تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

وقد صنّف جماعة من قدمائنا كتبا في ردّ الاجتهاد وعدم جواز الأخذ به ، منها : كتاب « النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد » وذكره النجاشي (١) والشيخ في مصنّفات الشيخ الجليل إسماعيل بن عليّ بن إسحاق عن أبي سهل بن نوبخت. ومنها : كتاب « النقض في اجتهاد الرأي عليّ ان الراوندي ». ذكره الشيخ (٢) في ترجمة إسماعيل المذكور نقلا عن ابن النديم أنّه من مصنّفاته. ومنها : « الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس » من مصنّفات عبد الله بن عبد الرحمن الزبيريّ ذكره النجاشي (٣) ، ومنها : كتاب « الردّ على من ردّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول » من مؤلّفات الشيخ الجليل هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح الدلفيّ (٤) ذكره النجاشي (٥). ومنها : كتاب « النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي » من مؤلّفات الشيخ المفيد (٦) ، إلى غير ذلك من الكتب في هذا الشأن » انتهى (٧).

والجواب : بمنع منافاة الامور المذكورة لطريقة أصحابنا المجتهدين المعمولة لديهم خلفا عن سلف ، وهي الاجتهاد بمعنى بذل الوسع وتحمّل المشقّة في فهم الكتاب والأخبار النبويّة والإماميّة ، وتمييز ما يعتبر منها عمّا لا يعتبر ، وإجراء القواعد المقرّرة في الشريعة من أصالة البراءة والإباحة والاحتياط وغيرها من الاصول الممهّدة المعتبرة.

فأمّا عبارة الكليني والصدوق فهي صريحة فيما ينطبق على ما تقدّم في الخطب والوصايا وغيرها من الأخبار ، من منع البناء في الشريعة على الأخذ بالرأي والقياس وغيرهما من الاستدلالات العقليّة والاستحسانات الذوقيّة الغير المنتهية إلى القطع بالحكم ولا العلم بالاعتبار على ما هو متداول بين العامّة ، ومعلوم بضرورة من المذهب أنّ أصحابنا لا يقولون بشيء من ذلك إلاّ من شذّ منهم وضعف ، كابن الجنيد على ما اشتهر منه من بنائه على الرأي والقياس.

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣١ ، رقم ٦٨.

(٢) الفهرست ـ للشيخ الطوسي ـ ٣١ ، رقم ٣٦.

(٣) رجال النجاشي : ٢٢٠ ، رقم ٥٧٥.

(٤) وفي المصدر : « المدني » بدل « الدلفيّ » وهو سهو ، والصواب ما أثبتناه في المتن كما ضبطه العلاّمة في إيضاح الاشتباه ـ راجع إيضاح الاشتباه : ٣١٥.

(٥) رجال النجاشي : ٤٤٠ ، رقم ١١٨٦.

(٦) رجال النجاشي : ٣٩٩ ، رقم ١٠٦٧.

(٧) هداية المسترشدين ٣ : ٦٨٣.

٦١

وأمّا عبارة السيّد فعلى تقدير كون المراد من الظنّ والاجتهاد المأخوذين فيها الظنّ الاجتهادي المتداول عند الأصحاب ، والاجتهاد المأخوذ فيه الظنّ بهذا المعنى فهي محمولة على ما يراه في وجه المنع من حجّيّة أخبار الآحاد من قطعيّة الأحكام بالكتاب والإجماع والأخبار المفيدة للعلم بتواتر أو استفاضة أو غير ذلك ، المعبّر عنها بانفتاح باب العلم على ما هو المعروف منه ومن أحزابه ، فإنّ هذه الدعوى لو صحّت مطلقة أو في خصوص عصره وما قاربه لقضت بالمنع ممّا عدا العلم قضاء ضروريّا لا يكاد يخفى على أحد من الإماميّة ، وطريقة المجتهدين مبنيّة على فرض الانسداد وعدم التمكّن من العلم في الغالب ، وعليه فلا أظنّ السيّد وأحزابه منكرين لتعيّن العمل بالظنّ ، كيف والمسألة على هذا التقدير إجماعيّة بل ضروريّة على ما ستعرف ، كما أنّ خلافها على تقدير الانفتاح كذلك ، بل تكرّر منه التصريح بالجواز بل الإجماع عليه على فرض الانسداد ، وقد وقفنا عنه بذلك في غير موضع أشرنا إليه في الأجزاء الاخر من الكتاب.

وعليه ينطبق ما عرفت عن ابن إدريس أيضا ، لأنّه كالسيّد في دعوى قطعيّة الأحكام القاضية بعدم حجّية أخبار الآحاد وغيرها من الطرق الغير العلميّة فيها ، هذا مع احتمال كون الاجتهاد في كلامهما مرادا به بعض الوجوه التخريجيّة من هوى ورأي أو استخراج علّة بالطرق المعمولة لدى العامّة ، كما عرفت نظيره فيما ورد في بعض الأخبار المتقدّمة ، وستعرف أيضا تعيّن الحمل عليه في بعض العبارات المذكورة ، كما يحتمل كون الظنّ في كلام السيّد مرادا به الظنّ المستفاد من بعض الوجوه التخريجيّة أو الظنّ الملحوظ بنفسه الغير المنتهي إلى القطع بالاعتبار.

وأمّا عبارة الشيخ فما تضمّن منها لفظ « الاجتهاد » فمحمول على ما تقدّم في بعض الأخبار فيراد به الرأي أو الاستحسان أو غير ذلك ممّا يؤخذ عند العامّة مدركا للحكم ، بدليل قوله : « ليسا بدليلين » فإنّ نفي الدليليّة عنه يقتضي كونه في مقابلة من يأخذه دليلا.

والّذي يقول بجوازه الأصحاب ليس عبارة عندهم عن الدليل ، بل هو على ما عرفت سابقا عبارة عن بذل الوسع في فهم الدليل بمقتضى قواعدهم المقرّرة ، فبين المعنيين بون بعيد ، وظاهر أنّ المنع من أحدهما لا يستلزم المنع من الآخر.

وما تضمّن منها لفظ « الظنّ » فظاهره بقرينة استثناء بعض الموضوعات كون المراد بالظنّ فيه ما يستعمل في تشخيص الموضوعات الخارجيّة ليترتّب عليها الأحكام المعلومة في

٦٢

الشريعة ، فمفاده المنع من التعويل على هذا الظنّ كما هو المشهور بين المجتهدين المتعبّدين في الأحكام بالظنّ المستفاد من الأدلّة المعهودة عندهم والطرق المقرّرة لديهم ، وهذا هو الحقّ في المسألة.

