تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

كون الحكم الفعلي المتعلّق بالمقلّد حال العذر ما هو بحسب فتوى المفضول وعدم كون ما هو بحسب فتوى الأفضل حكما فعليّا متعلّقا به ، فيشكّ بعد زوال العذر في زوال تعلّق الأوّل وحدوث تعلّق الثاني فالأصل بقاء الأوّل وعدم حدوث الثاني.

وهذا حسن إن لم يخدشه تبدّل موضوع المستصحب ، بملاحظة أنّ العاجز عن تقليد الأفضل والقادر عليه موضوعان متغايران وقد تبدّل الأوّل بالثاني ومعه لا يمكن الاستصحاب.

ولكن يمكن دفعها بمنع دخول العجز والقدرة في الموضوع ، بل الموضوع هو ذات المقلّد والقدرة على الرجوع إلى الأفضل شرط لتأثير الأفضليّة في منع الرجوع إلى المفضول ، فإذا انتفت القدرة سقطت الأفضليّة عن التأثير في المنع وترتّب عليه جواز الرجوع إلى المفضول ، لصيرورة فتواه حينئذ حكما فعليّا في حقّه من دون أن يؤخذ فيه وصف العجز وعدم القدرة ولا القدرة.

غاية ما هنالك أنّه ينتزع عنه باعتبار العجز تارة والقدرة اخرى مفهوم يعبّر عنه بـ « العاجز » و « القادر » انتزاعا عقليّا ، فتوهّم كون ذلك المفهوم المأخوذ فيه وصف العجز والقدرة باعتبار ذلك الوصف موضوعا.

وأنت خبير بأنّه لا ملازمة كما في « المتغيّر » المنتزع من الماء باعتبار وصف التغيّر الّذي هو علّة النجاسة من دون دخل له في الموضوع ، ولذا لو زال التغيّر بنفسه لم يؤثّر في منع الاستصحاب بتوهّم تبدّل موضوع المستصحب.

وأمّا المسألة الثالثة : فكون الوقائع الماضية محكومة بالصحّة المسقطة للإعادة والقضاء واضح لا حاجة له إلى البيان لوقوعها على طبق الطريق المشروع.

وأمّا الوقائع الآتية فقضيّة الأصل المتقدّم المنحلّ إلى استصحابين وجوب البقاء على تقليده السابق وعدم جواز العدول عنه إلى الأفضل ، مع عدم جريان قاعدة الاشتغال لدوران الأمر بين المحذورين ، وقاعدة الأقربيّة لأنّ الأفضليّة إنّما تؤثّر في أقربيّة الفتوى إلى الواقع إذا تأخّر عنها استنباط الحكم ، ومفروض المسألة تأخّر حصولها عن الاستنباط لكون تقليد المفضول في ابتدائه إنّما حصل حال التساوي.

نعم لو فرض أنّ الأفضل بعد حدوث الأفضليّة فيه جدّد النظر واستنبط ثانيا تمّ كون فتاويه المتجدّدة أقرب إلى الواقع ، غير أنّه مجرّد فرض ولو وقع كان نادرا وبناء المسألة ليس على الفروض النادرة ، مع أنّه قد يؤول أيضا إلى التساوي من حيث القرب والبعد فيما

٥٠١

لو قلّد أفضل المجتهدين ثمّ انعكس الأمر فصار المفضول أفضل ثمّ جدّد النظر.

وقد يستدلّ على وجوب العدول بإطلاق الأخبار الدالّة على وجوب تقليد الأعلم وإطلاق الإجماعات المنقولة عليه.

ويزيّفه : أنّ إطلاق الأخبار مع عدم نهوض دلالاتها على المطلوب حسبما بيّنّاه غير مجد ، وأمّا إطلاق الإجماعات المنقولة ، ففيه أوّلا : عدم العثور على نقل إجماع صريحا في كلامهم.

نعم ربّما يظهر دعواه من بعض العبارات كعبائر المصنّف وغيره ، فأصل هذا الإجماع لا ينهض دليلا على الحكم المخالف للأصل في نحو المسألة فضلا عن إطلاقه.

وثانيا : كونه معارضا بإطلاق الإجماعات المنقولة على عدم جواز العدول عن التقليد.

وتوهّم انصراف إطلاق هذه الإجماعات إلى العدول عن تقليد المساوي إلى مثله ، يدفعه : إمكان مثله في إطلاق الإجماعات على تقليد الأعلم ، لانصرافه إلى ابتداء التقليد وعدم تناوله مثل ما نحن فيه.

ـ تعليقة ـ

إذا قلّد العامي أحد المجتهدين في مسألة أو مسائل فلا يجوز له العدول في المسائل المقلّد فيها إلى تقليد مجتهد آخر ما دام المجتهد الأوّل باقيا على شرائط الإفتاء ، وفاقا لجماعة من أصحابنا. ولعلّهم الأكثر ، بل عن جماعة من أهل الخلاف دعوى الاتّفاق ، فعن المختصر : « لا يرجع عنه بعد تقليده اتفاقا » ، وعن شرحه للعضدي : « إذا عمل بقول المجتهد في حكم مسألة فليس له الرجوع إلى غيره اتّفاقا ».

وعن الإحكام : « إذا تبع بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث وعمل بقوله فيها اتّفقوا على أنّه ليس له الرجوع في ذلك الحكم إلى غيره ».

والعلاّمة في النهاية استجود الجواز.

وفي التهذيب استقربه ، وجعله ثاني الشهيدين في محكيّ المقاصد العليّة أصحّ الأقوال.

ويظهر اختياره من المحقّق الثاني في الجعفريّة ، واختاره في المنية إذا تجدّد ظنّه رجحان غير ذلك المجتهد عليه في العلم والورع.

ويظهر منه كون موضوع البحث ومحلّ الخلاف أعمّ من العدول عن المساوي إلى مثله

٥٠٢

ومن المفضول إلى الفاضل ، ومحلّ النزاع إنّما هو الرجوع في الوقائع اللاحقة من المسألة المقلّد فيها لا الوقائع السابقة ولا المتلبّس بها ، فمن توضّأ بالمضاف وصلّى به أو صلّى بغسل غير الجنابة بلا وضوء أو لم يجتنب في صلاته عن الغسالة أو عن الماء القليل الملاقي للنجاسة أو عقد امرأته بالعقد الفارسي تقليدا لمجتهد جوّز جميع ذلك فلا يجوز له العدول في هذه الأعمال بنقض آثار التقليد فيها بلا خلاف ، وقد يعدّ عدم الجواز من شرائط التقليد بالقياس إلى المسألة المقلّد فيها ، فيقال : يشترط فيه أن لا يكون المسألة مسبوقة بتقليد مجتهد آخر.

وكيف كان ، فلنا على عدم الجواز : الأصل المقتضي لوجوب الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا يفيد البراءة ويوجب الخروج عن العهدة وهو البقاء على تقليد المعدول عنه ، لأنّه لا كلام في صحّة هذا التقليد بخلاف تقليد المعدول إليه فإنّه ليس بتلك المثابة.

مضافا إلى استصحاب الأحكام الفرعيّة المترتّبة على التقليد الأوّل من وجوب اجتناب وحرمة ارتكاب ووجوب إتيان أو استحبابه أو إباحته أو نحو ذلك ، ومرجعه إلى استصحاب بقاء تعلّق الأحكام الفعليّة اللازمة من فتوى المعدول عنه القاضي بعدم جواز العدول ولا صحّته ، مع أصالة عدم تعلّق أضداد هذه الأحكام من مقتضى فتوى المعدول إليه بعد العدول به.

