تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

بأنّ إسقاطهما موجب لإسقاط ما ثبت من الشرع اعتباره ، بل التساقط بنفس مفهومه يقتضي الحجّية الذاتيّة لظهوره في استناد سقوط كلا المتعارضين عن درجة الاعتبار في مقام العمل وعدم العمل بهما معا إلى وجود المانع ـ وهو التعارض ـ لا إلى فقد المقتضي وهو الحجّية الذاتيّة.

وإن كان لتوهّم طروّ الإجمال لمعقد الإجماع (١) ، كما هو ظاهر البيان المتقدّم لمنع تناول الإجماع.

ففيه : منع الإجمال من حيث الكمّيّة وهو عموم الحجّية الذاتيّة لكلّ دليل غير علمي من غير نظر إلى حالة [ التعارض ] وعدمها ، لأنّ المحرز للمقتضي إنّما يحرزه لا بشرط وجود المانع وفقده.

ولقد عرفت أنّ نفس الاختلاف في عنوان « التعادل » دليل على عموم الحجّية للمتعارضين.

نعم فيه إجمال من حيث كيفيّة العمل في المتعارضين حيث لا تعرّض في الإجماع لبيانها ، بل لابدّ من استفادته من الأدلّة الخارجيّة من العقل فقط أو الشرع كذلك أو العقل والشرع معا ، وهذا لا يستلزم الإجمال من حيث الكمّيّة كما في الإجماع المنعقد على وجوب الصلاة المتناول لجميع آحاد المكلّفين مع إجمال معقده من حيث الكيفيّة المختلفة على حسب اختلاف حالات المكلّف من حيث الحضر والسفر والصحّة والمرض والقدرة والعجز وغيرها.

وأمّا الثاني : فلأنّ ما لا معارض له في الأدلّة الغير العلميّة في غاية الندرة ، إذ قلّما يوجد فيها ما لا معارض له أصلا.

فدعوى انصراف الإطلاق في أدلّة الحجّية إليه من غرائب الكلام ، بل لو كان هناك انصراف لوجب الإذعان بكونه في جانب ما له معارض لغلبته ، بضابطة أنّ المطلق ينصرف إلى مورد الغالب ، ودعوى أنّ الحاضر في الأذهان هو ما لا معارض له ممنوعة على مدّعيها ، بل الإنصاف ومجانبة الاعتساف يقتضي منع الانصراف رأسا بالنسبة إلى كلا الجانبين ، بتقريب : أنّ الحاضر في الأذهان في لحاظ مطلقات الأدلّة اللفظيّة ليس إلاّ ذات الدليل الغير العلمي أعني خبر الواحد مثلا بعنوان أنّه خبر لا بوصف المعارضة ولا بوصف عدم المعارضة ، والتعارض إنّما يلتفت إليه في لحاظ العمل بعد الفراغ عن إحراز المقتضي لجوازه بل

__________________

(١) عطف على قوله : « فلأنّ الاسترابة في تناول الإجماع إن كان لوجود القول بالخلاف الخ ».

٦٠١

وجوبه لا في لحاظ إحراز المقتضي.

وأمّا الوجه الثاني في منع تناول الأدلّة اللفظيّة المشتمل على الترديد.

ففيه : إنّا نختار الشقّ الأوّل وهو الدلالة على وجوب العمل بكلّ منهما بعينه.

وإبطاله بدعوى امتناع العمل على الوجه المذكور.

يدفعه : وضوح إمكان العمل بكلّ واحد بانفراده مع قطع النظر من الآخر ولا بشرط انضمام العمل بالآخر إليه ولا عدم انضمامه إليه ، والامتناع إنّما ينشأ من فرض انضمام أحدهما إلى الآخر والجمع بينهما في العمل ، وهذا لا ينافي إمكان العمل بكلّ منهما بعينه بانفراده إذا لاحظ لا بشرط من الانضمام والجمع بينهما وعدمه.

غاية الأمر أنّ العقل المستقلّ إذا لاحظ امتناع الجمع بينهما في العمل يحكم بالتخيير بينهما ووجوب العمل بأحدهما على التخيير البدوي ، لأنّه ممكن وهو في الحقيقة عمل به بعينه ولازمه بعد الاختيار طرح غير المختار ، ولا ضير فيه بالنظر إلى الأدلّة الحجّية ولا يستتبع محذورا ، لأنّه لا يوجب تصرّفا فيها بتخصيص ولا تقييد ولا استعمالا لها في المعنيين ، لأنّ المنساق منها بحسب دلالة اللفظ وفي إرادة اللافظ ليس إلاّ الوجوب العيني بالقياس إلى كلّ من المتعارضين ، والتخيير المذكور إن صحّحناه مطلقا ليس من التخيير الشرعي المقصود من اللفظ أصالة ، بل هو تخيير عقلي يثبت بحكم العقل من باب دلالة الإشارة.

والأصل فيما ذكرناه ـ من إمكان العمل بكلّ منهما بعينه إذا أخذ لا بشرط شيء ـ إنّ أفراد العامّ متساوي الأقدام بالنظر إلى دلالته ، فالحكم المعلّق عليه يثبت لكلّ واحد بالاستقلال لا بشرط انضمام كلّ واحد إلى الآخر في العمل ولا بشرط عدم انضمامه إليه ، فإذا اتّفق من جهة السوانح الخارجيّة تناف بين فرديه بحيث أوجب امتناع الجمع بينهما في الامتثال لم يناف ذلك إمكان الامتثال في كلّ بعينه إذا اخذ لا بشرط شيء ، فإذا حكم العقل حينئذ بالتخيير في الامتثال الموجب بعد اختيار أحدهما لترك الامتثال في الآخر حال الامتثال في الأوّل لتعذّره في هذه الحالة لم يكن ذلك خروجا عن مقتضى العامّ ، ولا طرحا لدلالته بالقياس إلى الفرد المذكور ، لعدم رجوعه إلى نفي المقتضي لوجوب الامتثال فيه ، بل لاستناده إلى وجود المانع من امتثاله.

وإن شئت فاستوضح ذلك بملاحظة قول الشارع : « أطع والديك » المفيد لوجوب إطاعة كلّ من الوالد والوالدة بعينه ، مع كون إطاعة كلّ منهما بانفراده ومع قطع النظر عن إطاعة

٦٠٢

الآخر ممكنة ، فإذا اتّفق التنافي في مورد بين أمريهما أوجب ذلك امتناع الجمع بين إطاعتيهما لا امتناع إطاعة كلّ منهما بانفراده.

نعم ربّما يقع الكلام في محلّ البحث في أنّ المانع الّذي يستند إليه المنع وترك العمل بأحد المتعارضين هل هو وجود المتعارض الآخر ـ نظير الدليل الاجتهادي في مقابلة الظنّ الاستصحابي عند من يرى العمل به من باب الظنّ النوعي أو الشخصي ـ أو وجوب العمل به ، أو نفس العمل به ، أو التعارض الواقع بينهما؟ احتمالات.

ولكن الأوفق بالاعتبار الأقرب إلى الذوق هو الإذعان بثاني الاحتمالات ، لأنّ المانع في اصطلاح القوم عبارة عمّا يكون مؤثّرا في العدم علّة فيه ، ولا ينطبق ذلك حسبما يدرك بالوجدان إلاّ على العمل لا وجوبه ، وأردأ الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل ، لوضوح عدم كون المتعارضين كالظنّ الاستصحابي والدليل الاجتهادي المقابل له ، ليكون الأوّل في اعتباره معلّقا على عدم الثاني فيكون وجوب الثاني مانعا من العمل به.

