تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (١).

ومنها : مرفوعة زرارة بن أعين قال : سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان (٢) المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر.

قال : فقلت : يا سيّدي إنّهما مشهوران مرويّان عنكم ، فقال : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.

فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان ، فقال : انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه ، وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم.

فقلت : ربّما كان معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط.

فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال : إذن فتخيّر أحدهما وتأخذ بما فيه وتدع الآخر (٣).

ومنها : ما عن الصدوق في عيون الأخبار باسناده عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال ـ في حديث طويل ـ : فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فأعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله ، فما كان في السنّة موجودا منهيّا عنه نهي حرام أو مأمورا به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي النبيّ وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الآخر خلافه فذاك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكرهه ولم يحرّمه فذلك الّذي يسع الأخذ بهما جميعا أو بأيّهما شئت وسّعك الله الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوه إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا.

ومنها : ما عن القطب الراوندي في رسالته في الصحيح بسنده عن عبد الرحمن ابن أبي عبد الله قال : قال الصادق عليه‌السلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٨ باب اختلاف الحديث ح ١٠ ، الوسائل ١٨ : ١٧٥ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ١.

(٢) والظاهر أنّ الترديد وقع من الراوي لا من السائل ( منه ).

(٣) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ الحديث ٢٢٩.

٦٢١

الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فذروه ، فإن لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه.

ومنها : ما عنه أيضا بسنده عن الحسين بن السري قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم ».

ومنها : ما عنه بسنده أيضا عن الحسن بن الجهم في حديث ، قلت : لم ـ يعني العبد الصالح عليه‌السلام ـ يروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام شيء ويروى عنه أيضا خلاف ذلك فبأيّهما نأخذ؟

قال : « خذ بما خالف القوم وما وافق للقوم فاجتنبه » (١).

ومنها : ما عنه بسنده أيضا عن محمّد بن عبد الله قال : قلت للرضا عليه‌السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال : « إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يوافق أخبارهم فذروه ».

ومنها : ما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا ، قال : لا يعمل بواحد منهما حتّى تلقي صاحبك فتسأل ، قلت : لابدّ أن يعمل بواحد منهما ، « قال : خذ بما فيه خلاف العامّة ».

ومنها : ما عن الكافي بسنده عن المعلّى بن خنيس قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ قال : خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله ، قال : ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أما والله لا يدخلكم إلاّ فيما يسعكم.

ومنها : ما عن الكافي بسنده إلى الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أريتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قال : كنت آخذ بالأخير ، قال لي : رحمك الله تعالى.

ومنها : ما عن الكافي أيضا بسنده عن أبي عمرو الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو افتيك بفتيا ، ثمّ جئت بعد ذلك تسألني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك وأفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر ، قال : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى الله إلاّ أن يعبد سرّا ، أما والله لئن فعلتم ذلك أنّه لخير لي ولكم ، أبي الله لنا في دينه إلاّ التقيّة.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٨ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

٦٢٢

ومنها : ما عن الكافي بسنده عن محمّد بن مسلم قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتّهمون بالكذب فيجىء منكم خلافه؟ قال : إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن.

ومنها : ما عن الكافي أيضا بسنده عن أبي حيّون مولى الرضا عليه‌السلام أنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا.

ومنها : ما عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، أنّ الكلمة لتصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب.

وينبغي التعرّض لشرح فقرات المقبولة تحقيقا للحال وتبيينا للمرام في محلّ المقال.

فنقول : قوله : « بينهما منازعة في دين أو ميراث » مع انضمام قوله ـ فيما يأتي ـ : « وكلاهما اختلفا في حديثكم » في كون المنازعة إنّما وقعت بينهما لشبهة حكميّة من جهة جهالة حكم من أحكام الدين أو الميراث ، مثل أنّ الدين هل يعتبر من صلب المال أو من الثلث؟

وإنّ أولاد الأولاد هل يقومون في الإرث مقام آبائهم أو أنهم كأولاد الصلب يقتسمون على التفاوت للذكر مثل حظّ الانثيين من دون ملاحظة من يتقرّبون إليه؟

وقضيّة ذلك كون اختلاف الحاكمين في الحكم اختلافا في الفتوى ناشئا عن اختلاف الحديثين.

قوله : « فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّه ثابتا » قيل : ينبغي أن يخصّص ذلك بما لو كان حقّه كلّيّا في الذمّة كعشرة دراهم ، لاستناد تعيينه للأداء إلى الحكم الّذي هو نحو إجبار وهو من وظيفة السلطان العادل لا سلطان الجور ، فلا يتعيّن بذلك التعيين فيكون باقيا في ملك المديون فيكون بالنسبة إلى الداين سحتا ، بخلاف ما لو كان عينا شخصيّة وهو يعلم كونها حقّه فإنّه لا يعقل كونها سحتا.

وعن صاحب الكفاية الاستشكال في العين حيث ذكر : « أنّ الحكم بعدم جواز أخذ شيء بحكمهم وإن كان له حقّا في الدين ظاهر ، وفي العين لا يخلو عن إشكال. وقيل في وجه الإشكال في العين دون الدين أنّ الثاني يحتاج إلى تشخيص لا يتأتّى إلاّ من المالك والمفروض أنّه مجبور بحكمهم لا أنّه راض بخلاف الأوّل ».

٦٢٣

وفيه ـ مع أنّ ذلك ينافي وقوع السؤال عن الدين والميراث الّذي لا يكون في الغالب إلاّ عينا ـ : أنّ ما ذكر اجتهاد في مقابلة النصّ ، وعدم احتياج العين الشخصيّة إلى تعيين وتشخيص من هي في يده وكونها حقّه في نفس الأمر وهو يعلم به لا ينافي حرمة أخذها والتصرّف فيها لعارض ، لأنّه بسبب استناده إلى حكم الطاغوت ممّا لم يمضه الشارع بل نهى عنه وإن كان الآخذ والمتصرّف مالكا ، وعليه فيكون المراد بالسحت ما يكون سحتا بالعرض لا بالذات ، نظير العين المرهونة والمال المحجور عليه ، بل السحتيّة في الدين أيضا لا يستقيم إلاّ بإرادة العرضيّة نظرا إلى أنّ المشخّص له لا يكون إلاّ المالك ، فتأمّل.

قوله : « وقد أمر الله عزّ وجلّ أن يكفر به ... الخ » إشارة إلى قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) الآية نزلت في شأن الزبير بن العوام نازع رجلا من اليهود في حديقة فقال الزبير : ترضى بابن شبهة اليهودي : وقال اليهودي؟ ترضى بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وبالجملة اختار اليهودي محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن يتحاكما عنده ، وأنكره الزبير فاختار عالما يهوديّا للتحاكم عنده ، فأنزل الله تعالى ( أَلَمْ تَرَ ) الآية.

قوله عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما ، وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما » قد جمع في ذلك أربعة من المرجّحات ، وحيث إنّ العدالة بمعنى الحالة النفسانيّة الباعثة على ملازمة التقوى من الكيفيّات القابلة للتفاضل والشدّة والضعف ، فالمراد بالأعدليّة كون راوي أحد الخبرين أقوى ملكة للبعث على ملازمة التقوى ، وأمّا الأصدقيّة فالمراد به إمّا كون أحد الراويين أقوى ملكة للبعث على ملازمة الصدق ، أو كون موارد صدق أحدهما أكثر من موارد صدق الآخر ، أو كون اعتماد الناس على قول أحدهما أزيد من الآخر ، أو كون الظنّ بصدق أحدهما أقوى من الظنّ بصدق الآخر.