نعم يشكل الحال في استثناء ما ذكره من الشهادة ، من حيث إنّ العمل بالشهادة في مواردها ليس من باب التعويل على الظنّ ، بل هو تعبّد من الشرع غير منوط بحصول الظنّ ، وقد يحمل كلامه هنا على المنع من مطلق الظنّ من حيث إنّه ظنّ ، على معنى نفي كونه لذاته وفي نفسه حجّة ، وذلك لا ينافي حجّية الظنّ المنتهي إلى العلم ، وهو ما يقطع من الأدلّة الشرعيّة القطعيّة بوجوب العمل به.

وفي كلامه في العدّة ما يشير إلى إرادة هذا المعنى ، حيث إنّه دفع استدلال القائلين بالمنع من القياس بالآيات الدالّة على المنع من الحكم بغير علم ، بأنّ : « للمخالف أن يقول : ما قلنا بالقياس إلاّ بالعلم وعن العلم ، فلم نخالف ظاهر الكتاب ، وإنّما ظننتم علينا أنّا نعلّق الأحكام بالظنون وليس نفعل ذلك ، بل الحكم عندنا معلوم وإن كان الطريق إليها الظنّ » (١).

وهذا كما ترى صريح في الرضا بما يقوله المجتهدون من كونهم في أخذهم بالظنون عاملين بالعلم دون الظنّ من حيث هو ، فإنّه من هذه الحيثيّة ليس بفاصل في الشريعة ، وعلى تقدير نهوض ما يفيد القطع بالاعتبار فالفاصل حينئذ هو القطع المستفاد من هذا القاطع لا نفسه.

وأمّا ما ذكره في مواضع من التهذيب من « أنّا لا نتعدّى الأخبار » فلا ينافي أيضا ما ذكرناه ، لأنّ العمل بالأخبار معناه الأخذ بالظنون المتعلّقة بالأخبار سندا ومتنا ودلالة ومعارضة ، وإنّما أراد بذلك نفي العمل بالقياس وغيره ممّا انفرد به العامّة ، وهذا كما ترى غير مقالة أصحابنا المجتهدين.

وأمّا عبارة الطبرسي فيجري فيها ما ذكرناه في توجيه كلام الشيخ من الوجهين أظهرهما ثانيهما ، نظرا إلى أنّه يؤذن بدعوى إجماع الإماميّة ، فلا تتمّ إلاّ في الظنّ المطلق بالنسبة إلى الأحكام إذا لوحظ بنفسه ومن حيث هو.

وأمّا عبارة المعتبر فهو مرادفة لعبارتي الكليني والصدوق ، فلم يرد منها ما يرادف المقام كما لا يخفى.

__________________

(١) العدّة ٢ : ٦٦٨.

٦٣

فمراده بالاجتهاد ما يرادف الأخذ بالرأي ، لظهور قوله : « وقال برأيه » بعد قوله : « أفتى باجتهاده » في عطف التفسير ، وعلى تقدير إرادة عطف المباين فيراد من الاجتهاد ما يرادف القياس وغيره من وجوه الاستحسان.

وإن شئت صدق هذه المقالة مع وضوحه لاحظ عبارته المحكيّة عن المعارج قائلا : « بأنّ الاجتهاد في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعيّة » قال : « وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهادا ، لأنّها تبتني على الاعتبارات النظريّة الّتي ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر ، سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقدير أحد أقسام الاجتهاد.

فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون الإماميّة من أهل الاجتهاد.

قلنا : الأمر كذلك ، لكن فيه إيهام من حيث إنّ القياس من جملة الاجتهاد ، فإذا استثنى القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظريّة ليس أحدها القياس » انتهى (١).

وبهذا يعلم أنّ إطلاق الاجتهاد عندهم على القياس أو على استخراج الحكم بطريق القياس كان متداولا معهودا في الأزمنة السابقة إلى أعصار قدماء أصحابنا بل أعصار الأئمّة عليهم‌السلام ، فعليه يحمل المنع الوارد في كلام كلّ من منع منه من القدماء والمتأخّرين ، بل عليه ينزّل ما في الأخبار كما بيّنّاه سابقا ، فحينئذ اتّضح منع منافاة الكتب المصنّفة في ردّ الاجتهاد والردّ على من يقول به.

ومن الشواهد القطعيّة بصحّة ما ذكرناه في حمل الاجتهاد الواقع في الأخبار وفي كلام كلّ من صرّح بالمنع عنه ما عن وافية الاصول قائلا : « واعلم أنّ الاجتهاد كما يطلق على استعلام الأحكام من الأدلّة الشرعيّة كذلك يطلق على العمل بالرأي والقياس ، وهذا الإطلاق كان شايعا في القديم ، قال الشيخ الطوسي رحمه‌الله في بحث شرائط المفتي من كتاب العدّة : « إنّ جمعا من المخالفين عدّوا منها العلم بالقياس والاجتهاد وبأخبار الآحاد وبوجوه العلل ، والمقاييس وبما يوجب غلبة الظنّ » (٢) ثمّ قال : « إنّما بيّنا فساد ذلك وذكرنا أنّها ليست من أدلّة الشرع » (٣) وظاهر أنّ الاجتهاد الّذي ذكره أنّه ليس من أدلّة الشرع ليس بالمعنى المتعارف ،

__________________

(١) معارج الاصول : ١٨٠.

(٢) عدّة الاصول ٢ : ٧٢٩.

(٣) عدّة الاصول ٢ : ٧٢٩.

٦٤

إذ لا يحتمل كونه من جنس الأدلّة ، والسيّد المرتضى في كتاب الذريعة ذكر : « أنّ الاجتهاد عبارة عن إثبات الأحكام الشرعيّة بغير النصوص ، أو إثبات الأحكام الشرعيّة بما طريقه الأمارات والظنون » (١).

وقال في موضع آخر منه : « وفي الفقهاء من فرّق بين القياس والاجتهاد ، وجعل القياس ماله أصل يقاس عليه ، وجعل الاجتهاد ما لم يتعيّن له أصل كالاجتهاد في طلب القبلة وفي قيم المتلفات بالجنايات ومنهم من عدّ القياس من الاجتهاد وجعل الاجتهاد أعمّ منه » انتهى ما أردنا نقله (٢).

وممّا يشهد بذلك أيضا أنّ التعبير في هذه الكتب بالنقض على فلان في اجتهاد الرأي ، بناء على أنّ إضافة « الاجتهاد » إلى « الرأي » بيانيّة كما هو الظاهر ، فيفيد تخصيصا في العنوان وقصرا للحكم على ما خصّ به العنوان ، وعلى فرض كونها لاميّة فتفيد الاختصاص أيضا.

فظهر ممّا ذكرناه جميعا أنّ طريقة المتقدّمين من علمائنا في استعلام الأحكام الشرعيّة عن الطرق النظريّة من الكتاب والسنّة وغيرها وإن كانت موافقة لطريقة الأئمّة وأخبارهم المتواترة مخالفة لطريقة العامّة ، غير أنّها لا تخالف طريقة المتأخّرين ، لأنّها لا توافق طريقة العامّة ، فاتّحدت الطريقتان بحذافير ما عرفته من البيان ، فليتدبّر.