نعم ربّما أمكن القول باستناد ترك العمل بأحدهما حال العمل بالآخر إلى فقد الشرط وهو القدرة والإمكان لا إلى وجود المانع ، بل جعل ترك العمل بأحدهما من آثار العمل بالآخر ، ونسبة المنع إليه لا يخلو عن مسامحة ، لأنّ العمل بالآخر إنّما يلازم ترك العمل بأحدهما بواسطة امتناع العمل بأحدهما حال العمل بالآخر الّذي مرجعه إلى امتناع الجمع بينهما في العمل.

وقضيّة ذلك استناد الترك إلى فقد الشرط لا إلى وجود المانع ، ومن ذلك ربّما يسبق إلى الوهم لزوم الخروج عن مقتضى أدلّة الحجّية في أحد المتعارضين.

غاية الأمر كونه على وجه التخصّص لا التخصيص ، فيتّجه قول القائل بعدم تناول أدلّة الحجّية للمتعارضين في الجملة ، لأنّ الوجوب المستفاد منها من حيث كونه تكليفا مقيّد بالقدرة والإمكان ، فمفادها في محصّل المعنى هو : أنّه يجب أن يعمل بكلّ ما أمكن العمل به من الأدلّة الغير العلميّة.

ولا ريب أنّه يخرج عن هذا الموضوع ما لا يمكن العمل به ، ومنه أحد المتعارضين حال العمل بصاحبه فلا يشمله حكم العامّ.

ولكنّه يندفع : بمنع انتفاء الشرط عن كلّ واحد بعينه إذا أخذ بانفراده ومع قطع النظر عن الآخر ، لإمكان العمل بكلّ واحد بعينه إذا أخذ على هذا الوجه حسبما بيّنّاه سابقا ،

٦٠٣

وأدلّة الحجّية أيضا إنّما دلّت على وجوب العمل بكلّ واحد لا بشرط انضمام العمل بالآخر ولا بشرط عدمه ، والامتناع إنّما ينشأ من فرض الانضمام لا مطلقا.

وقضيّة ذلك سقوط الوجوب عن العمل بأحدهما لطروّ الامتناع له بعد ثبوته ، لا عدم ثبوت الوجوب له رأسا ، فلا يلزم خروج من مقتضى أدلّة الحجّية بالنسبة إلى شيء من المتعارضين لا بعنوان التخصيص ولا بعنوان التخصّص.

وبالجملة خروج الفرد عن العامّ بالتخصيص أو التخصّص دفع لحكم العامّ عن الفرد ومنع لثبوته له ابتداء ، وسقوطه عن الفرد بعد ثبوته لطروّ الامتناع رفع له وهو فرع اندراجه تحته وشموله له ، نظير من وجب عليه الصلاة أوّل الوقت لاجتماعه شرائط الاختيار ثمّ طرأه في أثناء الوقت عذرا أوجب سقوط الوجوب عنه.

فظهر من جميع ما قرّرناه أنّ القول بأنّ الأصل في المتعارضين خروجهما عن الحجّية من جهة عدم تناول أدلّة الحجّية ليتفرّع عليه القول بأنّ الأصل في عنوان « التعادل » التساقط بإطلاقه ليس بسديد.

نعم ربّما يتّجه ذلك فيما كان من الأدلّة الغير العلميّة حجّيته منوطة بالظنّ الشخصي كالشهرة والأولويّة الظنّية بل خبر الواحد والإجماع المنقول إن قلنا بالحجّية فيهما من باب الظنّ المطلق استنادا إلى دليل الانسداد ، أو غيره ممّا يفيد إناطة الحجّية بالظنّ الاطمئناني الّذي لا يكون إلاّ فعليّا ، فإنّ التعارض الواقع بينهما على هذا التقدير أوجب عدم حصول الظنّ الشخصي منهما فيخرجان عن الحجّية رأسا لفقدهما ما هو مناط الحجّية فيتساقطان ، كما أومأنا إليه أيضا في مفتتح الباب عند بيان عدم وقوع التعارض بين ظنّيين شخصيّين كالقطعيّين ، بل ما ذكرناه من التساقط لخروجهما عن الحجّية على التقدير المذكور من متفرّعات هذه القاعدة.

ثمّ بعد ما ثبت أنّ الأصل في المتعارضين على وجه التعادل ليس هو التساقط بقول مطلق ، وهل الأصل فيهما حينئذ مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة هو التخيير مطلقا أو التوقّف كذلك؟

فقد يقال : بأنّ الأصل هو التخيير تنظيرا للمتعارضين بالواجبين المتزاحمين كإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق في موضع مزاحمة أحدهما للآخر أو لمثله بحيث لم يمكن الجمع بينهما في الامتثال لاتّفاقهما في زمان واحد ، فكما أنّ العقل المستقلّ لا يجوّز تركهما معا

٦٠٤

لمجرّد عدم إمكان فعلهما معا بل يحكم بالتخيير ويلزم المكلّف بأداء أحدهما لإمكانه وبقاء القدرة عليه ، فكذلك في المتعارضين ، فإنّ الدليلين في موضع عدم التعارض يجب العمل بكلّ منهما بانفراده وإذا حصل التعارض بينهما لا يجوز ترك العمل بهما معا لمجرّد عدم إمكان الجمع بينهما في العمل ، فإنّ العقل لا يجوّزه بل يحكم بالتخيير لإمكان العمل بأحدهما على هذا الوجه.

وهذا عندنا موضع نظر بل عند التحقيق ليس بسديد أيضا ، لبطلان التنظير والمقايسة ، لوضوح الفرق بين ما نحن فيه والواجبين المضيّقين في موضع المزاحمة.

ووجه الفرق : أنّ كلاّ من الواجبين المضيّقين مشتمل على مصلحة كامنة فيه باعثة على إيجابه ، ففي موضع عدم المزاحمة يجب تحصيل المصلحتين معا بأداء الواجبين معا ، وإذا حصل المزاحمة بينهما تعذّر تحصيل المصلحتين معا ، ولكن لا يلزم من تعذّر تحصيلهما معا جواز تفويتهما معا لإمكان تحصيل إحداهما ، فيلزم العقل بذلك ولا يجوّز التفويت رأسا ، وأمّا فيما نحن فيه فكون المتعارضين كالواجبين المتزاحمين إنّما يستقيم أن لو قلنا بالحجّية في الأدلّة الغير العلميّة على وجه الموضوعيّة ، وهي أنّ الأمارة الغير العلميّة بقيامها في الواقعة أوجبت حدوث مصلحة فيها مؤثّرة في حدوث حكم على طبقها في مقابلة مصلحة الواقع ، بحيث إنّ الشارع قطع النظر عن مصلحة الواقع واكتفى بالمصلحة الحادثة من قيام الأمارة فأوجب العمل بها مراعاة لتحصيل هذه المصلحة ، فعلى هذا التقدير كان المتعارضان كالواجبين المتزاحمين في أنّ عدم إمكان تحصيل المصلحتين معا لمكان التعارض لا يقضي بجواز تفويت إحدى المصلحتين ، بل يجب في حكم العقل تحصيلها على وجه التخيير.

