كما نبّهنا عليه في غير موضع ـ : أنّ المحقّق من مقتضى دليل حجّية الظنّ انسدادا كان أو غيره إنّما هو الظنّ الاطمئناني بعد تعذّر العلم دون ما زاد عليه ، فعلى مدّعي الزيادة إقامة الدليل عليها.

الثالث : لا يجب في شيء من العلوم المذكورة الإحاطة بجميع مسائلها ، بل يكفي في كلّ واحد معرفة ما يكفي في حصول الغرض الأصلي وهو الاستنباط ، كما نصّ عليه جماعة وتقدّم في عبارة المصنّف إليه الإشارة ، حيث عبّر بعلم ما يتوقّف عليه الاستنباط من اللغة ومعاني الألفاظ العرفيّة ، فلا يشترط أن يكون في اللغة أو النحو أو غيره كسيبويه ونحوه كما صرّح به في التنقيح في عبارة محكيّة له.

الرابع : ربّما يعدّ من العلوم العربيّة المحتاج إليها في استنباط الأحكام علم المعاني كما عن بعض العامّة.

وعن الوافية (١) وغيره أنّه المنقول عن السيّد الأجل المرتضى في الذريعة (٢) ، وعن الشهيد الثاني في كتاب آداب العالم والمتعلّم (٣) وعن الشيخ أحمد بن المتوّج البحراني في كفاية الطالبين (٤).

بل ربّما يحكى القول بشرطيّة علمي المعاني والبيان معا ، لتوقّف معرفة جملة من التكاليف الّتي لها مدخل في معرفة المعاني وتمييز الأفصح عن الفصيح والفصيح عن غير الفصيح في مقام التعارض على العلم المذكور ، واستحسنه بعض الفضلاء.

وعن الوافية أنّه بعد ذكر علم البيان قال : « ولم يفرّق أحد بينه وبين المعاني في الشرطيّة والمكمّلية إلاّ ابن أبي جمهور ، فإنّه عدّ علم المعاني من المكمّلات وسكت عن البيان » (٥) بل

__________________

(١) الوافية في اصول الفقه : ٢٨٠.

(٢) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٨٠٠.

(٣) المسمّى بـ : منية المريد في آداب المفيد والمستفيد : ٢٢٥.

(٤) كفاية الطالبين : ٣٨ ( المخطوط ).

(٥) الوافية : ٢٨١.

٢١٦

عنه أيضا أنّه بعد ذكر علم البديع قال : « ولم أجد أحدا أنكره إلاّ ما نقل عن الشهيد الثاني في الكتاب المذكور وصاحب كفاية الطالبين فإنّهما عدّا العلوم الثلاثة أجمع في شرائط الاجتهاد » (١).

وعن العوائد أنّه قال : « واعلم أنّ علم المعاني والبيان والبديع من مكمّلات الاجتهاد ، وجعل جمع علم المعاني والبيان من شروط الاجتهاد ـ إلى أن قال ـ : وقد أشرنا إلى أنّه ربّما يحصل العلم من جهة الفصاحة والبلاغة بكون الكلام من الإمام عليه‌السلام ، فمن هذه الجهة ربّما يكون لهما مدخليّة في الاشتراط بل البديع أيضا ».

وعن الوافية أنّه قال : « والحقّ عدم توقّف الاجتهاد على العلوم الثلاثة.

أمّا على تقدير صحّة التجزّي فظاهر.

وأمّا على تقدير عدم صحّة التجزّي فلأنّ فهم معاني العبارات لا يحتاج فيه إلى هذه العلوم ، لأنّ في هذه العلوم يبحث عن الزائد على أصل المراد ، فإنّ المعاني علم يبحث فيه عن الأحوال الّتي بها يطابق الكلام لمقتضى الحال ، كأحوال الإسناد الخبري ، والمسند إليه والمسند ومتعلّقات الفعل ، والقصر والإنشاء ، والفصل والوصل ، والإيجاز والإطناب والمساواة ، وبعض مباحث القصر والانشاء المحتاج إليه يذكر في كتب الاصول. والبيان علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة ، وما يتعلّق بالفقه من أحكام الحقيقة والمجاز مذكور في كتب الاصول أيضا. والبديع علم يعرف به وجوه محسّنات الكلام وليس شيء من مباحثه ممّا يتوقّف عليه الفقه.

نعم لو ثبت تقديم الفصيح على غيره في باب التراجيح أمكن القول بالاحتياج إلى هذه العلوم الثلاثة لغير المتجزّي وله في بعض الأحيان ، إذ فصاحة الكلام وأفصحيّته ممّا لا يعلم في مثل هذا الزمان إلاّ بهذه العلوم الثلاثة ، وكذا على تقدير تقدّم الكلام الّذي فيه تأكيد أو مبالغة على غيره ، ولكن لا شكّ في مكمّلية هذه العلوم الثلاثة للمجتهد » انتهى (٢).