وإن شئت قلت : إنّ قضيّة الأصل والاستصحاب عدم ارتفاع آثار التقليد الأوّل التابعة لفتوى المجتهد المعدول عنه المتعلّقة بالمقلّد ، وعدم حدوث تعلّق آثار تقليد المعدول إليه بالمقلّد بالعدول ، وهذا معنى عدم مشروعيّة العدول وعدم تأثيره في تجدّد تعلّق الآثار التابعة لفتوى المعدول إليه ، ولا يعنى من عدم جواز العدول عن التقليد بالقياس إلى الوقائع الآتية إلاّ هذا.

ولكن قد يناقش في الاستصحاب بتبدّل موضوع المستصحب ، إذ الثابت في حقّ المقلّد إنّما هو حكم الواقعة من حيث كونها من جزئيّات ما ظنّه المجتهد الّذي اختار تقليده أوّلا وإذا اختار تقليد مجتهد آخر مخالف للأوّل في الرأي تغيّر الموضوع الأوّل ، لاتّصاف الواقعة حينئذ بحيثيّة اخرى وهي كونها من جزئيّات ما ظنّه ذلك المجتهد ، وهذان موضوعان متغايران يوجب تعدّد الحكم الظاهري المعلّق عليهما الثابت في الواقعة الواحدة على حسب تعدّد الآراء ، ومن المستحيل انسحاب حكم أحد الموضوعين إلى آخر بالاستصحاب.

٥٠٣

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ الموضوعين المتغايرين إنّما هو الواقعة من حيث انطباقها على فتوى المجتهد الأوّل والواقعة من حيث انطباقها على فتوى المجتهد الثاني ، وما ظنّه المجتهد ليس إلاّ الحكم الظاهري وهو المستصحب مع آثاره الشرعيّة المترتّبة عليه ، وليس الغرض من استصحابه انسحاب حكم الواقعة من حيث انطباقها على فتوى المجتهد الأوّل إليها من حيث انطباقها على فتوى المجتهد الثاني ، بل انسحاب حكمها إلى ما بعد العدول ليكون نتيجته عدم خروج الواقعة عن مقتضى فتوى المجتهد الأوّل ودخولها في مقتضى فتوى المجتهد الثاني.

واستدلّ على المختار أيضا : بالإجماعات المنقولة ، وبلزوم المخالفة القطعيّة العمليّة فيما إذا دار الأمر بين المحذورين ، كما لو قال أحدهما بوجوب شيء والآخر بحرمته ويتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل ، وبلزوم الهرج والمرج في الدين لأدّائه إلى إناطة أمر التقليد بالدواعي النفسانيّة فيخرج أمر الشريعة عن الانتظام.

وفي الجميع ما لا يخفى ، إذ لم نقف من الإجماعات المنقولة إلاّ على ما تقدّم من الاتّفاقات المحكيّة على لسان جماعة من العامّة ، ويزيّفها : أنّ اتّفاق العامّة ما لم يعتضد بموافقة أصحابنا ممّا لا عبرة به فكيف باتّفاقهم المنقولة. مع مخالفة جماعة من أساطين أصحابنا ، فهي موهونة بمصير الجماعة إلى الخلاف جدّا.

والقبيح من المخالفة القطعيّة العمليّة ما لو كان أصل عمل بعينه مخالفة بعنوان القطع ، فالقبح صفة العمل المخالف في صورة القطع بكونه مخالفا لا الإتيان بعمل أوجب القطع بتحقّق مخالفة مردّدة بينه وبين غيره ممّا وقع ، مع أنّ كلّ مخالفة قطعيّة بالنظر إلى الحكم الواقعي معها موافقة قطعيّة أيضا ، فلو اقتصر على التقليد الأوّل لم يقطع بالامتثال بالنظر إلى الحكم الواقعي وإن قطع به بالنظر إلى الحكم الظاهري بخلاف ما لو عدل إلى تقليد آخر مخالف للأوّل ، مع أنّ المخالفة القطعيّة بالمعنى المذكور ليست بعادم النظير بل كم من مثلها في نظائر المقام ، كما في صورة تجدّد رأي المجتهد أو موته أو فسقه أو جنونه وفقده لسائر الشروط الموجب للعدول.

وأمّا لزوم الهرج والمرج فمع إمكان منع الملازمة فيه فليس بشيء يعوّل عليه في تأسيس حكم شرعي وإن كان يصلح تأييدا للدليل.

وبالجملة فالمعتمد من الوجوه المستدلّ بها على منع العدول من التقليد إنّما هو الأصل

٥٠٤

وبعده الاستصحاب ، ولا بأس بأخذ لزوم الهرج والمرج مؤيّدا له.

ثمّ إنّ ظاهر بعض العبارات كعبارتي النهاية والمنية اعتبار العمل في محلّ النزاع ، وقضيّة ذلك أنّه لو أخذ المسألة من المجتهد الأوّل ولم يعمل بها بعد حتّى عدل عنه إلى مجتهد آخر كان ذلك العدول جائزا على القول بالمنع أيضا على تقدير العمل ، ومبنى ذلك إمّا على أخذ العمل في مفهوم التقليد فما لم يلحقه عمل ليس تقليدا حتّى يحكم عليه بمنع العدول ، أو على كون العمل ملزما للتقليد ، فهو مع عدم لحوق العمل ليس

بلازم حتّى يمنع من العدول عنه ، ولعلّ وجهه عدم لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة مع عدم لحوق العمل ، وإن كان يلزم المخالفة الالتزاميّة.

والتحقيق : أنّ التقليد ينعقد بدون العمل كما تقدّم في محلّه ، وإنّ العمل كما لا مدخليّة له في مفهوم التقليد فكذا لا مدخليّة له في لزومه أيضا كما أشرنا إليه أيضا ثمّة ، وعليه فلو أخذ المسألة من مجتهد والتزم بها كان تقليدا لذلك المجتهد ولم يجز العدول عنه إلى غيره مطلقا وإن لم يعمل بها بعد لعموم الأصل والاستصحاب.

ثمّ إنّه قد أشرنا إلى أنّ مسألة العدول عن التقليد إنّما بالنسبة إلى المسألة المقلّد فيها ، وأمّا المسائل الغير المقلّد فيها ففي جواز الرجوع فيها إلى مجتهد آخر بعد تقليد غيره في غيرها وهو المسمّى بالتبعيض في التقليد خلاف آخر ، أشار إلى وجوده في محكيّ المقاصد العليّة والنهاية والمنية ، حيث جعل الأوّل الجواز أصحّ الأقوال ، والثاني حكى المنع منه عن بعضهم ، والثالث عزاه إلى قوم ، إلاّ أنّ الأكثر هنا على الجواز كما نسب إليهم صريحا في المنية.

وحاصل عنوان المسألة أنّه إذا قلّد العامي مجتهدا في حكم مسألة أو أزيد فهل يجوز له تقليد غيره ممّن يساويه في الفضل في بقيّة المسائل الّتي يبتلى بها ويحتاج إلى التقليد فيها أو لا؟ بل يجب تقليد ذلك المجتهد في جميع المسائل فالأكثر إلى الأوّل وهو المعتمد.

لنا : وجود المقتضي وانتفاء المانع.

أمّا الأوّل : فهو الحجّية الذاتيّة لقول كلّ من المجتهدين الثابتة من إطلاق أدلّة مشروعيّة التقليد وعمومها ، ولذا يحكم العقل فيه مع تعدّد المجتهدين وتساويهم بالتخيير من غير اختصاص له بفتوى كلّ [ من المجتهدين ] في جميع المسائل ، بل عمومه له ولفتوى البعض في بعض المسائل وفتوى البعض في البعض الباقي ، وإلى ذلك ينظر استدلال المجوّزين بأنّ كلّ مسألة لها حكم مختصّ بها ، فكما لم يتعيّن في المسألة الاولى اتّباع شخص معيّن بل

٥٠٥

كان مخيّرا في اتّباع من شاء فكذا في كلّ المسائل لعدم الفرق بينهما.