ولكن هذا تقدير فاسد لبطلان الجعل الموضوعي في الأمارات من جهة بطلان التصويب بل الصحيح فيها إنّما هو الجعل الطريقي ، وهو أنّ الشارع جعل الأمارة طريقا وأمر باتّباعها لكونها غالب المطابقة للواقع ، فالمصلحة الداعية إلى جعلها والتعبّد بها إنّما هي غلبة مطابقتها الواقع كما هو الحال في الأمارات المعمولة في الموضوعات الخارجيّة الّتي بأيدينا اليوم ، حيث نعلم بأنّ الأمر الشرعي باتّباعها إنّما نشأ من غلبة مطابقتها الواقع ، والأمر باتّباع الأمارة لأجل هذه المصلحة ممّا يجوّزه العقل على الحكيم ولا قبح فيه أصلا ، وإن كانت الأمارة قد يتّفق أنّها تخالف الواقع لأنّها في جنب المطابقة نادرة ، فالأمر باتّباعها لأجل

٦٠٥

المطابقة الغالبيّة مع فقد الطرق العلميّة وفقد أمارة تكون دائمة المطابقة للواقع أولى وأوفق بقواعد الحكمة من منع اتّباعها لأجل المخالفة النادرة ، بل هو ممّا يجب عليه عملا بمقتضى الحكمة وأداء لحقّها بتمامها.

وحينئذ فلو تعارضت الأمارة المجعولة على هذا الوجه لمثلها كالخبرين إذا كان أحدهما آمرا والآخر ناهيا لم يرجع ذلك إلى تعارض المصلحتين ، للجزم بعدم اشتمال شيء منهما على المصلحة الباعثة على الأمر باتّباعها وهي غلبة المطابقة ، فإنّ كلاّ منهما خبر شخصي وجزئي حقيقي لنوع خبر الواحد ولا يصدق عليه أنّه غالب المطابقة للواقع بل لا يعقل ذلك فيه ، وإنّما لوحظت الغلبة في النوع بما هو نوع ، فإذا كان كلّ منهما خاليا عن تلك المصلحة فلا يبقى فيه إلاّ نفس المطابقة ، وهي على تقدير ثبوتها مصلحة واحدة غير متعيّنة متردّدة بين هذا وبين ذلك ، للقطع الضروري بعدم إمكان مطابقتهما معا ، لاستحالة اجتماع المتناقضين واجتماع المتضادّين ، مع احتمال مخالفتهما معا في بعض الأحيان ، فلا محالة يحصل العلم بمخالفة أحدهما ، ومن المعلوم أنّ ما علم تفصيلا أو إجمالا مخالفته للواقع ليس بحجّة ، وقد اشتبه ذلك بما علم أو احتمل مطابقته الواقع فيؤول التعارض بينهما إلى اشتباه الحجّة بغير الحجّة والعقل المستقلّ في مثله يحكم بوجوب التوقّف فيهما عن العمل والرجوع إلى الأصل ، لا بالتخيير مطلقا إن لم نقل بالترجيح بموافقة الأصل فيما وافقه أحدهما ، وإلاّ اختصّ التوقّف بما لو خالف كلاهما الأصل.

فتلخّص من جميع ما قرّرناه : أنّ الأدلّة المتعارضة فيما لا يمكن الجمع بين المتعارضين على أنواع ، أو أنّ أحكامها من حيث أصالة التساقط أو التخيير أو التوقّف تختلف باختلاف التقادير وفروض جعلها من حيث كونه على وجه الموضوعيّة أو الطريقيّة من باب الظنّ الشخصي أو النوعي ، فعلى الجعل الطريقي مع إناطة الحجّية بالظنّ الشخصي استنادا إلى دليل الانسداد أو غيره ممّا أفاد حجّية الأخبار وغيرها من باب الظنّ الاطمئناني يتّجه القول بالتساقط ، وعلى الجعل الموضوعي يتّجه القول بالتخيير ، وعلى الجعل الطريقي مع الاكتفاء بالظنّ النوعي يتّجه القول بالتوقّف.

هذا كلّه بالنظر إلى الأصل والقاعدة مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة ، وأمّا مع ملاحظة الأدلّة الخاصّة فالحكم تابع لما يساعد عليه الدليل ، ولذا ترى أنّ أصحابنا ـ على ما حكاه السيّد في المفاتيح ـ بين قائل بالتخيير ذهب إليه الشيخ والمحقّق والعلاّمة والمصنّف في

٦٠٦

العدّة والاستبصار والمعارج والتهذيب والمعالم.

وعن بعض شروح التهذيب هو مذهب الجمهور ، وعن بعض الأفاضل نسبته إلى المجتهدين ، وفي كلام المصنّف : « لا نعرف في ذلك خلافا بين الأصحاب وعليه أكثر أهل الخلاف ».

وبين قائل بالتوقّف حكي عن الأخباريّين.

فإنّ هذا الخلاف إنّما نشأ عن اختلاف الأخبار الدالّة طائفة منها على التخيير وطائفة اخرى على التوقّف ، والأقوى المعتمد هو الأوّل عملا بأخبار التخيير الدالّة عليه بعبارات مختلفة متقاربة كقوله عليه‌السلام : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك الله » كما في بعضها ، وقوله عليه‌السلام : « بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا » كما في بعضها ، وقوله : « فموسّع عليك بأيّهما أخذت » كما في ثالث ، « وبأيّهما شئت موسّع ذلك من باب التسليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والردّ إليه وإلينا » كما في رابع ، وقوله : « فإذن تخيّر أحدهما ودع الآخر » كما في خامس ولو كان فيها ضعف أو قصور سندا أو دلالة ينجبر بالشهرة العظيمة وعمل الأصحاب وفهمهم ، مع اشتمالها على ما هو صحيح وهو صحيح عليّ بن مهزيار ـ على ما وصفه به في المفاتيح ـ وبذلك مع الانجبار المذكور تترجّح هذه الأخبار على أخبار التوقّف القاضية بوجوبه بعبارات مختلفة متقاربة ، كقوله عليه‌السلام : « ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردّوه إلينا » وقوله : « وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم » وقوله : « يرجيه حتّى يلقى من يخبره فهو في سعة » وقوله : « إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ».

وهذه أيضا وإن اشتملت على ما هو موثّق كموثّقة سماعة غير أنّه لا يكافؤ الصحيح فيقدّم الصحيح لصحّته مع اعتضاده بالشهرة وعمل الطائفة.

هذا مع تطرّق المنع إلى أصل منافاة هذه الأخبار لأخبار التخيير من حيث عدم دلالتها صراحة ولا ظهورا على التوقّف بالمعنى المبحوث عنه وهو الوقوف عن العمل رأسا والرجوع إلى الأصل أو الاحتياط ، بل غايتها الدلالة على إرجاء العمل وتأخيره إلى لقاء الإمام عليه‌السلام والوصول إلى حضرته والسؤال عن حقيقة الحال ، فتختصّ بالمتمكّنين من ذلك كلّه ، وأمّا أخبار التخيير فهي إمّا ظاهرة في صورة عدم التمكّن أو عامّة لها أيضا فتخصّص بها جمعا.

لا يقال : إنّ أخبار التخيير وإن اشتملت على جملة من المرجّحات السنديّة غير أنّها

٦٠٧

تتوهّن بمخالفة مضمونها الأصل القطعي المجمع عليه وهو بطلان التصويب ، لما تقدّم من أنّ التخيير بين المتعارضين مبنيّ على الجعل الموضوعي في الأمارات المؤدّي إلى التصويب بخلاف أخبار التوقّف الغير المستتبع لهذا المحذور ، فهي مشتملة على مرجّح مضموني يجب ترجيحها على أخبار التخيير.

