تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

الرابع : قضاء القوّة العاقلة بتقديم الفاضل على المفضول عند الاختلاف كما يكشف عنه السيرة المستمرّة ، وبناء الناس في جميع الأعصار والأمصار في كلّ صنعة وحرفة وكلّ فنّ وعلم على الرجوع إلى الفاضل عند الاختلاف بينه وبين المفضول من دون رجوع إلى المفضول ما دام الرجوع إلى الفاضل ممكنا ، كما يرشد إليه تقديم قول أكمل الأطبّاء عند الاختلاف بينهم في العلاج ، وتقديم قول أكمل الصيارفة عند الاختلاف بينهم في الجوهر.

ويمكن المناقشة فيه : بأنّ بناء الناس إنّما يكشف عن حكم القوّة العاقلة المثمر في ثبوت لو ثبت (١) على وجه الالتزام لا من باب الاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال ، وفي خصوص التقليد وكلّ من المقدّمتين محلّ منع ، بل الثابت من بنائهم قد يكون خلافه ، بملاحظة أنّهم لاعتقادهم بأنّ حكم الله واحد لا يراعون الأعلم ولا يبالون تقليد غير الأعلم كما لا يخفى على المتأمّل.

الخامس : أنّ الظنّ الحاصل من قول الأعلم أقوى من الظنّ الحاصل من قول غيره فيجب العمل به.

أمّا المقدّمة الاولى : فلأنّ زيادة بصيرته على مدارك الأحكام ومعارضاتها وسائر مباينها

__________________

(١) والعبارة لا تخلو عن غموض ولعلّه ناش من وقوع سقط فيها ويوضحه ما أورده ١ في رسالته المفردة في ولاية الأولياء ( مخطوط ) ما هذا لفظه :

« ويزيّفه : أنّه لا يتمّ إلاّ على تقدير ثبوت مقدّمتين :

إحداهما : كون بناء الناس الكاشف عن حكم العاقلة في الرجوع إلى الفاضل على وجه الالتزام ، ولقائل أن يقول : بأنّ بناءهم في ذلك إنّما هو على وجه الرجحان ولا كلام فيه.

واخراهما : ثبوت بنائهم على الرجوع إلى الفاضل على وجه الالتزام في خصوص التقليد ، ولمانع أن يمنع ذلك إمّا بدعوى أنّ العقلاء من المقلّدين لاعتقادهم بأنّ حكم الله واحد لا يراعون الأعلم ولا يبالون الرجوع إلى غير الاعلم.

أو بدعوى إنّهم متحيّرون في مسألة تقليد الأعلم ويلتزمون فيها اتّباع العلماء المجتهدين فصاروا فريقين ، فريق يراعون الأعلميّة تقليدا لمن يوجب تقليد الأعلم وفريق لا يراعونها تقليدا لمن يجوّز تقليد غير الأعلم وكثير ممّن لا يتّبع رأي مجتهد في ذلك يرجعون إلى الأعلم أيضا احتياطا لا اعتقادا وهذا كلّه يكشف عن عدم حكم للقوّة العاقلة في هذا المقام.

والسرّ فيه : أنّ اعتبار الأعلميّة في المقلّد ـ بالفتح ـ سواء كان على وجه الشرطيّة أو على وجه المانعيّة أمر تعبّدي توقيفي منوط ثبوته بالتوظيف ولا مدخليّة للعقل فيه ، فاتّضح بذلك كلّه أنّه لا قضاء للقوّة العاقلة بتقديم الفاضل على وجه اللزوم بحيث يكون الرجوع إلى المفضول قبيحا عند العقل.

[ رسالة في ولاية الأولياء ـ ص ٣٥ ـ مخطوط ].

٤٦١

مع كونه أقوى ملكة في الاستنباط أشدّ منعا له من الخطأ فيكون أقوى ظنّا.

وأمّا المقدّمة الثانية : فلوجوب متابعة أقوى الظنّين عقلا وقد تمسّك به جماعة.

ومن الأعلام من اعترض عليه في طول كلامه بما محصّله : أنّ التقليد إن كان من باب الظنّ بحكم الله الواقعي الّذي يحصّله قول مجتهده فالأمر يدور مدار الظنّ من قول أيّ مجتهد حصل ، فقد لا يحصل من قول أعلم بلده بملاحظة احتمال موافقة الأدون لقول مجتهد بلد آخر يكون أعلم من أعلم بلده أو لأحد المجتهدين الأموات يكون أعلم من ذلك بمراتب شتّى ، بل قد يحصل الظنّ من قول الأدون بملاحظة موافقته لما ذكر على أحد الوجهين ، ودعوى حصوله من قول المجتهد الحيّ الّذي هو أدون بمراتب شتّى من المجتهد الميّت دون ذلك الميّت مجازفة من القول ، وإن كان من باب التعبّد فلا معنى لملاحظة الظنّ والأقوائيّة والأقربيّة معه ، ومرجع الترديد إلى منع الصغرى على تقدير اعتبار التقليد من باب الظنّ ومنع الكبرى على التقدير الاخرى.

ويمكن دفعه باختيار الشقّ الثاني ، ومنع منافاة مراعاة الظنّ وأقوائيّته وأقربيّته للترجيح في صورة الاختلاف لجهة التعبّد ، كما لا ينافيها للترجيح في الأخبار على القول بالعمل بها تعبّدا ، فإنّ المجتهدين المتفاضلين في صورة الاختلاف بمنزلة الأمارتين المتراجحتين في صورة التعارض اللّتين دلّ الدليل من النصّ والإجماع على وجوب تقديم الأقوى والأقرب منهما إلى الواقع على الآخر من غير منافاة له لجهة التعبّد ، باعتبار أنّ الأقوائيّة والأقربيّة لا تلاحظ إحرازا للمقتضي لجواز العمل بل رفعا لمانع التعارض ، ففيما نحن فيه أيضا يلاحظ الظنّ والأقوائيّة رفعا لمانع الاختلاف لا إحرازا لمقتضى العمل ، لقضاء العقل المستقلّ بعد تعذّر العلم بالأحكام الواقعيّة تفصيلا وإجمالا أو سقوط اعتبار العلم بها إجمالا بوجوب الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع ، وهو بالنسبة إلى المكلّف البالغ رتبة الاجتهاد ظنّه الاجتهادي لغلبة مصادفته الواقع ، وبالنسبة إلى من لم يبلغ رتبته فتوى المجتهد لغلبة مصادفتها الواقع ، فالأقربيّة إلى الواقع علّة للجعل لا أنّه مناط للعمل ، فلذا لا يعتبر الظنّ في العمل بأصل الفتوى ، وإذا كان علّة الجعل الأقربيّة إلى الواقع فالعقل الحاكم بلزوم الأخذ بالأقرب كما يلزم المقلّد بمتابعة المجتهد ـ لكون فتواه نوعا أقرب إلى الواقع ـ فكذلك يلزمه بمتابعة شخص مجتهد يكون فتواه أقرب إلى الواقع من فتوى مجتهد آخر عند الاختلاف بينهما ، فإنّ الأعلم وغيره وإن كانا متشاركين في أصل غلبة مصادفة فتوى

٤٦٢

كلّ منهما الواقع ، إلاّ أنّ فتوى الأعلم لزيادة بصيرته بمدارك الأحكام ومعارضاتها وأقوائيّة ملكة استنباطه أغلب مصادفة له فيكون أقرب إليه من فتوى غير الأعلم ، وجعل هذه الأقربيّة مرجّحة حينئذ لا ينافي كون العمل بالفتوى من باب التعبّد ، لأنّ معناه أنّ المقلّد يجب عليه الأخذ بها وإن لم تفد له الظنّ بالواقع ، بل وإن حصل له الظنّ بواسطة أمارة بخلافها ، غاية ما هنالك لزوم حمل كون الظنّ الحاصل من قول الأعلم أقوى ، على إرادة كون قوله أقوى سببا لإفادة الظنّ ، وإن كان لا يخلو عن تكلّف.

