تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

بأنّ الأنبياء لم يورّثوا درهما ولا دينارا ، وإنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّا وافرا ، فانظروا علمكم [ هذا ] عمّن تأخذونه ، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » (١).

وعنه أيضا عن سليم بن قيس الهلالي قال : قلت لأمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ما في أيدي الناس ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة في تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدين ويفسّرون القرآن بآرائهم؟

قال : فأقبل عليّ عليه‌السلام فقال : « قد سألت فافهم الجواب ، إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده حتّى قام خطيبا فقال : أيّها الناس قد كثرت عليّ الكذّابة ، فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار ، ثمّ كذّب عليه من بعده ، وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :

رجل منافق يظهر الإيمان متصنّع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدا ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمع منه وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عزّ وجلّ : ( وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) (٢) ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان ، فولّوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم الله فهذا أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا لم يحمله على وجهه ، ووهم فيه ، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى [ عن شيء ] ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنّه

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٢ ، ح ٢.

(٢) المنافقون : ٤.

٤١

منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم ينس بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع ، لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ والمنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ ، فإنّ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ، قد كان يكون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام له وجهان : كلام عامّ وكلام خاصّ مثل القرآن ، وقال الله عزّ وجلّ في كتابه ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(١) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس كلّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسأله عن الشيء فيفهم ، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتّى أن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول الله حتّى يسمعوا.

وقد كنت أدخل على رسول الله كلّ يوم دخلة وكلّ ليلة دخلة فيخلّيني فيها ، أدور معه حيث دار ، قد علم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي [ يأتيني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر ذلك في بيتى ] وكنت إذا دخلت عليه ببعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه ، فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بنيّ ، وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا سكتّ عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملا عليّ فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها [ وحفظها ] ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه عليّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا ، ولا ترك شيئا علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفا واحدا ، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي [ علما و ] فهما وحكما ونورا ، فقلت يا نبيّ الله : بأبي أنت وامّي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ، ولم يفتني شيء لم أكتبه أفتتخوّف عليّ النسيان والجهل فيما بعد؟ فقال : لا لست أتخوّف عليك النسيان والجهل » (٢).

__________________

(١) الحشر : ٧.

(٢) الكافي ١ : ٦٢ ، ح ١.

٤٢

وعن رئيس الطائفة بسنده عن خدّاش عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك أنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : « ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ الأربع وجوه » (١) إلى غير ذلك من الروايات الّتي أوردها في المقام ، وإنّما أطنبنا بإيراد ما أوردناه جميعا هنا مبالغة في إبداء خطأ المخالف وقلّة تدبّره في فهم الأخبار.

ومن أعجب العجاب أنّ الرجل يعدّ نفسه أخباريّا متديّنا بمضامين الآثار وهو لا يفهم الأخبار ، ولا يبلغ نظره بحقيقة المقصود ممّا أورده من الآثار ، حيث إنّه يورد في إبطال الاجتهاد وإفساد طريقة المجتهدين ما لاربط له بغرض المجتهدين ولا ينافي طريقتهم ، وليس ذلك إلاّ من جهة القصور عن قواعد الاجتهاد وضوابط الاصول.

وكيف كان فاستدلاله بالآيات يدفعه : أنّ المجتهد بعد ما أقام الدليل القطعي على التعبّد بظنّه فكلّ ما يقوله من مظنوناته حقّ ثابت من الله سبحانه.

غاية الأمر أنّه في موضع مصادفة الظنّ للواقع يكون هو الحقّ الواقعي وفي غيره يكون هو الحقّ التنزيلي من جهة وجوب إجراء آثار الواقع عليه ما لم ينكشف خلافه ، وإن لزم حينئذ في حكم العقل تضمّنه مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة ، والظنّ من حيث هو وإن كان لا يغني من الحقّ في حكم العقل والشرع على ما تقدّم ذكره ، لكنّ الشرع قد يأمر بأخذ المظنون حقّا على معنى ترتيب آثار الواقع عليه كما هو مفروض المقام من موجب القطعي المقام عليه ، وعليه فالمجتهد لا تتبّع إلاّ ماله به علم ناش عن هذا القطعي ، وكون من لم يحكم بما أنزل الله كافرا أو فاسقا أو ظالما مسلّم ولكنّه لا مدخل له بمحلّ البحث ، إمّا لأنّ المراد منه كتمان الحقّ ممّن يعلمه. أو الحكم بالباطل مكان الحقّ المعلوم لدى الحاكم ، وليس فيما يحكم به المجتهد الجامع للشرائط ما يكون من هذا القبيل بعد قيام القطعي على مظنوناته بعنوان أنّها أحكام فعليّة ، وهي الامور الّتي تجب التديّن بها فعلا وترتيب آثار الواقع عليها ما لم ينكشف فساد الظنّ فيها.

وأمّا استدلاله بالروايات ممّا استدللنا على أصالة عدم الحجّية النفسيّة ومن غيرها.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٤٥ ، ح ١٢.

٤٣

فيدفعه : أنّ المجتهد ـ على ما عرفت ـ في كلّ من موارد شكّه الّذي يرجع فيه إلى الاصول العامّة القطعيّة ، وظنّه المعلوم بكون متعلّقه هو حكم الله الفعلي في حقّه مقيم على العلم وهو الحجّة الواضحة ، فليس ذلك من متابعة الظنّ في شيء ، وإلاّ لم يحتج إلى تجشّم إقامة القطعي وهو منزّه عن الإفتاء بالرأي ، بل هو يفتي بالشرع على التقدير المذكور ، كما أنّه ليس متديّنا بما لا يعلم ، بل هو متديّن بما يعلم أنّه لا دين له من الشرع سواه ، وهو قائل بما يعلم وكافّ عمّا لا يعلم في جميع أحواله ، وليس من أخذ بهواه أو رأيه ، بل هو آخذ بما له أصل وهو المظنون الّذي أصله القاطع ، وليس ممّن يستقلّ بهواه ويستبدّ برأيه ويعتمد على مقائيسه معرضا عن أهل العصمة ومتولّيا عن حجج الله الواضحة وأعلامه الظاهرة ، ليندرج في مورد الخطب والوصيّة المتقدّمين مع كثير من الروايات ، كيف وهو ينادي بأعلى صوته بمحظوريّة كلّ واحد من هذه الامور في الشريعة ، وكلماته في الكتب الاستدلاليّة من الفقه واصوله مشحونة بدعوى الإجماع والضرورة من المذهب في ذلك ، وكثيرا مّا تراه في المسائل الخلافيّة يزيّف خلاف ما رجّحه بكونه قياسا أو استحسانا ليس من مذهبنا.