لأنّا نقول : إنّ التخيير المنساق من الأخبار الآمرة به ليس من التخيير العقلي المبنيّ على الجعل الموضوعي ، وهو التخيير في امتثال الحكم الواقعي التابع للمصلحة الواقعيّة الكامنة في الواقعة كما في الواجبين المتزاحمين ، بل هو تخيير عملي وحكم ظاهري جعله الشارع للمتحيّر في متعارضات الأمارات مع فقد المرجّحات ، هذا.

وينبغي التنبيه على امور :

أحدها : أنّ حكم التعادل في الأمارتين القائمتين بغير الأحكام كاللغات وأحوال الرواة عند اختلاف أقوال أهل اللغة أو علماء الرجال مع التكافؤ أو عدم إمكان الجمع ليس هو التخيير ، سواء اريد به التخيير الظاهري المستفاد من الأخبار المجعول للمتحيّر أو التخيير العقلي التابع للحكم الواقعي.

أمّا الأوّل : فلأنّه لا يتمشّى في أمارات غير الأحكام ، لاختصاص أدلّته والأخبار الآمرة به موردا ومساقا سؤالا وجوابا بالأحكام والأخبار المأثورة عن أئمّة الأنام عليه‌السلام.

وأمّا الثاني : فلابتنائه على الجعل الموضوعي الغير المعقول في غير الأحكام ، بل الظاهر كون وجه اعتبار أماراته وجه الطريقيّة من باب الظنّ الشخصي فلا مناص من التوقّف.

وثانيها : أنّه إذا اختار المجتهد بعد البناء على التخيير أحد المتعارضين وعمل به ، فهل يجوز له العدول عنه إلى اختيار الآخر والعمل به أيضا وهو التخيير الاستمراري ، أو لا يجوز ذلك وهو التخيير البدوي؟ وجهان أقواهما الثاني اقتصارا في الحكم المخالف للأصل على موضع اليقين ، مع أنّ جواز دوام العمل بما اختاره معلوم وجواز العمل به تارة وبغيره اخرى مشكوك ، فقاعدة الاشتغال بالعمل بالطريق تقتضي عدم الاستمرار ، مع أنّ الالتزام بالاستمرار قد يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة العمليّة للحكم الواقعي فيما لم يحتمل مخالفة الأمارتين معا الواقع ، مع أنّ القائل بالاستمرار ليس له إلاّ إطلاق الأخبار الآمرة به.

ويزيّفه : ما قيل من أنّ الظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنظر إلى حال المجتهد بعد زوال تحيّره بالتزام العمل بأحدهما.

٦٠٨

واستصحاب الحالة السابقة وهو التخيير الثابت قبل الاختيار إذا شكّ في بقائه وارتفاعه بعد الاختيار للشكّ في كون الاختيار ملزما يستصحب بقاؤه.

يزيّفه أوّلا : ورود الأصل العقلي وهو قبح المخالفة القطعيّة إذا كانت عمليّة عليه.

وثانيا : تبدّل موضوع المستصحب الموجب لعدم جريان الاستصحاب ، بتقريب : أنّ المجتهد بعد ما اختار أحد المتعارضين والتزم به خرج عن كونه متحيّرا وقد تقدّم أنّ التخيير حكم مجعول للمتحيّر بوصف كونه متحيّرا ، فتأمّل.

وقد يقرّر تبدّل الموضوع بأنّ الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يختر فإثباته لمن اختار والتزم إثبات للحكم في غير موضوعه الأوّل.

ثمّ الظاهر عدم الفرق فيما اخترناه من عدم استمرار التخيير بين ما لو تعلّقت الأمارتان المتعارضتان بالفتوى أو بالحكم والقضاء ، فإذا حكم في واقعة على طبق أمارة فليس له أن يحكم في اخرى على طبق اخرى ، خلافا للعلاّمة في النهاية وغيره ـ على ما حكي ـ من مصيره إلى الجواز استنادا إلى أنّ العقل لا يستحيله ولا يستبعد وقوعه كما لو تغيّر اجتهاده ، وفيه ما فيه.

وثالثها : حكي عن جماعة أنّ التعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان مخيّرا ، وإن وقع للمفتي باعتبار إفتائه فحكمه أن يخيّر المستفتي فيتخيّر في العمل كالمفتي.

أقول : وجه الأوّل واضح ، وأمّا الثاني فوجّهه بعض مشايخنا : « بأنّ نصب الشارع للأمارات وطريقيّتها يشمل المجتهد والمقلّد ، إلاّ أنّ المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ودفع موانعها ، فإذا فرض أنّ المجتهد تصدّى لإثبات ذلك وثبت جواز العمل بكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلّد والمجتهد تخيّر المقلّد كالمجتهد ، ولأنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد لم يقم دليل عليه فهو تشريع ».

أقول : وفيه نظر ، إذ التخيير حكم ظاهري جعله الشارع للمتحيّر في العمل بالطريق بسبب وقوع التعادل بين فرديه ، وهذا التحيّر ليس حاصلا للمقلّد إذ لا طريق له سوى فتوى المجتهد وليس وظيفته في استعلام حكمه الشرعي الرجوع إلى الطرق الّتي يرجع إليها المجتهد ، فهو غير مندرج في موضوع التخيير في العمل بين الطريقين ليفتي له به المجتهد.

وقضيّة ذلك أن لا يفتيه إلاّ بمقتضى ما اختاره من المتعادلين.

ويؤيّده أنّ الإفتاء بالتخيير في العمل بينهما للمقلّد لم يعهد إلى الآن من أحد من

٦٠٩

المجتهدين المفتين من السلف إلى الخلف.

ويؤيّده أيضا ما بيّنّاه في مباحث التقليد من أنّ كلّما هو حكم فعليّ للمجتهد فهو حكم فعليّ للمقلّد ، وظاهر أنّ الحكم الفعلي للمجتهد بعد اختياره لأحد المتعارضين إنّما هو مؤدّى مختاره ، وأمّا مؤدّى المتعادل الآخر الّذي طرحه قد خرج عن كونه حكما فعليّا في حقّه.

وقضيّة ذلك أن لا يكون للمقلّد أيضا حكم فعليّ إلاّ مؤدّى مختاره ، ولا ينافيه كون نصب الطرق وطريقيّتها مشتركا بين المجتهد والمقلّد ، لأنّ الطرق المنصوبة طرق للمقلّد بواسطة فتوى المجتهد بمؤدّياتها لا أوّلا وبالذات ، ولذا لا يكلّف المقلّد بالرجوع إلى طريق المجتهد في غير محلّ التعارض وإن تصدّى لإثبات مقتضاه المجتهد ، فالأجود هو الإفتاء بمؤدّى المختار لا غير.