ثمّ إنّ الصفات الأربع كلّها ترجع إلى السند لكونها من صفات الراوي ، والأفقهيّة تزيد على غيرها في أنّها تصلح مع ذلك للرجوع إلى المضمون ، وذلك لأنّ الراوي إذا كان فقيها فهو يعرف قواعد الاستنباط ويتفطّن لنكاته ودقائقه ، فلا يغفل ولا يذهل عند استماع الرواية فلا يختلط عليه الأمر في فهم حقيقة المراد ، فيكون ما فهمه من كلام المعصوم أقرب إلى الواقع ممّا فهمه غيره ممّن ليس بفقيه.

ويظهر أثر ذلك فيما لو قال الإمام عليه‌السلام : « إذا بقي إلى انتصاف الليل مقدار صلاة العشاء

٦٢٤

فهو مختصّ به » فالفقيه لالتفاته إلى أنّ مقدار صلاة العشاء أعمّ من أربع ركعات العشاء يفهم من كلام الإمام عليه‌السلام عموم الاختصاص لأربع ركعات الحاضر وركعتي المسافر والخائف ، وإذا أراد نقل الحديث بالمعنى فلا يبدّل مقدار صلاة العشاء بأربع ركعات العشاء ، بخلاف غير الفقيه الّذي ليس عالما بمواقع المعاني فربّما يختلط عليه فيفهم من مقدار صلاة العشاء أربع ركعات العشاء ، حتّى أنّه عند النقل بالمعنى يعبّر عنه بذلك فيتغيّر به الحكم الشرعي لعدم استفادته حكم الاختصاص لركعتي المسافر والخائف.

وبالجملة للفقاهة والأفقهيّة مدخليّة تامّة في قرب المضمون وأقربيّته إلى الواقع.

ثمّ إنّ الأعدليّة وإن كانت تستلزم الأصدقيّة على تقدير رجوعها إلى السند كما أنّ العدالة تستلزم الصدق ، إلاّ أنّه ربّما يمكن الفرق بينهما بأنّ اعتبار العدالة يمكن أن لا يكون لأجل مطابقة الواقع بل لخصوصيّة اخرى موجبة لمصلحة ثانويّة ، بخلاف الصدق الّذي هو عبارة عن مطابقة الخبر للواقع فإنّ اعتباره لا يكون إلاّ لأجل المطابقة ، فاعتبار الأصدقيّة لا تكون إلاّ من جهة أنّ خبر الأصدق أقرب إلى الواقع من خبر غيره ، فيحصل منه كلّيّة مطّردة في سائر المقامات أيضا ، وهو أنّ مناط الترجيح هو الأقربيّة إلى الواقع ، فكلّما كان أحد المتعارضين أقرب إلى الواقع فهو المتعيّن ، فإذا فرضنا مع أحد المتعارضين أمارة خارجيّة غير منصوصة أوجبت كونه أقرب إلى الواقع من شهرة أو أولويّة أو نحوها تعيّن الأخذ به لهذه الضابطة.

ثمّ إنّ « واو » الجمع في عطف هذه الصفات بعضها إلى بعض تفيد بظاهرها كون المجموع بوصف الاجتماع مرجّحا ، وأمّا كون كلّ واحد أو كلّ إثنين أو كلّ ثلاثة منها أيضا مرجّحا فلا يستفاد من ظاهر قوله : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » إلى آخره.

وحينئذ فلا بدّ في إثبات مرجّحية ما عدا الجميع من إجماع على نفي مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في الترجيح بتلك الصفات ، أو رواية اخرى قاضية بذلك ، أو قرينة في نفس المقبولة كاشفة عن عدم كون « الواو » على ظاهره ، بإرادة صلاحية هذه الصفات للترجيح مع الاجتماع ومع الانفراد وحدانيّا وثنائيّا وثلاثيّا ، ولكنّ القرينة على ذلك موجودة في نفس هذه الرواية ، وهي قول السائل : « فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه » مرادا به فرض التساوي بين الراويين في العدالة والفقاهة والصدق والورع بحيث لا يفضل أحدهما على صاحبه ، ومرجعه إلى انتفاء الأفضليّة فيهما بالنسبة

٦٢٥

إلى جميع الصفات الأربع ، وضابطه عدم وقوع أفعل تفضيل بينهما ، أي لا يقال على واحد منهما : أنّه أعدل ولا أفقه ولا أصدق ولا أورع ، فإنّه بعدم تقدّم ذكر المرجّحات الأربع يقضي بأنّ اجتماعها ممّا لا مدخليّة في الترجيح والمرجّحيّة ، بل المجموع وكلّ واحد وكلّ إثنين وكلّ ثلاثة متشاركة في أصل المرجّحيّة.

ووجه الدلالة عليه : أنّ الجواب السابق بظاهره يفيد وجود المرجّحات الأربع بأجمعها في أحد الخبرين ، والسؤال اللاحق فرض لانتفاء الجميع عنهما معا ، وبينهما باعتبار وجود واحدة منها تارة ووجود إثنتين منهما اخرى ووجود ثلاثة منها ثالثة وسائط كثيرة ترتقي إلى أربعة عشر صورة ، وهذه الوسائط إمّا مندرجة في عنوان الجواب السابق المسوق لإعطاء المرجّحيّة ، أو في عنوان السؤال اللاحق المسوق لفرض التساوي ، والثاني باطل لعدم صدق قوله : « لا يفضل أحدهما على صاحبه » بمعنى عدم وقوع أفعل تفضيل بينهما على شيء من تلك الوسائط كما هو واضح ، فتعيّن الأوّل ولا يستقيم ذلك إلاّ على تقدير عدم كون « الواو » على ظاهره المفيد لاعتبار الاجتماع.

وتوهّم جواز الإهمال بالقياس إلى الوسائط المذكورة ـ على معنى عدم تعرّض الرواية جوابا وسؤالا لحال تلك الوسائط ـ فلا يفيد قوله عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » حكما لها ، ولا قوله : « فإنّهما عدلان مرضيّان » ـ إلى آخره ـ سؤالا عن حكمها.

يدفعه : أنّ احتمال الإهمال من الإمام عليه‌السلام والسائل في هذه الوسائط على كثرتها مع كون كلّ منها أو أكثرها أكثر وقوعا في الخارج من صورة اجتماع المرجّحات الأربع في راو واحد ، وصورة انتفاء الجميع عن الراويين معا ، بل مع كثرة وقوع كلّ من الوسائط وندرة وقوع كلّ من اجتماع الجميع وانتفاء الجميع بعيد بل في غاية البعد ، فلا بدّ إمّا من القول بأنّ الإمام عليه‌السلام تعرّض لبيان حكمها في الجواب السابق ، أو من القول بأنّ السائل تعرّض للسؤال عن حكمها في السؤال اللاحق ، فلا محالة هو إمّا استفاد حكمها من حيث وجوب الترجيح وعدم الفرق فيه بين وجود الجميع ووجود البعض وحدانيّا وثنائيّا وثلاثيّا من قول الإمام عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » إلى آخره ، أو تعرّض للسؤال عن حكمها وحكم انتفاء الجميع بقوله : « أنّهما عدلان مرضيّان لا يفضل على صاحبه » ، والثاني باطل لما عرفت من عدم صدق عنوان هذا السؤال على شيء من الوسائط ، والأوّل هو المطلوب.