وبالجملة العاقل المنصف بملاحظة سوق المذكورات ومتونها يجزم أنّه لم يقصد منها إلاّ ذمّ المعاندين للأئمّة ، المتابعين لأهل البدع والضلالة ، الآخذين في دين الله ورسوله بعقولهم القاصرة وأهوائهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة مع قيام الحجّة ووضوح البيّنة ، وردعهم عن الضلالة والباطل إلى الهداية والحقّ الواضح البيّن الّذي هو موضوع لطاعة الله وطاعة رسوله دون غيره ، وليس في شيء منها ما ينافي طريقة المجتهدين ، بعد قيام الحجّة القاطعة بانحصار طريق طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أوصيائه الأئمّة المعصومين فيها ، من حيث انقطاعهم عن إمام زمانهم وتعذّر الوصول إلى حضرته والمسألة عنه بالنسبة إليهم ، والمفروض أنّ التكليف بما فوق الوسع والطاقة غير معقول ، وورود الحكم في كلّ واقعة وبقائه إلى يوم القيامة مع فرض اشتراط التكليف به ووجوب امتثاله بالعلم المتعذّر حصوله لا ينفي طريقيّة الظنّ إليه ، ولا وجوب الأخذ بالمظنون على أنّه ذلك الحكم من الشارع ، المريد للطاعة والانقياد مطلقا حتّى في تلك الحالة ، وليس في استنادهم إلى القرآن حيثما يستندون إليه ما يكون من باب التفسير بالرأي الّذي هو عبارة عن كشف المشكلات وإيضاح المبهمات والمشابهات بلا مستند معتبر ينتهي إلى من لا يدركها إلاّ هو ، ضرورة أنّ الأخذ بموجب الدلالات الواضحة والمداليل العرفيّة الّتي يساعد عليها القواعد المعمولة في العرف والعادة

٤٤

لا يسمّى تفسيرا في العرف ، وعلى فرض تسليمه فليس مستندا إلى الرأي ، بل هو تفسير بمقتضى القواعد المحكمة والضوابط المتقنة الّتي لو لا التعويل عليها لانسدّ باب المخاطبة والمحاورة بالمرّة ، والمفروض أنّ الله سبحانه ليس له في مكالماته طريقة مخترعة اختارها لنفسه مغايرة لطريقة العرف ليوجب عدم الاعتداد بتلك الطريقة ، كما نطق به قوله عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(١) وما ورد : من « أنّه أجلّ من أن يخاطب قوما ويريد منهم خلاف ما يفهمون ».

والاجتهاد الغير المرضي الوارد في رواية المحاسن ـ بقرينة كون السياق في منع العمل بالقياس والرأي ـ مرادا به القياس ، أو النظر في استخراج علّة الحكم بالاستنباطات المعهودة لدى أصحاب القياس ، وعليه يحمل ما في مرسلة خدّاش بناء على ورودها في مورد تعذّر الاجتهاد بمراجعة الأمارات الشرعيّة المقرّرة لاستعلام القبلة عند الاشتباه ، وإلاّ فالمنع من مطلق الاجتهاد في هذا المقام حتّى الشرعي منه ضروريّ البطلان.

ومن هنا حكي عن جماعة من متأخّري أصحابنا أنّهم قالوا هذه الرواية متروكة الظاهر من حيث تضمّنها لسقوط الاجتهاد بالكلّية.

وممّا يرشد إلى صحّة ما قلناه من الحمل ما عن ذريعة السيّد قائلا : « وفي الفقهاء من فرّق بين القياس والاجتهاد ، وجعل القياس ما له أصل يقاس عليه ، وجعل الاجتهاد ما لم يتعيّن له أصل كالاجتهاد في طلب القبلة وفي قيمة المتلفات بالجنايات ومنهم من عدّ القياس من الاجتهاد وجعل الاجتهاد أعمّ منه » (٢).

ومع الغضّ عن ذلك فالمنع عن الاجتهاد في مورد خاصّ من موارد الاشتباه في الموضوعات لا يقضي بالمنع عنه في سائر الموارد من الموضوعات والأحكام ، ومحلّ النزاع مشروعيّة الاجتهاد في نفس الأحكام ، فالرواية أعمّ منه من وجهين وهي قضيّة في واقعة خاصّة ، فلا عموم فيها ولا إطلاق يشمل المقام ، ومع ذلك الفرق بين هذه الواقعة ومحلّ البحث في غاية الوضوح ، من حيث إمكان إدراك الواقع بالاحتياط فيها من دون محذور من العسر والحرج وغيره ، بخلاف محلّ البحث الّذي لا يمكن الاحتياط في كثير من صوره ، واستلزامه العسر والحرج لو وجب في سائرها كما لا يخفى على المتأمّل المنصف هذا.

__________________

(١) ابراهيم : ٤.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٦٧٢ مع تفاوت يسير في العبارة.

٤٥

والعجب ممّن يدّعي العلم ويبادر إلى تخطئة قاطبة أهل العلم الّذين هم ورثة الأنبياء وحفظة الشريعة الغرّاء وكفلة أيتام أهل العباء ، بحيث لولاهم لانهدم الدين المبين وانعدم آثار شرع خاتم النبيّين كيف يخبط في نظره ويخطئ في فهمه فيحمل الرواية هنا على ما يقطع الجاهل بسقوطه عن المقام وبعده عنه كما بين الأرض والسماء فضلا عن العالم ، فيقول : هي محمولة على ظاهرها ، ومعناها سقوط الاجتهاد في نفس أحكام الله تعالى بالكلّية ، ومع ذلك يدّعي انفتاح باب العلم وأنّه في أخذه بالأخبار المرويّة عن أهل العصمة يعمل به دون الظنّ وغيره من الاصول المقرّرة.

والّذي صنعه في الرواية كما ترى دون الظنّ بل الوهم أيضا فضلا عن كونه علما.

ثمّ إنّ له في منع الاجتهاد وإبطال طريقة أصحابنا المجتهدين رضوان الله عليهم شكوك اخر أوردها في المقام مضافة إلى ما عرفته من الوجهين ، ويعجبني التعرّض لنقلها هنا لما في الاطّلاع عليها وعلى ما يفسدها من زيادة وضوح لبطلان هذه الطريقة وحقّيّة طريقة المجتهدين.

منها : أنّ كلّ من قال بجواز التمسّك بالاستنباطات الظنّية في نفس أحكامه تعالى من محقّقي العامّة وجمع من متأخّري الخاصّة اعترف بانحصار دليله في الإجماع بحيث لولاه لم يكن جائزا ، للأدلّة المانعة من الآيات والرواية.

ومن المعلوم أنّ كون ثبوت إجماع الامّة في هذا الموضع مفيدا للقطع محلّ المنع ، وسنده. أوّلا : ما ورد في كلام الصادقين عليهم‌السلام من أنّ حجّيّة الإجماع من مخترعات العامّة.

وثانيا : أنّه قد تواتر الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بانحصار طريق أخذ هذا العلم في السماع عنهم عليهم‌السلام بواسطة أو بدونها (١).

وثالثا : أنّه قد تواترت الأخبار أيضا بأنّه لا يجوز تحصيل الحكم الشرعي النظري بالكسب والنظر ، لأنّه يؤدّي إلى اختلاف الآراء في الاصول والفروع الفقهيّة كالمناكح والمواريث والديات والقصاص ـ كما هو المشاهد ـ فتنتفي فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب على ما هو المشهور بين علماء الإسلام من أنّ فائدتهما رفع الاختلاف ليتمّ نظام المعاش.