والعجب أنّ بعض المشايخ جعل ذلك احتمالا ولم يجزم به بل جعل المشهور أقوى ، حيث قال : « ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي فيفتي بما اختاره لأنّه حكم للمتحيّر ، ولا يقاس هذا بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي من أنّ حكمه وهو البناء على الحالة السابقة مشترك بينه وبين المقلّد ، لأنّ الشكّ هناك في نفس الحكم الفرعي المشترك وله حكم مشترك ، والتحيّر هنا في الطريق إلى الحكم فعلاجه بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق ، كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به ، فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر لأنّه أخبر وأعرف به مع تساويهما عند المجتهد أو انعكاس الأمر عنده فلا عبرة بنظر المقلّد ، وكذا لو فرضنا تكافؤ قول اللغويّين في معنى لفظ الرواية فالعبرة بتحيّر المجتهد لا بتحيّر المقلّد بين حكم يتفرّع على أحد القولين وآخر يتفرّع على الآخر ، والمسألة محتاجة إلى التأمّل وإن كان وجه المشهور أقوى » انتهى.

فما احتمله قدس‌سره جيّد ولا باعث على التأمّل وتقوية وجه المشهور.

نعم لو كان النظر في الأحكام المختصّة بالمقلّد كأحكام الحائض وغيرها ممّا لا يجري في حقّ المجتهد لم يبعد الإفتاء له بالتخيير ، لأنّ المجتهد لا داعي له إلى اختيار أحدهما والالتزام بمؤدّاه ليفتي بمؤدّى مختاره ، فيفتي له حينئذ بالتخيير ، ولكنّه ينبغي أن يخبره حينئذ بين مدلولي المتعادلين ليلتزم بأحدهما ، ووجب عليه حينئذ أن ينبّهه على عدم كون التخيير على الاستمرار ، ولعلّ كلام الجماعة أيضا في هذه الصورة لا مطلقا ، كما يشعر به ظاهر العنوان المتقدّم من وقوع التحيّر للمفتي من حيث إفتائه وعليه فلا كلام ، ومن هنا

٦١٠

يعلم أنّ التعادل لو وقع للحاكم والقاضي في حكومته وقضائه يتخيّر أحدهما فيحكم به كما عن جماعة ، لأنّ الحكم والقضاء عمل له لا للغير فلا معنى هنا لإفتاء المتخاصمين بالتخيير ، وعن بعض تعليل المنع بأنّ تخيير المتخاصمين لا يرتفع معه الخصومة.

المقام الثالث

في التراجيح

والترجيح عبارة عن تقديم إحدى الأمارتين لمزيّة لها على الاخرى ، وفي اعتبار عدم بلوغها حدّ الحجّية ـ على معنى كونها بنفسها حجّة مستقلّة كموافقة الكتاب الّذي بنفسه حجّة مستقلّة ـ وعدمه وجهان ، من عدم مساعدة الترجيح المصطلح عليه كما قيل ، ومن عدّهم موافقة الكتاب ونحوها من المرجّحات حتّى أنّه ورد ذكره في النصوص.

وليعلم أنّ كون الشيء مرجّحا الّذي مرجعه إلى تعيّن العمل بذي المزيّة من المتعارضين ـ ككون الشيء دليلا ـ حكم مخالف للأصل فيحتاج إلى دليل ، لكون الأصل الأوّلي مع قطع النظر عن عموم أدلّة حجّية الأمارات الغير العلميّة هو التساقط ثمّ بعده الأصل الثانوي ـ بناء على الجعل الطريقي في الأمارات مع إناطة الحجّية بالظنّ النوعي ـ هو التوقّف ، ثمّ بعده الأصل الثالث من جهة الأخبار الآمرة بالتخيير هو التخيير ، وظاهر أنّ المرجّحية بالمعنى المذكور تخالف الجميع ، ولعلّه لذا اختلف في وجوب الترجيح ولزوم العمل بذي المزيّة وعدمه ، فالمشهور المحكيّ في النهاية عن المحقّقين هو الأوّل ، وعن جماعة من العامّة الثاني فقالوا : إنّ حكمه التخيير كما عن القاضي والجبائيّين ، أو التساقط كما عن بعض الفقهاء.

وعن شارح الوافية السيّد صدر الدين أيضا إنكار وجوب الترجيح مع كونه أفضل ، حيث إنّه بعد ما ذكر أنّ الجمع بين الأخبار العلاجيّة المعارض بعضها لبعض غير ممكن ، جعل الأصل التخيير والترجيح بما ذكر في الأخبار راجحا بل مستحبّا.

وربّما يظهر احتمالا اختيار عدم الوجوب من الكليني في ديباجة الكافي ـ على ما حكي ـ حيث إنّه بعد ما ذكر أنّ المرجّحات الّتي ذكرها العالم عليه‌السلام للعمل بالروايات لا تفي إلاّ بأقلّ قليل من الأخبار ، قال : « ولا نجد أحوط وأوسع ممّا رخّص لنا العالم من الأخذ بأيّهما شئنا من المتعارضين ».

ووجه الاحتمال رجوع التخيير الّذي جعله من الأوسع إلى ما يعمّ الأخبار الخالية عن

٦١١

المرجّحات وما هو أقلّ قليل منها ، ولكنّ الأظهر رجوعه إلى الموارد الخالية عن المرجّحات المنصوصة.

ثمّ الظاهر أنّ محلّ هذا الخلاف وموضع هذا النزاع إنّما هو المرجّحات السنديّة وغيرها ممّا يرجع إلى الصدور وجهته ، وأمّا المرجّحات الراجعة إلى الدلالة كالنصوصيّة والأظهريّة وحقيقيّة الدلالة ونحوها فخارجة عنها ، إذ لا خلاف في لزوم الترجيح بها.

وإذا عرفت هذا فاعلم أنّ الحقّ في المسألة ما هو المشهور من وجوب الترجيح وتعيّن العمل بالراجح.

لنا على ذلك أوّلا : قاعدة الاشتغال بالقياس إلى التكليف بالعمل بالطرق ، ولا ريب أنّ الأخذ بالراجح يوجب اليقين ببراءة الذمّة عن هذا التكليف بخلاف الأخذ بغيره.

وثانيا : أولويّة التعيين فيما إذا دار الأمر بينه وبين التخيير.

وثالثا : عدم المناص من الترجيح والأخذ بالراجح ، لبطلان غيره من التساقط والتوقّف والتخيير.

أمّا الأوّل : فلأنّه ـ مع أنّه لا قائل به إلاّ بعض العامّة ـ خروج عن أدلّة الحجّية.

وأمّا الثاني : فلأنّه ـ مع أنّه لا قائل به إلاّ الأخباريّون منّا ـ ممّا لا دليل عليه إلاّ الأخبار الآمرة به ، وهي مقيّدة بفقد المرجّحات.

وأمّا الثالث : فلأنّه إن اريد به التخيير الشرعي المستفاد من الأخبار فهو أيضا مقيّد بصورة فقد المرجّحات ، ولو وجد فيها ما يكون مطلقا وجب تقييده به حملا للمطلق على المقيّد ، وإن اريد به التخيير العقلي فالعقل غير حاكم به ، لما تقدّم مرارا من ابتناء حكم العقل به على الجعل الموضوعي في الطرق وهو باطل ، مع أنّه قد ذكرنا في مباحث التقليد أنّ كلّ طريقين متعارضين إذا اشتمل أحدهما على ما احتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع فالعقل لا يحكم فيه بالتخيير بينهما.

ورابعا : إجماع العلماء فتوى وعملا.

أمّا الأوّل : فواضح كما ربّما يكشف عنه الإجماعات المنقولة الّتي تصدّى لحكاية نقلها السيّد في المفاتيح عن جماعة من الخاصّة والعامّة.