وبالجملة فظاهر أنّ السائل فهم من كلام الإمام عليه‌السلام كون الصفات المذكورة مع الاجتماع

٦٢٦

ومع الانفراد مرجّحة ، وبذلك يصرف « الواو » عمّا هو ظاهر فيه من مدخليّة اجتماع الأربع في المرجّحيّة.

لا يقال : إنّ ما ذكرته على تقدير استفادته من السؤال لا يجدي نفعا في إثبات عموم المرجّحية لما عدا صورة اجتماع الأربع ، لأنّه فهم من السائل وهو ليس بمعصوم حتّى يكون فهمه مناطا للحكم.

لأنّا نقول أوّلا : أنّ الرواية من الخطابات الشفاهيّة ، والراوي مخاطب وفهم المخاطب في الخطابات الشفاهيّة إذا كان من أهل اللسان حجّة.

وثانيا : أنّ المعصوم قرّره على فهمه وهو حجّة اخرى.

وبما بيّنّاه يندفع ما أورده بعض المجتهدين على الأخباريّة ـ في قولهم بمرجّحية كلّ واحد من الصفات الأربع بانفراده ، مع مصيرهم إلى الاقتصار على المرجّحات المنصوصة وعدم التعدّي والتسرّي إلى غيرها ـ من النقض بأنّ : ما بنيتم عليه ينقضه عملكم ، لأنّ ما يدلّ عليه النصّ في هذه الصفات إنّما هو مرجّحية المجموع من حيث هو لمكان « واو » الجمع ، وقد تعدّيتم عن المنصوص إلى غيره وهو جعل كلّ واحد مرجّحا ولو مع الانفراد.

إذ يمكن لهم التفصّي عن ذلك بأنّ قضيّة « واو » الجمع وإن كان كذلك إلاّ أنّا فهمنا من القرينة الموجودة في النصّ خلافه ، فخرجنا من مقتضى الظاهر من جهة هذه القرينة.

ثمّ على ما بيّنّاه واستظهرناه أمكن دعوى جواز التسرّي إلى غير هذه الصفات ممّا ليس بمنصوص من صفات الراوي ، لأنّ ما فرضه السائل سؤال عن التساوي وعدم التفاضل في جميع الجهات الراجعة إلى الراوي كما هو المنساق من قوله : « لا يفضل أحدهما على صاحبه » عرفا كما لا يخفى على من تأمّل قليلا ، فيكون مفاده مع انضمام التقرير : « أنّ كلّ فضيلة في أحد الراويين يوجب رجحان روايته وإن لم تكن من الامور المنصوص بها بالخصوص » مضافا إلى ما تقدّم وما سيأتي في كلام الإمام عليه‌السلام ممّا كان دلالته على هذا المعنى أظهر وأوضح من ذلك.

ثمّ إنّ الإمام عليه‌السلام بعد السؤال المذكور المفروض لصورة اليأس عن الترجيح بالصفات الراجعة إلى الراوي المعبّر عنها بالمرجّحات السنديّة انتقل عنها إلى مرجّحات المتن ، فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور » والمراد بالمجمع عليه ما اتّفق

٦٢٧

أصحاب الحديث على روايته على وجه القبول ، بعبارة اخرى : اتّفاقهم على روايته وتلقّيه بالقبول ، وبالشاذّ ما اختصّ روايته وقبوله ببعض هؤلاء ، على معنى أنّ ذلك البعض مع روايته لما رواه الآخرون وقبوله إيّاه روى غيره ممّا لم يروه الآخرون وقبله ، فالأوّل هو المجمع عليه والثاني هو الشاذّ.

ومحصّل الفرق بينهما : أنّ المجمع [ عليه ] ما اتّفق أصحاب الحديث ونقلته على نقله من الراوي عن الإمام ، والشاذّ ما نقله بعض هؤلاء من الراوي عن الإمام ، وكون المجمع عليه عبارة عن هذا المعنى لا ينافيه إطلاق « المشهور » عليه في قوله : « يترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور » ، إذ الشهرة لا تلازم وجود الخلاف لغة ولا عرفا عامّا ولا خاصّا ، بأن يكون المشهور ملازما لأن يكون في مقابله خلاف ، فإنّ الشهرة لغة عبارة عن ظهور الشيء ، والمشهور : المعروف ، ومنه : « شهر سيفه » ، أي سلّه ، لأنّه بإخراجه من الغمد أظهره ، وهذا يشمل صورة الاتّفاق وما يوجد معه الخلاف فيكون أعمّ من المجمع عليه مطلقا ، فإطلاقه عليه في الرواية إنّما هو باعتبار أحد فرديه ، فحمله عليه ليس تصرّفا فيه حتّى يستبعد لعدم تحقّق نقل فيه لغة ولا عرفا عامّا ولا خاصّا ، وإطلاق الشهرة في لسان الاصوليّين على ما في مقابله خلاف حيثما يطلق عليه ـ قبالا للإجماع بناء على إطلاقه على ما لا يقابله الخلاف ـ غير مناف لذلك أيضا ، بل هو أيضا باعتبار المعنى العامّ لعدم ابتنائه على النقل ، ولو تصرّف فهو تصرّف محدث مبتن على الاصطلاح ، وظاهر أنّ الخطابات الشرعيّة لا تنزّل على الامور المحدثة الاصطلاحيّة ، بل العبرة فيها إنّما هي بالمعاني اللغويّة أو العرفيّة.

قوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ... الخ » تعليل لما أمر به من الأخذ بالمجمع عليه ، فيفيد بعمومه جواز التعدّي إلى كلّ مزيّة موجبة لانتفاء الريب في جانبها كائنة ما كانت ، وذلك لأنّ الريب المنفيّ في قضيّة التعليل عن المجمع عليه ليس عبارة عن سنخ الريب وطبيعته حتّى يكون معناه : أنّه لا ريب فيه أصلا لا سندا ولا متنا ولا دلالة ولا مضمونا ، ويشهد ذلك امور :

منها : تأخّر ذكره عن الأعدليّة وغيرها من صفات الراوي ومرجّحات السند ، فإنّه قاض بأنّ رتبته متأخّرة عن مرتبة أعدليّة الراوي وغيرها من الثلاث المتقدّمة ، وذلك لا يجامع انتفاء طبيعة الريب عنه المستلزم لانتفائه بجميع أفراده وإلاّ لوجب ذكره قبل ذكرها.

ومنها : ما يفرضه الراوي فيما بعد ذلك من كونهما معا مشهورين رواهما الثقات عنكم ،

٦٢٨

لوضوح امتناع انتفاء طبيعة الريب عن كلّ من المتعارضين وإلاّ لزم التناقض.

ومنها : المرجّحات الّتي ذكرها الإمام عليه‌السلام فيما بعد ذلك ، فإنّ كلّ مرجوح في مقابلة راجحه فيه ريب.

فلا بدّ وأن يكون الريب المنفيّ هنا إضافيّا ، على معنى أنّ الريب المنفيّ فيه هو شخص الريب الّذي هو موجود في الشاذّ ، ومعناه : أنّه بالإضافة إلى الشاذّ لا ريب فيه وإن كان فيه ريب آخر مشترك بينه وبين الشاذّ ، ومرجعه إلى اختصاص الشاذّ لشذوذه بريب لا يجري في المجمع عليه.