أقول : ويظهر القول بشرطيّة هذه العلوم أو الأوّلين منها ممّن يقول في باب الترجيح بالترجيح بالفصاحة كما عليه المصنّف والنهاية والتهذيب ، وعن المبادئ وشرحه والمنية والزبدة وغاية المأمول ، وبالأفصحيّة كما عليه التهذيب والمنية وحكاه في المنتهى عن بعضهم.

وبالجملة كلّ من يرى الترجيح بالفصاحة أو الأفصحيّة يلزمه القول بكون العلوم المذكورة

__________________

(١ و ٢) الوافية : ٢٨١.

٢١٧

من شروط الاجتهاد وإن لم يصرّحوا به في المقام ، إلاّ أن يمنع الملازمة بما في كلام بعض الفضلاء من أنّه كثيرا مّا يستغني الذكيّ المتدرّب في طرق المحاورات بوجدانه عن الرجوع إلى العلوم المذكورة.

والإنصاف أن يقال : إنّ الفصاحة والأفصحيّة ليستا من المرجّحات الواردة في النصوص ليكون ذلك كبرى كلّية لصغريات لا تحرز إلاّ بعلمي المعاني والبيان كما في العدالة والأعدليّة ونحوهما المحرز صغرياتها بعلم الرجال ، بل الترجيح بهما لو صحّ فإنّما هو لكونهما من المرجّحات الغير المنصوصة المعدودة من الظنون الاجتهاديّة على القول بالترجيح بمطلق الظنّ الاجتهادي كما هو الأظهر وظاهر الأكثر ، فيدور الترجيح بها (١) على إفادتها ، والفصاحة مع الأفصحيّة إنّما تورثان ظنّ الصدور عن الإمام المعصوم عليه‌السلام إذا ثبت أنّه في غالب مكالماته كان يراعي الفصاحة ، بل إذا ثبت أنّ الغالب عليه في مقام بيان الأحكام الشرعيّة مراعاة مقام الفصاحة.

بل الإنصاف أنّ هذه الغلبة ـ مع أنّها ممنوعة كما في كلام غير واحد من الأساطين ـ غير مجدية فيما هو من محلّ الاشتباه ، وهو كون أحد المتعارضين فصيحا والآخر ركيكا ، أو أحدهما أفصح والآخر دونه في الفصاحة ولم يعلم بأنّ الصادر عن المعصوم هو الأوّل أو الثاني.

ـ وقالوا في وجه تقديم الفصيح : أنّه أشبه بكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفصح العرب ، وقد قال : « أنا أفصح من نطق بالضاد » (٢) والركيك بعيد عن كلامه ، وفي وجه تقدّم الأفصح : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مختصّا من الفصاحة بمرتبة لا يشاركه فيها غيره فيغلب على الظنّ اختصاصه بالأفصح ، وذلك غير متحقّق في الفصيح لمشاركة غيره له فيه ـ.

إذ غاية ما يقتضيه كونه أفصح العرب واختصاصه في الفصاحة بمرتبة لا يشاركه غيره فيها أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الاقتدار على أداء الكلام الفصيح أو الأفصح بمرتبة لا يبلغه غيره فيها ، وهو لا يقضي بامتناع صدور غير الفصيح أو غير الأفصح منه ، ولا بغلبة صدورهما عنه

__________________

(١) كذا في الأصل : والصواب : « فيدور الترجيح بهما على إفادتهما » والله العالم.

(٢) نقله الحلبي عن ابن هشام ( راجع سيرة ابن هشام ١ : ١٧٨ ) ، ولكن حكى العجلوني في كشف الخفاء عن اللآلي أنّه قال : معناه صحيح ولكن لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحفّاظ ، وأورده أصحاب الغريب ولا يعرف له إسناد ( كشف الخفاء ١ : ٢٠١ ) ـ ونحن أيضا لم نعثر على هذا التعبير في مجامعنا الروائية.