ومنها : أنّ العمل بالظنّ ممّا يستقلّ العقل بقبحه فيستحيل تجويز الشرع له.

وهذا بمكان من الوهن بحيث لا يحتاج إلى البيان ، فإن اريد به أنّ العمل بالظنّ من حيث إنّه ظنّ ممّا يستقلّ العقل بقبحه فهو مسلّم ، لكنّه لا دخل له بمقالة المجتهدين كما بيّنّاه بما لا مزيد عليه ، وإن اريد به أنّه بعد نهوض القاطع على وجوب التعبّد به كذلك فهو ممّا يضحك به الثكلى ، إذ مرجع العمل به حينئذ إلى العمل بالقطع ، وهذا ممّا يستقلّ العقل بحسنه ، بل الّذي يستقلّ بقبحه العقل حينئذ ترك العمل به.

وبالجملة استقلال العقل بقبح العمل بالظنّ إنّما يسلّم إذا لوحظ الظنّ بنفسه ، ومفروض المقام العمل على الظنّ المنتهي إلى العلم ، فالعمل حقيقة على العلم.

ومنها : أنّه لا دليل على جواز العمل بالظنّ ، فلا وجه للرجوع إليه والتعويل في استنباط الأحكام عليه.

__________________

(١ و ٢) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : (٦٧٢ ـ ٧٩٢).

٦٥

وأجاب عنه بعض الأفاضل : « بأنّه لا كلام في عدم جواز الاستناد إلى الظنّ من غير قيام دليل عليه ، وما ادّعي من انتفاء الدلالة في المقام فهو بيّن الفساد ، كيف ولو لم يكن هناك دليل على حجّيته سوى انسداد سبيل العلم وانحصار الطريق في الظنّ مع القطع ببقاء التكليف لكفى في القطع بحجّيته ، مع أنّ هناك أدلّة خارجيّة على حجّية عدّة من الطرق الظنّية كما قرّر في محلّه. وقد اعترف الأخباريّون بحجّية قول الثقة وجواز الاعتماد عليه في الأحكام الشرعيّة كما دلّت عليه عدّة من النصوص ، مع أنّه لا يفيد غالبا ما يزيد على الظنّ ، ودعوى إفادة قول الثقة القطع بالواقع كما صدر من جماعة منهم ممّا يشهد ضرورة الوجدان بخلافه مع ثبوت وثاقته بطريق اليقين ، فكيف مع ثبوتها بحسن الظاهر » (١).

أقول : وينبغي التعرّض لإقامة الحجّة على الحجّية لحسم مادّة الشبهة بالمرّة ، والعمدة في ذلك الدليل العقلي المعبّر عنه بدليل الانسداد ، وتنقيح هذا الدليل ـ بالتعرّض لدفع ما أورد عليه أو لعلّه يرد ـ خارج عن المقام لسبقه في محلّه ، غير أنّا نشير هنا إلى تقريره إجمالا على وجه يندفع به شبهة الخصم في دعوى عدم الدليل على جواز العمل بالظنّ.

فنقول : إنّ الإنسان إذا لم يكن بالغا أو كان ولكن لم يكن عاقلا فلا كلام لأحد في أنّه في الوقائع المضافة إليه من أفعاله وغيرها كالأنعام والبهائم في إهمال ذلك الوقايع وخلوّها عن الحكم الوجودي بالمرّة حتّى الإباحة بالمعنى الأخصّ ، بناء على أنّها كغيرها من الخمس التكليفيّة في الاشتراط بالبلوغ والعقل ، وإذا كان بالغا عاقلا فإن كان قاطعا بالإهمال وخلوّ الوقائع بالنسبة إليه عن الحكم بالمرّة ـ بل لو كان ظانّا بهما أو شاكّا فيهما ـ فهو أيضا كالأوّلين في عدم تنجّز تكليف بالنسبة إليه ، بل وكذلك أيضا لو كان ظانّا بعدم الإهمال ، على معنى ظنّه بأنّ له في كلّ واحد حكما وجوديّا ، فإنّ الظنّ بنفسه لا يصلح منجّزا للتكليف ولا يجب عليه التحرّي والنظر في معرفة تفاصيل هذا المظنون بالإجمال ، بل لو اتّفق له حينئذ ظنّ تفصيلي بوجوب شيء أو تحريمه لا يجب عليه التعرّض للامتثال ، بل يقبح في حكم العقل عقابه على الترك في الأوّل وعلى الفعل في الثاني ، وهذا هو الظنّ الّذي لا يصلح حجّة أصلا ولا دليل من العقل والشرع على وجوب اتّباعه بل الدليل على

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٦٧٩.

٦٦

خلافه بل الظاهر أنّه اتّفاقي ، وضابطه كلّ ظنّ تفصيلي بالحكم لم يجامع العلم الإجمالي بذلك الحكم ، ولا ينافي ذلك حسن العمل حينئذ لو حصل لرجاء المصادفة الملزومة لكون المظنون حكما ثابتا في نفس الأمر.

وإن كان قاطعا بعدم الإهمال ـ على معنى قطعه بأنّ له في كلّ واقعة ممّا يضاف إليه حكما من الخمس مع علمه بأنّ ذلك الحكم في جملة من الوقائع هو الوجوب وفي جملة اخرى هو التحريم ، سواء حصل ذلك القطع بالضرورة أو بالنظر ـ فإمّا أن يحصل له علم تفصيلي بحكم كلّ واقعة بالخصوص ، أو يتمكّن عن العلم التفصيلي به ، أو يحصل له ظنّ تفصيلي به مع تمكّنه عن العلم به كذلك أو عدمه ، أو يتمكّن عن الظنّ التفصيلي به كذلك مع التمكّن من العلم أيضا أو عدمه ، أو يحصل له في بعض الوقائع علم تفصيلي ضروري أو نظري. وفي بعضها الآخر يتمكّن عن العلم به كذلك ، وفي البعض الثالث لا يتمكّن إلاّ من الظنّ سواء حصل فعلا أو لم يحصل ، وفي البعض الرابع لا يتمكّن عن الظنّ أيضا ، أو لا يحصل شيء من العلم والظنّ الفعليّين في شيء من الوقائع ولا يتمكّن منهما أيضا أصلا.

والمتعيّن في الصورة الاولى تعيّن العمل بالعلم دون غيره ، بل لا يعقل مع حصول العلم التفصيلي فعلا الرجوع إلى غيره ، فهذه الصورة خارجة عن محلّ كلام المجتهدين مع الأخباريّين ، وكذلك الصورة الثانية بل الثالثة أيضا مع فرض التمكّن من العلم التفصيلي في كلّ واقعة ، بل الرابعة أيضا مع التمكّن منه إن لم يكن مرجعه إلى الثانية ، فإنّ المتعيّن في حقّه في جميع تلك الصور على القول بوجوب الاجتهاد عليه ومنعه من التقليد تحصيل العلم التفصيلي وعدم الاكتفاء بالظنّ الحاصل ولا العدول عن تحصيل العلم إلى تحصيل الظنّ.