وعليه مبنى ما استدلّ به أيضا من أنّ علماء الأمصار في كلّ عصر لم يوجبوا على من استفتاهم في حكم الرجوع إليهم في جميع الأحكام.

وأمّا الثاني : فلأنّ المانع إن كان هو الجمع بين تقليدي المجتهدين على وجه التوزيع باعتبار ذاته فهو غير صحيح ، إذ لا يعقل مانعيّة لذلك.

وإن كان هو الجمع المذكور باعتبار لازمه وهو بطلان الأعمال الواقعة على طبق التقليدين عند المجتهدين ، لأنّ صحّتها في كلّ من العبادات والمعاملات عند كلّ مجتهد منوطة بموافقة ما ظنّه ورأيه في جميع مسائل كلّ عمل ، فلا بدّ في إحراز صحّة كلّ عمل عند كلّ مجتهد من مراعاة تلك الموافقة ، والجمع بين تقليديهما الّذي هو التبعيض يوجب مخالفة كلّ عمل لرأي كلّ مجتهد في بعض مسائله ، وهو يوجب بطلان الكلّ عند كلّ ، فهما متّفقان على بطلان الأعمال كلّها ، وقضيّة ذلك هو المنع من التبعيض.

ففيه : النقض بما لو رجع المقلّد في جميع المسائل إلى مجتهد ثالث يوافق أحد المجتهدين في بعض المسائل وللآخر في البعض الباقي ، فإنّ قضيّة ما ذكر بطلان أعماله عند كلّ منهما ولم يقل به أحد.

والحلّ : أنّ البطلان الّذي يظنّ كلّ مجتهد في العمل المخالف لرأيه في جميع المسائل أو بعضها ليس هو البطلان الواقعي ، بل هو عبارة عن البطلان الظاهري بالقياس إلى نفسه وإلى من يقلّده ، بمعنى أنّه لو أتى بالعمل المخالف لرأيه كان باطلا وكذلك مقلّده ، وهو لا تنافي الصحّة الظاهريّة بالنسبة إلى مجتهد آخر ومقلّده.

والسرّ فيه : أنّ ما ظنّه كلّ مجتهد حكم ظاهري في حقّه وحقّ مقلّديه ، والموافقة للحكم الظاهري لا يقتضي إلاّ الصحّة الظاهريّة ، فالعمل الموافق لرأي كلّ مجتهد صحيح عنده في الظاهر بحسب ظنّه ولذا جاز لكلّ مجتهد تجويز تقليد غيره.

وقضيّة ذلك اتّفاق المجتهدين على الصحّة الظاهريّة في العمل الموافق لرأي أحدهما في بعض المسائل ولرأي صاحبه في البعض الآخر لموافقته الحكم الظاهري في كلّ مسألة ، إذا المفروض عدم ارتباط الأحكام الظاهريّة بعضها ببعض حتّى يعتبر في إحراز الصحّة الظاهريّة في نظر كلّ مجتهد موافقة رأيه في الجميع.

ثمّ إنّه يشترط في جواز التبعيض امور :

٥٠٦

أحدها : ما ظهر من تضاعيف البحث وهو تعدّد المسألة ولا يكفي فيه تعدّد الواقعة مع وحدة المسألة ، وضابط وحدة المسألة أن يكون مدركها حسبما رآه المجتهد واحدا ، وتشخيصه في نظر المقلّد يحصل بالعنوان الّذي علّق عليه الحكم في فتوى المجتهد وإن كان ذلك العنوان أمرا كلّيّا تحته فردان أو أكثر ، وعليه فلا يجوز التبعيض في نحوه بأن يقلّد مجتهدا في فرد من هذا الكلّي وفي الفرد الآخر غيره ، وذلك كما لو أفتى مجتهد بنجاسة الكافر فعمل بها المقلّد في اليهود في محلّ الابتلاء ولم يعمل في المجوس لعدم ابتلائه به إلى زمان فحصل الابتلاء به وحينئذ فلا يجوز له الرجوع إلى مجتهد يفتي بطهارة المجوس ، لكونه مخالفة للتقليد لأنّه قلّد المجتهد الأوّل في نجاسة اليهود باعتبار كونه كافرا فهو قلّده في نجاسة الكافر وهو يعمّ المجوس أيضا.

وبالجملة يجب عليه الأخذ في المجوس بمقتضى فتوى الأوّل ، لأنّ نجاسة المجوس مع نجاسة اليهود من مسألة واحدة تعدّد أفرادها ، فلا يجوز العدول فيها عن التقليد في بعض الأفراد.

نعم لو فرض أنّ مجتهدا أفتى بنجاسة اليهود لخصوصيّة فيه ونجاسة المجوس أيضا لخصوصيّة اخرى فيه لا لكونهما كافرين وأفتى مجتهد آخر بطهارة المجوس لخصوص أنّه مجوس فالظاهر جواز تقليد الأوّل في نجاسة اليهود وتقليد الثاني في طهارة المجوس ، لوضوح كون مثل ذلك من تعدّد المسألة لعدم كون الحكم عندهما معلّقا على الجامع بينهما وهو الكفر ، فلو أفتى المجتهد الأوّل بعبارة مجملة مردّدة بين كونها من باب الأوّل أو من قبيل الثاني فمقتضى الاحتياط الاقتصار على تقليده في جميع الفروض وعدم الرجوع إلى غيره في بعضها.

وثانيها : أن لا يكون المسألتان ممّا اتّفق المجتهدان على بطلان العمل المخالف لهما في الواقع ، كما لو أفتى أحد المجتهدين بوجوب السورة في الصلاة دون التسليمة والمجتهد الآخر بوجوب التسليمة دون السورة مع اتّفاق الفريقين على وجوب شيء فيها في الواقع اختلفا في تعيينه ، فلا يجوز للمصلّي أن يرجع في عدم وجوب التسليمة إلى الأوّل وفي عدم وجوب السورة إلى الثاني فيصلّي بلا سورة وتسليمة ، لاتّفاق الفريقين على بطلان نحو هذه الصلاة في الواقع.

نعم لو أفتى أحدهما بوجوب السورة دون التسليمة مع احتماله عدم وجوب السورة

٥٠٧

أيضا ، والآخر بوجوب التسليمة دون السورة مع احتماله لعدم وجوب التسليمة أيضا ، كان التبعيض بموافقة الأوّل في عدم وجوب التسليمة والثاني في عدم وجوب السورة جائزا.

وتوهّم عدم الجواز مطلقا استنادا إلى لزوم المخالفة القطعيّة كما ترى ، لعدم مخالفة للحكم الواقعي بعنوان القطع فيما لم يتّفقا باشتراط الصحّة الواقعيّة بأحد الأمرين ، والمخالفة للحكم الظاهري ـ على ما بيّنّاه سابقا ـ غير ضائر في الصحّة الظاهريّة اللازمة من موافقة كلّ مجتهد في مسألة.