وبعبارة اخرى : أنّ المجمع عليه لكونه مجمعا عليه لا يحتمل فيه ما احتمل في الشاذّ لكونه شاذّا ، وإن كانا متشاركين في الاحتمالات الاخر الجارية فيهما من حيث إنّهما خبر العدل الفقيه الصادق الورع ، فيستفاد من التعليل المذكور ـ بعد توجيه الريب المنفيّ بما عرفت ـ كبرى كلّية وهو : أنّه كلّما دار الأمر بين شيئين لا يجري في أحدهما ما يجري في صاحبه من الريب والاحتمال وجب فيهما الأخذ بما لا يجري فيه الريب والاحتمال ، وحينئذ يتعدّى إلى المرجّحات الغير المنصوصة أيضا ممّا أمكن اندراجه تحت الكلّية المذكورة ، بل يتعدّى إلى ما لو كان فيهما معا ريب ولكن كان الريب الموجود في أحدهما أقلّ أو أضعف منه في الآخر فيتعيّن الأخذ به ، لأنّه لا يجري فيه ما يجري في صاحبه من الريب ، بل يمكن إجراء هذا العموم في الظنّ بل مطلق الأدلّة الظنّية ، نظرا إلى أنّ الموهوم يجري فيه من الريب والاحتمال ما لا يجري في المظنون ـ ولو باعتبار ضعف الاحتمال فيه ـ فيجب اتّباعه ، وبذلك يثبت أصل حجّية الظنّ بل الأدلّة الظنّية أيضا.

وممّا يشهد بالعموم والكلّية المذكورين استشهاد الإمام عليه‌السلام لما أعطاه من وجوب الأخذ بالمجمع عليه لأنّه لا ريب فيه ، ووجوب طرح الشاذّ الّذي فيه الريب بقوله عليه‌السلام : « إنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، أمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ إلى الله ».

وظاهر أنّ المجمع عليه مندرج في الأمر البيّن رشده ، فينتظم بذلك قياس آخر صورته : « أنّ المجمع عليه أمر بيّن رشده ، وكلّ أمر بيّن رشده يجب اتّباعه ».

ولا ريب أنّ كون المجمع عليه من الأمر البيّن رشده لا جهة له إلاّ ما تقدّم من أنّه لا يجري فيه من الريب ما يجري في الشاذّ ، وقضيّة ذلك أن يكون مناط بيّنيّة الأمر أن لا يجري فيه ما يجري في غيره من الريب والاحتمال ، وقرينة المقابلة بينه وبين الأمر البيّن

٦٢٩

غيّة قاضية بأن يكون مناط بيّنيّة غيّة جريان ما لا يجري في المجمع عليه من الريب والاحتمال فيه.

وقد ظهر من طريق البيان المذكور كون الخبر الشاذّ مندرجا في البيّن غيّة وفاقا لبعض الأعلام ، وخلافا للأخباريّين فزعموا دخوله في الأمر المشكل الّذي هو من قسم الشبهات المذكورة في كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا تمسّكوا لقولهم بوجوب الاحتياط والتوقّف بذلك الحديث المعبّر عنه بحديث التثليث.

ويظهر الإذعان به من بعض مشايخنا أيضا ، والأقوى هو الأوّل لامور :

منها : ما عرفت من قضاء القرينة المقابلة بذلك بعد توجيه تبيّن الغيّ بوجود ريب فيه غير موجود في مقابله.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « ويترك الشاذّ » إلى آخره ، وقوله الآخر : « فيجتنب » ، المفيد بظاهره لوجوب طرح الخبر الشاذّ ، كما هو حكم الترجيح أيضا في جميع مراتبه ، وهذا لا يلائم قوله عليه‌السلام : « يردّ إلى الله » في حكم الأمر المشكل المفيد لوجوب الوقف المغاير للطرح ، فتأمّل.

ومنها : أنّه لو لا دخوله في القسم الثاني لزم من دخوله في القسم الثالث كون الترجيح والأخذ بالمرجّحات مستحبّا ، لأنّه حكم الشبهات الّتي يندرج فيها الأمر المشكل على ما حقّقناه في محلّه من العمل بأصل البراءة في الشبهات وجوبيّة وتحريميّة وعدم وجوب الاحتياط فيها ، بل هو مستحبّ حملا للأمر بالاجتناب عليه ، واللازم باطل كما تقدّم تحقيقه في ردّ السيّد الصدر القائل باستحباب الترجيح.

ومن الأعلام من استدلّ في إلزام الأخباريّين على بطلان زعمهم بمثل ذلك ، إلاّ أنّه قرّر الملازمة على نهج آخر وهو ـ على ما استفدناه من عبارته مع ما فيها من الغلق والإجمال ـ : أنّ كون الخبر الشاذّ من الأمر المشكل المندرج في الشبهات يقضي بكون المجمع عليه أيضا كالخبر الشاذّ من المشتبه ، لأنّ الاشتباه أمر نسبي يقتضي في نحو المقام طرفين ، فإذا كان أحد طرفيه الخبر الشاذّ كان طرفه الآخر الخبر المجمع عليه.

ولا ريب أنّ مرجع الاشتباه في المجمع عليه ـ على تقدير تسليمه ـ إلى الشبهة الوجوبيّة ، لدوران الأمر فيهما بين وجوب العمل بالمجمع عليه بعينه وجواز العمل به وبالخبر الشاذّ ، وبناؤهم في الشبهات الوجوبيّة على البراءة واستحباب الاحتياط ، ويلزم منه استحباب الترجيح بالشهرة بل وبغيرها من المرجّحات ، لكون المقبولة المتكفّلة لبيان المرجّحات في

٦٣٠

سياق واحد وهم لا يقولون به.

أقول : يمكن لهم الذبّ عن ذلك بمنع الملازمة المذكورة ، لأنّ الشبهة الوجوبيّة الّتي نحن نقول فيها بالبراءة ما لو كان من باب الشكّ في التكليف الابتدائي ، والشبهة في مسألة دوران الوجوب ـ بعد ثبوته يقينا ـ بين التعيين والتخيير راجعة إلى الشكّ في المكلّف به ، إذ لا يدرى أنّ الواجب هو العمل بأحد الأمرين على التعيين أو العمل بكلّ واحد على البدل؟

على أنّ التعيين والتخيير من منوّعات الواجب لا الوجوب ، ولذا يقال : « الواجب التعييني » و « الواجب التخييري » ولو فرض لحوقهما في بعض الأحيان الوجوب فهو من باب وصف الشيء بحال متعلّقه ، ونحن في الشبهات الوجوبيّة الراجعة إلى المكلّف به قائلون بوجوب الاحتياط عاملون بقاعدة الاشتغال لا أصالة البراءة.

فالحاصل : أنّ الأخباريّين يمكن لهم التفصّي عن الإلزام المذكور بالملازمة (١) المذكورة فالوجه في الملازمة هو ما ذكرناه ، غير أنّها دليل إقناعيّ لا يفي بإلزامهم ، إلاّ أنّ الأمر في ذلك سهل ، حيث لم نقف لهم على وجه يعتمد عليه ، ولعلّهم حملوا تبيّن الغيّ على صورة العلم.

ويزيّفه : أنّه ليس على حقيقته كما أنّ البيّن رشده أيضا كذلك.