السادس : قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) فإنّه تنفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم ، والمفضول لنقصان علمه يصدق عليه أنّه لا يعلم ، والأعلم باعتبار زيادة علمه يصدق عليه أنّه يعلم ، فلو جاز تقليد غير الأعلم كما يجوز تقليد الأعلم لزم المساواة بينهما ، واللازم باطل بنصّ الآية.

وفيه أيضا ضعف ، أمّا أوّلا : فلأنّه ليس في نفي المساواة عموم لفظي أو عقلي يوجب تناول الآية لمثل مقام الإفتاء والقضاء وغيرهما من المناصب الشرعيّة ، خصوصا مع ملاحظة ما في كلام بعض أهل التفسير من تفسيرها بأنّه هل يستوي الّذين يعلمون نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذين لا يعلمون نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا ثانيا : فلمنع كون مناط الأعلميّة وعدمها العلم بمعنى الإدراك الفعلي وعدمه ، بل مناطها على ما سنحقّقه أقوائيّة ملكة الاستنباط وعدمها.

ولا ريب أنّ الاختلاف بين المجتهدين في زيادة الإدراك الفعلي ونقصانه لا ينافي التساوي بينهما في الملكة ، فلو أخذ بظاهر الآية لزم الترجيح بمجرّد زيادة العلم مع التساوي في الملكة وهو غير جيّد على ما سنذكره ، إلاّ أن يخصّص بصورة زيادة العلم إذا صادفت أقوائيّة الملكة ثمّ يتمّم في صورة التساوي في العلم والاختلاف في الملكة بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، هذا مع تطرّق المنع إلى صدق « من لا يعلم » على غير الأعلم ، لظهور « لا يعلمون » في السلب الكلّي المناقض للإيجاب الجزئي ، ولصدق « يعلمون » مع الإيجاب الجزئي.

والمفروض أنّ غير الأعلم يعلم في الجملة ، فهو مندرج في إطلاق « يعلمون » لا في قوله : « لا يعلمون » ، ولذا قد يستدلّ بالآية على مساواته للأعلم المقتضية لجواز الرجوع إليه مع وجود الأعلم كما ستعرفه.

٤٦٣

السابع : طائفة من الأخبار الآمرة بتقديم الأفقه عند الاختلاف في الحكم ، مثل مقبولة عمر بن حنظلة المرويّة في كتب المشائخ الثلاث ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ـ إلى أن قال ـ : فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر » حكي الاستدلال بها عن الشهيد الثاني في المسالك ، وكاشف اللثام ، والفاضل المازندراني الشارح للزبدة ، بل عن الأوّل أنّه ذكر في موضعين أنّها نصّ في المدّعى.

وخبر داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، من قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : « ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر ».

وخبر موسى بن اكيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما؟ قال : وكيف يختلفان؟

قلت : حكم كلّ واحد منهما للّذي اختاره الخصمان ، فقال : « ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه ».

والمرويّ عن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتابه إلى مالك الأشتر : « اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الامور ، ولا تمحّكه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلّة ، ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشّف الامور ، وأصرمهم عند اتّضاح الحقّ ممّن لا يزدهيه إطراء ، ولا يستميله إغراء » إلى آخر ما ذكره عليه‌السلام (١).

وقد اورد على التمسّك بهذه الأخبار ولا سيّما المقبولة بأنّها وردت في ترجيح الحكم بمعنى فصل الخصومة بالأفقهيّة ، بقرينة قوله : « بينهما منازعة في دين أو ميراث » وقوله : « يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ » فلا تتناول الفتوى ، ويمكن الجواب بوجوه :

__________________

(١) نهج البلاغة ، كتاب : ٥٣.

٤٦٤

أحدها : تتميم المدّعى في الفتوى ـ بعد تسليم اختصاصها بالحكم ـ بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، بتقريب : أنّ الأصحاب في اعتبار الأعلميّة في الفتوى والحكم وعدم اشتراطها بين قائل بالاشتراط فيهما معا ، وقائل بعدم الاشتراط فيهما ، وقائل بالاشتراط في الفتوى دون الحكم ، وأمّا احتمال اشتراطها في الحكم دون الفتوى فممّا لا قائل به ، فهو منفيّ بإجماع أصحاب هذه الأقوال ، إلاّ أن يدفع بأنّ عدم قائل بهذا التفصيل أعمّ من الإجماع على نفي التفصيل.

وثانيها : بأنّها إنّما اشترطت في الحكم تبعا لاشتراطها في الفتوى ، لظهور المقبولة بقرينة ذكر الميراث في كون المنازعة فيما هو من قبيل الشبهات الحكميّة ـ لجهالة حكم المسألة الّتي ميزان حكم الحاكم فيها فتواه في المسألة ـ لا من قبيل الشبهات الموضوعيّة الّتي ميزان الحكم فيها الإقرار أو البيّنة أو اليمين أو غيرها ، فالواجب في مثل مورد الرواية الحكم بما يقتضيه الفتوى ، ومرجع الأفقهيّة المعتبرة في الحكم إلى الأفقهيّة في الفتوى والحكم تابع لها.

وثالثها : منع كون الحكم في الروايات مرادا به الحكم بالمعنى المصطلح المقابل للفتوى أعني فصل الخصومة ، بل لابدّ وأن يحمل على إرادة المعنى اللغوي المنطبق على الفتوى ، ولا ينافيه « المنازعة » لاحتمال إرادة الاختلاف في حكم المسألة لا الخصومة في الواقعة.

وسند المنع المذكور أوّلا : كون المتبادر من إطلاق الحكم معناه اللغوي وعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه بالقياس إلى المعنى المصطلح.

وثانيا : وجود القرينة عليه في متن المقبولة من قوله : « وكلاهما اختلفا في حديثكم » ، لأنّ المتبادر منه الاختلاف في الفتوى المستندة إلى الحديث أو هي بمنزلة الحديث ، وقوله عليه‌السلام : « أصدقهما في الحديث » ، بتقريب : أنّ الأصدقيّة في الحديث إنّما يناسب ترجيح الفتوى الّتي هي بمنزلة الحديث.

وثالثا : قوله : « فرضيا أن يكون الناظرين في حقّهما » لظهوره في اتّفاق المتنازعين على إناطة رفع النزاع بنظر الحكمين ورأيهما في حكم المسألة من حيث الفتوى.

وتوضيح ذلك : أنّ الغرض من جمع رجلين أو رجال لهم أهليّة الفتوى والحكم يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يقصد به صدور الحكم بمعنى فصل الخصومة من الجميع.

٤٦٥

الثاني : أن يقصد به صدور الحكم من واحد ، ويكون المقصود من حضور الباقين إعانة الحاكم في مقدّمات الحكم لئلاّ يخطئ.

الثالث : أن يقصد من بعضهم صدور الحكم ومن الباقين إمضاءه.

والرابع : أن يقصد استعلام حكم المسألة بما يصدرونه من الفتوى لرضا المتنازعين وتواطئهما على الأخذ به من باب الأخذ بالفتوى.