٢١٨

ومن الكتاب قدر ما يتعلّق بالأحكام *

__________________

خصوصا في مقام بيان أحكام الله سبحانه ، حيث لا تعلّق لمقام إظهار البلاغة ببيان الأحكام أصلا ، بل المعلوم من طريقة الأئمّة عليهم‌السلام أنّهم ما كانوا يراعون مقام الفصاحة والبلاغة إلاّ في مقام إنشاء الخطبة والدعاء والمناجاة ، ولذا يجد الذكيّ المتدرّب تفاوتا فاحشا بين الخطب والأدعية لاشتمالها على مزايا معنويّة وخواصّ بيانيّة لا تشبه بكلام الآدميّين أصلا المعتاد صدوره منهم في محاوراتهم ومخاطباتهم ، والثانية ليست في الغالب إلاّ نظير كلام الآدميّين بحيث لا يوجد فرق بحسب السبك والنظم والاسلوب بين الأجوبة الصادرة عنهم وبين الأسئلة الصادرة عن أصحابهم وغيرهم من رواة أخبارهم ، كما أنّه لا يقضي بامتناع صدور الفصيح بل الأفصح عن غيرهم خصوصا الكذّابة الواضعين للأحاديث الكاذبة الداسّين لها في أحاديثهم الصادرة عنهم الموجودة عند أصحابهم ، حيث إنّ المعلوم من ديدنهم بمقتضى النصّ والاعتبار غاية اهتمامهم في جعل موضوعاتهم بحيث يشبه الكلمات الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام لكونه آكد في التباس الأمر واشتباه الحال ، ولذا كان أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام حتّى الفضلاء منهم لا يعرفونها ولا يميّزونها عن أخبار أئمّتهم ، ولا يتفطّنون بوقوع الوضع والدسّ إلاّ ببيان الأئمّة عليهم‌السلام لهم وتنبيههم عليهما وتمييزهم للموضوعات عن غيرها كما دلّت عليه نصوص مستفيضة تقدّم الإشارة إلى جملة [ منها ] ، فبملاحظة ذلك كلّه لا يبقى وثوق بكون الفصيح أو الأفصح من المتعارضين صادقا صادرا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام وغيرهما كاذبا صادرا عن غيره من الوضّاعين ، فلو سلّمت غلبة مراعاتهم الفصاحة في مقام بيان الأحكام كانت معارضة بغلبة مراعاتها أيضا من الكذّابة ووضّاع الرواية ، بل الاعتبار بملاحظة ما ذكر ربّما يقضي بالترجيح على عكس القضيّة من تقديم الفصيح أو الأفصح كما لا يخفى.

* والتقييد بالقدر المذكور تنبيه على عدم وجوب معرفة الكتاب بأجمعه كما هو واضح الوجه وصرّح به في عبائر جمع.

قال في المنية : « ولا يشترط علمه بالكتاب أجمع ، بل بما يتعلّق بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة منه ، وذلك نحو من خمسمائة آية ، أمّا ما عدا ذلك من الآيات الدالّة على البعث والنشور والقصص وأحوال القرون الماضية وكيفية إثابة المطيعين على طاعاتهم ومعاقبة العصاة على عصيانهم فلا » إلى آخره.

٢١٩

وتحديد آيات الأحكام بخمسائة كما صرّح به في التهذيب والنهاية ، وعن القواعد والمبادئ وشرحه والدروس والكشف والوافية ، وعن الأخير نفي الخلاف عنه (١) وفي عبارة محكيّة عن السيّد الطباطبائي في بعض مصنّفاته : « والمشهور أنّها نحو من خمسمائة وقيل إنّها أقلّ وقيل أكثر ، والأصوب ترك التحديد فإنّها تزيد وتنقص بحسب اختلاف العلماء في وجوه الدلالات وتفاوت اجتهادهم في طرق الاستنباط والانتقال إلى الأفراد الخفيّة والتنبّه للوازم النظريّة » إلى آخره.

وقد صنّف لضبط هذه الآيات وجمعها وشرحها كتب ، والمشهور منها « فقه القرآن » و « كنز العرفان » و « زبدة البيان » و « مسالك الإفهام ».

وقد ورد في جملة من الأخبار تقسيم القرآن إلى ما يخالف التحديد المذكور ، فعن الباقر عليه‌السلام : « نزل القرآن على أربعة أرباع : ربع فينا ، وربع في عدوّنا ، وربع سنن وأمثال ، وربع فرائض وأحكام » (٢).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّه نزل أثلاثا : ثلث فينا وفي عدوّنا ، وثلث سنن وأمثال ، وثلث فرائض وأحكام » (٣).

ولا ريب أنّ ثلث القرآن بل ربعه أيضا يزيد على العدد المذكور بكثير ، فإنّ مجموع القرآن على ما ضبطوه ستّة آلاف وستّمائة وستّة وستّون آية ، فيكون ثلثه ألفين ومائتين واثنين وعشرين آية ، وربعه ألفا وستّمائة وستّة وستّين ونصفا ، ويمكن الجمع بحمل ما في كلام الأصحاب على ما في القرآن الموجود الآن بأيدينا وحمل ما في الخبرين على ما في القرآن المستور عنّا الموجود عند إمام العصر عجّل الله فرجه.

وهذا أولى ممّا ذكره السيّد المتقدّم ذكره في الجمع ، فإنّه بعد ما ذكر الخبرين قال : « والتحديد بالخمسمائة بعيد منهما وإن اعتبر بحسب الكلمات أو الحروف وضمّ آيات الاصول إلى الفروع واكتفى بمجرّد الإشعار الغير البالغ حدّ الظهور ، والوجه حمل الأثلاث والأرباع على مطلق الأقسام والأنواع وإن اختلفت في المقدار ، وحمل الربع على ما يشمل البطون ، والثلاث على ما يعمّه وبطون البطون ، أو الأوّل على غاية ما يصل إليه أفكار العلماء والثاني على ما يعمّه والمختصّ بالأئمّة ، أو حملها على أحكام الآيات دون آيات

__________________

(١) الوافية : ٢٥٦.

(٢) الكافي ٢ : ٦٢٧ ، كتاب فضل القرآن ـ باب النوادر ، ح ٤.

(٣) الكافي ٢ : ٦٢٧ ، ح ٢ من الباب المذكور.

٢٢٠