ورابعا : كلّ ما يؤدّي إلى الاختلاف يؤدّي إلى الخطأ لامتناع اجتماع النقيضين ، والحكيم

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤١ الباب ٧ من أبواب صفات القاضي.

٤٦

المطلق ـ عزّ شأنه ـ يأبى حكمته عن أن يبني شريعته على ما يؤدّي إلى الخطأ » انتهى ملخّصا (١).

وفيه ـ بعد منع انحصار دليل جواز البناء على الاجتهاد بل وجوبه في الإجماع كما ستعرفه ـ : أنّ الثابت في المقام بطريق الجزم والإيقان إنّما هو فوق الإجماع وهو الضرورة كما ستعرفه أيضا ، ومع الانحصار في الإجماع فهو أيضا معلوم مفيد للعلم ، وحجّيته على ما يقول به أصحابنا ليست من مخترعات العامّة فإنكارها على هذا التقدير يفضي إلى إنكار حجّية رأي المعصوم ومعتقده.

وانحصار طريق أخذ هذا العلم ـ إن اريد به العلم بأحكام الله تعالى ـ في السماع عنهم ولو بالواسطة في حقّ المتمكّنين من الوصول إليهم لا يقضي بكونه كذلك في حقّ من لا سبيل له إلى هذا الطريق أصلا ، مع أنّ الأخذ من الطرق الاستنباطيّة الّتي منها الظنّ المعلوم كونه طريقا أخذ منهم بالواسطة ، ولا خصوصيّة للسماع في العلم بالأحكام المقرّرة في الشرع.

ولزوم الاختلاف في الآراء منقوض بما أوجبتموه من استنباط الأحكام عن الأخبار ، لكثرة متعارضاتها وقلّة ما يسلم منها عن المعارض ، مع ما فيها من سائر وجوه الاختلالات من جهة السند والمتن والدلالة ، بل أكثر الاختلافات الحاصلة فيما بين الفقهاء إنّما نشأت من هذه الجهة ، بل المبالغة في إعمال النظر لاستفادة المطلب منها وعن غيرها من الآيات أدخل في رفع الاختلاف أو قلّته ، لأدائه إلى حصول التوفيق بين متعارضاتها أو ترجيح بعضها على بعض كما لا يخفى.

مع أنّ الاختلاف قد يكون من مقتضى المصلحة الإلهيّة كما ورد في الأخبار ، مع أنّ فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب إنّما هو إرشادهم إلى مصالح الأشياء ومفاسدها وحملهم على الطاعة والانقياد ، وحصولها لا ينافي الاختلاف الناشئ عن الاستناد إلى طريق مرخّص فيه غير لازم المصادفة للواقع إذا كان ترخيصه مسبوقا بملاحظة مصلحة في نفسه مردّدة بين مصلحة الواقع وما يتدارك به تلك المصلحة على تقدير فواتها بعدم اتّفاق المصادفة ، والشريعة مبنيّة على ما يؤدّي إلى إدراك مصلحة الواقع أو بدله المجعول للعاجز عن إدراك الواقع ، وهو ما يتدارك به ما فات من مصلحة الواقع ، والخطأ إنّما ينافي حكمته تعالى على

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : (١٨١ ـ ١٨٣).

٤٧

تقدير عدم التدارك لا مطلقا.

ومنها : أنّ خلاصة ما استدل به الإماميّة على وجوب عصمة الإمام من « أنّه لولاها لزم كون الله سبحانه آمرا لعباده باتّباع الخطأ وهذا قبيح » جارية في وجوب اتّباع المجتهد ، وهذا هو النقض الّذي أورده الفخر الرازي على الإماميّة (١) ، غير أنّه لا يرد على الأخباريّة منهم لأنّهم لا يجوّزون الاعتماد في أحكامه تعالى على الظنّ (٢).

وفيه : مع النقض بالظنّ في الموضوعات والعمل بالأخبار الّذي لا يكاد يسلم عن الخطأ أيضا كما عرفت ، أنّ الخطأ ـ وهو الوقوع في مخالفة الواقع ـ قد ينشأ عن فقد حالة في النفس مانعة منه وهي العصمة ، وقد ينشأ عن أسباب خارجة حصلت من باب الطوارئ وهي وجوه الاختلال الطارئة للأدلّة ، والمنفي عن الإمام عليه‌السلام ما يكون من قبيل القسم الأوّل ، إذ لو كان جائزا لكان وقوعه في الحقيقة مسندا إلى الله تعالى ، فيكون أمره تعالى للعباد باتّباع الإمام الغير المعصوم إيقاعا لهم في الخطأ ، لأنّ نصبه إماما يجوز في حقّه الخطأ مؤدّاه وجوب متابعته في جميع ما يقول به حتّى مواضع خطائه ، وهو إيقاع لهم في الخطأ في هذه المواضع وأنّه قبيح ، إمّا لأنّه نقض للغرض من حيث إنّ الغرض من نصب الإمام حفظ شرعه وإرشاد عباده إلى الأحكام المأخوذة في هذا الشرع على ما ينبغي وكما هو حقّه ، أو لمنافاته الحكمة من حيث إنّ حكمة الحكيم اقتضت هداية العباد وإرشادهم إلى مصالح امورهم ومفاسدها ، والإيقاع في الخطأ إضلال لهم فيكون قبيحا ، وأيّا ما كان فيجب عليه إعطاؤه الإمام الّذي ينصبه ما يؤدّي إلى حسم مادّة هذا النحو من الخطأ.

بخلاف ما يتّفق في التعبّد بالظنّ أو الطرق الظنّية الّتي من شأنها التأدية إليه ، فإنّه لا يسند إليه تعالى حيثما وقع ، وإنّما يسند إلى أسبابه الخارجيّة ، ولا قبح في ترخيصه في الأخذ بهما بعد ملاحظة قبح التكليف بما فوق الطاقة وقبح الإلجاء الّذي يؤول إليه منعه من طروّ تلك الأسباب لو وجب عليه ، كما يرشد إليه أخذهم عدم البلوغ حدّ الإلجاء في مفهوم اللطف الّذي يوجبونه عليه تعالى ، ولا يلزم منه تفويت مصلحة الواقع إذا اعتبر فيهما وجود ما يتدارك به المصلحة الفائتة كما عرفت.

ومن هنا تعرف ـ كما أشرنا إليه ـ أنّ هذا الخطأ بالإضافة إلى الواقع يعدّ خطأ وأمّا

__________________

(١) انظر التفسير الكبير ٢٠ : (٢٠٨ ـ ٢٠٩).

(٢) الفوائد المدنيّة : ١٨٦.