وثالثها : أن لا يكون بين المسألتين ملازمة شرعيّة أثبتها الأدلّة الشرعيّة ، فلو أفتى أحدهما في المسير إلى أربعة فراسخ بوجوب القصر في الصلاة ووجوب الإفطار في الصوم ، والآخر بعدم جواز القصر والإفطار معا لملازمة شرعيّة بين القصر والإفطار في الحكم من حيث الوجوب وعدم الجواز ، لا يجوز للمقلّد أن يرجع إلى أحدهما في وجوب القصر وإلى الآخر في عدم جواز الإفطار أو بالعكس ، لكونه مخالفة للملازمة الشرعيّة وطرحا للأدلّة المثبتة لها وعليه ، فلو أفتى أحدهما بوجوب قصر الصلاة على المسافر بمسير المسافة الشرعيّة من حدّ الترخّص ثمّ أفتى في باب الصوم بوجوب الإفطار بمسير ثمانية فراسخ من حدّ الترخّص ، فإن علم كون ذلك منه تحديدا للمسافة الشرعيّة فالمتّجه عدم جواز التبعيض فيه بتقليد المجتهد الأوّل في المسألة الاولى وتقليد المجتهد الآخر المخالف له في الرأي في المسألة الثانية ، وإن لم يعلم ذلك بل احتمل كون الثاني حكما خاصّا بصوم المسافر لا أنّ ما ذكر تحديدا للمسافة الشرعيّة المعلّق عليها الحكم في قصر الصلاة وإفطار الصوم جاز التبعيض.

تذنيب

في مسألة تتفرّع على مختارنا في المسألتين المتقدّميتن والمسألة الآتية من جواز التبعيض في التقليد وعدم جواز العدول من تقليد الحيّ ووجوب العدول عن تقليد الميّت وهي : أنّه ربّما يشتبه الحال في المسائل المقلّد فيها على وجه التبعيض بعد موت أحد المجتهدين اللذين قلّدهما على الوجه المذكور إذا تردّدت بين كون التقليد الحاصل فيها تقليدا لمن مات منهما ليجب عليه العدول إلى الحيّ أو تقليدا لمن هو حيّ ليحرم عليه العدول ، فالأمر يدور بين المحذورين.

٥٠٨

فالوجه فيه البناء في تلك المسائل على تقليد ذلك المجتهد الحيّ الّذي هو أحد المجتهدين إن تمكّن من استعلام رأيه فيها ، فإن كان هو الّذي قلّده أوّلا كان ذلك بقاء على تقليده وإلاّ كان عدولا عن تقليد الميّت إلى الحيّ ولا محذور في شيء من ذلك.

نعم لو كان ناسيا لحكم المسائل المقلّد فيها ولم يتمكّن من استعلام رأي الحيّ أو كان ذاكرا له ولكن لا يعلم أنّه على حسب رأي الميّت أو على حسب رأي الحيّ ولم يتمكّن من استعلام رأيهما الآن فلم يكن له مندوحة من الرجوع إلى مجتهد ثالث ، وحينئذ فمقتضى القاعدة هو وجوب العدول ترجيحا لدليله ـ وهو الإجماع المنقول على عدم جواز تقليد الميّت المتناول الاستدامة ـ على دليل البقاء وهو الأصل المانع من العدول عن التقليد ، ضرورة أنّ المحذورين عند دوران الأمر بينهما إذا كان مستند أحدهما الدليل الاجتهادي ومستند الآخر الأصل تعيّن الأخذ بالأوّل قضيّة لورود الدليل على الأصل أو ترجيحا له عليه ، ولا حكم للعقل معه بالتخيير ، ولا يلزم بتعيين الأخذ به ترجيح بلا مرجّح ، وكذا الحكم فيما لو كان المحذوران من باب الواجب والحرام لا الوجوب والحرمة ، كما لو علم أنّه قلّد في عدّة مسائل المجتهد الميّت وفي اخرى المجتهد الحيّ الموجود غير أنّهما اشتبهتا فلا يدري أنّ في أيّتهما يجب العدول وفي أيّتهما يجب البقاء؟ فقضيّة ترجيح ما ثبت وجوبه بالإجماع هو العدول في الجميع إلى حيّ ثالث يتمكّن من الرجوع إليه مع فرض عدم تمكّنه من الرجوع إلى الحيّ الّذي هو أحد الأوّلين ونسيانه فتاواه في تلك المسائل ، وإلاّ وجب تقليده فيها لعدم خلوّه عن كونه بقاء في جملة وعدولا في اخرى.

فرع

لو قلّد مجتهدا في مسألة فنسي أصل التقليد في تلك المسألة لا الحكم المقلّد فيه فرجع فيها إلى مجتهد آخر باعتقاد أنّه ابتداء تقليد ثمّ تذكّر بعد الأخذ والعمل تقليده السابق ، فهل يجب عليه البقاء على هذا التقليد الثاني أو يجب عليه العدول إلى التقليد الأوّل؟ وجهان : من أنّ النسيان عذر أوجب امتناع التقليد الأوّل فسقط حكمه وتوجّه إليه حكم التقليد الثاني كأنّه ابتداء تقليد [ ه ] فيجب البقاء عليه ، ومن أنّ النسيان عذر طار على التقليد فيكون التقليد الثاني مجزئا ما دام العذر وإذا ظهر سبق التقليد الأوّل زال العذر وارتفع موضوع التقليد الثاني فيجب العدول ، وهذا أوجه.

٥٠٩

في وقت آخر ، فإن كان ذاكرا لدليلها جاز له الفتوى ، وإن نسيه افتقر إلى استيناف النظر. فإن أدّى نظره إلى الأوّل فلا كلام ، وإن خالفه وجب الفتوى بالأخير. ولا ريب أنّ ما ذكره المحقّق أولى. غير أنّ ما ذهب إليه العلاّمة متوجّه ، لأنّ الواجب على المجتهد تحصيل الحكم بالاجتهاد ، وقد حصل فوجوب الاستيناف عليه بعد ذلك يحتاج إلى الدليل ، وليس بظاهر.

أصل

لا نعرف خلافا في عدم اشتراط مشافهة المفتي في العمل بقوله ، بل يجوز بالرواية عنه ما دام حيّا. واحتجّوا لذلك بالإجماع على جواز رجوع الحائض إلى الزوج العاميّ ، إذا روى عن المفتي ، وبلزوم العسر بالتزام السماع منه.

وهل يجوز العمل بالرواية عن الميّت؟ * ظاهر الأصحاب الإطباق على عدمه. ومن أهل الخلاف من أجازه. والحجّة المذكورة للمنع في كلام الأصحاب على ما وصل إلينا رديّة جدّا لا يستحقّ أن تذكر. ويمكن الاحتجاج له بأنّ التقليد إنّما ساغ للإجماع المنقول سابقا ، وللزوم الحرج الشديد والعسر بتكليف الخلق بالاجتهاد.

وكلا الوجهين لا يصلح دليلا في موضع النزاع ، لأنّ صورة حكاية الإجماع صريحة في الاختصاص بتقليد الأحياء. والحرج والعسر يندفعان بتسويغ التقليد في الجملة. على أنّ القول بالجواز قليل الجدوى على اصولنا ، لأنّ المسألة اجتهاديّة ، وفرض العاميّ فيها الرجوع إلى فتوى المجتهد. وحينئذ فالقائل بالجواز إن كان ميّتا فالرجوع إلى فتواه فيها دور ظاهر ، وإن كان حيّا

__________________

* الظاهر أنّ المراد بالرواية عن الميّت ما يعمّ ما اخذ منه ميّتا أو حيّا بطريق المشافهة أو من كتاب معلوم النسبة إليه أو بواسطة عدل ونحوه ، والمقصود بالبحث هنا بيان كون حياة المقلّد شرطا في جواز تقليده وعدمه ، وهو الّذي يعبّر عنه بجواز تقليد الميّت وعدمه.

٥١٠

فاتّباعه فيها والعمل بفتاوى الموتى في غيرها بعيد عن الاعتبار غالبا ، مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود المجتهد الحيّ ، بل قد حكي الإجماع فيه صريحا بعض الأصحاب.