والرواية بظاهرها لا تقبل إلاّ الحمل على الصورة الأخيرة.

أمّا الصورة الاولى : فلأنّها في نفسها في غاية البعد والغرابة ، إذ الحكم بمعنى فصل الخصومة يحصل بحكم واحد ، واعتبار انضمام الأحكام بعضها إلى بعض مع أنّه غير معهود غير مفيد.

وأمّا الثانية والثالثة : فلأنّه يأباهما ظاهر قوله : « فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ».

لا يقال : إنّ الفتوى أيضا يكفي فيها واحد ، فاعتبار الانضمام فيها أيضا ممّا لا معنى له ، لأنّ لاتّفاق آراء الحكمين مدخليّة تامّة في رفع الاشتباه عن الجانبين ليست هذه المدخليّة في فتوى واحد.

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ إنهاض دلالة الرواية موضع نظر ، لأنّ صرفها عن الحكم بالمعنى الأخصّ إلى ما يعمّ الفتوى محلّ إشكال بملاحظة صدر الرواية ، وهو قوله : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟

فقال : من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّه ثابت ، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به.

قلت : كيف يصنعان؟ قال : انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حاكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله.

قال : فإن كان كلّ واحد اختار رجلا » إلى آخر ما نقلناه.

وهذا كما ترى كالصريح بل صريح في الحكم بالمعنى الأخصّ ، فلا قاضي بتعميمه بالقياس إلى الفتوى.

٤٦٦

ولو سلّم العموم فدلالة الرواية على اشتراط أعلميّة فيما هو من موضوع المسألة محلّ منع ، إذ الترجيح بالأفقهيّة على ما أمر به الإمام عليه‌السلام ليس باعتبار لزوم تقديم فتوى الأفقه من حيث كونه أفقه على فتوى غير الأفقه من حيث إنّه غير أفقه ، بل باعتبار لزوم تقديم رواية الأفقه من حيث إنّه أفقه على رواية غير الأفقه من حيث إنّه غير أفقه ، وذلك لأنّ قول الراوي : « كلاهما اختلفا في حديثكم » يدلّ على أنّه أشكل الأمر عليه ، وإنّ تحيّره إنّما كان من جهة اختلاف الحديثين وتعارض الخبرين ، ولذا كانت المرجّحات المذكورة في الرواية كلّها من مرجّحات الأخبار المتعارضة المعمولة في علاج تعارض الأخبار ، وأمره عليه‌السلام للراوي بالترجيح والرجوع إلى تلك المرجّحات يدلّ على أنّه من أهل النظر والاجتهاد وإنّ له أهليّة الترجيح واستفادة المطالب من الأخبار المتعارضة بعد إعمال النظر في علاج تعارضها ، وعليه فلا يتناول لموضوع المسألة وهو رجوع المقلّد إلى المجتهد وأخذه بفتواه أصلا.

أمّا أوّلا : فلأنّ المراد بالمقلّد من ليس له أهليّة الاجتهاد أصلا ، فلو صادف مجتهدين متفاضلين ليس عليه مطالبة دليلهما ، ولو عثر على دليلهما ليس عليه النظر في مفاديهما ، ولو فهم منهما شيئا ليس له التعويل على فهمه ، ولو ترجّح أحدهما على الآخر لمرجّح معه في نظره ليس له الاعتماد على ترجيحه.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا يلزم أن يكون اختلاف نظري المجتهدين المتفاضلين عن خبرين متعارضين ، بل قد يكون عن مدرك آخر ، وفيما لو كان مدرك اجتهاديهما من الأخبار قد يكون من اختلاف نظرهما في طريق الجمع أو من تعادل الخبرين واختيار كلّ واحدا منهما.

وعلى تقدير كونه من الترجيح بينهما فمدار الترجيح على تحصيل الظنّ الاجتهادي والوثوق بصدور ما يعمل به من المتعارضين ، فقد يحصل لأحدهما الوثوق بصدور أحدهما لمرجّح معه في نظره وللآخر الوثوق بصدور الآخر لمرجّح آخر معه في نظره ، وكلّ مكلّف بظنّه الاجتهادي والبناء على ترجيحه الظنّي ، وعلى جميع التقادير فالمقلّد العامي لا يكلّف بملاحظة مدركيهما ولا إعمال النظر في الجمع والترجيح ، ولا أنّه من وظيفته ذلك أصلا.

الثامن : أنّه لو جاز تقليد المفضول مع وجود الأفضل لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، والتالي باطل فالمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة.

ويمكن دفع الملازمة ، إذ المعتبر في الرجحان والمرجوحيّة رجحان فتوى المجتهد ومرجوحيّتها ـ لأنّها مناط عمل المقلّد ـ لا رجحان شخص المجتهد ومرجوحيّته من حيث

٤٦٧

الأفضليّة والمفضوليّة.

وحينئذ فلو اريد من الرجحان والمرجوحيّة كون فتوى الأفضل راجحة وفتوى المفضول مرجوحة في نظر الشارع فهو أوّل المسألة ، فالاستدلال يعود إلى نوع مصادرة.

ولو اريد كونها راجحة ومرجوحة في نظر العقل فهو أيضا ممنوع بمنع استقلال العقل بالحكم بالرجحان والمرجوحيّة إلاّ بإرجاعهما إلى الأقربيّة إلى الواقع والأبعديّة عن الواقع.

وحينئذ فيرجع الدليل إلى بعض الوجوه المتقدّمة وليس دليلا على حدة ، مع أنّ تجويز تقليد المفضول ليس ترجيحا له على الأفضل بل تسوية بينهما ، وهي ليست من التسوية بين الراجح والمرجوح ، لجواز تساويهما من حيث وصف الإفتاء في نظر الشارع وإن لم يتساويا من حيث المعرفة والفضل.

وبذلك يظهر الفرق بين المقام ومسألة الخلافة الّتي استدلّ لنفيها عن غير مولانا أمير المؤمنين عليه صلوات الله والملائكة والناس أجمعين بلزوم تفضيل المفضول على الفاضل ، لأنّ إعطاء المفضول منصب الإمامة الّتي هي رئاسة عامّة بنفسه تفضيل المفضول وترجيح المرجوح فيكون قبيحا.

حجّة القول بجواز تقليد المفضول اللازم من التخيير بينه وبين الأفضل وجوه :

أحدها : أصالة التخيير ، ويقرّر على وجهين :

الأوّل : استصحاب التخيير الثابت فيما إذا كانا متساويين أوّلا ثمّ فضل أحدهما على الآخر ، فإنّ ارتفاع هذا التخيير بحدوث الفضل غير معلوم فيستصحب ، ويتمّ فيما لم يسبقهما التساوي بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

وتوهّم قلبه بأصالة الاشتغال المقتضية لتعيين الأفضل في صورة عدم سبق التساوي مع تتميمه في صورة السبق بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

يندفع بورود الاستصحاب في نحو المقام على أصالة الاشتغال.

ولا يخفى ضعفه لتبدّل موضوع المستصحب ، فإنّ التخيير إنّما يثبت في حال التساوي والكلام إنّما هو في حال التفاضل وهذا موضوع آخر ، ضرورة أنّ المجتهدين المتساويين والمجتهدين المتفاضلين موضوعان متغايران ، والتخيير من أحكام الموضوع الأوّل وقد انقلب بحدوث الفضل إلى الموضوع الثاني ، ومن المستحيل إجراء حكم موضوع على موضوع آخر مغاير له بالاستصحاب.