٤٨

بالإضافة إلى موضوعه وهو العاجز عن إدراك الواقع فهو عين الصواب ، مع أنّ الاستدلال منقوض بالطرق العلميّة على تقدير انتصابها في الوقائع وكفايتها في استعلام الأحكام الواقعيّة ، لأنّ العالم أو مطلق المكلّف الّذي يرجع إليها غير مصون عنه بفقده الحالة النفسانيّة المانعة منه وهي العصمة ، ومن هنا يتّجه لمنكري عصمة الإمام أن يأخذوا هذا الفرض موردا للنقض ، بناء على أنّ أصحابنا المثبتين لها في الإمام لا يعتبرونها في سائر علماء الامّة غير الإمام ولا في نوّاب الأئمّة الّذين كانوا وسائط بينهم وبين سائر المكلّفين النائبين عنهم.

وقد يدفع الإشكال بإبداء الفرق بين الإمام وغيره من العلماء والمجتهدين ، بأنّ الإمام عليه‌السلام أمين الله على كافّة الأنام وله الرئاسة العامّة ووجوب الطاعة على الخاصّ والعامّ ، وهو مرجع الجميع في استفادة الأحكام ، ومع ذلك لا يستند في العلم بها إلى الأسباب الظاهريّة ، ومن البيّن أنّ مجرّد العدالة غير كاف في اطمئنان النفس بمثل ذلك ، إذ لا تطمئنّ النفس بقول العدل إذا ادّعى شيئا خارجا عن المعتاد خارقا للعادة الجارية بين الناس ، بل يتسارع الظنون إليه بالتهمة.

نعم لو دلّ دليل على عصمته كان قوله برهانا ناطقا لا مجال لإنكاره ، فالفرق بينه وبين المجتهد ظاهر من وجوه شتّى ، فاعتبار العصمة فيه لا يقضي باعتبارها في المجتهد الّذي هو بمنزلة الراوي عنهم ، ولا يكون السبيل الّذي يستنبطه ذلك المجتهد قطعيّا بعد القطع بوجوب العمل بمؤدّاه.

ولعلّه راجع إلى ما سنبيّنه وإلاّ فعموم الرئاسة كما هو ثابت للإمام كذلك ثابت للمجتهد الجامع للشرائط أيضا.

نعم الغالب على المجتهدين اختصاص الراجعين إليه الآخذين بقوله بطائفة دون اخرى وأهل بلد دون آخر ، ولكنّه لا يقضي باختصاص رئاسته بحسب القابليّة الشرعيّة.

فتحقيق المقام في حسم مادّة الإشكال أن يقال : إنّ الإمام لا يعقل في حقّه انسداد باب العلم ، وهو ما دام حاضرا متمكّنا عن التصرّف لا يعقل في حقّ أهل عصره المتمكّنين من الوصول إليه أيضا انسداد بابه ، فلا مقتضي في حقّهم لجعل الطرق الغير العلميّة لاستفادة الأحكام ، لعدم عجزه عن بيان الواقع ولا عجزهم عن إدراكه ، فلو جاز في حقّه الخطأ لكان الأمر باتّباعه مطلقا مؤدّيا إلى الإضلال ونقض الغرض وتفويت مصلحة الواقع ، بخلاف العاجزين عن إدراكه بطريق علمي لانسداد باب العلم ولو في الغالب ، لكونهم في زمان

٤٩

الغيبة أو في زمان الحضور مع عدم تمكّنهم من الوصول إليه أو عدم تمكّنه من التصرّف على ما هو حقّه.

فإنّ قضيّة ذلك أن يجعل في حقّهم من الطرق الغير العلميّة ما يكون بدلا عن الطرق العلمي قائما مقامه لينفعهم في مواضع تعذّر العلم ، فلو أخطأوا حينئذ بعدم إصابة الواقع لم يكن مستندا إلى الله تعالى بل إلى الأسباب الخارجة مع لزومه استدراك ما يتدارك به مصلحة الواقع.

فأمرهم بمتابعة ما لا يكاد يسلم عن عدم مصادفة الواقع ليس إضلالا لهم ليكون قبيحا منافيا لحكمة الشارع الحكيم ، ولذلك اختصّ اعتبار العصمة بالإمام دون غيره من المجتهدين والرواة الّذين هم وسائط بينه وبين الرعيّة النائين عنه الغير المتمكّنين من الوصول إليه ، والّذي يفصح عن هذا الفرق مجعوليّة الأحكام المعمولة عند التقيّة المتّفق عليها عند أصحابنا المدلول عليها بالأخبار المتواترة ، فإنّ هذه الأحكام كلّها أبدال من الأحكام الواقعيّة جعلت للعاجزين عن الأخذ بالأحكام الواقعيّة لحصول الإطاعة والانقياد بها.

وممّا يؤيّد ذلك أيضا وقوع التعبّد في الشريعة بالقواعد العامّة المقرّرة لاستكشاف الأحكام في الموضوعات المشتبهة كأصالة طهارة الماء ، وأصالة صحّة فعل المسلم ، وقبول أخبار ذي اليد ، والبيّنة ، وسوق المسلمين ونحوها ، مع عدم إفادة شيء من ذلك القطع بالواقع ولا دوام مصادفته له كما لا يخفى.

ولو لا ذلك من باب الاكتفاء به في مقام الانقياد والطاعة كان محذور الإضلال وتفويت مصلحة الواقع المنافي للحكمة قائما.

ومنها : أنّ المسلك الّذي مداركه غير منضبطة ـ مع كثرة ما يقع فيها من وجوه التعارض واضطراب الأنفس ورجوع كثير من فحول العلماء عمّا أفتوا به أوّلا ـ لا يصلح لأن يجعله الشارع الحكيم مناطا لأحكامه ، ومن المعلوم أنّ اعتبار ظنّ المجتهد المتعلّق بنفس أحكامه تعالى مستلزم لهذه المحذورات (١).

وفيه ـ بعض النقض بالأخبار الغير العلميّة لوفور جميع هذه المذكورات فيها ، لما فيها من طروّ الاختلالات من وجوه شتّى ـ : أنّ الظنّ بمعنى اطمينان النفس وسكونها أمر

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٨٠.

٥٠

منضبط ولا يقع فيه التعارض ، لاستحالة الظنّ بكلا طرفي النقيض كاستحالة العلم بهما أو العلم بأحدهما والظنّ بالآخر ، وعدم الانضباط في المدارك لا يقضي بخروجه عن الانضباط ، كما أنّ وقوع التعارض فيها لا يقدح في انضباطه. غاية الأمر أنّه إمّا يحصل بإعمال طرق الجمع مع إمكانه ، أو بمراجعة المرجّحات مع وجودها فيترتّب عليه الحكم ، أو لا يحصل بتعادل المتعارضين مع عدم إمكان الجمع ، أو معه حيث لا شاهد له من العرف والعادة بحيث أوجب الظنّ بالمؤدّى ، فيتعيّن حينئذ مراجعة الاصول العامّة العمليّة ، وهذا أيضا أمر منضبط.

وبالجملة فهذا المسلك على كلا تقديري حصول الظنّ وعدمه في غاية الانضباط ، واتّفاق الرجوع عن الفتوى السابقة أحيانا غير مناف لكونه منضبطا.

ومنها : أنّ المسلك الّذي يختلف فيه الأذهان بل الأحوال الطارئة لذهن واحد ، غير صالح لأن يكون مناط أحكام مشتركة بين الامّة إلى يوم القيامة (١).