__________________

والمعروف المشهور بين أصحابنا شهرة عظيمة كادت تبلغ الإجماع عدم جواز تقليد الميّت ، وعن الجعفريّة ومجمع الفائدة نسبته إلى الأكثر ، بل ظاهر كلامهم عدم الخلاف فيه بين أصحابنا ، بل صرّح بعدم الخلاف جماعة من أساطينهم منهم المحقّق الثاني في شرح الألفيّة على ما حكي من قوله : « لا يجوز الأخذ عن الميّت مع وجود المجتهد الحيّ بلا خلاف بين علماء الإماميّة ».

وثاني الشهيدين في جملة من كتبه كالمسالك قائلا : « قد صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة وغيرهما باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله ، ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا ، وإن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور » وكتاب آداب العالم والمتعلّم قائلا : « هذا هو المشهور بين أصحابنا خصوصا المتأخّرين ، بل لا نعلم قائلا بخلافه ممّن يعتدّ بقوله » ، ورسالة منسوبة إليه قائلا : « نحن بعد تتبّع التصانيف ما وصل إلينا من كلامهم ممّا علمناه من أصحابنا ممّن يعتبر قوله ويعوّل على فتواه مخالف في ذلك ، فعلى مدّعي الجواز بيان القائل به على وجه لا يلزم منه خرق الإجماع.

ثمّ قال : ولا قائل بجواز تقليد الميّت من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحين ، فإنّهم قد ذكروا في كتبهم الاصوليّة والفقهيّة قاطعين فيه بما ذكرنا من أنّه لا يجوز تقليد الميّت وإنّ قوله يبطل بموته من غير نقل خلاف أحد فيه » انتهى.

بل ظاهر غير واحد دعوى الإجماع عليه ، ومن ذلك ما عن الذكرى من قوله : « هو ظاهر العلماء وجوّزه بعضهم » ، وما في كلام المصنّف من قوله : « ظاهر الأصحاب الإطباق على عدمه » ، وقوله أخيرا : « والعمل بفتاوى الموتى مخالف لما تظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود المجتهد الحيّ » ، بل قد حكى الإجماع فيها صريحا بعض الأصحاب ، بل في محكيّ ابن جمهور الاحسائي التصريح بالإجماع قائلا : « لابدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله فوجب الرجوع إلى غيره إذ الميّت لا قول له ، وعلى هذا انعقد إجماع الإماميّة وبه نطقت مصنّفاتهم

٥١١

الاصوليّة والفروعيّة » انتهى.

وحكي دعوى الإجماع عليه عن الوحيد البهبهاني والفاضل النراقي في المناهج.

وبالجملة فكلماتهم الواصلة إلينا بين ما هو ظاهر في نفي الخلاف بين قدماء أصحابنا ومتأخّريهم وغيرهم ممّن يعتنى بشأنه من أساطين الطائفة وما هو صريح فيه ، وما هو ظاهر في دعوى الإجماع عليه وما هو صريح فيه.

ولقد أنكر وجود المخالف في ذلك من أصحابنا أشدّ الإنكار ثاني الشهيدين في محكيّ الرسالة المنسوبة إليه وقد سمعت بعض كلامه ، وممّا ذكره فيها في مقام استظهار عدم مخالف في أصحابنا قوله : « وممّا يوضح من أنّ المخالف قد لا يكون من علمائنا أنّ هذه مسألة اصوليّة ، والمعلوم بين أصحابنا وغيرهم في كتب الاصول أن يذكروا الخلاف في المسألة مع مخالفيهم في المذهب ، بل يحكون أقوالا واهية وآراء فاسدة ليبيّنوا الحقّ في ذلك والجواب عن شبهة المخالف وإن ضعف ، وهذا أمر لا يخفى على من نظر في كتب الاصول واطّلع على مصطلحهم فيها.

وهذا العلاّمة لمّا ذكر المسألة في كتاب النهاية مع عظمه وكثرة ما يذكر فيه من الأقوال ونسبه إلى قائله من الجمهور ثمّ اختار المنع من تقليد الميّت ولم يذكر لأصحابنا في ذلك قولا ، وكذلك ذكر المسألة في التهذيب وغيره وقال : « الأقرب أنّه لا يجوز تقليد الموتى » ومع ذلك لم يذكر أحد من شرّاح الكتاب في ذلك قولا لأصحابنا مقابل ما أفتى به ، وإلاّ فعلى تقدير عدم كون الأدلّة ناهضة بإثباتها كما سنذكره فهم معنا متسالمين في جعل قول الحيّ القدر المتيقّن من موجب البراءة وما خرج من الأصل.

وثانيهما (١) : الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة المحقّقة والشهرات المحكيّة وعدم ظهور الخلاف بل ظهور عدمه وظهور الإجماع ، فإنّه يوجب الظنّ القويّ الإطمئناني بل المتاخم بالعلم بعدم جواز تقليد الميّت.

والقدح في هذا الوجه تارة بمنع الصغرى ، بدعوى وجود المخالف المانع لكون عدم الجواز إجماعيّا كما صرّح به الشهيد في الذكرى ، حيث إنّه بعد ما نسب القول بعدم الجواز إلى العلماء عقّبه بنسبة القول بالجواز إلى بعضهم ، وهو ظاهر الجعفريّة ومجمع الفائدة في نسبتهما إلى الأكثر الظاهرة في مصير غير الأكثر إلى الخلاف.

__________________

(١) وقد مرّ أوّلها بقوله : « المعروف المشهور بين أصحابنا شهرة عظيمة كادت تبلغ الإجماع عدم جواز تقليد الميّت » الخ.

٥١٢

واخرى بمنع الكبرى ، بتقريب : أنّ المسألة اصوليّة والظنّ فيها غير حجّة.

ولكن يندفع الأوّل : بمنع دلالة هذه الكلمات صراحة بل ولا ظهورا على وجود المخالف من أصحابنا ، أمّا عبارة الذكرى فلما ذكره الشهيد الثاني ـ على ما حكي عن الرسالة المسنوبة إليه ـ من أنّ العلماء عامّ وبعضهم أعمّ من كونه من أصحابنا ولعلّه من المخالفين ، لأنّ بعض الأعمّ أعمّ من بعض الأخصّ ، وأمّا نسبة عدم الجواز إلى الأكثر فلعلّ الاقتصار عليها لعدم تبيّن الخلاف والوفاق في المسألة عندهما لا لتبيّن الخلاف وعدم الوفاق.

نعم ربّما نسب القول بالجواز إلى الصدوق في الفقيه كما عن الأسترآبادي استظهارا له ممّا في الكتاب من تجويزه العمل بما يورده فيه وكثيرا مّا ينقل فيه من فتاوى أبيه وهو صريح في تجويزه العمل بفتاوى أبيه بعد موته.

ولكن يزيّفه : منع صراحة ذلك ولا ظهوره فيما ذكر.

أمّا أوّلا : فلجواز كون فتاوي أبيه في الرسالة عنده بمثابة الروايات المرسلة ، لما ظهر من ديدن أبيه أنّه يفتي في الرسالة بمتون الأخبار بلا تفاوت أو مع تفاوت يسير لا يخلّ بالمقصود ، كما اشتهر نحوه من طريقة الشيخ في النهاية.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الظاهر من تجويزه العمل بكلّ ما يورده في الكتاب تجويزه العمل برواياته ، لأنّه كتاب ألّفه لضبط الروايات لا مطلق ما ينقله فيه ولو فتوى فقيه.

كما يندفع الثاني : بما ذكرناه في غير موضع من عدم كون مسائل الاجتهاد والتقليد من المسائل الاصوليّة بل الأكثر من الاولى من توابع الكلام والأكثر من الثانية من الفروع أو من توابعها.