وأمّا الثاني : فلأنّ المعلوم من سيرة العلماء قديما وحديثا من لدن بناء العمل بأخبار الآحاد ممّا بعد زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا التزامهم بالأخذ بالمرجّحات وتقديم الراجح

٦١٢

من المتعارضات من غير نكير ، ولا يقدح فيه ما تقدّم عن الكليني ، لأنّه بناء على أظهر احتماليه ليس نفيا لوجوب الترجيح مع وجود المرجّح بل هو انكار لوجود المرجّح ، بناء منه على أنّ المرجّحات المنصوصة لا توجد إلاّ في أقلّ قليل من الروايات.

وخامسا : الأخبار العلاجيّة الآمرة بالترجيح والأخذ بذي المزيّة وطرح صاحبه ، فإنّه يستفاد من المجموع وجوب الترجيح وتعيّن العمل بالأرجح في الجملة ، سيّما ما اشتمل منها على قول الراوي : « بأيّهما آخذ » فإنّه يدلّ على كون تعيّن العمل بالراجح أمرا ثابتا مفروغا عنه والسؤال إنّما وقع لمعرفة المرجّح ، ولذا تعرّض الإمام عليه‌السلام لبيان المرجّحات بقوله : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » وغيره.

وبالجملة الأوامر الموجودة في هذه الأخبار ظاهرة في الوجوب ولا صارف لها إلى غيره ، مضافا إلى شواهد اخر كثيرة ترشد إلى إرادة الوجوب وتصرف مواردها عن إرادة الاستحباب.

وأمّا ما عرفته عن السيّد الصدر من استحباب الترجيح فهو من غرائب القول ، ولا يوافق مذهب الاصولي ولا مذاق الأخباري ، ولا يناسب قانون فهم الأخبار ولا يلائم التوقّف في الأخبار الآمرة به ، لأنّ حكم المتعارضين مع تكافؤهما من جميع الجهات إذا كان هو الوقف دون التخيير فلأن يكون مع اختلافهما في الرجحان والمرجوحيّة هو الوقف دون التخيير طريق الأولويّة.

وإن لم يسلّم الأولويّة فلا أقلّ من التساوي ، وإلاّ فمعنى التخيير مع الاختلاف هو جواز الأخذ بالمرجوح مع وجوب الوقف عند التساوي الملازم لعدم المرجوحيّة في شيء من الطرفين.

ولعلّ ذلك ممّا يضحك به الثكلى ، إلاّ على تقدير حمل الأمر بالوقف أيضا على الاستحباب ولا نظنّه أنّه يرضى بذلك ، مع أنّه لا يلائم النهي عن الالتفات والاعتناء بما حكم به غير الأعدل وغير الأفقه ، ولا تعليل الأمر بالأخذ بما وافق الكتاب بأنّ ما خالفه زخرف وأنّه يضرب على وجه الجدار ، ولا تعليل الأمر بالأخذ بما خالف العامّة وطرح ما وافقهم بأنّ الرشد في خلافهم ، ولا ما ورد فيها من أنّ بناءهم في المسائل كان على مخالفة أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث كانوا يسألونه ثمّ يلتزمون بخلاف ما يسمعونه منه ، ولا تعليل الأمر بالأخذ بالمشهور وطرح الشاذّ النادر بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه.

٦١٣

وبالجملة ما بنى عليه من الاستحباب بعيد عن مدلول الأخبار وسياقاتها ، فلا ينبغي الالتفات إليه.

وقد يستدلّ أيضا على وجوب الترجيح بما ظهر ضعفه ممّا نبّهنا عليه سابقا من خروج المرجّحات الدلاليّة عن محلّ الخلاف ، وهو أنّه لو لا الترجيح لاختلّ أمر الاستنباط ، لاستلزامه التخيير بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد وغيرهما من أنواع النصّ والظاهر ، واللازم باطل بالضرورة لتطرّق المنع إلى الملازمة ، فإنّ النصوصيّة أو الأظهريّة وغيرهما من أنواع أقوائيّة الدلالة من المرجّحات الراجعة إلى الدلالة ولا كلام بل لا خلاف في وجوب الأخذ بها ، مع أنّه قد عرفت في مفتتح الباب من أنّه لا تعارض حقيقة بين النصّ والظاهر بجميع أنواعه ، بل تعارض صوريّ يرتفع بانفهام التخصيص والتقييد عرفا.

وأمّا القول بعدم وجوب الترجيح فليس له ممّا استدلّ به أو يمكن أن يستدلّ به إلاّ وجوه ضعيفة :

منها : أصالة البراءة عن الضيق الّذي يستلزمه التعيين في مسألة دوران الأمر بينه وبين التخيير.

ومنها : أصالة عدم المرجّح ، لا بمعنى أصالة عدم وجود المزيّة بل بمعنى عدم كون المزيّة الموجودة ممّا اعتبرها الشارع وجعلها مناطا للحكم.

ومنها : إطلاق الأمر بالتخيير في عدّة من الأخبار الآمرة به من غير تقييد له بصورة التكافؤ أو فقد المرجّحات.

ومنها : أنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام لوجب عند تعارض البيّنات ، والتالي باطل لعدم وجوب تقديم شهادة الأربعة على الإثنين.

والجواب عن الأوّل : بكون المسألة من مجاري أصل الاشتغال لا أصل البراءة ، لعدم كون الشكّ الموجود فيها شكّا في التكليف ، ولا آئلا إليه ، بل هو شكّ في المكلّف به مع عدم أوله إليه في التكليف ، إذ لا يدرى أنّ الواجب بعد تيقّن أصل الوجوب هل هو أحد الأمرين على التعيين أو كلّ منهما على البدل؟ ومرجعه إلى الشكّ في أنّ البراءة الّتي كان يقتضيها الاشتغال اليقيني هل هي بحيث لا تحصل إلاّ بالواحد المعيّن أو تحصل به وبما يحتمل كونه معادلا له مع تيقّن حصولها بالواحد المعيّن ، وقضيّة استدعاء الاشتغال اليقيني ليقين البراءة تعيّن اختيار الواحد المعيّن.

٦١٤

لا يقال : ما ذكرت من ضابط الفرق بين مجرى أصل الاشتغال ومجرى أصل البراءة ليس بمطّرد أو ليس بتامّ ، بل لا بدّ من تقييد الشكّ في المكلّف [ به ] الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف في ضابط جريان أصل الاشتغال لا غير بعدم دوران المقام بين تقديرين يترتّب العقاب على الترك في أحدهما ولا يترتّب عليه في الآخر وإلاّ كان من مجرى أصل البراءة الّذي ضابطه الكلّي نفي العقاب المحتمل ، وقضيّة ذلك جريان أصل البراءة فيما نحن فيه لرجوع الشكّ في التعيين والتخيير إلى احتمال ترتّب العقاب على ترك الواحد المعيّن.

ولا ريب أنّ الأصل براءة الذمّة عن ذلك العقاب المحتمل ، بل البراءة عن الضيق الّذي يستلزمه التعيين ممّا لا معنى له إلاّ هذا ، ويلزمه ثبوت كون الواجب كلّ واحد على البدل.