وفيه : أنّ حصول الاختلاف في الأحكام الفعليّة المجعولة للعاجز عن الوصول إلى الأحكام الواقعيّة لا ينافي وقوع اشتراك جميع الامّة إلى يوم القيامة في الأحكام الواقعيّة ، والمنوط بمسلك الظنّ إنّما هو الأحكام الفعليّة لا الأحكام الواقعيّة المشتركة بين الجميع ، فلا مانع من صلاحية الظنّ لأن يجعل مناط تلك الأحكام.

ومنها : أنّ الشريعة السهلة السمحة كيف تكون مبنيّة على استنباطات صعبة مضطربة (٢).

وفيه : أنّه إذا لم يجز ابتناء الشريعة السهلة السمحة على استنباطات صعبة مضطربة متمكّن منها ، فكيف يجوز ابتناؤها على استنباطات علميّة متعذّرة لانسداد باب العلم فيها غالبا على الفرض ، وعدم جواز الأمرين معا يقضي بانسداد باب الاستنباط بالمرّة وهو كما ترى.

ومنها : أنّ في ابتناء أحكامه تعالى على الاستنباطات الظنّية مفاسد أكثر من أن تحصى : من إفضائه إلى وقوع الفتن والحروب وسفك الدماء بين المسلمين ، ومن هنا ذكر علماء العامّة وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة في مقام الاعتذار عن الحروب الواقعة بين الصحابة العدول الأخيار أنّ السبب فيها اختلاف اجتهاداتهم في أحكام الله تعالى (٣) ، ومن عدم جواز أخذ أحد المتخاصمين ما يستحقّه من الآخر قهرا فيما لو وقع بينهما في مال أو

__________________

(١ و ٢) الفوائد المدنيّة : ١٩٠.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢٠ : ٣٤.

٥١

فرج أو دم خصومة دنيويّة مبنيّة على اختلاف اجتهادهما ، وما ذكره علماء العامّة من أنّهما يرجعان حينئذ إلى قاض منصوب من السلطان فيجب عليهما الأخذ بما يحكم به القاضي ممّا لا يرضى به الذهن السليم فكيف يرضى به الشارع الحكيم؟ ومن إفضائه إلى تجهيل المفتي نفسه أو إبطال القاضي حكمه إذا ظهر له ظنّ أو قطع مخالف لظنّه السابق (١).

وفيه : منع الملازمة ، كيف ولم يعهد من لدن حدوث بناء الاجتهاد بين أصحابنا المجتهدين إلى الآن فتنة أو حرب أو سفك دم وقع بين المسلمين مستندا إلى اجتهاد المجتهدين ليس إلاّ ، بل وهذه الامور حيثما وقعت على غير حقّ فإنّما تقع من اتّباع الشيطان والنفس الأمّارة الداعية للإنسان إلى طلب الجاه والرئاسة والمال والثروة ، أو من متابعة أهل البدع والضلال المفسدين في أرض الله المعاندين له ولرسوله المبغضين لخلفاء الله وحججه ، وإلاّ فما كان من هذه الامور منشاؤه الخصومة الشرعيّة المسموعة في نظر أهل الشرع في مال أو فرج أو نفس أو نحو ذلك لشبهة موضوعيّة أو حكميّة وبني على الأخذ بقواعد الاجتهاد ومراجعة المجتهدين الّذين هم حكّام الشرع بالحقّ لم يكن يقع شيء منها على وجه الأرض أصلا ، لاستحكام تلك القواعد وغاية انتظام هذه الضوابط ، فإنّ حكم الحاكم الشرعي المستند إلى اجتهاده الصحيح المستفاد من الشارع هو الحجّة القاطعة الّتي إذا وقعت نافذة لا تستتبع فتنة ولا حربا ولا سفك دم ولا غير ذلك من المفاسد.

ومن هنا اندفع الشبهة في مسألة الخصومة بين مجتهدين مختلفين في الرأي أو مقلّدي هذين المجتهدين ، فإنّ الخصومة بينهما ترتفع بمراجعة ثالث موافق لأحدهما في الرأي أو مخالف لهما والأخذ بحكمه على سبيل اللزوم تعبّدا من الله سبحانه ، وهذا أيضا ممّا لا محذور فيه أصلا.

وأمّا تجهيل النفس وإبطال الحكم بعد انكشاف مخالفة الواقع جزما أو ظنّا على التفصيل الآتي في محلّه فممّا لا يتضمّن محذورا أيضا ، بل هو غير عزيز في الشرع ولو مع البناء على الأدلّة القطعيّة أو الأخبار فقط ، ولو كان محذورا في نظر العقل أو الشرع فهو مشترك اللزوم وطريق الدفع واحد.

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٩١.

٥٢

ومنها : أنّ الظنّ المعتبر عندهم ظنّ صاحب الملكة المخصوصة المأخوذة في معنى الفقيه والمجتهد ، مع أنّ المعتبر عندهم من بذل الوسع في تحصيل الظنّ المعتبر قدر مخصوص منه ، وغير خفيّ على اللبيب أنّ الملكة المذكورة والقدر المشار إليه من بذل الوسع أمران خفيّان غير منضبطين ، وقد اعترفوا بأنّ مثل ذلك لا يصلح مناطا لأحكامه تعالى (١).

وفيه : أنّ الملكة المخصوصة عند أهل الخبرة بها لا خفاء فيها أصلا ، وخفاؤها في نظر العوامّ وغيرهم ممّن لم يبلغ رتبة الاجتهاد غير قادح ، حيث لا اعتداد في هذا المقام بنظر العوامّ وغيرهم ممّن لا خبرة له في هذا الفنّ ، وأمّا بذل الوسع فليس له حدّ مضبوط عندهم ولا قدر مخصوص لديهم ، بل معياره حصول الظنّ بمعنى الاطمينان أو اليأس من الظنّ ليحرز به موضوع الاصول العمليّة ، فلا مانع من إناطة استنباط أحكامه تعالى بشيء من الأمرين ، مضافا إلى ما يورد عليه أيضا من جريان ذلك على طريقة الأخباريّين أيضا ، إذ لابدّ عند المحقّقين منهم في الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة من الاقتدار على فهم الأخبار والجمع بينها والتمكّن من ردّ الفروع إلى الاصول ونحو ذلك أيضا من الامور النفسيّة الغير الظاهرة ، فلو كان صالحا للمنع لجرى في كلّ من الطريقين.

ومنها : أنّ الظنّ من باب الشبهات وقد ثبت وجوب التوقّف عند الشبهات المتعلّقة بنفس الأحكام.

أمّا الاولى : فلما في نهج البلاغة في خطبة له عليه‌السلام « وإنّما سمّيت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ » (٢).

وأمّا الثانية : فللروايات الصريحة في وجوب التوقّف (٣).

وفيه : منع المقدّمتين معا ، أمّا منع الاولى : فلأنّ الظنّ بعد ما أخذ الشارع متعلّقه حكما فعليّا للظانّ الغير المتمكّن من العلم ليس من الباطل الشبيه بالحقّ ، بل هو في محلّ الفرض عين الحقّ كما عرفت مرارا.