ولم نقف من المجتهدين على من جوّز الأخذ بالظنّ في هذه الصور ، وهو الّذي يساعد عليه القوّة العاقلة وعليه بناء العقلاء ، كما أنّه كذلك الحال في الصورة الخامسة بالقياس إلى مواضع العلم التفصيلي أو التمكّن منه ، فإنّ المتعيّن في هذه المواضع إنّما هو الأخذ بالعلم وعدم جواز الرجوع إلى الظنّ ، إلاّ على القول بأصالة حجّية الظنّ مع الانسداد الأغلبي على فرض تحقّقه بالقياس إلى سائر المواضع ، القاضية بجواز الأخذ بالظنّ حتّى مع التمكّن من العلم ، كما قد يظهر من بعض الأعلام.

٦٧

وأمّا بالقياس إلى مواضع عدم التمكّن من العلم مع التمكّن من الظنّ فإن لم يكن ذلك التمكّن مجامعا للعلم الإجمالي بوجود أحكام تكليفيّة إلزاميّة فيما بين هذه المواضع كان المرجع فيها الاصول النافية للتكليف المحتمل ، ولا نظنّ قائلا بتعيّن الأخذ بالظنّ حينئذ.

وإن كان مجامعا للعلم الإجمالي بوجودها مع تعذّر الاحتياط أو تعسّره كان من محلّ النزاع بين الفريقين ، ومع عدمهما فالظاهر تعيّن الأخذ بالاحتياط إن لم يكن إجماع على خلافه. وفي المواضع الّتي لا يتمكّن فيها من الظنّ أيضا يتعيّن الأخذ بالاحتياط بلا إشكال مع العلم الإجمالي بوجود أحكام إلزاميّة ، وإلاّ فالمرجع هو الاصول النافية للتكليف.

ومن ذلك يعلم الحال في الصورة السادسة ، فإنّ المتعيّن فيها الاحتياط امتثالا للعلم الإجمالي ما لم يتعذّر أو يوجب العسر والحرج المنفيّين ، فهذه الصورة أيضا خارجة عن محلّ نزاع الفريقين ، فبقي من الصور المذكورة ممّا يصلح محلاّ للنزاع بينهما الصورة الثالثة والرابعة مع فرض عدم التمكّن من العلم التفصيلي ، وكذلك الصورة الخامسة على بعض فروعها كما عرفت ، وإن كان المحقّق في الخارج في المسائل الفرعيّة هو هذه الصورة مع عدم التمكّن من العلم في أغلبها محقّقا ، وأمّا الصورتان الاخريان فهما لمجرّد الفرض وإن كان الحكم فيهما على تقدير تحقّقهما مع حكم الصورة المحقّقة بالقياس إلى ما هو محلّ النزاع فيها سواء ، فيلزم الأخباريّين بالقياس إليهما أيضا منع العمل بالظنّ وإيجاب العمل بالعلم ، وهو كما ترى تجويز للتكليف بغير المقدور الّذي يستحيله العقل والشرع.

والفرق بينهما وبين الصورة المحقّقة في الخارج مع وحدة الطريق القاضي بلزوم اتّباع الظنّ تحكّم بحت.

إلاّ أن يقال : بأنّ التكليف بغير المقدور إنّما يوجب سقوط اعتبار الامتثال العلمي التفصيلي وهو أعمّ من الاكتفاء بالامتثال الظنّي التفصيلي ، لجواز تعيّن العدول من العلمي التفصيلي إلى العلمي الإجمالي الحاصل بالاحتياط ما لم يوجب محذورا من التعذّر أو التعسّر المخلّ بنظم العالم.

وإذا تقرّر ذلك كلّه فاعلم : أنّه لا شبهة في وجود أحكام في الشريعة متوجّهة إلينا في الوقائع الراجعة إلينا مطلقا ، فإنّ ذلك معلوم بحكم الضرورة وإجماع الامّة والأخبار المتواترة ، كما أنّه لا شبهة في أنّ العلم بوجودها كذلك أوجب تنجّز هذه المعلومات بالإجمال ووجوب التعرّض لامتثالها ، ومعلوم أيضا أنّ الأصل في الامتثال هو الامتثال العلمي التفصيلي ، وهو

٦٨

موقوف على المعرفة العلميّة لتفاصيل هذه المعلومات بالإجمال ، فيكون تحصيل هذه المعرفة على تقدير إمكانه واجبا من باب المقدّمة ، لكنّها بالقياس إلى أغلب هذه المعلومات متعذّرة لانسداد باب العلم التفصيلي بفقد الطرق العلميّة ، فإنّ تفاصيل الأحكام الشرعيّة بالنسبة إلينا على أقسام :

منها : ما هو معلوم فعلا بالضرورة من الدين أو المذهب.

ومنها : ما هو معلوم كذلك بالنظر.

ومنها : ما هو متمكّن من العلم به كذلك.

ومنها : ما لا يتمكّن فيه من العلم أصلا وهو الغالب ، والعلم أو التمكّن منه إنّما يتّفق نادرا ، وهو فيما يتّفق لا يجدي نفعا في الامتثال غالبا إلاّ مع انضمام امور كثيرة اخر غير علميّة كما لا يخفى على المتأمّل.

وقضيّة ذلك كلّه تعذّر الامتثال العلمي التفصيلي فلا بدّ من إسقاط أحد هذين القيدين ، إمّا بالتزام الاحتياط الموجب للامتثال العلمي الإجمالي ، أو التزام الرجوع إلى الظنّ حيثما أمكن حصوله اكتفاء بالامتثال الظنّي التفصيلي.

والفرق بين الطريقين أنّ الأوّل يؤدّي إلى إدراك الواقع نفسه المستلزم لعدم بدليّة شيء آخر منه ، بخلاف الثاني بملاحظة عدم كون الظنّ بدائم المصادفة للواقع ، فجواز الاكتفاء به شرعا يقضي ببدليّة الغير في مواضع عدم المصادفة على الجعل الموضوعي لا مطلقا كما شرحناه في محلّه.

وهاهنا طريق ثالث لو كان موجودا لقضى بسقوط الظنّ عن الاعتبار وإن شاركه في اقتضاء البدليّة على تقدير عدم المصادفة ، وهو الرجوع إلى الطرق المقرّرة في الشريعة القائمة مقام العلم التفصيلي والأخذ بمؤدّياتها تعبّدا اكتفاء عن الواقع وإن لم تكن مصادفة له.

ومن المعلوم أنّ مؤدّى هذه الطرق على تقدير وجودها يكون علما شرعيّا قائما مقام العلم العقلي ، والتكلّم في اعتبار الظنّ وعدمه مبنيّ على انتفاء هذه الطرق أو عدم كفاية الموجود منها عن امتثال المعلومات بالإجمال كلّها ، فيكون المراد بفرض انسداد باب العلم في الغالب فرض انسداد ما يعمّ العلم العقلي والشرعي معا كما هو مقرّر في محلّه.