أو أنّ إطلاقهما على المجمع عليه والخبر الشاذّ مبنيّ على ضرب من الاستعارة والتشبيه باعتبار المشابهة في الحكم من حيث وجوب الاتّباع ووجوب الاجتناب وإلاّ يلغو الاستشهاد ، لعدم العلم برشد الأوّل أعني صوابه ، ولا بغيّ الثاني وهو خلاف الصواب.

وربّما يستشكل في الرواية بأنّ قضيّة الترتيب الذكري بين الشهرة وبين ما تقدّم من صفات الراوي اعتبار الترتيب بينهما في الحكم ، فيقدّم رواية الأعدل أو الأفقه أو الأورع أو الأصدق ولو كان شاذّا على المجمع عليه ، لتقدّم مرتبة الأعدليّة وأخواتها في الترجيح على الشهرة ، فلو كان خبران أحدهما مجمع عليه والآخر شاذّ ولكن روايه عن الإمام أعدل أو أفقه مثلا من راوي الأوّل المجمع عليه عنه (٢) وجب الأخذ به دون المجمع عليه ، عملا بظاهر الرواية المفيدة لاعتبار الترتيب ، وهذا يشبه بكونه خلاف الإجماع من جهة جريان سيرة العلماء بالعمل بالخبر المشهور دون غيره وإن كان راويه أعدل من راوي المشهور.

__________________

(١) والأوفق بسياق العبارة أن يقال : « إنّ الأخباريّين يمكن لهم التفصّي عن الإلزام المذكور بمنع الملازمة المذكورة ، فالوجه في منع الملازمة هو ما ذكرناه ... » والله العالم.

(٢) عطف على قوله : « ولعلّهم حملوا تبيّن الغيّ على صورة العلم » ، فافهم وتأمّل.

٦٣١

وأمّا ما قد يسبق إلى الوهم من أنّ هذا الفرض ممّا لا يكاد يتحقّق ، بناء على ما تقدّم من تفسير المجمع عليه باتّفاق أصحاب الحديث على نقله وروايته وتفسير الخبر الشاذّ باختصاص نقله وروايته ببعض هؤلاء ، فإنّ راوي الشاذّ على هذا التقدير قد روى المجمع عليه أيضا لأنّه من جملة نقلته ، فلا يصحّ وقوع أفعل التفضيل عليه باعتبار روايته للخبر الشاذّ لا باعتبار روايته للخبر المجمع عليه.

فيدفعه : ما نبّهنا عليه عند تفسير النوعين من أنّ المجمع عليه ما اتّفق جميع الأصحاب على نقله من الراوي من الإمام والخبر الشاذّ ما اختصّ نقله من الراوي بواحد ، فالراوي في كلّ منهما من الإمام واحد لا أنّه في أحدهما جميع الأصحاب ، ولذا قال السائل عند فرض التساوي بينهما من جهة الصفات الأربع : « فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا » مع أنّه لو لا ذلك لكان الخبر المجمع عليه في كثير من أفراده من المتواتر بل ممّا فوق التواتر في كثرة المخبرين وفي جملة اخرى من المستفيض وما يقرب من التواتر.

وعلى التقديرين بل التقادير يخرج عن التعارض ولو لمزيّة كثرة الرواة واستفاضته.

وبالجملة فضابط الخبر المجمع عليه ليس هو كثرة الرواة من الإمام ولا الاتّفاق على روايته من الإمام ، بل الراوي فيه من الإمام واحد كما أنّه في الخبر الشاذّ واحد ، فهذان الراويان قد ينظر فيهما من حيث العدالة ، وقد ينظر فيهما من حيث الفقاهة ، وقد ينظر فيهما من حيث الصدق ، وقد ينظر فيهما من حيث الورع ، فإن كان أحدهما أعدل من الآخر أو أفقه أو أصدق أو أورع على سبيل منع الخلوّ يقدّم روايته على رواية صاحبه مطلقا ، وإن كان الأوّل من الشاذّ والثاني من المجمع عليه ، وهذا هو محلّ الإشكال بالنظر إلى مقتضى المقبولة من تأخّر رتبة الترجيح بالشهرة من الترجيح بالأعدليّة وأخواتها الّتي هي من صفات الراوي المعبّر عنها بالمرجّحات السنديّة.

وأمّا ما قد يقال في التفصّي عن الإشكال ـ من عدم كون غرض الإمام عليه‌السلام حصر المرجّحات فيما ذكره ، ولا استيفاء جميعها واستقصائها ، ولا بيان كيفيّة الترجيح بها ، وإنّما ذكر الامور المذكورة في المقبولة من باب المثال ، قصدا إلى بيان أنّ الأعدليّة ممّا يصلح للمرجّحية وكذلك الأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة ، وأنّ الشهرة أيضا تصلح للمرجّحية ، فلم يتعلّق غرضه بأزيد من ذلك كمّا ولا كيفا ، فلا يستفاد منها اعتبار الترتيب حتّى ينافي الإجماع المذكور على تقديم الشهرة على المرجّحات الأربع المتقدّمة عليها في الذكر ـ

٦٣٢

فممّا لا وقع له ، إذ مبنى الإشكال المذكور على ظهور الترتيب الذكري في اعتبار الترتيب ، بل هو ظاهر سياق السؤال والجواب مع انضمام إطلاق الأمر بالأخذ بما رواه الأعدل والأفقه والأصدق والأورع بالقياس إلى كون أحدهما مشهورا والآخر شاذّا ، وإلى كونهما مشهورين ، فما ذكر في التفصّي إبداء احتمال مخالف للظاهر ، فلابدّ في تنزيل الرواية عليه من شاهد ولا يكفي فيه مجرّد الاحتمال.

والتحقيق في رفع الإشكال إمّا منع الإجمال المدّعى على العمل بالخبر المشهور دون غيره وإن كان راويه أعدل من راوي المشهور ، أو تقييد معقده بعدم ظهور أعدليّة راوي غير المشهور لهم ، على معنى إجماعهم على العمل بالخبر المشهور دون غيره وإن كان راويه أعدل في الواقع لا في نظرهم لعدم معرفتهم للأعدل من العادل ولا الأفقه من الفقيه.

وتوضيح ذلك : أنّ العمل بالمرجّحات إن كان من باب الظنّ الخاصّ المقتضي للاقتصار على المنصوص وعدم التعدّي منه إلى غير المنصوص فنمنع إجماع العلماء على العمل بالخبر المشهور مطلقا ولو مع وجود رواية الأعدل أو الأفقه ونحوه ، كيف والأخباريّة منهم القائلة بالظنّ الخاصّ وعدم جواز التعدّي عن المرجّحات المنصوصة لا يقولون بهذه المقالة ، بل اللازم من مذهبهم عدم الأخذ بالخبر المشهور ما دامت رواية الأعدل أو الأفقه موجودة.

ومع ذلك كيف يتحقّق الإجماع على تقديم المشهور مطلقا ، إلاّ أن يراد به إجماع من عدا الأخباريّة من أصحابنا المجتهدين.