لأنّا نقول : إنّ إعمال أصل البراءة بنحو هذا التكلّف يندفع بأنّ أصل البراءة إنّما يجري ويصحّ الاستناد إليه حيث لم يكن هناك أصل موضوعي وارد عليه رافع لموضوعه وهو الشكّ ، والمفروض وجود الأصل الموضوعي فيما نحن وهو أصالة عدم تعلّق وصف الوجوب بما احتمل كونه أحد فردي الواجب التخييري بعد تيقّن تعلّقه بما احتمل كونه معيّنا ، ومرجعه إلى نفي تعلّق جنس الوجوب لا نفي الوجوب بقيد التعيين ولا هو بقيد التخيير.

فإن قلت : إجراء أصل العدم لنفي تعلّق الوجوب بما احتمل كونه أحد فردي الواجب التخييري إنّما يتمّ في مسألة الظهر والجمعة ونظائرها دون ما نحن فيه وهو دوران الأمر بين تعيين ذي المزيّة من الأمارتين المتعارضتين والتخيير بينها وبين الأمارة الخالية عن المزيّة ، لأنّ وجوب العمل المتولّد عن الحجّية الذاتيّة ثابت في كلا المتعارضين على ما تقدّم من شمول أدلّة الحجّية لهما معا ، فلا يمكن نفيه بأصل العدم.

قلت : لا كلام لنا في الوجوب المتولّد عن الحجّية الذاتيّة لكونها مشترك الثبوت بين المتعارضين ، بل الكلام في الوجوب الثانوي المجعول من باب الحكم الظاهري للمتحيّر عند الابتلاء بالمتعارضين ، وكما أنّ الشارع جعل له حكما ظاهريّا عند تكافؤ المتعارضين وتساويهما من جهة المرجّحات وهو وجوب العمل بكلّ منهما على البدل ، فكذلك جعل له عند الابتلاء بذي المزيّة والخالي عن المزيّة حكما يعبّر عنه بالحجّية الفعليّة ، ولا يدرى أنّه وجوب تعيين أو وجوب تخيير ، وهذا الوجوب المعلوم كونه مجعولا بالإجمال ممّا تيقّن تعلّقه بذي المزيّة ويشكّ في تعلّقه بالخالي عنها والأصل عدمه ، وهذا لا ينافي الحجّية الذاتيّة الّتي يتولّد منها الوجوب الشأني.

٦١٥

وعن الثاني : بأنّه إن اريد بأصالة عدم اعتبار الشارع للمزيّة عدم جعله المزيّة حجّة مستقلّة.

ففيه : أنّه لا كلام لأحد في ذلك ولا حاجة لنفيه إلى الأصل ، ولذا قيّدنا المزيّة في تعريف المرجّح بعدم بلوغها حدّ الحجّية ، فالمراد بالمزيّة هنا ما لم يبلغ حدّ الحجّية.

وإن اريد به عدم جعله ما له المزيّة حجّة ، ففيه : أنّه ممّا لا مجال لنفيه بالأصل لمكان القطع بالحجّية ، سواء اريد به الحجّية الذاتيّة أو الفعليّة بالتقريب المتقدّم ، ولا يعارض ذلك بالحجّية الثابتة في الخالي عن المزيّة ، فلا يمكن نفيها أيضا بالأصل لمنع ثبوت الحجّية الفعليّة فيه والحجّية الذاتيّة مشتركة بينهما.

وعن الثالث : بأنّ الأخبار المقيّدة للتخيير بفقد المرجّحات أيضا كثيرة فتحمل مطلقاته على مقيّداته ومرجعه إلى التقييد ، وهو بحسب متفاهم العرف ـ على ما تقرّر في محلّه ـ أولى وأرجح من حمل الأمر بالمقيّد على الاستحباب.

وعن الرابع : فعن العلاّمة في النهاية بمنع بطلان التالي ـ أعني منع الحكم في المقيس عليه ـ لأنّه يقدّم شهادة الأربعة على الإثنين.

سلّمنا لكن عدم الترجيح في الشهادة ربّما كان مذهب أكثر الصحابة والترجيح هنا مذهب الجميع ، انتهى.

والتحقيق في الجواب : أنّ الفرق بين المقامين إنّما هو لفارق وهو النصّ والإجماع على الترجيح في أمارات الأحكام وعدم نصّ ولا إجماع في البيّنات عليه على الوجه الكلّي ، وإن كان قد يرجّح إحدى البيّنتين في بعض الموارد بالأعدليّة أو بالأكثريّة كما في التداعي على عين هي بيد ثالث غير المتداعيين عند الأكثر ، وفيما هو بيد أحدهما عند المفيد وتبعه الإسكافي في الأكثريّة ، وعليه فقضيّة الأصل فيها التوقّف مع قطع النظر عن خصوصيّات الموارد ، وذلك لأنّ البناء في تعارض البيّنتين مع التكافؤ باتّفاق من الأصحاب إنّما هو على التوقّف والرجوع في العمل إلى الاصول والقواعد والأخذ بمقتضاها في كلّ مقام على حسب ما يناسبه ، ففي الطهارة والنجاسة يرجع إلى أصالة الطهارة ، وفي الأملاك إلى قاعدة التنصيف ، وفي الأزواج والأموال الغير القابلة للتقسيم كالفرس والشاة ونحوهما إلى القرعة مثلا ، وإذا كان البناء في صورة التساوي على التوقّف كان البناء عليه أيضا في صورة عدم التساوي واشتمال إحداهما على مزيّة لاتّحاد الطريق وهو شمول أدلّة الحجّية لذي المزيّة

٦١٦

والخالي عنها مع كون الحجّية على وجه الطريقيّة.

نعم لو وجد مورد في البيّنات بنينا في صورة التكافؤ على التخيير فلا مناص من البناء على الترجيح في صورة عدم التكافؤ أيضا ، نظرا إلى أنّ التخيير في الصورة الاولى إنّما يثبت بحكم العقل ، وقد ذكرنا مرارا أنّه مع وجود مزيّة يحتمل كونها مرجّحة في نظر الشارع لا يحكم بالتخيير فوجب الأخذ بذيها ، لأنّه القدر المتيقّن ممّا يحصل به البراءة عن الاشتغال اليقيني ، ولكن هذا الفرض ممّا لا تحقّق له في الخارج ، وحينئذ فلا مناص من الوقف بقول مطلق.

وتوهّم كون المزيّة الموجودة مع إحداهما موجبة لكون ذيها أقرب إلى الواقع ، فهذه الأقربيّة توجب التقديم والترجيح.

يندفع : بأنّ الأقربيّة ملغاة هنا ، لأنّها إنّما تعتبر إذا كانت مناطا لجعل الأقرب حجّة بحيث أوجبت خروج غير الأقرب عن الحجّية وهي ليست بهذه المثابة ، لأنّ الحجّية المنوطة بها إن كانت الحجّية الذاتيّة فيبطل كونها مناطا بغرض شمول أدلّة الحجّيّة لغير الأقرب أيضا ، وإن كانت الحجّيّة الفعليّة فكونها مناطا مبنيّ على ثبوت إنّ الشارع جعل للمكلّف المتحيّر في البيّنتين المتعارضتين حكما وهو موضع منع ، لأنّ جعل الحكم المذكور خلاف الأصل فلا يلتزم به إلاّ بدليل ولا دليل.

هذا كلّه على تقدير كون حجّية البيّنات من باب الطريقيّة.