٤٦٨

الثاني : أصالة التخيير فيما دار الأمر بينه وبين التعيين ، تمسّكا بأصالة البراءة النافي للضيق الّذي يتضمّنه التعيين.

وفيه : منع كون التخيير في مثل ما نحن فيه أصلا ، بل الأصل هو التعيين.

وتوضيحه : أنّ أصالة التخيير إنّما تسلّم في فردي الكلّي المأمور به إذا احتمل تقييد الماهيّة في مدلوله بما يوجب تعيين أحدهما ، كما لو ثبت وجوب عتق رقبة واحتمل تقييدها بالمؤمنة فيتمسّك بأصالة عدم التقييد وأصالة البراءة النافية لاحتمال الشرطيّة ، وينفرد ذلك عن الأوّل (١) فيما ثبت وجوبه بخطاب غير لفظي أو خطاب لفظي مجمل.

ويسلّم أيضا في الواجبين المضيّقين المتزاحمين ، فإنّ العقل في موضع المزاحمة يحكم فيهما بالتخيير حذرا عن التكليف بغير المقدور ، مع كون كلّ بانفراده مع قطع النظر عن الآخر مقدورا مع انتفاء الأهمّيّة ، بشرط عدم احتمال اشتمال أحدهما على مصلحة متأكّدة موجبة لكونه أهمّ في نظر الشارع ، إذ مع احتماله لا يحكم العقل بالتخيير فيرجع إلى أصل آخر ، ولا يجري إلاّ أصالة الاشتغال المقتضية للتعيين ، إذ مع احتمال وجود نحو المصلحة المذكورة لا محصّل ليقين البراءة إلاّ الإتيان بمحلّ هذا الاحتمال ، ولا مجرى لأصالة البراءة في نحوه كما هو واضح.

وتوهّم كون أصالة عدم سقوط التكليف بالنسبة إليهما معا ممّا ينفي احتمال التعيين المستلزم لسقوط التكليف عن أحدهما.

يندفع : بأنّ التكليف المحكوم بعدم سقوطه بالأصل إن اريد به الوجوب على وجه التعيين فلا شكّ في سقوطه بسبب المزاحمة ، وإن اريد به الوجوب على وجه التخيير فلا شكّ في عدم ثبوته قبل المزاحمة.

وبالجملة الحالة السابقة المعتبرة في الأصل غير باقية في تقدير وغير ثابتة في آخر.

ويسلّم أيضا في طريقين متعارضين شملهما دليل الحجّية تعبّدا عند فقد ما ثبت كونه مرجّحا ، فإنّ العقل فيه باعتبار عدم إمكان الجمع والطرح ربّما يحكم بالتخيير ، إذ مع اشتماله عليه لا يحكم العقل بالتخيير ، فيؤخذ به حينئذ عملا بأصل الاشتغال ، ولا معنى لأصل البراءة فيه أيضا.

وأمّا الشكّ في التعيين والتخيير فيما هو من قبيل التخييرات الشرعيّة كخصال الكفّارة

__________________

(١) أي وينفرد أصالة البراءة عن أصالة عدم التقييد فيما يثبت وجوبه بخطاب غير لفظى الخ.

٤٦٩

فهو وإن قيل فيه بأنّ الأصل هو التخيير ولكنه خلاف التحقيق ، بل الأصل فيه التعيين لأصل الشغل ، المستدعي ليقين البراءة الّذي لا يحصل إلاّ بأداء ما احتمل كونه واجبا بعينه بعد اليقين بوجوبه في الجملة.

والسرّ فيه : أنّه مشتمل على مصلحة ملزمة مقتضية للوجوب قطعا ، ولم يعلم اشتمال ما شكّ في بدليّته له على مثل تلك المصلحة ، فالأصل يوجب اليقين بالبراءة والثاني (١) لا يوجبه ، ويعضده أصالة عدم تعلّق خطاب الشرع به ، مضافا إلى أصالة عدم تعرّض الشارع لتقييد الترك في جانب المنع الّذي يتضمّنه الوجوب المفروض ثبوته فيما احتمل التعيين بكونه لا إلى بدل كما هو لازم التخيير بخلاف التعيين الّذي يستلزم المنع من الترك مطلقا.

وأمّا أصالة البراءة عن الضيق الّذي يتضمّنه التعيين ـ على ما اعتمد عليه القائل بأصالة التخيير ، فمع ورود الاصول المذكورة عليه ـ يندفع : بأنّ الضيق ممّا ليس له معنى محصّل إلاّ المنع من الترك الّذي يتضمّنه الوجوب وترتّب العقاب عليه ، وهذا في محلّ البحث ممّا لا يمكن نفيه بأصل البراءة ، لأنّه حكم عقليّ يحكم به العقل من جهة قبح التكليف والعقاب بلا بيان ، والمفروض في محلّ البحث ثبوت المنع من الترك والعقاب عليه في الجملة.

ومرجع الشكّ في التعيين والتخيير إلى دوران الترك في جانب المنع بين الترك المطلق سواء كان إلى بدل أو لا إلى بدل وبين الترك لا إلى بدل ، وهذا القدر من بيان المنع والعقاب على الترك كاف في منع العقل من الحكم بالقبح.

وبالجملة بعد تحقّق المنع من الترك في الجملة وترتّب العقاب عليه كذلك لا يحكم العقل بقبح المنع من الترك إلى بدل وقبح العقاب عليه كذلك ، وعمومات البراءة المعلّقة لها بالجهل وعدم العلم بالتكليف رأسا لا تتناول ما نحن فيه ، فلا وارد من الاصول على أصالة الاشتغال ، ولا مانع من جريانه هنا مع اعتضاده باصول اخر.

هذا كلّه ، ولكنّ الكلام في أنّ الشكّ في التعيين والتخيير في مسألة التقليد المردّد بين الأفضل والمفضول من أيّ الأقسام المذكورة؟ وينبغي القطع بعدم كونه من قبيل القسم الأخير ، إذ القائل بالتخيير بينهما لا يدّعي التخيير الشرعي ، وبعدم كونه أيضا من قبيل التعيين والتخيير في الواجبين المتزاحمين ، لوجوب الإتيان بهما معا في موضع عدم المزاحمة ، وعدم وجوب تقليد المجتهدين معا في موضع التساوي بل عدم إمكانه.

__________________

(١) أي : ما شكّ في بدليّته.

٤٧٠

نعم يجوز كونه من قبيل التعيين والتخيير في فردي الكلّي المأمور به ، بتقريب : أنّ الواجب على المقلّد تقليد المجتهد ، وهو أمر كلّي ذو أفراد ، ولذا يحكم العقل بالتخيير عند تعدّد المجتهدين وتساويهما في الفضل والمعرفة ، كما يجوز كونه من قبيل التعيين والتخيير في الطريقين والأمارتين المتعارضتين.