وإن كان من باب الظنّ المطلق على معنى أنّ المرجّحات إنّما يؤخذ بها لأنّها تفيد الوثوق والاطمئنان بصدق الخبر لا مطلقا كما عليه الأكثر وأصحابنا المجتهدين ، فلابدّ من تقييد معقد الإجماع المدّعى على تقديم الخبر المشهور على غيره مطلقا ، بأن يقال : إنّ الترجيح بالشهرة ليس إلاّ من جهة أنّ الشهرة تفيد الوثوق والاطمئنان بصدق الخبر ، وهذا كما ترى موجود في خبر الأعدل أو الأفقه أو الأصدق أو الأورع أيضا ، فإنّ الأعدليّة وغيرها ربّما تفيد ظنّ الصدق والوثوق به ، بل نشاهد في فتاوى مجتهد أنّ إخبار عادل وفقيه بفتوى من فتاوى المجتهد عن سماع من المجتهد يفيد من الوثوق والاطمئنان ما لا يفيده شهرة خلافه بين مقلّديه ، فلم لا يجوز أن يكون نظر الإمام عليه‌السلام في تقديم الأعلميّة والأفقهيّة وغيرها إلى هذه الجهة؟

ومن البيّن أنّ الحال إذا كان هذه فيجب تقديم رواية الأعدل أو الأفقه على رواية

٦٣٣

غيره وإن كانت مشهورة بين الأصحاب ، لكون الوثوق والاطمئنان بالصدق في جانب الأعدل والأفقه ، ولكنّه فرع على التميّز ومعرفة الموضوع وإحراز الأعلميّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة ، وهذا أمر صار في غير زمان الأئمّة عليهم‌السلام ولا سيّما أزماننا هذه من المشكلات من جهة بعد العهد وعدم ملاقاة الرواة وعدم الاطّلاع على مراتبهم في العدالة والعلم والفقاهة ونحوها ، فصار معرفة أنّ هذا الراوي في العدالة أو الفقاهة كان بتلك المنزلة وإنّ غيره لم يكن بتلك المنزلة في غاية العسر والصعوبة ، بل ربّما كان متعذّرا ، فلأجل ذلك جرى ديدن العلماء بالعمل بالخبر المشهور وترك الشاذّ الغير المشهور ، فإنّه ليس من جهة بنائهم على أنّ الخبر الشاذّ لا يعمل به وإن كان راويه أعدل والوثوق به أكثر ، بل من جهة أنّه لم يظهر لهم الأعدليّة الموجبة لزيادة الوثوق ، بخلاف عصر الأئمّة عليهم‌السلام فإنّ الأصحاب ثمّة كانوا يعرفون العادل من الفاسق والأعدل من العادل والأفقه من الفقيه ، ولذا كان الإمام عليه‌السلام يأمرهم بالأخذ بخبر الأعدل والأفقه ونحوه ثمّ بالأخذ بالمشهور مع التساوي في العدالة والفقاهة وغيرها.

ثمّ قال : « قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم » وهذا شاهد قويّ بل دليل قطعي على أنّ المراد بالشهرة في الخبر المشهور المجمع عليه هو الشهرة في الرواية ، على معنى اتّفاق أصحاب الحديث على نقله من الراوي لا الشهرة في الرواية والعمل معا ، ولا الشهرة في العمل فقط ، ولا الشهرة في الفتوى وهي اتّفاقهم على الفتوى بما وافق مدلول الخبر من دون أن يستندوا فيها إليه ولا روايتهم إيّاه.

أمّا الأخير فواضح ، وأمّا الثاني والثالث فلأنّ الاتّفاق على العمل بالمتنافيين غير معقول ، بخلاف اتّفاقهم على نقل المتعارضين وذكرهما في كتب الحديث أو الفقه ، فإنّه ممّا لا استحالة فيه بل ولا بعد فيه بل هو واقع كثيرا.

قوله عليه‌السلام : « ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة » وفي هذا أيضا شهادة بعدم كون نظر الإمام عليه‌السلام في الترجيح مقصورا على ما يذكر من المرجّحات ، وأنّ ما ذكره إنّما هو من باب المثال لا من جهة الحصر ، وإلاّ فقضيّة ظاهر « واو » الجمع مدخليّة الانضمام بين الثلاثة في المرجّحية والترجيح بها ، وهو خلاف الإجماع على كون كلّ من موافقة الكتاب وموافقة السنّة بانفراده مرجّحا من دون حاجة إلى انضمام الآخر إليه ، نظرا إلى أنّ المراد بالسنّة هي

٦٣٤

السنّة النبويّة القطعيّة قولا أو فعلا أو تقريرا ، مع أنّ كون كلّ منهما دليلا مستقلاّ وحجّة برأسها ممّا يقتضي كون موافقة كلّ بانفراده مرجّحا بل بطريق أولى ، فلاجهة لجعل المجموع مرجّحا إلاّ إرادة المثال.

ثمّ الموافقة للكتاب والسنّة قد تكون حقيقيّة ، وقد تكون حكميّة ، والحقيقيّة قد تكون كلّية ويعبّر عنها بالتبائن الكلّي ، وقد تكون جزئيّة ويعبّر عنها بالتبائن الجزئي.

أمّا الاولى : فهي أن يكون الخبر الموافق متّحد الحكم مع الكتاب والسنّة مع كونه متّحد الموضوع معهما ، بأن يكون موضوعه عين موضوعهما.

وأمّا الثانية : فهي أن يكون متّحد الحكم معهما مع كونه متّحد الموضوع معهما باعتبار اندراج موضوعه في موضوعهما.

وأمّا الثالثة : فهي أن لا يتّحد الخبر الموافق معهما موضوعا ولا حكما ، بل كان بينه وبينهما مناسبة مّا من حيث عدم الحرج على الترك أو الفعل.

ويعلم جريان هذه الأقسام في المخالفة للكتاب والسنّة بالمقايسة ، فقد تكون حقيقيّة كلّيّة ، وقد تكون حقيقيّة جزئيّة ، وقد تكون حكميّة.

أمّا القسم : الأوّل فلم نجد له مثالا ، إذ لم يوجد في الأخبار ما خالف الكتاب والسنّة بالتباين الكلّي وكان مع ذلك مشهورا مجمعا عليه.

وأمّا القسم الثاني : فهو ما اختلف حكمه مع حكم الكتاب والسنّة مع اتّحاد موضوعه لموضوعهما باعتبار اندراجه فيه ، ومثاله : الخبر الدالّ على نجاسة الحديد مثلا مع الخبر الدالّ على طهارته قبالا لقوله تعالى : و ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) ، فإنّ مخالفة الأوّل وموافقة الثاني له حقيقيّة مع كونها جزئيّة باعتبار كون الحديد مندرجا فيما خلق في الأرض.

ومثال الثالث : الخبر الدالّ على وجوب غسل الجمعة أو على حرمة شرب التتن مع الخبر الدالّ على الاستحباب أو على الإباحة قبالا لما دلّ من عموم الكتاب كقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) أو السنّة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن امّتي تسعة ـ منها : ما لا يعلمون » على أنّ كلّما لم يعلم حكمه بالخصوص يبنى فيه على البراءة وعدم التكليف ، فإنّ موضوعه ما لم يعلم حكمه بالخصوص وحكمه الإباحة من حيث إنّها حكم ظاهري مجعول للمكلّف الجاهل ، وموضوع الخبرين الواقعة من حيث هي ، والحكم المستفاد من كلّ منهما حكم واقعي مجعول للمكلّف العالم.

٦٣٥

ولا ريب أنّ إطلاق الموافقة والمخالفة على مثل ذلك مسامحة في التعبير وإطلاق مجازي ، إذ مع تعدّد الموضوع بكونه ما لم يعلم حكمه بالخصوص في الكتاب والسنّة والواقعة الخاصّة من حيث هي في الخبرين وتغاير الحكم من حيث الظاهريّة والواقعيّة لا موافقة ولا مخالفة حقيقيّة ، فهذا القسم لا يندرج في إطلاق قوله : « فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة » مع أنّ هذا يرجع إلى موافقة الأصل ومخالفته ويدخل في عنوان المقرّر والناقل ، وللكلام في كون موافقة الأصل مرجّحة وعدمها وفي تقديم المقرّر أو الناقل محلّ آخر يأتي.