ولو سلّم كونها اصوليّة فيمنع عدم حجّيّة الظنّ في نحو هذه المسائل لكونها اجتهاديّة مبتنية على الوجوه الظنّية ولذا تقبل التقليد.

واستدلّ على المختار أيضا بوجوه اخر :

منها : ما اعتمد عليه المحقّق الشيخ علي قدس‌سره في حاشية الشرائع من أنّ المجتهد إذا مات سقط بموته اعتبار قوله شرعا بحيث لا يعتدّ به ، وما هذا شأنه لا يجوز الاستناد إليه شرعا.

أمّا الملازمة الاولى : فعلّلها بجواز انعقاد الإجماع على خلاف قول الميّت إجماعا.

وتوضيحه : أنّ مخالفة الفقيه الواحد الحيّ لسائر أهل عصره يمنع من انعقاد الإجماع اعتدادا بقوله واعتبارا لخلافه ، فإذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد

٥١٣

الإجماع على معنى أنّ مخالفته غير قادحة في انعقاده ، فلو كان قوله كقول الحيّ في الاعتبار لكان مخالفته قادحة والتالي باطل ، فصار قوله غير منظور إليه ولا معتدّا به شرعا.

ثمّ قال ـ معترضا على نفسه بما يرجع إلى منع الملازمة الثانية ـ : « لا يقال : إنّما انعقد الإجماع في الفرض المذكور بموت الفقيه المخالف لأنّ حجّية الإجماع عندنا إنّما هي بدخول المعصوم في أهل العصر من أهل الحلّ والعقد ، وبموت الفقيه المخالف تبيّن أنّه غير الإمام فتعيّن حينئذ دخول الإمام في الباقين ، فمن ثمّ انعقد الإجماع بموته ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى للميّت قول شرعا » انتهى.

ومحصّله : أنّه لا يلزم من سقوط اعتبار قوله في انعقاد الإجماع سقوط اعتباره في مقام التقليد.

ثمّ دفعه بقوله : « بأنّه على هذا يلزم من موت الفقيه المخالف انكشاف خطأ قوله ، لمخالفته قول الإمام فلا يجوز العمل به حينئذ من هذا الوجه ، فتحصّل أنّ موت هذا الفقيه يقتضي عدم اعتبار قوله » انتهى ملخّصا.

والتحقيق في الجواب عن الدليل : أنّ الإجماع طريق علمي للفقيه إلى الحكم الواقعي ، وقول الفقيه طريق تعبّدي للعامي إلى الحكم الظاهري.

وغاية ما يلزم من موت الفقيه سقوط اعتبار قوله في انعقاد طريق الحكم الواقعي ، ولا يلزم من ذلك خروجه عن كونه طريقا إلى الحكم الظاهري.

وتوهّم أنّ الموجب لخروجه عن كونه طريقا كونه خطأ باعتبار مخالفته لقول الإمام.

يدفعه : أنّ المقتضي لخروج قول الميّت خطأ إنّما هو وقوع انعقاد الإجماع على خلافه ، والمأخوذ في الدليل جوازه وهو لا يفيد الوقوع ، إذ ليس بلازم لقول كلّ فقيه مات في كلّ مسألة أن ينعقد الإجماع على خلافه ، إذ قد تكون المسألة إجماعيّة مع موافقة قوله الإجماع ، وقد تكون إجماعيّة مع مخالفة قوله الإجماع ، وكثيرا مّا تكون خلافيّة مع موافقة قوله لأحد قوليها أو أحد أقوالها ، على أنّ الموجب لسقوط قوله عن الاعتبار مطلقا حتّى في مقام التقليد إنّما هو علم المقلّد بوقوع الإجماع بعد موته على خلافه ، وهو ليس بدائم الحصول له بل لا يكاد يتّفق حصوله.

فغاية ما هنالك قيام احتمال مخالفة قوله الإجماع باحتمال انعقاده بعد موته على خلاف قوله في كلّ مسألة ، وهذا ليس إلاّ كاحتمال مخالفة قوله في حال حياته الإجماع

٥١٤

في نظره ، بل هذا الاحتمال قائم في نظر كلّ مقلّد بالنسبة إلى قول مجتهده في كلّ مسألة ، ولا يعقل تأثيره في سقوط القول عن الاعتبار وإلاّ انسدّ باب التقليد في أغلب المسائل.

نعم لو اتّفق في بعض الفروض النادرة حصول علم له بانعقاد الإجماع على خلاف قول فقيه بعد موته لا يجوز له الرجوع إليه والعمل به ولا البقاء على تقليده ، لانكشاف كونه خطأ ، غير أنّه ليس حكما مخصوصا بقول الميّت ، بل كلّ فقيه علم المقلّد بكون قوله خطأ لم يجز له العمل بقوله حيّا كان أو ميّتا ، بل احتمال مخالفة الإجماع قائم في كلّ قول كلّ فقيه حيّا كان أو ميّتا ، فلا يثبت بذلك أصل كلّي مخصوص بقول الميّت مانع من العمل به مطّردا.

ولأجل بعض ما ذكرناه قيل في هدم الاستدلال من اختصاص الدليل بما إذا كان قول الميّت مخالفا لإجماع أهل عصره ، ولا يقتضي عدم جواز تقليده فيما إذا لم يكن كذلك ، كما لو كانوا مختلفين وكان قول بعضهم موافقا لقول الميّت.

وأمّا ما قيل في دفع ذلك من : أنّه ليس كذلك وإن كان بناء الاستدلال على فرض الكلام فيما إذا كان رأي الفقيه مخالفا لآراء سائر أهل عصره فمات ، فإنّ ممانعة قوله حال الحياة في هذا الفرض عن انعقاد الإجماع وعدم ممانعته بعد الموت دليل واضح على كون الموت سببا لسقوط اعتبار قوله بعد أن كان معتبرا.

ففيه : ما عرفت من عدم الملازمة بين سقوطه عن الاعتبار في تحقّق طريق الحكم الواقعي في نظر المجتهد وخروجه عن كونه طريقا إلى الحكم الظاهري في نظر المقلّد أيضا.

وعن الفاضل التوني في الوافية تضعيف الدليل بأنّه : « بعد عدم صحّته على اصولنا ينتقض بمعروف النسب ، مع أنّهم اعتبروا شهادة الميّت في الجرح والتعديل وهو يستلزم الاعتداد بقوله في عدد الكبائر ».

وفي الجميع ما ترى ، أمّا عدم صحّته على اصولنا من عدم اشتراط اتّفاق الكلّ في انعقاد الإجماع فلأنّه لا ينافي مخالفة قوله للإجماع ـ الّذي لا يشترط فيه اتّفاق الكلّ ـ مخالفته لقول الإمام المسقطة له عن الاعتبار مطلقا حتّى في مقام التقليد.

وأمّا النقض بمعلوم النسب عند القائلين بعدم كون خروجه قادحا في الإجماع.

ففيه : أنّ مخالفته وإن لم تقدح في انعقاده كمخالفة قول الميّت إلاّ أنّها تمنع عن اعتبار قوله أيضا في مقام التقليد.

وأمّا قبول شهادة الميّت في الجرح والتعديل فهو لا يستلزم تقليد ذلك الميّت في رأيه

٥١٥

في عدد الكبائر بعد فرض بنائه على كونهما من الظنون الاجتهاديّة لا على التعبّد ، فلا يجوز قبول الشهادة فيهما إلاّ في موضع حصول الظنّ بالعدالة أو الفسق ، ومعه فالتعويل في القبول على الظنّ والاستناد إليه لا إلى قول المعدّل والجارح من حيث إنّه قوله.