ويشكل الأمر حينئذ من حيث إنّ قضيّة اندراجه في كلّ من القسمين لحوق حكمه به ، فيتردّد بين كون الأصل فيه التخيير لأصالة البراءة النافية لاشتراط الأعلميّة ، أو التعيين لاشتمال قول الأفضل على ما يحتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع فيرجع فيه إلى أصل الشغل اليقيني.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّه على تقدير اندراجه في فردي الكلّي المأمور به لا يلحق به حكمه ، لما عرفت عند بيان حجج القول باشتراط الأعلميّة من الفرق بين الشكّ في شرطيّة شيء لواجب نفسي يترتّب العقاب على تركه ، والشكّ في شرطيّة شيء لما هو طريق إليه فلا يترتّب العقاب على تركه من حيث هو ، وأصل البراءة النافي لاحتمال الشرطيّة إنّما يجري في الأوّل ، والأعلميّة على تقدير الشرطيّة معتبرة في الطريق إلى امتثال أحكام الله الّذي لا يترتّب على تركه من حيث هو عقاب ولو مع ثبوت الشرطيّة فكيف مع عدم ثبوتها ، بل العقاب إنّما يترتّب على ترك امتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال ، فلابدّ من إحراز البراءة فيه تخلّصا عن العقاب المترتّب على تركه ، كما أنّه لا بدّ من تحصيل اليقين بالبراءة عنه دفعا لخوف العقاب عن النفس ، ولا يحصل اليقين إلاّ بمراعاة الأعلميّة في الطريق ، لكون الرجوع إلى الأعلم مبرئا يقينا بخلاف غيره ، وهذا ممّا لا وارد عليه من طرف أصل البراءة ، فالأصل فيما نحن فيه على كلّ تقدير هو التعيين لا غير.

وثانيها : إطلاق الأدلّة اللفظيّة الناهضة بوجوب رجوع العامي الجاهل في الفروع إلى العالم الفقيه من الآيات ، كآيات السؤال ، والنفر ، والكتمان والروايات مثل قوله عليه‌السلام في خبر الاحتجاج : « ومن كان من الفقهاء صائنا لدينه ، حافظا لنفسه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ».

وقوله عليه‌السلام في التوقيع : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل ».

٤٧١

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيضا في الخبر العامي : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » بتقريب : أنّ أهل الذكر في آية السؤال مطلق في الفاضل والأفضل والمفضول وهو يقتضي التخيير ، خصوصا مع ملاحظة أنّ الغالب في أهل العلم تفاوت مراتبهم واختلاف مدارجهم في الفضل والمعرفة ، وإنّ مساواة اثنين منهم من جميع الجهات في غاية القلّة ، بل لك أن تقول : إنّ الأمر بالرجوع إلى الطائفة المختلفة الآحاد في المراتب والآراء بنفسه دليل على اشتراك الجميع في مصلحة الرجوع ، وكذلك الأمر بإنذار المتفقّهين وإيجاب الحذر عقيب إنذار المنذرين مع جريان العادة بتفاوت مراتبهم ، فإنّه بإطلاقه يدلّ على وجوب قبول إنذار المنذر سواء كان فاضلا أو مفضولا ، وهكذا يقرّر الإطلاق في باقي المذكورات ، بل بعضها عامّ اصولي يتناول الفاضل والمفضول على حدّ سواء.

والجواب عن ذلك ـ بعد تسليم نهوض دلالاتها واعتبار أسانيد الروايات منها ـ : أنّ إطلاقاتها ليست متعرّضة لمقام الأعلميّة بإثبات ولا بنفي ، بل إنّما هي مسوقة لبيان المرجعيّة وإعطاء الحجّية الذاتيّة ، ولا ينافيها اشتراط الأعلميّة على القول به في صورة الاختلاف ، إذ ليس مرجعه إلى نفي المرجعيّة عن غير الأعلم ونفي حجّية قوله ، بل إلى بيان المانع كما نبّهنا عليه سابقا ، فعدم جواز الرجوع إلى غير الأعلم مع الأعلم ليس لفقده مقتضي الجواز وهو الحجّية الذاتيّة بل لوجود المانع.

ومن المعلوم أنّ كون الأعلم مانعا من الرجوع إليه لا ينافي حجّية قوله المقتضية لوجوب الرجوع إليه على تقدير فقد الأعلم ، لوضوح أنّ عدم المانع ليس جزءا للمقتضي ، فمعنى كون الأعلميّة شرطا إنّ عدمها ممّا يتوقّف عليه جواز الرجوع إلى غير الأعلم ، لا أنّ وجودها ممّا يتوقّف عليه جواز الرجوع إلى الأعلم.

وبالجملة لوجودها مدخليّة في العدم كما هو ضابط المانعيّة ، لا أنّ له مدخليّة في الوجود على ما هو ضابط الشرطيّة.

غاية الأمر أنّ في إطلاق الشرط عليها مسامحة ، ولذا لا يلزم بدليل اشتراطها لها تخصيص في الإطلاقات المذكورة ، ألا ترى لو قيل لمريض يحتاج إلى العلاج : « ارجع إلى الأطبّاء » ورجع إليهم فحصل الاختلاف بينهم في المعالجة إلى أن حصل له التحيّر لاختلافهم ، ثمّ قيل له : « اعمل بقول أفضلهم وأكملهم » لم يناقض ذلك القول للقول الأوّل عرفا ، وليس إلاّ من جهة أنّ القول الأوّل ساكت عن مقام التعارض ، وأنّه ليس إلاّ لمجرّد بيان مرجعيّة

٤٧٢

الأطبّاء ، ومرجعيّة المفضول منهم لوجود المقتضي فيه لا ينافيها عدم الرجوع إليه لمانع وهو وجود الأفضل.

هذا مضافا إلى منع اندراج موضوع المسألة في تلك الإطلاقات المفروض تناولها للأعلم وغير الأعلم ـ على تقدير تسليمه ـ من جهة اخرى ، وذلك لأنّ موضوع المسألة المتنازع فيه إنّما هو المجتهدان المتفاضلان المختلفان في الرأي ، فيعتبر فيه مع التفاوت في الفضل اختلافهما في الرأي ، والآيات المذكورة مع الأخبار من الخطابات الشفاهيّة فيكون بحسب المورد مخصوصة بالموجودين في زمن الخطاب في أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة ، وتفاوت مراتبهم في الفضل والأعلميّة وإن كان بمقتضى العادة معلوما ، إلاّ أنّ اختلافهم في الآراء والمسائل غير معلوم إن لم نقل بمعلوميّة خلافه ، ولا أقلّ من دعوى غلبة الموافقة فيكون المطلقات واردة مورد الغالب فلا تنصرف إلى النادر ، فعلى المستدلّ بإطلاقها أو عمومها إثبات المخالفة أوّلا ، ومنع غلبة الموافقة ثانيا ، وأنّى له بذلك؟

وثالثها : لو لم يكن المفضول قابلا للتقليد لزم مساواة العالم للجاهل ، واللازم باطل لآية نفي المساواة (١) فكذا الملزوم ، وبيان الملازمة : أنّ العامي غير قابل للتقليد إجماعا ، والمفروض مشاركة العالم المفضول معه في ذلك ، فيلزم ما ذكر.

وفيه مع إمكان قلبه بما يكون نتيجته لزوم تقليد الأعلم كما تقدّم بيانه في حجج القول به ما عرفت من وجوه الفساد ثمّة.

ورابعها : ما أشار إليه بعض الفضلاء من أنّه : « لو لا جواز تقليد المفضول لم يجز لمعاصري الأئمّة عليهم‌السلام أخذ المسائل من فضلاء أصحابهم مع حضورهم ، لكونهم أفضل من أصحابهم بمراتب شتّى ، واللازم باطل فكذا الملزوم ».

والجواب : منع الملازمة ، لعدم العلم بمخالفة أصحاب الأئمّة لهم في الفتاوى ، بل المعلوم خلافه ، مع أنّ العلم بمخالفة الإمام يوجب القطع ببطلان الفتوى رأسا ، ولم يعهد من أحد تجويز التقليد مع العلم ببطلان الفتوى ، بل هذا غير جائز إجماعا ولو مع أفضليّة المفتي.