وينبغي القطع أيضا بخروج القسم الأوّل عن عنوان الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ، وعن إطلاق قوله : « فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة » إلى آخره ، وإن كانت المخالفة في الخبر المخالف حقيقيّة ، لأنّه ـ مع عدم وجود مثال له ـ بمخالفته الكلّيّة خرج عن الحجّية وسقط عن الاعتبار ، إذ على تقدير بناء العمل عليه لا جهة لصحّته إلاّ النسخ وهو على ما حقّق في محلّه غير سائغ ، لكونه من نسخ الكتاب والسنّة القطعيّة بخبر الواحد ، مع أنّه من الأخبار الإماميّة ـ كما هو مورد المقبولة ـ وهو جهة اخرى لمنع كونه ناسخا لحكم الكتاب والسنّة النبويّة.

وبهذا كلّه يخرج المقام عن عنوان تعارض الدليلين ، فانحصر مورد الترجيح بالموافقة والمخالفة للكتاب والسنّة في القسم الثاني ، وهو الظاهر أيضا من إطلاق قوله : « فما وافق وما خالف ».

ثمّ إنّ الخبرين المشهورين قد يتساويان ويتشاركان في الموافقة أو المخالفة للكتاب والسنّة ، بأن يكونا معا موافقين لهما أو مخالفين لهما ومع ذلك كان أحدهما مخالفا للعامّة والآخر موافقا لهم ، فتعرّض الراوي للسؤال عن حكمه إلاّ أنّه خصّ صورة موافقتهما الكتاب والسنّة بالذكر ، حيث قال : « قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ » ومثاله : ما لو ورد خبران في بيع المكره أو البيع الفضولي أحدهما دالّ على الصحّة وهو موافق لقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) و ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) والآخر على البطلان وهو موافق لقوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) وكان بناء العامّة على الصحّة أو البطلان.

٦٣٦

قوله : « ما خالف العامّة ففيه الرشاد » أمر بالأخذ بما خالف العامّة تعليلا بأنّ فيه الرشاد ، وفيه أيضا شاهد بأنّ المناط في مقام الترجيح الأخذ بما هو أصوب وأقرب إلى الواقع ، لأنّ الرشاد هو الصواب فدلّ على أنّ الواجب هو الأخذ بكلّ ما أوجب في الخبر كونه رشادا وصوابا.

وعن المحدّث الكاشاني أنّه أورد في المقام في تقديمهم ما خالف العامّة بأنّ ذلك أخذ بمرجّح وطرح لمرجّح آخر وهو موافقة الكتاب ، لأنّ أحد الخبرين المخالف للعامّة مخالف للعامّ الكتابي فالأخذ به وطرح الآخر أخذ بما خالف الكتاب وطرح لما وافقه.

ولكن يدفعه أوّلا : أنّ الخبر المخالف للعامّة كما أنّه مخالف لعامّ كتابي كذلك موافق لعامّ كتابي آخر ، فالأخذ به أخذ بما وافق الكتاب أيضا ، فهو جمع بين مرجّحين ، لا أنّه أخذ بمرجّح وطرح بمرجّح آخر كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ تخصيص العامّ الكتابي بخبر الواحد جائز فلابدّ من تخصيص أحد العامّين ، والمانع من أخذ أحد الخبرين مخصّصا له دون آخر في محلّ التعارض إنّما هو الاشتغال بالتعارض ، وإذا ارتفع هذا المانع بتقديم ما خالف العامّة بقي [ الآخر ] سليما عن المعارض فيخصّص به العامّ المخالف له ، وهو الّذي دلّ بعمومه على الصحّة في بيع المكره مثلا أو الفساد في الفضولي في المثال المفروض ، فلا مخالفة فيه بعد إعمال التخصيص للكتاب ، فلا يبقى للكتاب مقتضى يوافقه ما يوافق العامّة حتّى يلزم من تقديم مخالفة العامّة طرح موافقة الكتاب.

وبالجملة الأمر دائر بين طرح مرجّح رأسا وهو مخالفة العامّة والأخذ بذلك المرجّح الموجب لانتفاء موضوع مرجّح آخر ، ولا ريب أنّه لا يلزم من ذلك طرح ذلك المرجّح الآخر لكون السالبة بانتفاء الموضوع ، نظير تقديم الخاصّ على العامّ والدليل الاجتهادي على الأصل ، فإنّه لو قدّمنا العامّ أو الأصل لزم طرح الخاصّ والدليل الاجتهادي المفروض وجود مقتضى الحجّية فيهما ، بخلاف ما لو قدّمنا الخاصّ والدليل الاجتهادي فلا يلزم طرح ، إذ بتقديمهما ينتفي المقتضي لحجّية العامّ وموضوع الأصل.

أمّا الأوّل : فلأنّ حجّية العامّ إنّما هو من جهة أصالة الحقيقة المبنيّة على فقد القرينة ، والخاصّ يصلح قرينة ، فيبقى العمل بالعامّ بلا مقتضى له.

وأمّا الثاني : فلأنّ موضوع الأصل إنّما هو الشكّ أو أنّ العمل به منوط بفقد الدليل

٦٣٧

الاجتهادي ، فإذا وجد الدليل ارتفع الشكّ وانتفى الشرط فيبقى بلا موضوع ، فترك العمل به وبالعامّ ليس طرحا لهما ، بل من جهة أنّه لا موضوع لهما ولا محلّ للعمل بهما.

وبالجملة مقتضى مرجّحية مخالفة العامّة وقابليّة العامّ الكتابي للتخصيص وصلاحية الخبر المخالف لأن يكون مخصّصا له نهوض ذلك الخبر لتخصيص العامّ الكتابي ، فيصير من العامّ المخصّص وخرج بذلك عن ظاهره ، فلم يبق للخبر الآخر موافقة له لأنّها أمر إضافيّ نسبي تنتفي بانتفاء أحد منتسبيه وهو هنا ظاهر الكتاب ، فلا يلزم منه طرح مرجّح اصلا ، بخلاف ما لو بنينا على تقديم الخبر الموافق فإنّه يستلزم طرح مرجّح ثابت المرجحيّة وطرح دليل محرز معه مقتضى الحجّية.

وربّما يتوهّم استلزامه الدور أيضا ، بتقريب : أنّ وجوب العمل به موقوف على موافقته الكتاب ، وهي موقوفة على عدم جواز العمل بالخبر المخالف ، وهو موقوف على وجوب العمل به ، فوجوب العمل به موقوف على وجوب العمل به وهو محال ، فتأمّل.

ثمّ قال : « قلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا » أي وافقا الكتاب والعامّة فيما لو كانت المسألة من خلافيّات العامّة كما في البيع الفضولي مثلا بأن تقول فرقة بصحّته واخرى ببطلانه.

وبالجملة هذا سؤال عن موافقة الخبرين للعامّة والكتاب جميعا ، « قال : تنظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم ، فيترك ، ويؤخذ الآخر » وقد جعل المرجّح أقلّيّة ميل الحكّام والقضاة.