وأمّا منع الثانية : فلأنّ التوقّف عند الشبهات في أحكامها الخاصّة لا يقضي بالتوقّف في حكمها العامّ المجعول شرعا للجاهل المتحيّر ، فنحن أيضا نتوقّف عند الظنّ بشيء إذا لاحظناه من حيث هو ، ونأخذ بمتعلّقه إذا لاحظنا القطعيّ القائم بكونه الحكم المجعول

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٩١.

(٢) نهج البلاغه : ٨١ ، الخطبة ٣٨.

(٣) الفوائد المدنيّة : ١٩٢.

٥٣

للظانّ المتحيّر على سبيل العموم.

ومع الغضّ عن ذلك فهو منقوض بالظنّ في الموضوعات كما لا يخفى.

ومنها : أنّ العامّة قد ذهبوا إلى العمل بالظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى ، وإلى دوام العمل بظنون أربعة من مجتهديهم دون غيرهم ، والعلاّمة ومن وافقه من أصحابنا وافقوا العامّة في المقام الأوّل وخالفوهم في المقام الثاني ، فقالوا : قول الميّت كالميّت ، ويلزم الفريقين أحد الأمرين من القول بأنّ مظنونات المجتهدين ليست من شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو القول بأنّ شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست مستمرّة إلى يوم القيامة ، وقد تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار بأنّ : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (١) ، بل هذا من أجلى ضروريّات الدين (٢).

وفيه ـ مع أنّ هذا لو تمّ اختصّ بأحد الفريقين لا كليهما ، فإنّ العامّة بعد ما قالوا باستمرار العمل بظنون الأربعة إلى يوم القيامة لم يكن قولهم منافيا لاستمرار حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحرامه إلى يوم القيامة ، لبنائهم على أنّ مظنونات المجتهد هي الحلال والحرام الباقيين إلى يوم القيامة ـ : أنّ منشأ الشبهة قول أصحابنا بكون قول الميّت كالميّت القاضي بانقطاع مظنونات المجتهد بموته عن درجة الاعتبار ، وذلك ينافي كونها مستمرّة إلى يوم القيامة.

وقضيّة ذلك عدم كونها من أحكام هذه الشريعة بموجب الأخبار المتواترة. لكن يدفعه : أنّ ظاهر مساق الروايات الدالّة على استمرار حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحرامه إلى يوم القيامة بل صريحها كون الاستمرار مخصوصا بالأحكام الواقعيّة المنزلة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المحفوظة لدى عترته الطاهرة ، الّتي لا يكلّف بها فعلا إلاّ مع العلم بها بانفتاح بابه المخصوص بزمان الحضور بالقياس إلى المتمكّنين عن الوصول إليهم عليهم‌السلام.

وإن شئت لاحظ ما تقدّم في الروايات من رواية محمّد بن حكيم عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « إنّما هلك من كان قبلكم بالقياس ، وإنّ الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أكمل له دينه في حلاله وحرامه ، فجاءكم بما تحتاجون إليه في حياته وتستغنون به وبأهل بيته بعد موته ، وأنّه مخفيّ عند أهل بيته حتّى أنّ فيه لأرش الكفّ » (٣).

__________________

(١) الكافي ١ : ٩.

(٢) الفوائد المدنيّة : ٢٤٩.

(٣) بصائر الدرجات : ١٤٧ ، ح ٣.

٥٤

وعليه فلا ينافي ذلك عدم استمرار الأحكام الفعليّة المجعولة للمجتهدين وغيره ممّن لا يتمكّن من الوصول إلى الأحكام الواقعيّة الموجودة عند أهل البيت.

ويمكن القول بأنّ المراد بتلك الروايات استمرار شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة بعدم طروّ نسخ لها ، ومعناه أنّه لا يأتي بعده نبيّ آخر ولا بعد شريعته شرع آخر ناسخ لها ، كما يظهر إرادة هذا المعنى من بعض الأخبار المتقدّمة كخبر زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحلال والحرام؟ فقال عليه‌السلام : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، لا يكون غيره ولا يجيء غيره » (١).

وحينئذ يندرج فيها الأحكام الفعليّة المستفادة من الطرق الظنّية المعلّقة على حياة المجتهد عند من يقول بأنّها تموت بموت المجتهد لدليل دلّه عليه ، لأنّها أيضا من شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ العاجز الغير المتمكّن من العلم ، ولا يطرأها أيضا نسخ بالمعنى المذكور ، وانقطاعها بموت المجتهد ليس من باب النسخ ، بل هو من جهة ارتفاع موضوعها ، أو لقصور ما دلّ على وجوب اتّباعها عن إطلاق ذلك حتّى بالقياس إلى ما بعد الموت.

ومنها : أنّهم صرّحوا بأنّ محلّ الاجتهاد مسألة لم تكن من ضروريّات الدين ولا المذهب ، ولم يكن لله تعالى دلالة قطعيّة عليها ، ونحن قد أثبتنا أنّ لله تعالى في كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة حكما معيّنا ودليلا قطعيّا عليه ، وأنّ كلّ الأحكام والدلالات القطعيّة عليها ـ أي النصوص الصريحة فيها ـ محفوظة عند معادن وحي الله وخزّان علمه ، والناس مأمورون بطلبها من عندهم عليهم‌السلام (٢).

وفيه : أنّه بعد الاعتراف بأنّ الدلالات القطعيّة كنفس الأحكام محفوظة عند الأئمّة عليهم‌السلام والمفروض عدم حضورهم بين الامّة وعدم إمكان الوصول إليهم ، فأيّ منافاة لهذه المقدّمات ـ على فرض تسليمها ـ لطريقة المجتهدين العاجزين عن أخذ الأحكام المحفوظة لديهم عنهم؟

وكيف يعقل كونهم مأمورين بطلبها من عندهم؟ فإنّ التكليف بما فوق الطاقة قبيح عقلا وشرعا وعرفا! وهذا هو العمدة في الدلالة على كون مظنوناتهم ما داموا في هذه الحالة أحكاما فعليّة في حقّهم وحقّ مقلّديهم.

هذا مع إمكان أن يقال : من أنّ المراد بالدليل ـ فيما دلّ على أنّ لكلّ حكم معيّن في

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ ، ح ١٩.

(٢) الفوائد المدنيّة : ٢٤٩.

٥٥

الواقع دليلا ـ نفس الإمام الحافظ لهذا الحكم ، فإنّه هو حجّة الله القاطعة في جميع الأشياء ، وهو البرهان الفاصل فيما بين كلّ حقّ وباطل ، فحينئذ يتّضح عدم كون المسائل بالقياس إلى المجتهدين في زمان الغيبة ما وجد معها له (١) دليل قطعي ، فإنّ وجود الدليل بحسب الواقع مع فرض عدم إمكان الوصول إليه بمنزلة عدمه ، وهذا هو عذر المجتهدين في أخذهم بمؤدّيات الاجتهاد لئلاّ يلزم خروجهم عن الدين بالمرّة ، الّذي قد يعبّر عنه بالمخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي.