وخامسها : السيرة المستمرّة بين أهل التقليد من السلف إلى زماننا هذا ، لوضوح أنّ عوام كلّ عصر في كلّ مصر من يومنا إلى زمن الأئمّة عليهم‌السلام لم يكونوا ملتزمين بطالب الأعلم ، ولا مسافرين إلى أطراف البلاد وجوانبها في تحصيل الأفضل ، بل كانوا آخذين

__________________

(١) وهي قوله تعالى : « هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ».

٤٧٣

بقول كلّ فقيه جامع لشرائط الإفتاء من دون مراعاة الأعلميّة مع غلبة تفاوت مراتب الفهم والفضل في طائفة الفقهاء والمجتهدين والرواة والمحدّثين ، ولم ينقل من الأئمّة عليهم‌السلام ولا الصحابة ولا التابعين الإنكار عليهم.

والجواب : منع تحقّق السيرة على وجه تكشف عن رأي المعصوم ورضاه بالرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل في صورة العلم بالمخالفة لا في زمن الأئمّة ، ولا في الأزمنة المتأخّرة إلى زماننا.

هذا ، أمّا في الأوّل : فلأنّ مخالفة أصحاب النبيّ والأئمّة بعضهم بعضا في المسائل على تقدير تسليم وجودها كانت نادرة ، والعلم بها مع ذلك كان أندر ، فلم يثبت ثمّة رجوع المقلّدين منهم إلى المفضولين في صورة المخالفة مع العلم بها.

وأمّا في الثاني : فلأنّ المقلّدين في الأزمنة المتأخّرة على أنحاء ، منهم من يتحرّى في طلب الأعلم تقليدا لمجتهد أوجب تقليد الأعلم ، ومنهم من يتحرّى في طلبه احتياطا لغاية تقواه وورعه في الدين ، ومنهم من يأخذ من غير الأعلم تقليدا لمجتهد لم يوجب تقليد الأعلم ، ومنهم من يأخذ من كلّ مجتهد من دون مراعاة الأعلم لتسامحه وقلّة مبالاته في الدين ، فأيّ سيرة مع ذلك يتمسّك بها لنفي اعتبار الأعلميّة؟

وسادسها : لزوم العسر والحرج في الاقتصار على تقليد الأفضل ، سيّما إذا اريد به من كان أفضل أهل عصر المقلّد لا خصوص أفضل بلده كما لعلّه الظاهر من كلام المانعين من تقليد المفضول مع وجوب الأفضل.

ويمكن المناقشة فيه تارة : بمنع الصغرى ، واخرى : بمنع الكبرى.

أمّا الأوّل : فلأنّ العسر المتوهّم لزومه من وجوب الاقتصار على تقليد الأعلم إن اريد به ما يتضمّنه إحراز الأعلميّة بتقريب : أنّها من الامور الباطنيّة والصفات النفسيّة فيعسر الاطّلاع عليها على تقدير الشكّ في وجود الأعلم من باب الشكّ في حدوث الأعلميّة لبعض المجتهدين.

ففيه أوّلا : أنّ أعلميّة المجتهد ليست إلاّ كاجتهاده ، وكما أنّ اجتهاده ممّا يمكن إحرازه من دون عسر وحرج فكذلك أعلميّته بعد الفراغ عن إحراز اجتهاده ، وحلّه : أنّ الأعلميّة كالاجتهاد موضوع من الموضوعات الخارجيّة المعروفة يمكن إحرازها بالرجوع إلى أهل الخبرة وغيره.

٤٧٤

وثانيا : أنّ مرجع القول باعتبار الأعلميّة إلى ترجيح أعلم المجتهدين على غيره ، على أنّ الأعلميّة من قبيل المانع فيؤثّر في منع تقليد غير الأعلم في صورة العلم بوجود الأعلم ، وأمّا صورة الشكّ فيكفي في الحكم بجواز تقليد كلّ مجتهد مجرّد عدم العلم بوجوده.

غاية الأمر مسيس الحاجة إلى التمسّك بأصالة عدم حدوث الأعلميّة ، لا على أنّها من قبيل الشرط الّذي لو لا إحرازه في موضوع الشكّ لم يجز تقليد أحد كأصل الاجتهاد ليؤدّي وجوب إحرازها إلى العسر والحرج.

وثالثا : أنّها على تقدير كونها من قبيل الشرط فالعسر اللازم من إحرازها على فرض تسليمه إنّما يلزم لو وجب إحرازها بطريق العلم لا مطلقا حتّى على تقدير الاكتفاء فيه بالظنّ المطلق ، فنفيه إنّما ينتج نفي اعتبار العلم في إحرازها لا نفي اعتبارها رأسا ، فيجوز الاكتفاء في إحرازها بالظنّ مطلقا كما لعلّه الأظهر ، بناء على الفرق بينها وبين أصل الاجتهاد بلزوم العلم أو ما يقوم مقامه في الثاني وكفاية الظنّ في الأوّل كما سنقرّره.

وإن اريد به ما يتضمّنه تشخيص الأعلم عن غيره ، أعني معرفة شخصه بعد العلم بوجوده إجمالا والجهل بشخصه من باب العلم بحدوث الأعلميّة والشكّ في الحادث ، بتقريب : أنّ الغالب في العلماء والمجتهدين تفاوت مراتبهم قوّة وضعفا فيعسر تشخيص الأعلم عن غيره مع كون المعتبر منه الأعلم المطلق لا مطلق الأعلم حتّى الإضافي منه ، لأنّه كلّما علم في مجتهد كونه أعلم من غيره فيحتمل وجود مجتهد ثالث أعلم من هذا الأعلم وهكذا ، ومرجعه إلى عسر العلم بالأعلم المطلق الّذي هو أعلم الكلّ.

ففيه : أنّ الأعلم يعرف حينئذ بالرجوع إلى أهل الخبرة أيضا من دون عسر خصوصا مع البناء على كفاية مطلق الظنّ فيه ، ومع اختلاف أهل [ الخبرة ] يتبع أقوى الظنّين.

وإن اريد به ما يتضمّنه الرجوع إلى الأعلم بعد معرفته والأخذ بفتاويه ، بتقريب : أنّه لا يتيسّر لكلّ أحد حتّى البلدان النائية.

ففيه : أنّ الرجوع إلى الأعلم وكذلك تشخيصه عند القائلين بوجوبه يتقدّر بقدر الإمكان الغير البالغ حدّ العسر والحرج ، فإن اقتدر المكلّف على الأخذ بفتاوى الأعلم المطلق بلا واسطة أو بواسطة رواية العدول عنه أو بواسطة رسائله من غير عسر ـ كما هو الغالب بعد فتح باب قبول الرواية وعدم اعتبار المشافهة ، أو فتح باب تأليف الرسائل وحملها إلى البلدان النائية ـ تعيّن ذلك ، وإلاّ وجب الرجوع إليه مع مراعاة الأعلم فالأعلم ، بناء على أنّ المراد

٤٧٥

بالأعلم وإن كان هو الأعلم المطلق إلاّ أنّ مناط وجوب الرجوع إليه عند تعذّره أو تعسّره مطّرد في الأعلم الإضافي أيضا ، فلا حرج في شيء من الصور.