ثمّ قال : « قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك » وقد سئل عمّا لو كان الخبران بكليهما ممّا يميل إليه الحكّام ، وقوله عليه‌السلام : « أرجه » إلى آخره ، أمر بالوقف بعد العجز عن الترجيح وفقد المرجّحات ثمّ السؤال عن حقيقة الحال عند الوصول إلى الإمام عليه‌السلام ، ومن الظاهر أنّه فرع التمكّن من الوصول إلى حضرته ، فيدلّ ذلك على كونهم متمكّنين من العلم والسؤال ، ولأجل ذا قد يقال : إنّ هذا الخبر يدلّ على أنّ حجّية المرجّحات المذكورة فيه بل مطلق المرجّحات بناء على جواز التعدّي إلى غير المنصوصة ـ كما نبّهنا على استفادته من الخبر وسنوضحه أيضا ـ إنّما هو من باب الظنّ الخاصّ ، من حيث جواز الأخذ بها في حال إمكان العلم وانفتاح بابه من دون انحصاره بصورة تعذّر العلم وانسداد بابه ، باعتبار كون المجوّز للأخذ بها دليل الانسداد ، نظرا إلى أنّ الأمر بالوقف والسؤال الّذي هو فرع التمكّن من السؤال إنّما وقع عقيب الأمر

٦٣٨

بإعمال المرجّحات ، فيكون الأمر بإعمالها أيضا واردا حال التمكّن ، ولا نعني من الانفتاح إلاّ هذا.

بل قد يقال : إنّ هذا الخبر وغيره من الأخبار العلاجيّة بأسرها تدلّ على حجّية أخبار الآحاد من باب الظنّ الخاصّ ، على معنى عدم كون مناط حجّيتها انسداد باب العلم ، لأنّها تقضي بأنّ الرواة السائلين عن علاج المتعارضين كان بناؤهم على العمل بأخبار الآحاد ، والمفروض انفتاح باب العلم لهم لتمكّنهم من السؤال مع تقرير الأئمّة عليهم‌السلام إيّاهم على هذه الطريقة.

ومن البعيد كون التعارض المسؤول عن حكمه في تلك الروايات واقعا فيما بين الأخبار المتواترة ، وإلاّ ما كان الإمام يأمرهم بالرجوع إلى المرجّحات السنديّة وصفات الراوي من الأعدليّة وغيرهما ممّا يوجب ظنّ الصدور والوثوق به ، بل لا يعقل التعارض بين الأخبار المتواترة بناء على ما تقدّم الإشارة إليه من استحالة تعارض الدليلين القطعيّين ، فلابدّ وأن يكون التعارض المذكور مفروضا في أخبار الآحاد الغير العلميّة.

ومن البيّن أنّ السؤال عن علاج التعارض لم يكن إلاّ لأن يظهر فائدته في مقام العمل ، فلو لا العمل بها جائزا لهم لم يكن للسؤال عن علاج التعارض في متعارضاتها وجه ، ولأجل ذلك قد يعدّ الأخبار العلاجيّة من أدلّة حجّية خبر الواحد بالخصوص لا من جهة انسداد باب العلم.

ولكن التحقيق لا يساعد على استفادة عموم هذا المطلب من هذه الأخبار بالقياس إلى ما هو محلّ النزاع في مسألة حجّية خبر الواحد من الأخبار الموجودة بأيدينا اليوم المودعة في الكتب الأربعة وغيرها الّتي اعتراها من الاختلالات والعوارض والحوادث والسوانح في أسانيدها ومتونها ودلالاتها ما لم يعتر شيء منها أو أكثرها لأخبار الآحاد الموجودة لدى أصحاب الأئمّة المتداولة عندهم ، لجواز كونها نوعا خاصّا في وصف خاصّ وحالة مخصوصة بشرط خاصّ لم يكن شيء من هذه الخصوصيّات موجودة في أخبار اليوم ، ودلالة الروايات على ما ذكر ليست بلفظ عامّ ولا مطلق يتناول بعمومه أو إطلاقه أخبارنا اليوم ، بل بدلالة التزاميّة مع انضمام التقرير إليه ، فلا تكون إلاّ من باب القضيّة المعنويّة على وجه الإهمال الّتي يجب الاقتصار فيها على القدر المعلوم.

وقد يستشكل في أمره عليه‌السلام بالوقف لصورة فقد المرجّحات دون الرجوع إلى الاصول

٦٣٩

والقواعد مثل قاعدة : « القرعة لكلّ أمر مشكل » وقاعدة : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » مع أنّ الواقعة الّتي هي مورد الرواية لا محالة يجري فيها شيء من الاصول أو القواعد ، فالأمر بالوقف دون ما يجري فيها من الأصل أو القاعدة ينافي حجّيتها والتعبّد بها ، فلابدّ إمّا من فرض الواقعة بحيث لا يجري فيها الاصول والقواعد أصلا وهو في غاية الإشكال ، إذ لا يكاد يتّفق من المواريث ولا غيرها من وقائع الخصومة ما لا يجري فيها شيء من الاصول أو القواعد ، أو من القول باختصاص حجّية تلك الاصول والقواعد بحال انسداد باب العلم والواقعة في مورد سؤال الرواية إنّما وقعت في حال الانفتاح ، وهذا أشكل إشكالا من سابقه لأنّ حجّية الاصول والقواعد إنّما تثبت بأدلّة خاصّة لا فرق في إطلاقها بين الانفتاح والانسداد ، ولم يطرأها ما يوجب تخصيصها ولا تقييدها بحالة الانسداد ، لا أنّه ثبت اعتبارها بدليل الانسداد ليختصّ بحالة الانسداد ، فالإشكال المذكور قويّ.

أقول : ويمكن الذبّ عنه بأنّ الواقعة في مورد الرواية ـ على ما نبّهنا عليه سابقا واستظهرناه من صدر الرواية ـ من قبيل الشبهات الحكميّة الّتي لا يجري فيها الاصول الّتي اخذ في موضوعها في الشبهات الحكميّة تعذّر العلم ، ولذا يشترط في العلم بها الفحص ، ولا يجري فيها القواعد المشار إليها المختصّة بالموضوعات ، فانحصر المناص في الوقف الّذي أمر به الإمام عليه‌السلام.

ثمّ إنّ في الأخبار العلاجيّة من جهة معارضته بعضها لبعض مواضع من الإشكال ينبغي الإشارة إليها وإلى ما يدفعها :

الموضع الأوّل : جهات الاختلاف والمعارضة بين المقبولة ومرفوعة زرارة المتقدّمة.

فمنها : المعارضة بينها من حيث تقديم صفات الراوي على الشهرة في المقبولة وتقديم الشهرة على صفات الراوي في المرفوعة.

فإنّ الأوّل يقتضي تقدّم الصفات على الشهرة في المرتبة ، والثاني بالعكس ، مع مخالفة المرفوعة في عدم الاشتمال على الأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة ، إلاّ أن يدفع ذلك بدعوى كون الأوثقيّة المذكورة فيها جهة جامعة بين الجميع ، لوضوح أنّه يحصل بخبر الأفقه أو الأصدق أو الأورع من الوثوق ما لا يحصل بغيره.

ويشكل : بأنّ الأوثقيّة تختلف معناها باعتبار الحيثيّة ، نظرا إلى أنّ الوثاقة يراد منها ما هو بحسب ما يضاف إليه فيختلف معناها بهذا الاعتبار ، فالأوثقيّة إذا اعتبرت بين

٦٤٠