وهذه هي الوجوه الّتي تمسّك بها الأمين الأسترآبادي في إبطال طريقة المجتهدين.

وللأخباريّة وجوه اخر في إبطال هذه الطريقة نقلها بعض الأفاضل ، ولا بأس بنقلها هنا ثمّ دفعها.

منها : ما دلّ عليه الأخبار المتواترة بل ضرورة دين الإسلام من أنّ : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » فإنّ ذلك ينافي الأخذ بالأدلّة الظنّية ، ضرورة أنّ الظنّ ممّا يتغيّر ويتبدّل ، وحرام الله وحلاله ممّا لا يتغيّر ولا يتبدّل.

وعن بعضهم أنّه قد قرّر ذلك : بأنّ كلّ حكم اجتهادي قابل للتغيير مناف للشريعة الإسلاميّة الأبديّة ، فينتج : أنّ كلّ حكم اجتهادي مخالف للشريعة الإسلاميّة (٢).

وبما بيّنّاه سابقا يظهر الجواب عن ذلك أيضا ، وأجاب عنه الفاضل المشار إليه بوجوه اخر :

الأوّل : أنّه منقوض بما يحكم به الأخباريّون لجواز الرجوع عن الحكم بالنسبة إليهم أيضا ، كما إذا عملوا بالعموم ثمّ عثروا بعد ذلك على خبر يخصّصه ، أو فهموا من الخبر أوّلا حكما ثمّ عدلوا عن فهمهم ، وإنكار إمكان ذلك في شأنهم مكابرة ظاهرة ، وحينئذ نقول : إنّ حكم الأخباري قابل للتغيير إلى آخر ما ذكر.

والثاني : إنّه إن أراد بقوله : « كلّ حكم اجتهادي قابل للتغيير » بالنسبة إلى الموضوع المفروض حينئذ مع جميع خصوصيّاته فممنوع ، ضرورة أنّه ما دام المجتهد باقيا على حاله الأوّل لا يمكن تغيّر الحكم في شأنه أصلا.

وإن أراد أنّه قابل للتغيّر في الجملة ولو بسبب تغيّر حاله ، كأن يصير ظانّا بخلاف ما ظنّه

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) هداية المسترشدين ٣ : ٦٩٢.

٥٦

أوّلا فمسلّم ولا مانع منه ، ضرورة أنّ أبديّة الأحكام لا تقضي بعدم اختلافها بحسب اختلاف الأحوال ، كيف واختلاف صلاة الحاضر والمسافر والصحيح والمريض والقادر والعاجز من الضروريّات ولا منافاة فيه لأبديّة الأحكام الثابتة بالضرورة أصلا ، فكذا الحال في المقام.

والثالث : أنّه إنّ أراد بكون كلّ حكم اجتهادي قابلا للتغيّر أنّ ما يحكم به المجتهدون من الأحكام قابلا للتغيّر فهو ممنوع بل فاسد ، لأنّ ما يدركه من الأحكام غير قابل للتغيّر عمّا هو عليه ، فإنّه إن كان ما أدركه مطابقا للواقع لم يكن قابلا للتغيير عمّا هو عليه وإن أدرك بعد ذلك خلافه. غاية الأمر أن يكون معذورا في خطائه فيه ثانيا ، وإن كان غير مطابق للواقع فكذلك أيضا ، غاية الأمر أن يكون معذورا في خطائه فيه أوّلا.

وإن أراد به أنّ نفس حكمه وإدراكه قابل للتغيّر ، بأن يدرك ثانيا خلاف ما أدركه أوّلا فيزول إدراكه الأوّل ويخلفه الثاني فممنوع ، ولا يلزم من ذلك أن يكون إدراكه مطلقا منافيا للشريعة الأبديّة كما هو القضيّة الكلّية المدّعاة ، إذ قبول الإدراك للتغيّر إنّما يقضي بعدم الملازمة بينه وبين إصابة الواقع ، لأنّه لا يكون مصيبا للواقع مطلقا ، فأقصى ما يلزم من الدليل المذكور أنّ ظنون المجتهدين قد تصيب الواقع وقد تخطئه ، وهذا ممّا اتّفق عليه أصحابنا.

واتّفقوا مع ذلك على وجوب العمل بظنّه ، إذ لا منافاة بين عدم إصابة الظنّ للواقع ووجوب العمل بمؤدّاه ، كما هو الحال في سائر الطرق المقرّرة في الشريعة (١).

ومنها : أنّ فتح سبيل العلم على المكلّفين في تكليفهم بالعلم بالأحكام من اللطف ، فيجب أن يكون حاصلا لوجوب اللطف على الله تعالى.

أمّا الصغرى : فلما فيه من تقريب العبد إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية ما ليس في الظنّ ، لوضوح أنّ اليقين أدعى إلى تحصيل الامتثال من الظنّ.

وأمّا الكبرى : فظاهرة (٢).

وهذا الدليل كما ترى غير مفهوم المراد ، فإنّ الامور المدركة بالوجدان لابدّ وأن تدرك بالوجدان فلا ينفع في ثبوتها البرهان إذا لم يساعد عليها الوجدان ، فكيف إذا أكذبها الوجدان ،

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : (٦٩٢ ـ ٦٩٥).

(٢) هداية المسترشدين ٣ : (٦٩٢ ـ ٦٩٥).

٥٧

وهل هذا إلاّ نظير ما لو اقيم البرهان على أن لزيد علما بقيام عمرو وهو يجد من نفسه أنّه لا علم له ، فإنّ عدم انفتاح باب العلم بالأحكام في الغالب من ضروريّات الوجدان والمدّعي لانفتاحه يكابر وجدانه ، وسنورد زيادة بيان في ذلك.

ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّا لا نعقل إلى العلم بالأحكام قاطبة سبيلا إلاّ الإمام المعصوم وحضوره مع تمكّنه من التصرّف ، والمفروض أنّه غير حاضر ، فالدليل المذكور يكذّبه الفرض ، ولو سلّم أنّ إلى العلم بها سبيلا آخر غير الإمام وحضوره ، لكن الدليل لا يقتضي إلاّ انتصاب أحد الأمرين ، والمفروض أنّ الإمام قبل الغيبة كان منتصبا فقد تمّ به اللطف ، واختفاؤه بعد ذلك لدواع خارجيّة لا ترجع إلى الله سبحانه لا يوجب إخلالا باللطف ، والمنع من تحقّق الدواعي الخارجيّة ليس بلازم بمقتضى ما أخذ في اللطف الواجب من عدم انتهائه إلى الإلجاء.

ومع هذا كلّه نقول : إنّ اللطف إنّما يجب مع عدم مصلحة تقتضي خلافه ، فلم يثبت وجوبه مطلقا كما في عدم ظهور الإمام عليه‌السلام مع أنّه من أظهر الألطاف الواجبة.