ومنها : ما ذكره المحقّق المذكور أيضا في الحاشية ممّا ملخّصه : « أنّ دلائل الفقه لمّا كانت ظنّية ليست مستلزمة لنتائجها وهي الأحكام بالذات ، بل إنّما تستلزمها باعتبار الظنّ فتكون حجّيتها منوطة بالظنّ ، ومعنى إناطة حجّيتها بالظنّ استناد الحكم الشرعي إليه بحيث يثبت بوجوده وينتفي بانتفائه ، وهذا الظنّ يمتنع بقاؤه بعد الموت بل يزول بالموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السند ويخرج بذلك عن كونه معتبرا شرعا ».

وعن التوني في الوافية الاعتراض عليه أوّلا : بمنع زوال الظنّ بعد الموت.

وثانيا : بمنع خلوّ الحكم عن السند على تقدير الزوال ، فاقتران الحكم بالظنّ السابق يكفي سندا.

ومن الفضلاء من ظنّ أنّ معنى زوال الظنّ انكشاف واقع الأحكام وحقائق الأشياء فاستشكله : « بأنّه ممّا لا قاطع عليه من عقل ولا نقل قبل يوم القيامة ، نعم ينكشف ذلك له في القيامة ، والبحث في تقليده قبل قيامها.

قال : سلّمنا ذلك ، لكنّ الاعتقاد الراجح المتحقّق في ضمن الظنّ ممّا يمكن بقاؤه بموافقة العلم الطارئ له فيستصحب بقاؤه لعدم القطع بزواله ، إذ التقدير تجويز موافقة علمه لظنّه وزوال تجويز النقيض لا يقدح في حجّيته ، لأنّ حجّية الظنّ باعتبار ما فيه من الاعتقاد الراجح دون تجويز النقيض » إلى آخر ما ذكره.

ويرد عليه : منع كون زوال الظنّ في إرادة المستدلّ تبدّله بانكشاف الواقع المردّد بين العلم الموافق والعلم المخالف ، بل انعدامه إمّا باعتبار خروج محلّه عن قابليّة بقائه فيه أو باعتبار فناء محلّه ، فإنّ الظنّ أمر قائم بالذهن الّذي ربّما اختلف في كونه جزءا من البدن أو قوّة من قوى الإنسانيّة.

فقيل بالأوّل كما يظهر من العلاّمة البهبهاني من استدلاله على زوال الظنّ ـ فيما حكي عنه ـ أوّلا بالبداهة ؛ وثانيا : بأنّ الظنّ هو الصورة الحاصلة في الذهن ، فحين الشدّة والاضطراب حالة النزع لا يبقى تلك الصورة قطّ ، وكذلك حين الغفلة والنسيان أيضا ، فما ظنّك بما بعد الموت بحيث صار الذهن جمادا لا حسّ فيه؟

٥١٦

وقيل : بالثاني.

فعلى الأوّل يخرج الذهن عن قابليّة بقاء الظنّ فيه.

وعلى الثاني يفنى الذهن بالموت الّذي يفنى بسببه جميع القوى الحيوانيّة والقوى الإنسانيّة الّتي منها القوّة المدركة.

ألا ترى أنّ الهرم والشيب وارتفاع السنّ يوجب ضعف القوى والحواسّ الظاهرة والباطنة حتّى أنّه يبلغ حدّا يذهب معه بالسامعة والباصرة والمدركة وغيرها ، فيصير بحيث لا يبصر ولا يسمع ولا يدرك ولا يفهم شيئا كالطفل الغير المميّز ، كما نطق به قوله عزّ من قائل : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ).

ولا ريب أنّ ألم حالة النزع الّذي أشدّ من جميع الآلام يوجب اختلال العلوم والإدراكات ويزول الجميع بالموت بسبب فناء القوى الحيوانيّة والإنسانيّة الّتي منها الذهن.

ولعلّ هذا القول أقوى وأقرب بالاعتبار ، ونصّ عليه بعض أهل المعقول ونسب إلى المحقّقين أيضا ، فالظنّ ومحلّه ـ وهو الذهن بمعنى القوّة الدرّاكة ـ من الأعراض المشروطة بالحياة ، فدعوى بقائه مع فناء محلّه أو منشائه بعد الموت واهية لا ينبغي الإصغاء إليها.

وممّا يؤيّد ذلك أيضا أنّ الظنّ متقوّم بالقوّة المدركة وهي كسائر القوى متقوّمة بالحياة وهي متقوّمة بالأخلاط الأربعة ، ولذا قيل : ليس الموت إلاّ فناء الأخلاط الأربعة ولكلّ منها أثر في البدن ، مثل أنّ أثر الصفراء جودة الفهم وحسن الإدراك وسرعة الانتقال ، وأثر البلغم رداءة الفهم وسوء الإدراك وبطؤ الانتقال ، وأثر الدم الشهوة والغضب وغير ذلك ، فإذا كان للأخلاط مدخليّة في الإدراكات يلزم من فنائها الّذي هو الموت زوال آثارها الّتي هي الإدراكات الّتي منها الظنون.

وبالجملة العلوم والإدراكات وإن كانت من فعل الروح والنفس الناطقة إلاّ أنّ فاعليّته مشروطة بتعلّقه بالبدن وتوسّط القوى الإنسانيّة ، وإذا انقطع التعلّق وفنت القوى بالموت زالت العلوم والإدراكات كلّها ، وهل يتجدّد له بعد الموت علوم اخر وهو معنى انكشاف الواقع أو لا؟ الحقّ أنّه لا دليل من عقل ولا نقل على وقوع الأوّل ولا على امتناعه والأصل عدمه ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ما لو قلنا بالبدن المثالي في عالم البرزخ مطلقا ـ على معنى أنّ الروح بعد مفارقته هذا البدن يتعلّق في جميع حالاته إلى قيام الساعة ببدن آخر مثل هذا البدن ـ أو في الجملة ، كما يستفاد من الأخبار منها ما عن الكافي في الصحيح

٥١٧

عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أرواح المؤمنين ، قال : « في الجنّة على صور أبدانهم ، لو رأيته لقلت : فلان » وغير ذلك ممّا ورد في أرواح المؤمنين والكفّار.

وتوهّم إثبات العلم له بعد الموت باستصحاب الاعتقاد الراجح المتيقّن ثبوته حال الحياة نظير استصحاب الولاية السارية للأب أو الجدّ على الصغير الّذي بلغ سفيها لإثباتها بعد البلوغ.

غاية الأمر تقوّمه حال اليقين بتجويز النقيض وفي زمان الشكّ بعدم تجويزه وهذا لا يوجب إلاّ تأكّد ترتّب الأحكام على المستصحب الّتي منها جواز العمل به للمقلّد.

يدفعه : أنّ مرجع هذا الاستصحاب إلى استصحاب القدر المشترك في أخسّ أنواعه ، وهو ما تيقّن ارتفاع الفرد المتيقّن ثبوته في الزمان السابق وشكّ في تجدّد الفرد الآخر في الآن الثاني ، وقد تقدّم في محلّه الإشكال في صحّته بل منع اعتباره ، لعدم اندراجه في ضابط الاستصحاب خصوصا في نحو المقام لو بنى على المداقّة ، لرجوعه إلى ما يدور بين إبقاء ما تيقّن ارتفاعه وإبقاء ما لم يتيقّن تجدّده وحدوثه ، وذلك لأنّ الكلّي المشترك الموجود في ضمن الأفراد معنى وجوده تحقّق حصّة منه مع كلّ فرد ، ولا ريب أنّ الحصّة الاولى قد زالت وتجدّد الحصّة الاخرى غير معلوم ، فإن اريد بالاستصحاب إبقاء الحصّة الاولى كان من إبقاء ما تيقّن ارتفاعه ، أو إبقاء الحصّة الاخرى كان من إبقاء ما شكّ في حدوثه ، والكلّ باطل.