وأمّا على تقدير كونها من باب السببيّة على معنى كونها بقيامها في الواقعة موجبة لحدوث حكم على طبق مؤدّاها في عرض الحكم الواقعي فالأصل هو التخيير ، لكون الراجح والمرجوح في مشموليّتهما لما دلّ على كون البيّنة سببا للحكم على طبق مؤدّاها على حدّ سواء ، وسببيّة كلّ من المتعارضين مانعة عن العمل بالآخر ، والتمانع الحاصل بينهما يوجب تعذّر إدراك المصلحتين ، وهو لا يجوّز تفويت المصلحتين معا بعد إمكان إدراك إحداهما ، فالعقل يلزمنا بالعمل بكلّ واحد على البدل إدراكا للمصلحة الممكنة ، وعدم تأثير الأقربيّة إلى الواقع هنا في التقديم والترجيح أوضح من عدم تأثيرها على تقدير الطريقيّة ، لأنّه إنّما يصحّ على تقدير إناطة الحجّية بها ، والتقدير باطل بالنسبة إلى كلّ من الحجّية الذاتيّة والحجّية الفعليّة لعين ما عرفت.

إلاّ أنّه يمكن القول بتعيّن الأخذ بالراجح بتقريب ما مرّ من أنّ العقل فيما يشتمل على

٦١٧

ما احتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع لا يحكم بالتخيير فتأتي قاعدة الاشتغال.

نعم إنّما يتّجه التخيير في صورة التكافؤ ، لكن ظاهر كلام الأصحاب يعطي إجماعهم على أنّه لا تخيير في البيّنات هذا يكشف عن عدم بناء حجّيتها على السببيّة ، أو أنّه حكم خاصّ بالموضوعات.

هذا كلّه بحسب الأصل ، وأمّا بحسب الدليل فيختلف الحكم على حسب اختلاف الموارد ، وتحقيقه موكول إلى محلّه وليس من وظيفة الفنّ.

تذنيب

لا يذهب عليك أنّ وجوب الترجيح والأخذ بالمرجّح ، حسبما قرّرناه مشروط بوجود المزيّة لا بالعلم بوجودها عملا بظواهر النصوص مع انضمام أصالة عدم التقييد ، فالترجيح بالقياس إلى وجود المرجّحات واجب مشروط وبالقياس إلى العلم بها واجب مطلق ، كسائر الواجبات المشروطة بوجود شيء الّتي هي مطلقة بالقياس إلى العلم بذلك الشيء ، وكذلك الوجوب التخييري في عنوان « التعادل » المعلّق على فقد المرجّحات ، فإنّه بالنسبة إلى العلم بالفقد مطلق بعد ما كان بالقياس إلى نفس الفقد مشروطا.

وقضيّة ذلك أن يجب الفحص عند البناء على التخيير أو الترجيح لإحراز فقد المرجّحات أو وجود المرجّح ، أو فقد المرجّح الأقوى أو وجوده [ أو ] عن المرجّح أو عن المرجّح الأقوى ، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه.

والدليل عليه أوّلا : أنّه لولاه لاختلّ أمر الاستنباط ولزم الهرج والمرج في الاجتهاد ، ولأدّى إلى تخريب الفقه وهدم أساس الشرع ، إذ ربّما يوجب تركه الأخذ بالمرجوح وترك العمل بالراجح ، أو التسوية بين المرجوح والراجح الّذي تعيّن الأخذ به عند الله دون غيره.

وثانيا : أنّ التكليف قبل الفحص مع احتمال وجود المرجّح أو المرجّح الأقوى مردّد بين الوجوب التخييري ووجوب التعيين ، ولا ريب أنّ هذا التكليف المردّد المعلوم بالإجمال يقتضي الامتثال ، وهو موقوف على معرفة موضوعه المردّد بين كلّ واحد على البدل أو أحدهما بعينه ، وهي موقوفة على الفحص فوجب الفحص مقدّمة للامتثال الواجب.

وثالثا : نفس ما دلّ على وجوب الفحص عند العمل بالدليل ، بتقريب : أنّ الفحص الواجب عند العمل عبارة عن الفحص عن المعارض الأقوى ، وينحلّ ذلك إلى الفحص عن

٦١٨

أصل المعارض والفحص عن اشتماله على مزيّة والفحص عن الأقوى عند احتمال وجوده في جانب المتعارض الآخر.

ورابعا : ما دلّ على وجوب الفحص عند العمل بالأصل ، نظرا إلى أنّ البناء على التخيير في موضع احتمال وجود المرجّح ، وعلى الترجيح بالمرجّح الموجود مع أحد المتعارضين في موضع احتمال وجود المرجّح ، وعلى الترجيح بالمرجّح الموجود مع أحد المتعارضين في موضع احتمال وجود ما هو أقوى منه في جانب المعارض الآخر لا يتمّ إلاّ بعد نفي الاحتمال المذكور ، ولا نافي له إلاّ أصل العدم ، ومن المحقّق اشتراط العمل به بالفحص.

وخامسا : الأمر بالنظر الوارد في جملة من الأخبار الآمرة بالتخيير أو الترجيح ولا سيّما مقبولة عمر بن حنظلة ، باعتبار تكرّر ذلك الأمر في مواضع منها ، إذ لا معنى للنظر المأمور به إلاّ طلب المزيّة ، ولا نعني من الفحص إلاّ هذا ، والأمر يفيد الوجوب ولا صارف له إلى غيره.

وبعد ما ثبت وجوب أصل الترجيح ووجوب الفحص عن المرجّح ، ينبغي التعرّض لبيان المرجّحات المنصوصة ببيان الأخبار المتكّفلة لبيانها ، ثمّ النظر في وجوب الاقتصار عليها وعدم التعدّي إلى غيرها من المزايا الغير المنصوصة ـ كما عليه الأخباريّون حتّى أنّهم طعنوا على المجتهدين في التعدّي بأنّهم تبعوا في ذلك العامّة حيث اعتمدوا على مرجّحات لم ينصّ بها الشارع ممّا ذكره الحاجبي والعضدي والتفتازاني ـ أو لا يجب الاقتصار عليها بل يجوز التعدّي إلى غيرها كما عليه المجتهدون؟

وعلى تقدير التعدّي فهل يقتصر في المرجّحات الغير المنصوصة على الداخليّة منها الراجعة إلى السند باعتبار الراوي كالأعرفيّة باللغة وغيرها أو إلى المتن كالأفصحيّة وأقلّيّة الركاكة ونحوها ، أو يتعدّى إلى الخارجيّة منها كموافقة الأمارات الغير المعتبرة من الشارع بالخصوص كشهرة الفتوى والاستقراء والأولويّة الظنّية ونحوها إذا كانت إحداها مع أحد المتعارضين ، فهاهنا مطالب :

المطلب الأوّل

في ذكر المرجّحات المنصوصة بإيراد الأخبار المتكّفلة لبيانها ، وعمدة هذه الأخبار وأجمعها للمرجّحات مقبولة عمر بن حنظلة ، رواها المشايخ الثلاث بإسنادهم ، وبعدها مرفوعة زرارة رواها ابن أبي جمهور الإحسائي في عوالي اللئالي عن العلاّمة رفعها إلى زرارة.

وبالجملة فمن الأخبار مقبولة ابن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من

٦١٩

أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟

فقال : من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّه ثابتا ، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله عزّ وجلّ أن يكفر به.

قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله عزّ وجلّ.

قلت : فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر.

قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه.

قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم.

قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم؟ قال : ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة.

قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟

قال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد ، قلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال : ينظر إلى ما هم [ إليه ] أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر.

قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك ،

٦٢٠