وأمّا الثاني : أنّ النفي المستفاد من العمومات النافية له مثل قوله عزّ من قائل : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) وقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بعثت بالملّة الحنيفيّة السهلة السمحة » إنّما يجدي في نفي اعتبار الأعلميّة مطلقا بعد تسليم تأديته إلى العسر والحرج على معنى لزوم العسر الغالبي في حقّ غالب الناس إذا كان العسر المنفيّ بتلك الأدلّة نوعيّا ، بأن يكون تشريع الحكم مؤدّيا إلى العسر في غالب الوقائع على غالب الأشخاص كما هو خيرة بعض الفضلاء صريحا ، حيث قال ـ في مسألة عقد لتحقيق تلك القاعدة بعد ذكر جملة من أدلّتها ـ : « فكلّ حكم يؤدّي إلى العسر والحرج بالنسبة إلى أكثر موارده وأغلب أفراده فهو مرتفع عنّا من أصله حتّى بالنسبة إلى الموارد الّتي لا يترتّب عليه فيها عسر وحرج ، إذ إناطة الحكم حينئذ بصورة تحقّق العسر والحرج مؤدّية أيضا إلى العسر والحرج » انتهى ما أردنا ذكره.

ولعلّه موضع [ منع ] لجواز كونه شخصيّا بأن يلزم من تشريع الحكم عسر في شخص الواقعة على شخص المكلّف ، ولا يكفي لزومه في الغالب على الغالب في ارتفاعه عن الشخص في الشخص وإن لم يتحقّق بالنسبة إليه بالخصوص عسر كما اختاره بعض مشايخنا قدّس الله أرواحهم ، تعليلا بأنّ المستفاد من ظاهر ما هو عمدة أدلّة رفع الحرج إنّما هو إناطة الرفع بالعسر وجودا وعدما على وجه يكون العسر بالنسبة إلى رفع الحكم من باب العلّة الّتي يجب اطّرادها لا الحكمة الّتي لا يضرّ عدم اطّرادها.

أقول : ولعلّ الوجه في دعوى الظهور أنّ العمدة من أدلّة نفي العسر والحرج إنّما هو عموم الآيات الّتي منها ما عرفت ، ومنها قوله تعالى : ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ ) في الدين ( مِنْ حَرَجٍ ) والحكم السلبي في هذه الآيات معلّق على ضمير الجمع وهو على ما حقّق في محلّه من صيغ العموم ، وهي بحسب الوضع اللغوي أو الانفهام العرفي يفيد العموم الأفرادي لا المجموعي ، فمفاد قوله : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) نفي الحكم الحرجي عن كلّ واحد على طريقة السلب الكلّي على حدّ قوله : ( لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) وقوله : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) إرادة اليسر بكلّ واحد وعدم إرادة العسر بكلّ واحد أيضا من باب السلب الكلّي أيضا.

٤٧٦

وقضيّة ذلك كون كلّ فرد بانفراده مستقلاّ في موضوعيّته للحكم السلبي المتعلّق بالعسر والحرج ، أعني الضيق والشدّة والمشقّة حيثما تحقّق ، سواء كان تحقّقه لغالب الأفراد أو أغلبها أو نادرها أو أندرها ، وهذا هو معنى إناطة رفع التكليف بالعسر وجودا وعدما ، على أن يكون العسر من باب العلّة الواجب اطّرادها ، ولا ينافيه النبوي المتقدّم « بعثت بالملّة الحنيفيّة السهلة السمحة » ـ بتقريب : أنّ المراد بالملّة هنا الشريعة ، وسهولة أحكام الشرع وسماحتها تقتضي عدم مجعوليّة الحكم الحرجي من أصله ، واللازم من ذلك انتفاء الجعل بالقياس إلى جميع الموارد حتّى الموارد النادرة الّتي لم يلزم من ثبوت الحكم فيها عسر وحرج ـ لتطرّق المنع إلى دلالة السهولة والسماحة على نفي المجعوليّة رأسا ، لجواز أن يراد بهما إفادة انتفاء الحكم عن مورد يلزم من ثبوته فيه العسر والحرج ، سواء كان ذلك هو المورد الغالب أو النادر أو ما بينهما ، وهذا لا ينافي ثبوت مجعوليّته بالذات ولو بالقياس إلى الموارد النادرة الّتي لا يتحقّق فيها عسر ولا حرج.

وعلى تقدير اقتضاء السهولة والسماحة لنفي الجعل فغايته نفي جعله عن خصوص مورد العسر لا مطلقا.

نعم ربّما يستشمّ من كلمات العلماء في كثير من المقامات الّتي يتمسّكون فيها لنفي الحكم الحرجي بتلك القاعدة اعتبار العسر النوعي المنوط بالعسر الغالبي ، ومن جملة ذلك تمسّكهم بلزوم العسر والحرج في نفي وجوب العمل بالاحتياط عند تتميم دليل الانسداد المنتج لحجّية الظنّ ، وتمسّكهم به أيضا لنفي وجوب الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة مع أنّه في كلّ من المقامين إنّما يلزم في غالب الموارد في حقّ غالب الأشخاص ، ولا يلزم في بعض الوقائع بالنسبة إلى غالب الأشخاص ولا في غالب الوقائع بالقياس إلى بعض الأشخاص ، ولا في البعض بالقياس إلى البعض ، وكذلك ما قد يوجد في كلامهم من استنادهم إلى القاعدة في مسألة حلّية جوائز الظلمة ومسألة طهارة الحديد وطهارة المخالفين ومشروعيّة القصر في صلاة المسافر ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه الخبير البصير ، فيدخل في الوهم بملاحظة هذه الموارد إجماعهم على كون المعتبر في نفي العسر والحرج هو العسر النوعي لا الشخصي فينهض ذلك مزاحما لظاهر الآيات.

ولكن يزيّفه : منع كون المنساق من كلماتهم في الموارد المذكورة ونظائرها إجماعهم على ما ذكر ، لجواز كون نفي الحكم في الموارد المذكورة على وجه الاطّراد والسلب الكلّي

٤٧٧

ثابتا بالإجماع أو النصّ أو دليل آخر وكون استنادهم إلى القاعدة من باب تأييد الدليل لمجرد اتّفاق موافقة ذلك الدليل لها ولو في الجملة من دون [ أن يكون ] النفي مستفادا من نفس القاعدة على وجه التأسيس ، كما يتّفق نظيره كثيرا بل على وجه الشيوع في الموارد الاخر حيث يثبتون أصل الحكم بالنصّ أو الإجماع. ثمّ يؤيّدونه بأصل أو قاعدة.

ويحتمل أيضا كون استنادهم إلى القاعدة المذكورة بعد الفراغ عن إثبات نفي الحكم على الوجه الكلّي من باب بيان النكتة بعد الوقوع وإبداء الحكمة ولو احتمالا بعد الثبوت ، فالأقوى حينئذ في تحقيق القاعدة هو العسر الشخصي لا غير.

وعليه فأحكام الشرع بالقياس إلى العسر الغالبي والعسر النادري على قسمين :

أحدهما : ما يؤدّي إلى العسر والحرج في بعض الموارد ولو بندرة.

وثانيهما : ما يؤدّي إليهما في أكثر الموارد وهما متشاركان في وجوب الاقتصار في رفع الحكم على صورة تحقّق العسر ولا يجوز التخطّي عنها إلى غيرها ممّا لا يتحقّق فيه عسر أصلا.

فاتّجه أنّ الأقوى في مسألة الأعلميّة هو الاعتبار ووجوب تقليد الأعلم ما لم يؤدّي إلى العسر والحرج في مسألة تشخيص الأعلم ولا في مسألة الرجوع إليه بعد معرفة شخصه.