وقضيّة ذلك سقوط اعتبار الامتثال العلمي التفصيلي لتعذّره بفرض الانسداد بالمعنى المذكور مع ضميمة قبح التكليف بالمتعذّر.

٦٩

لكن يشكل حصول النتيجة المطلوبة بمجرّد ذلك مع قيام الاحتياط الموجب للامتثال العلمي الإجمالي ، لأنّ سقوط اعتبار الامتثال العلمي التفصيلي مع قيام الامتثال العلمي الإجمالي أعمّ من اعتبار الامتثال الظنّي التفصيلي.

ومن المستحيل الانتقال من الأعمّ إلى أحد الأخصّين على جهة التعيين ، بل مقتضى القاعدة بمقتضى العقل المستقلّ وبناء العقلاء تعيّن الامتثال العلمي الإجمالي ، لأنّه كالعلمي التفصيلي في اقتضاء عدم سقوط الواقع عن الاعتبار في بعض الصور ، بخلاف الظنّ فإنّ أخذه مرجعا وطريقا للامتثال يقتضي رفع اليد عن الواقع في صورة عدم المصادفة ، وهذا شيء يحتاج إلى الدليل.

وإن شئت فقل : إنّ التعبّد بالظنّ على الاستقلال يقضي ببدليّة غير الواقع عنه في بعض الأحيان إن اعتبرناه على وجه الموضوعيّة ، بخلاف التعبّد بالاحتياط.

ومن المعلوم أنّ البدليّة لا بدّ من ثبوتها بالدلالة الشرعيّة ، ومجرّد مقدّمة الانسداد مع قبح التكليف بالمتعذّر لا يوجبها ، فلا بدّ من إقامة دليل آخر يدلّ بالمطابقة على ثبوت البدليّة ، أو من إبطال الاحتياط بالدلالة القطعيّة المستلزم لمرجعيّة الظنّ المستلزمة للبدليّة.

ومن هنا تعرّض غير واحد من المحقّقين لإبطال الاحتياط ، فمنهم من أبطله بالإجماع ، ومنهم من أبطله بالعسر والحرج المنفيّين في الشريعة ، وبعض مشايخنا أبطله بكلا الوجهين ، فقرّر الأوّل : بالإجماع القطعي على أنّ المرجع في الشريعة على تقدير انسداد باب العلم في معظم الأحكام وعدم ثبوت حجّية أخبار الآحاد رأسا أو باستثناء قليل هو في جنب الباقي كالمعدوم ليس هو الاحتياط في الدين والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك ، عادلا عن تقريره : بأنّ أحدا من العلماء لم يلتزم بالاحتياط في كلّ الفقه أو جلّه ، حتّى لا يرد عليه ما اورد على هذا التقرير من أنّ عدم التزامهم به إنّما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للأحكام ، فلا يقاس عليهم من لا يجد مدركا في المسألة.

ثمّ قال : وصدق هذه الدعوى ممّا يجده المنصف من نفسه بعد ملاحظة قلّة المعلومات.

أقول : لا أتعقّل معنى هذا الإجماع ، فإنّه على التقرير المذكور مع جواز اعتقادهم بوجود المدارك المعتبرة الّذي هو معنى انفتاح باب العلم بالمعنى الأعمّ يشبه بكونه فرض إجماع ، ومعلوم أنّ فرض الشيء لا يوجب تحقّقه في نفس الأمر ، والحجّة هو الأمر المتحقّق في

٧٠

نفس الأمر ، كيف والإجماع عبارة عن اتّفاق الآراء الكاشف عن رأي الحجّة ، وحصوله فيما بين العلماء مع اعتقادهم بالانفتاح يتوقّف على ثبوت مقدّمات :

أحدها : التفاتهم إلى أصل انسداد باب العلم بالمعنى الأعمّ بالقياس إلى معظم الأحكام وموضوعاتها الشرعيّة.

وثانيها : تجويزهم طروّه بزوال ما وجد عندهم من المدارك المعتبرة في بعض أجزاء عصرهم أو في الأعصار المتأخّرة.

وثالثها : اعتقادهم بكون المرجع حينئذ هو الظنّ المطلق دون غيره حتّى الاحتياط ، ولا سبيل إلى إحراز شيء من هذه المقدّمات خصوصا إذا كان اعتقادهم بوجود المدارك المعتبرة ناشئا عن مقدّمة عقليّة كقاعدة اللطف ونحوها.

ثمّ ملاحظة قلّة المعلومات كيف تنفع المنصف في وجدان هذا الإجماع.

إلاّ أن يقال : إنّ قلّة المعلومات لمن لاحظها ممّا يحرز موضوع العسر والحرج المنفيّين المترتّبين على الالتزام بالاحتياط في غير المعلومات ، وهذه قاعدة متّفق عليها ، فهم مجمعون على نفي مرجعيّة الاحتياط على تقدير تحقّق الانسداد في المعظم.

وفيه ـ مع أنّ الكلام في حصول هذه الملاحظة بالقياس إليهم وقد عرفت منعه ـ : أنّ هذا الإجماع على هذا التقدير إنّما انعقد عن مدرك معلوم وهو القاعدة ، فيكون كاشفا عن المدرك لا عن رأي الحجّة.

ومآل الاستناد إلى مثل هذا الإجماع إلى التمسّك بالمدرك المعلوم ، فلا يكون دليلا على حدة غير القاعدة ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّ المناقشة في تحقّق هذا الإجماع كأنّها خلاف الإنصاف ، كما يظهر بالتتبّع في مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم الصادرة عنهم في الكتب الاصوليّة والفقهيّة حتّى من السيّد ونظرائه القائل بانفتاح باب العلم ، لما فيها من التصريح بمرجعيّة الظنّ على تقدير الانسداد ، بل التصريح بالإجماع عليه على هذا التقدير ، كما يعلم ذلك من مراجعة مسألة الواجب الموسّع عند قولهم بكون الظنّ بدخول الوقت منجّزا للتكليف ، وفي باب القبلة والأوقات ، ومكان المصلّي وغير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع.