نعم لو بنى على المسامحات العرفيّة فربّما صحّ استصحابه إلقاء للخصوصيّة واعتبارا له لا بشرط ، ولكن المقام لا يندرج فيها ، لعدم ثبوت بناء أهل العرف في نحوه على المسامحة ، بل الثابت خلافه اعتبارا لأصالة عدم الحدوث المتقدّمة على الاستصحاب المذكور إن صحّحناه ، كيف وليس بصحيح من أصله.

وبعد اللتيّا والّتي والبناء على الانكشافات وتجدّد العلوم له أو على تصحيح الاستصحاب المذكور لا يترتّب عليه أثر في التقليد وجواز العمل به للمقلّد لوجوه :

الأوّل : أنّ القدر المعلوم خروجه من الأصل المقتضي لمنع التقليد إنّما هو الاعتقادات الحاصلة للفقيه بواسطة آلاتها الّتي هي القوى الإنسانيّة ، والّذي تجدّد بعد الموت اعتقادات حاصلة من غير توسّط تلك الآلات وليس في أدلّة مشروعيّة التقليد المخرجة له من الأصل إطلاق يتناول هذه الاعتقادات ، وهو كاف في الحكم بالمنع عملا بالأصل.

٥١٨

الثاني : أنّ القدر المسلّم المعلوم خروجه من الأصل أيضا إنّما هو الاعتقادات المستندة إلى الأدلّة المعهودة والطرق المتعارفة بواسطة الملكة النفسانيّة المعتبرة في الفقيه ، وأمّا غيرهما ومنه العلوم الحاصلة بطريق المكاشفة المستندة إلى الرياضات الغير الشرعيّة فلم يظهر من مطلقات التقليد إطلاق بالقياس إليه ، وهو كاف في الرجوع إلى الأصل.

ولا ريب أنّ الانكشافات الّتي تحصل للميّت تستند إلى غير هذه الطرق ، ولا دليل على جواز الأخذ بها والعمل عليها مع فرض موافقتها للإدراكات الحاصلة حال الحياة المستندة إلى الطرق المعهودة الاجتهاديّة ، كيف والموافقة أيضا غير محرزة لاحتمال المخالفة ، حتّى أنّ المجتهد الظانّ لو حصلت له حال الحياة بعد الاجتهاد والاستنباط انكشافات من طريق الرياضة لم يجز لغيره الأخذ بها والعمل عليها ، ويكفي فيه مجرّد عدم الدليل على الجواز عملا بالأصل.

الثالث : أنّ اعتقادات المجتهد إنّما يجب اتّباعها والأخذ بها لكون معتقداته أحكاما فعليّة ، وكونها أحكاما فعليّة في حقّ المجتهد وإن لم يكن تابعا لكونها كذلك في حقّ المقلّد كما في المتجزّي على القول بحجّية ظنّه وعدم جواز تقليده ، ولكن كونها أحكاما فعليّة في حقّ المقلّد تابع لكونها كذلك في حقّ المجتهد ، ولذا لا يجوز تقليد من طرأه النقص من زوال ملكة أو زوال عقل ابتداء ولا استدامة.

ولا ريب أنّ بموت المجتهد يخرج معتقداته عن كونها أحكاما فعليّة في حقّه فكذلك في حقّ المقلّد ابتداء واستدامة.

لا يقال : خروجها عن كونها أحكاما فعليّة في حقّ المجتهد إنّما هو لخروجه بالموت عن حدّ التكليف وقابليّته ، لأنّه منقوض بمن طرأه الجنون المخرج له عن حدّ التكليف وقابليّته.

والحلّ : أنّ الحكم الفعلي نسبته واحدة حصلت بين المجتهد ومقلّده من جهة واحدة وإذا ارتفعت بالقياس إلى المجتهد نفسه استحال بقاؤها في حقّ المقلّد ، ولا ينتقض ذلك بالمتجزّي لأنّ هذه النسبة فيه من حين حدوثها لم تتعلّق بغيره ممّن وظيفته التقليد.

وبالتأمّل في تضاعيف كلماتنا ينقدح أمران :

أحدهما : منع الأولويّة المتوهّمة في هذا المقام بناء على تجدّد انكشافات الميّت بعد الموت بالنظر إلى ظنّه حال الحياة ، لأنّه إذا جاز العمل بظنّه فلأن يجوز العمل بالانكشافات العلميّة بعد الموت طريق الأولويّة.

٥١٩

أمّا أوّلا : فلأنّ الأولويّة بعد تسليمها إنّما تثمر في جواز العمل بالانكشافات العلميّة على تقدير موافقتها الظنّ وهي غير محرزة ، لقيام احتمال المخالفة في كلّ مسألة.

وأمّا ثانيا : فلانتفاء الأولويّة من أصلها بعد ملاحظة ما قرّرناه من الوجوه الثلاث سيّما الوجه الأخير.

وثانيهما : بطلان الاستصحاب لو اريد إجراؤه في الحكم المعتقد على تقدير عدم جريانه بالنسبة إلى الاعتقاد حسبما بيّنّاه ، لكونه من قبيل الاستصحاب العرضي الّذي ظهر بطلانه في محلّه ، وذلك لأنّ الحكم الّذي اريد استصحابه إن قدّر كونه الحكم الفعلي الظاهري فلا شكّ في ارتفاعه ، وإن قدّر كونه الحكم الواقعي فهو من أوّل الأمر غير معلوم.

ومن جميع ما قرّرناه يظهر ما فيما تقدّم عن بعض الفضلاء من منع زوال ظنون المجتهد بمجرّد الموت وانكشاف واقع الأحكام له ، استنادا إلى عدم دليل عليه من عقل ولا نقل تارة ، والتمسّك باستصحاب بقاء الاعتقاد الراجح بمجرّد احتمال الموافقة بعد تسليم الانكشاف اخرى ، فإنّ منع الزوال والانكشاف إن أراد به منع زوال الظنون رأسا فليس في محلّه لما عرفت من أنّ أصل الزوال ممّا لا محيص من الإذعان به ، وإن أراد به منع تجدّد الانكشاف فهو في محلّه حسبما بيّنّاه.

وأمّا استصحاب الاعتقاد الراجح بعد تسليم تجدّد العلوم والانكشافات فهو من أغرب الغرائب ، لعدم اندراجه في ضابط استصحاب القدر المشترك ، لبناء الفرض على تيقّن زوال الفرد الأوّل وتيقّن حدوث الفرد الثاني.

وتوهّم أنّ الغرض من إعماله إثبات موافقة العلم المتجدّد نظرا إلى احتمالها.

يدفعه : أنّ الاعتقاد الراجح جنس مشترك بين الظنّ والعلم الموافق والعلم المخالف فيكون أعمّ ، ولا يعقل من الأعمّ كونه مثبتا للأخصّ.

ألا ترى أنّ استصحاب الجواز في مسألة نسخ الوجوب لا يفيد بنفسه ثبوت الندب أو الإباحة بالمعنى الأخصّ إذا دار الأمر بينها ، بل هو في المقام أولى بعدم إفادة ثبوت الخاصّ ، إذ لا تغائر بين العلم الموافق والعلم المخالف إلاّ باعتبار المتعلّق كما لا يخفى.

وعلى تقدير صحّته وإفادته ثبوت العلم الموافق لا يترتّب عليه فائدة ، لما عرفت من عدم كون نحو هذا العلم مناطا للاعتبار في التقليد ، وسيلحقك زيادة كلام في هذا المقام عند التعرّض لأدلّة المجوّزين لتقليد الميّت مطلقا أو استدامة فقط.

٥٢٠