ومن الجائز بالقياس إلى الأدلّة العلميّة قيام مصلحة تقتضي عدم فتح بابها ، مع أنّه قد يقال : إنّ عدم إلزام المكلّفين بتحصيل اليقين في خصوصيّات التكاليف هو اللطف ، لما في إناطة التكليف بخصوص العلم بالأحكام من الجرح التامّ المؤدّي في كثير من الطباع إلى التقاعد عن الامتثال ، ولذا اكتفى الشارع في زمانه من المكلّفين بالأخذ بعدّة من الطرق الغير العلميّة مع انفتاح سبيل العلم.

وقد يقال أيضا : بأنّ الظنّ والعلم مشتركان فيما ذكر من كون اليقين أدعى إلى الامتثال ، لأنّ المفروض أنّ الظنّ ما لم يكن منتهيا إلى اليقين لم يعتبر عند أحد ، فالمكلّف في مقام العمل عالم بالتكليف قاطع به.

ومنها : ما عن بعض المحدّثين : من أنّ المتقدّمين من علمائنا لا يقولون بجواز الاجتهاد والتقليد ، ولا يجيزون العمل بغير الكتاب والسنّة من وجوه الاستنباط الظنّية.

ومن المعلوم أنّ طريقة المتقدّمين هي الموافقة للأئمّة ولأحاديثهم المتواترة ، فإن شذّ منهم شاذّ أحيانا أنكر عليه الأئمّة إن كان في حضورهم ، وفي هذه الطريقة مبائنة لطريقة العامّة مبائنة كلّية ، وطريقة المتأخّرين موافقة لهم لا تخالفهم إلاّ نادرا ، ثمّ قال :

وبالجملة فعدم جواز الاجتهاد في نفس الأحكام الشرعيّة وعدم جواز العمل بالاستنباطات

٥٨

الظنّية كان معلوما من مذهب المتقدّمين من الإماميّة إلى زمان العلاّمة ، بل كان معلوما عند العامّة والخاصّة أنّه من اعتقادات الشيعة ، وقد نقلوه عن أئمّتهم لتواتر النصّ بذلك عنهم ، وهو كما ترى يفيد دعوى إجماع الشيعة الكاشف عن قول الأئمّة على بطلان الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة.

وعنه في موضع آخر قال : إنّ القول بحجّية ظنّ المجتهد على نفسه وعلى من يقلّده مذهب العلاّمة والشهيدين ، والشيخ حسن ، والشيخ عليّ ، والشيخ بهاء الدين ، لا غير ، وباقي علمائنا المتقدّمين والمتأخّرين على بطلان ذلك كلّه.

ثمّ عنه أنّه ذكر جملة من عبائر القدماء الموهمة لما ادّعاه ، فمن جملة ذلك ما ذكره الكليني في أوّل الكافي قال : « والشرط من الله فيما استعبد به خلقه أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة ـ إلى أن قال ـ : ومن أراد خذلانه وأن يكون إيمانه معايرا مستودعا سبّب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل بغير علم وبصيرة ».

وما ذكره الصدوق في العلل بعد ذكر حديث موسى والخضر قال : « إنّ موسى مع كمال عقله وفضله ومحلّه من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر ، حتّى اشتبه عليه وجه الأمر به ، فإذا لم يجز لأنبياء الله تعالى ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان من دونهم من الامم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك » ـ إلى أن قال : ـ « فإذا لم يصلح موسى للاختيار مع فضله ومحلّه فكيف تصلح الامّة لاختيار الإمام ، وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعيّة واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة ».

وما ذكره السيّد في الذريعة. قال : « عندنا أنّ الاجتهاد باطل ، وأنّ الحقّ مدلول عليه ، [ و ] أنّ من أخطأ غير معذور » (١).

وقد نصّ هناك أيضا : « بأنّ الإماميّة لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ولا الرأي ولا القياس ولا الاجتهاد » (٢).

وقال في الانتصار في أوّل كتاب القضاء : « إنّما عوّل ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطائه ظاهر » (٣).

وقال في المسألة الّتي بيّنها : « أنّ من خالفنا اعتمد على الرأي والاجتهاد دون النصّ والتوقيف ، وذلك لا يجوز » (٤).

__________________

(١ و ٢) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٦٣٦.

(٣ و ٤) الانتصار : (٤٨٨ ـ ٤٩٥).

٥٩

وقال في كتاب الطهارة منه في مسألة مسح الرجلين : « أنّا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به » ، وقد ذكر أيضا في عدّة من كتبه : « أنّ ما يفيد الظنّ دون العلم لا يجوز العمل به عندنا ».

وما ذكره الشيخ في العدّة قال : « أمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا بدليلين بل محظور في الشريعة استعمالهما » (١).

وقال في موضع آخر منه : « ولسنا نقول بالاجتهاد والقياس » (٢).

وقال أيضا : « وأمّا الظنّ فعندنا أنّه ليس بفاصل في الشريعة تنسب الأحكام إليه ، وإن كان تقف أحكام كثيرة عليه نحو تنفيذ الحكم عند شهادة الشاهدين ، ونحو جهات القبلة وما جرى مجراه ».

وقال في مواضع من التهذيب : « وإنّا لا نتعدّى الأخبار ».

وما ذكره ابن إدريس في مسألة تعارض البيّنتين بعد ذكر عدّة من المرجّحات قال : « ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا ».

وما ذكره الطبرسي في المجمع قال : « لا يجوز العمل بالظنّ عند الإماميّة إلاّ في شهادة العدلين وقيم المتلفات وأرش الجنايات ».

وما ذكره المحقّق في المعتبر قال : « ثمّ إنّ أئمّتنا مع هذه الأخلاق الطاهرة والعدالة الظاهرة يصوّبون رأي الإماميّة في الأخذ عنهم ويعيبون على غيرهم ممّن أفتى باجتهاده وقال برأيه ، ويمنعون من يأخذ عنه ويستخفّون رأيه وينسبونه إلى الضلال ، ويعلم ذلك علما صادرا عن النقل المتواتر ، فلو كان ذلك يسوغ لغيرهم لما عابوا ».

وقال فيه أيضا : « واعلم أنّك مخبر في حال فتواك عن ربّك فما أسعدك إن أخذت بالجزم وما أخيبك إن بنيت على الوهم ، فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ » )(٣) انتهى (٤).

ثمّ عنه أنّه قال بعد العبارات المذكورة : « وفي ملاحظة أحوال الرواة أيضا ما يفيد ذلك ، فقد روى الكشي عن أبي حنيفة قال له : أنت لا تقول شيئا إلاّ برواية؟ قال : أجل » (٥).

وروى الكشي وغيره عن أكثر علمائنا المتقدّمين وخواصّ الأئمّة عليهم‌السلام أيضا مثل ذلك ، بل ما هو أبلغ منه.

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ٩. (٢) عدّة الاصول ١ : ١٤٦.

(٣) البقرة : ١٦٩.

(٤) هداية المسترشدين ٣ : (٦٨١ ـ ٦٨٣).

(٥) رجال الكشي : ٣٨٤ ، رقم ٧١٨.

٦٠