ومع ذلك فالعمدة في المقام التمسّك بقاعدة العسر والحرج الشديدين البالغين حدّ الإخلال بنظام معاش الناس ومعادهم ، فإنّها أمر مسلّم لا إشكال فيه ، إذ معناه لزوم الإتيان

٧١

بكلّ ما احتمل وجوبه في الشريعة على الاستقلال ، وكلّ ما احتمل اعتباره جزءا أم شرطا في العبادة الواجبة ، أو المحتمل وجوبها ظنّا أو شكّا أو وهما ، مضافا إلى الاحتياط بالترك في محتملات الحرمة بالظنّ أو الشكّ أو الوهم ، والمفروض أنّه على تقدير لزومه لا يختصّ بالعالم الواقف على موارد الاحتياط أو المتمكّن من العلم بها ، بل يعمّه والعوامّ المقلّدين له الغير المتمكّنين من الاطّلاع بتلك الموارد إلاّ من جهة التعليم ، فالتعرّض للتعليم والتعلّم لأصل الاحتياط وكيفيّته وموارده الشخصيّة الغير المحصورة ، وموارد تعارضه بمثله ، وعلاج التعارض بترجيح الاحتياط الناشئ عن الاحتمال القويّ أو الأقوى على ما نشأ من الاحتمال الضعيف أو غير الأقوى ، يستغرق جميع وقتهم ليلا ونهارا فضلا عن التعرّض له في مقام العمل ، خصوصا بالنسبة إلى ما يتوقّف منه على التكرار اللازم لمراعاة تطبيقه على جميع الأقوال الموجودة في جميع المسائل الخلافيّة الغير المحصورة والاختلافات المتداخلة البالغة فوق حدّ الكثرة.

فلزوم العسر المخلّ بنظام أمر الناس تارة من جهة التعرّض للتعليم والتعلّم ، واخرى من جهة التعرّض للعمل به وتطبيق الفعل البارز في الخارج عليه ، ولنقدّم مثالا لكلّ من الجهتين.

فمن أمثلة الجهة الاولى : ما فرضه بعض مشايخنا من أنّ الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ترك التطهّر به ، لكن قد يعارض في الموارد الشخصيّة احتياطات اخر بعضها أقوى منه وبعضها أضعف وبعضها مساو له ، فإنّه قد يوجد ماء آخر للطهارة ، وقد لا يوجد معه إلاّ التراب ، وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيره.

فإنّ الاحتياط في الأوّل هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهة اخرى ، كما إذا كان قد أصابه ما لم ينعقد الإجماع على طهارته.

وفي الثاني هو الجمع بين الطهارة المائيّة والترابيّة إن لم يزاحمه ضيق الوقت المجمع عليه.

وفي الثالث الطهارة من ذلك المستعمل والصلاة معها إن لم يزاحمه أمر آخر واجب أو محتمل الوجوب ، فكيف يسوغ للمجتهد أن يلقي إلى مقلّده أنّ الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستعمل مع كون الاحتياط في كثير من الموارد استعماله فقط أو الجمع بينه وبين غيره.

وبالجملة فتعليم موارد الاحتياط الشخصيّة وتعلّمها فضلا عن العمل بها أمر يكاد يلحق بالمتعذّر ، ويظهر ذلك بالتأمّل في الوقائع الاتّفاقيّة.

٧٢

ومن أمثلة الجهة الثانية : أنّ الاحتياط في مسألة الجهر ببسم الله في الصلاة الإخفاتيّة أو الإخفات به على القولين بوجوبهما الإتيان بها مرّتين ، وقد يكون ممّن لا يجد من الساتر الشرعي إلاّ ما لا يقدر على تطهيره ، فيجتمع عليه مع التكرار الأوّل في كلّ وقت مع ملاحظة الاحتياط بالصلاة عريانا والصلاة بهذا الساتر أربع صلوات ، وقد يكون مع ذلك ممّن عليه فائتة وحاضرة فيتضاعف العدد ، وقد يكون ما عليه من الفائتة أزيد من صلاة واحدة ، وقد يكون واحدة مردّدة بين الخمس على احتمال وجوب خمس صلوات أو ثلاث فيزيد على العدد ما يزيد بحسب ما عليه من العدد.

ومع هذا كلّه فكيف يقال : إنّ الشارع جعل الاحتياط ـ مع عدم انضباطه واستلزامه التعسّر المخلّ بالنظم ، بل التعذّر في كثير من صوره ـ مرجعا في امتثال أحكامه لعامّة المكلّفين الّذين منهم النسوان ومنهم الشبّاب ومنهم المرضى ومنهم ضعفاء العقول الّذين يضعف عليهم معرفة كيفيّة الاحتياط وموارده الجزئيّة ومتعارضاته وعلاج التعارض الواقع فيها.

لكن قد يستشكل في إفادة ذلك مع الإجماع المتقدّم عموم حجّية الظنّ في جميع الوقائع المشتبهة من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، بأنّ نفي الاحتياط بالإجماع والعسر لا يثبت إلاّ أنّه لا يجب مراعاة جميع الاحتمالات مظنونها ومشكوكها وموهومها.

ويندفع العسر بترخيص موافقة الظنون المخالفة للاحتياط كلاّ أو بعضا ، بمعنى عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة لأنّها الأولى بالإهمال ، وإذا ساغ لدفع الحرج ترك الاحتياط في مقدار ما من المحتملات يندفع به العسر ، فيبقى الاحتياط على حاله في الزائد على هذا المقدار ، لما تقرّر في مسألة الاحتياط من أنّه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الإتيان بمحتملات الوجوب وقام الدليل الشرعي على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظاهر تعيّن مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات ولم تسقط وجوب الاحتياط رأسا.

وملخّص ذلك : أنّ مقتضى القاعدة العقليّة والنقليّة لزوم الامتثال العلمي التفصيلي للأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا ، ومع تعذّره يتعيّن الامتثال العلمي الإجمالي وهو الاحتياط المطلق ، ومع تعذّره لو دار الأمر بين الامتثال الظنّي في الكلّ وبين الامتثال العلمي الإجمالي في البعض والظنّي في الباقي كان الثاني هو المتعيّن عقلا ونقلا.

ففيما نحن فيه إذا تعذّر الاحتياط الكلّي ودار الأمر بين إلغائه بالمرّة والاكتفاء بالإطاعة الظنّية وبين إعماله في المشكوكات والمظنونات وإلغائه في الموهومات كان الثاني هو المتعيّن.

٧٣

ودعوى لزوم الحرج أيضا من الاحتياط في المشكوكات خلاف الإنصاف لقلّة المشكوكات ، لأنّ الغالب حصول الظنّ إمّا بالوجوب أو بالعدم ، إلاّ أن يدّعى قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا ، بمعنى أنّ الشارح لا يريد الامتثال العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعيّة المشتبهة بين الوقائع.

وحاصله : دعوى انعقاد الإجماع على أنّه لا يجب شرعا الإطاعة العلميّة الإجماليّة في الوقائع المشتبهة مطلقا لا في الكلّ ولا في البعض ، وحينئذ تعيّن الانتقال إلى الإطاعة الظنّيّة ، غير أنّ هذه الدعوى مشكلة جدّا وإن كان تحقّقه مظنونا لكنّه غير نافع ما لم ينته إلى العلم.