وأمّا التكلّم في صغرى ذلك فالّذي ينبغي الإذعان به على وجه القطع هو لزوم العسر في الجملة وإنكاره مكابرة لا ينبغي الإصغاء إليها.

وأمّا كونه عسرا نادريّا أو أكثريّا أو غالبيّا فلا يهمّنا النظر في تحقيقه ، بل ولا يجدينا نفعا بعد نفي اعتبار العسر الأغلبي والتزام العسر الشخصي.

وينبغي ختم المسألة برسم امور مهمّة :

الأمر الأوّل

قد ظهر من تضاعيف المسألة أنّ تقليد الأعلم إنّما يجب عند اختلاف المجتهدين في الرأي وتفاوتهما في الفضل ، فإن علم بالاختلاف والتفاضل في محلّ الابتلاء تفصيلا فلا إشكال في تعيّن الرجوع إلى الأفضل حينئذ ، وإن شكّ في أحد الوصفين فإمّا أن يكون هو الاختلاف مع إحراز التفاضل أو التفاضل مع إحراز الاختلاف فالكلام في مقامين :

المقام الأوّل : فيما لو شكّ في الاختلاف فإمّا أن يكون مع العلم الإجمالي به أو لا؟

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ذلك العلم الإجمالي في محصور أو في غير محصور.

٤٧٨

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون في محلّ الابتلاء أو في غير محلّ الابتلاء كما لو كان في مسائل الحيض أو الحجّ أو الجهاد أو غير ذلك ممّا لا تعلّق له بالمكلّف.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون فتاوى المفضول على طبق الاحتياط ـ كأن أفتى بالوجوب أو الحرمة أو النجاسة والأفضل أفتى بما يضادّها ـ أو يكون بالعكس فالصور خمس :

الصورة الاولى : وهو الشكّ الغير المجامع للعلم الإجمالي ، فقد يقال فيها وفي الثانية والثالثة وهما المجامع له في غير محصور أو في محصور لم يكن محلاّ للابتلاء بأنّه لا يتعيّن عليه الرجوع إلى الأعلم ولا يجب عليه الفحص عن الاختلاف ، بل يجوز له الأخذ من غير الأعلم بلا فحص للأصل وعدم الدليل على وجوب الفحص ، وأصالة عدم المانع نظرا إلى أنّ الاختلاف حيثما تحقّق فهو مانع من الأخذ من غير الأعلم والأصل في محلّ الشكّ عدمه ، والسيرة القطعيّة بين المقلّدين بل سيرة الموجودين في أعصار الأئمّة عليهم‌السلام المأمورين بالأخذ من رجال معلومين من فضلاء أصحابهم كزكريّا بن آدم ، ويونس بن عبد الرحمن ، ومحمّد بن مسلم ، وابن أبي يعفور وأضرابهم ، لما علم من سيرتهم كونهم إنّما يرجعون إليهم من دون فحص مع العلم العادي باختلافهم في الفضل.

وفيه : بالنسبة إلى الصورتين الاوليين نظر بل منع ، بل الوجه فيهما تعيّن الرجوع إلى الأعلم لعين ما دلّ على اعتبار الأعلميّة ووجوب الرجوع إلى الأعلم وهو قاعدة الاشتغال ، لوضوح أنّ الأخذ منه على كلّ تقديري الخلاف والوفاق في المسائل يوجب اليقين بالخروج عن عهدة الحكم الظاهري ، لأنّه بحسب الواقع إمّا معيّن أو أحد فردي الواجب المخيّر فيه ، بخلاف الأخذ من غيره لاحتمال الخلاف المانع من الأخذ منه ، والتمسّك بأصالة عدم المانع كالتمسّك بالسيرة مخدوش.

أمّا الثاني : فيظهر وجهه بملاحظة ما مرّ في دفع السيرة المتمسّك بها لنفي اعتبار الأعلميّة رأسا.

وأمّا الأوّل : فلامتناع الأصل في مورد الشكّ في الحادث ، لعدم رجوع الشكّ في الاختلاف في مفروض المسألة إلى حدوث الخلاف بين المجتهدين ، بل إلى الحادث المردّد بين كونه الخلاف أو الوفاق في المسائل ، فإنّ الاجتهاد واستنباط الأحكام الناشئ عن الملكة النفسانيّة قد حدث من المجتهدين معا إلاّ أنّه بحسب الخارج قد يحصل على وجه الخلاف وقد يحصل على وجه الوفاق فواحد من الوصفين قد حدث يقينا والشكّ إنّما هو في الحادث

٤٧٩

وهو ممّا لا يمكن تعيينه بالأصل ، إمّا لعدم جريانه رأسا كما هو المحقّق ، أو لكونه معارضا بمثله إن صحّحنا جريانه.

نعم ربّما يدخل في الوهم كون الشكّ المجامع للعلم الإجمالي في غير محصور ـ كما هو عنوان الصورة الثانية ـ من باب الشبهة الغير المحصورة المجمع على عدم حجّية العلم الإجمالي فيها ، الباعث على عدم وجوب الاجتناب مطلقا لعدم تنجّز الخطاب بالواقع فيجري فيه أيضا ذلك الحكم الّذي هو أصل في كلّ شبهة غير محصورة ، واللازم من ذلك سقوط احتمال وجوب التعيين بالقياس إلى الأخذ من الأعلم.

ولكن يزيّفه : أنّ الوجه في عدم تأثير العلم الإجمالي في الشبهة الغير المحصورة في تنجّز التكليف بالواقع في الشبهة الغير المحصورة ـ على ما بيّنّاه في محلّه ـ هو انتفاء شرط تأثيره الّذي هو شرط حجّيته ، وهو أحد الأمرين من التمكّن من الامتثال بطريقة الاحتياط ، أو التمكّن من العلم التفصيلي الّذي هو أيضا يرجع إلى التمكّن من الامتثال في الشبهة الغير المحصورة ، بخلاف ما نحن فيه لتحقّق شرط التأثير فيه وهو التمكّن من الامتثال بواسطة الاحتياط الّذي يحصل في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير بالأخذ بمحتمل التعيين ، لكونه مبرئا للذمّة ومخرجا عن العهدة يقينا على كلّ التقديرين حسبما بيّنّاه ، فالوجه في الصورتين أحد الأمرين من الفحص إحرازا للموافقة الّذي هو مناط التخيير أو الرجوع إلى الأعلم لا غير ، وكذلك الحكم في الصورة الخامسة وهو الشكّ المجامع للعلم الإجمالي في محصور هو من محلّ الابتلاء مع مطابقة فتاويه الاحتياط فلا وجه للتأمّل في حكمه.

نعم ينبغي القطع بالتخيير وجواز الأخذ من غير الأعلم بلا فصل في الصورة الثالثة والرابعة.

أمّا الاولى : فلفرض انتفاء الخلاف في محلّ الابتلاء الّذي هو محلّ التقليد لا غير ، فلا مانع من الرجوع إلى غير الأعلم.

وأمّا الثانية فلأنّ الاختلاف المعلوم بالإجمال في محلّ الابتلاء هنا مع مطابقة فتاوى غير الأعلم للاحتياط لا يصلح مانعا من الرجوع إلى غير الأعلم مطلقا إلاّ باعتبار لزومه المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي.

ويدفعه : أنّ مخالفة العلم الإجمالي ـ على ما قرّر في محلّه ـ إنّما يقبح عقلا إذا كانت عمليّة وهي هنا التزاميّة ولا قبح فيها ، وذلك لأنّ الالتزام بالوجوب أو الحرمة أو النجاسة

٤٨٠