ويدفعه : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ إذا ثبت وجوب الاحتياط تعبّدا من غير نظر فيه إلى إفادته الموافقة العلميّة الإجماليّة لجميع المعلومات بالإجمال وعدمها ، وأمّا لو وجب لغاية أنّه يفيد الموافقة المذكورة بحيث لو لا إفادته لها لم يكن له مزيّة على ما يقابله من الطريق المحتمل وهو الظنّ المطلق في مفروض المقام ، وكان هو وذلك الطريق على نهج سواء في عدم إفادة الموافقة العلميّة لجميع الأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال ، ثمّ قام دليل شرعي على عدم وجوبه فيما لو خرج عن تحته لم يكن هو في ضمن الباقي مفيدا لحصول الغاية المطلوبة منه ، فكشف ذلك عن عدم وجوبه رأسا حذرا عن نقض الغرض ، نظير ما لو دلّ دليل على وجوب شيء ذي أفراد لغاية معيّنة لولاها لم يكن واجبا أصلا فقام دليل آخر على نفي الوجوب عمّا لو خرج من أفراده عن تحته لم تكن تلك الغاية مترتّبة عليه في ضمن باقي الأفراد ، فإنّ ذلك يقضي بانتفاء الوجوب عنه رأسا.

وإن شئت فقل : إنّ هذا الدليل النافي لوجوب البعض بالقياس إلى ما دلّ على وجوب الكلّ نظير الوارد على دليل آخر الرافع لموضوع هذا الدليل ، ومعلوم أنّ الاحتياط بعد ما خرج عنه الوقائع الموهومة لم يكن هو في بقيّة الوقائع ـ وهي مظنونات الوجوب أو هي بضميمة مشكوكاته ـ موجبا للقطع الإجمالي بموافقة جميع الأحكام المعلومة بالإجمال.

والمفروض أنّ تعيّنه في حكم العقل في مقابلة مطلق الظنّ إنّما كان لأجل امتيازه عن الظنّ في اقتضائه القطع بموافقة جميع الأحكام.

وقضيّة نفي وجوبه عن أكثر مواقعه وهي موهومات الوجوب زوال هذا الامتياز عنه ومشاركته للظنّ في عدم اقتضاء القطع بموافقة الجميع ، وذلك من جهة أنّ القطع بموافقة

٧٤

جميع الأحكام المعلومة بالإجمال بطريق الاحتياط لا يتأتّى إلاّ بالإتيان بجميع ما يحتمل وجوبه في الشرع مستقلاّ ، وترك جميع ما يحتمل حرمته كذلك ، ومراعاة جميع ما يحتمل مدخليّته في العبادات بعنوان الجزئيّة أو الشرطيّة ، وتكرار الواجبات فيما يتوقّف الاحتياط فيه على التكرار ، والاقتصار على مظنونات الوجوب أو هي مع المشكوكات مع الاعتراف بقلّتها في نفسها لا يقتضي شيئا من ذلك ، بل لا يعقل معه التكرار فيما يتوقّف الاحتياط فيه على التكرار ، إذ هو إنّما يتأتّى لو بنى على مراعاة جميع ما يحتمل مدخليّته في الواجبات ولو مرجوحا والمفروض إلغاء الاحتمالات الموهومة بأسرها ، وهذا في الحقيقة تسمية احتياط لا أنّه احتياط حقيقة ، وإنّما هو تطبيق للعمل بالظنّ في الوقائع المظنونة ، واعتبار الاحتياط فيه لا يعقل له معنى إلاّ مقارنة العمل بنيّة الاحتياط ، على معنى الإتيان بما ظنّ وجوبه أو مدخليّته في العبادة لرجاء كونه كذلك في الواقع ، لا لأنّه مظنون كونه كذلك في الواقع.

ومن المعلوم أنّ القائل بمرجعيّة الظنّ أيضا لا يقصد إلاّ تطبيق العمل عليه بهذا العنوان ، فالعمل بهذا الاحتياط ليس إلاّ عملا بالظنّ وهو لا يوجب القطع بموافقة جميع التكاليف المعلومة بالإجمال ، لجواز فوات جملة كثيرة من واجبات هذا المعلوم بالإجمال بترك الوقائع الموهومة وجوبها.

نعم يحصل العلم بإدراك جملة من واجبات هذا المعلوم بالإجمال في ضمن مراعاة الوقائع المظنونة أو هي مع المشكوكة ، وهذا لازم الحصول بكلّ من تقديري تسمية ذلك عملا بالاحتياط المنوي حين العمل وتسميته عملا بالظنّ ، فلا بدّ في المقام إمّا من الالتزام بالعسر الموجب لاختلال النظم ، بل بالعذر المتحقّق في كثير من الصور تحصيلا للموافقة العلميّة لجميع الواجبات والمحرّمات المعلومة بالإجمال ، أو من القول بأنّ الشارع بعد تعذّر الموافقة العلميّة التفصيليّة لا يريد من المكلّفين الامتثال العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعيّة المشتبهة بين الوقائع ، بل يكتفي منهم بالامتثال الظنّي التفصيلي في خصوص كلّ واقعة ظنّية وإن استلزم ذلك العلم الإجمالي بامتثال جملة غير معيّنة من التكاليف الواقعيّة المشتبهة ، ولأجل ذلك ارتفع العلم الإجمالي بوجود التكاليف الواقعيّة فيما بين الوقائع بعد الأخذ بجميع الوقائع المظنونة بالنسبة إلى ما عداها ممّا لم يحصل فيه ظنّ أصلا بفقد أمارة أو كونها مشغولة بالمعارض المساوي ، أو حصل فيه الظنّ بخلاف التكليف المحتمل ، والأوّل

٧٥

ممّا لا سبيل إليه بالعقل والنقل فتعيّن الثاني ، وليس هذا إلاّ معنى كون المرجع في صورة انسداد باب العلم بمعظم الأحكام الشرعيّة هو الظنّ المطلق.

وممّا يفصح عن صحّة ما قلناه أنّ أصل البراءة أصل قطعيّ قرّره الشارع لنفي التكليف المحتمل عند انتفاء العلم بالمعنى الأعمّ من الشرعي ، مستفاد من العقل القاطع والكتاب والسنّة والإجماع حتّى من الأخباريّين في الجملة كما في الشبهات الوجوبيّة ، فلو كان المرجع في امتثال التكاليف الواقعيّة هو الاحتياط الموجب للامتثال العلمي الإجمالي لقضى بخروج هذا الأصل المحكّم بلا مورد ، لأنّ الاحتياط على هذا التقدير علم شرعي سار في جميع الوقائع ، وهو معلّق على انتفاء العلم بهذا المعنى أيضا وهو كما ترى.

وإلغاء الاحتياط فيما يؤدّي من الوقائع المشتبهة إلى العسر والحرج حذرا عنهما كما في الوقائع الموهومة مثلا ، أو هي مع المشكوكة وإن استلزم الرخصة في البناء على انتفاء التكليف ، إلاّ أنّه ليس من باب الاستناد إلى الأصل القطعي ، بل هو استناد إلى أصل آخر قطعي وهو قاعدة نفي العسر والحرج وهو طريق آخر لنفي التكليف ، ولا مدخل له في أصل البراءة.

ولو قلنا بأنّ الظنّ ممّا ألغاه الشارع رأسا مع أنّ الفرض فرض انسداد باب العلم في المعظم وعدم وجود طرق اخر اعتبرها الشارع لامتثال أحكامه كما هو المفروض في مقام التكلّم عن حجّية الظنّ ، لزم كون معظم الوقائع المشتبهة من مورد الأصل ، لانتفاء العلم بالمعنى الأعمّ فيها على هذا التقدير ، ويلزم من إعماله فيها حينئذ مخالفة العلم الإجمالي المتعلّق بالتكاليف الواقعيّة وهي غير سائغة في حكم العقل والشرع لكونها خروجا عن الدين ، فلا جرم يجب الالتزام بأنّ الشارع قرّر لامتثال هذه التكاليف طريقا لو اخذ به لم يلزم المخالفة المذكورة ولا خروج الأصل بلا مورد ، وليس هذا الطريق على الفرض إلاّ الظنّ المطلق المتعلّق بالواقع أو الطريق الّذي ثبت طريقيّته بالظنّ من الطرق المقرّرة المعهودة كخبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة والأولويّة الظنّية ، بناء على عدم قيام قاطع بحجّيتها ، وعلى أنّ في امتثال أحكامه الواقعيّة بطريق الظنّ لا فرق بين الظنّ المتعلّق بنفس الواقع أو بما هو طريق إلى الواقع على قول كما تقدّم في محلّه.

وحينئذ يختصّ الأصل المذكور بموارد انتفاء الظنّ الّذي هو علم شرعي على هذا ، ولا يلزم معه محذور من مخالفة العلم المخرجة عن الدين وغيرها ، لعدم بقاء العلم الإجمالي

٧٦

المذكور بالقياس إلى غير المظنونات بعد موافقة المظنونات ، كما أنّه على تقدير وجود طرق اخر معتبرة بعنوان القطع كان الأصل مختصّا بالموارد الخالية عنها ، والموارد الّتي وجد فيها شيء منها مع مزاحمة مثله له المانعة من إعماله وإعمال مزاحمه من غير لزوم محذور.

فإن قلت : حصول المورد للأصل المذكور بالقياس إلى أصحاب الأئمّة والموجودين في زمانهم كما هو المفروض ـ لوجود الطرق المعتبرة بالنسبة إليهم كرواياتهم المعلومة لديهم والمنصوبين في أطراف البلاد من قبلهم لإرشاد الناس ـ كاف في اندفاع ما ذكر من المحذور.

قلت : مرجع هذا الكلام إلى دعوى اختصاص هذا الأصل بالمذكورين ، وإنّ الشارع لم يقصد بتقريره له ما يعمّهم والموجودين في أزمنة الغيبة المنسدّ لهم باب العلم الغير المتمكّنين عن غيره من الطرق المعتبرة.

وفيه : ـ مع أنّه تقييد في مطلقات أدلّة هذا الأصل وتخصيص في عموماتها كما لا يخفى على من يلاحظها ، ولا دليل على شيء من الأمرين بل هو باطل بالإجماع على عدم الفرق ، كما يعلم ذلك من ملاحظة الكتب الاستدلاليّة في الفقه ـ أنّه باطل بالأولويّة القطعيّة ، ضرورة أنّ الانقطاع عن الأئمّة وعن الطرق الّتي اعتبروها بالخصوص آكد في اقتضاء تأسيس هذا الأصل وتقريره كما يظهر للمنصف.

هذا خلاصة دليل الانسداد القاضي بحجّيّة الظنّ وجواز التعويل عليه في إطاعة الله تعالى وامتثال أحكامه ، قرّرناه هنا على حسب ما اقتضاه المجال ، وتفصيله مع النقوض والإبرامات المتعلّقة به يطلب من محلّه ، لكن لا بأس بالتعرّض لعمدة ما اورد عليه ممّا هو يناسب المقام ، المقصود منه دفع شبه الأخباريّة في إنكارهم حجّية الظنون الاجتهاديّة.

فعمدة ما يناسب المقام ممّا يرد عليه منع الانسداد الّذي هو العمدة من مقدّمات هذا الدليل ، وهذا المنع يقرّر من وجهين :

أحدهما : ما ينسب إلى منكري حجّية أخبار الآحاد كالسيّد والحلّي وأحزابهما من دعوى قطعيّة الأحكام بالكتاب والإجماع والأخبار المفيدة للعلم بتواتر أو استفاضة أو غير ذلك من القرائن القطعيّة الداخلة والخارجة.

وهذه الدعوى بالنسبة إلى الأزمنة المتأخّرة عن زمن هؤلاء إلى زماننا هذا واضح الاندفاع ، لقضاء ضرورة الوجدان بخلافها ، مع انقطاع هذا القول في هذه الأزمنة وعدم وجود قائل به بعدهم ممّن يعتدّ بقوله. وأمّا بالنسبة إلى زمنهم فهم أعرف بحقيقة ما ادّعوه وليس

٧٧

علينا التجشّم لاستعلام صحّة ذلك أو فساده ، مع عدم جدواه في حالنا ولا سبيل لنا أيضا إلى معرفة حالهم وأوضاع زمنهم.

وثانيهما : ما هو المعروف عن الأخباريّة المعزى إلى أكثرهم من قطعيّة الصدور في كتب الأخبار المتداولة بين أصحابنا أو خصوص الأربعة المعروفة منها ، بزعم استفاد ذلك من امور يأتي إليها وإلى ضعفها الإشارة.

وفي كلام بعض أصحابنا : أنّ أوّل من فتح هذا الباب الأمين الأسترآبادي فتبعه غيره.

وقد يقال : لعلّ هذه الدعوى إنّما صدرت لدفع ما أورده المجتهدون على إيرادهم عليهم في استعمالهم الظنّ ـ كما نطق به حدّ الاجتهاد ـ المذموم في بعض الأخبار ، من أنّكم لا تسلمون عن استعمال الظنّ ، لأنّ أخبار الآحاد كلّها ظنّيّة السند والدلالة ، فالتزموا بقطعيّة السند بل الدلالة أيضا تفصّيا عن الإشكال.

وكيف كان فهذه الدعوى صدرت أوّلا من أمينهم الأسترآبادي في منع الحاجة في العمل بالأخبار إلى علم الرجال أوردناها هنا لتعلّقها بالمقام أيضا.

فقال : « إنّ أحاديثنا كلّها قطعيّة الصدور عن الأئمّة عليهم‌السلام فلا حاجة إلى ملاحظة أسانيدها.

أمّا الكبرى : فظاهرة ، وأمّا الصغرى : فلأنّ أحاديثنا محفوفة بقرائن مفيدة لذلك.

منها : القرائن الحاليّة والمقاليّة في متونها واعتضاد بعضها ببعض ، وكون الراوي ثقة في نفسه أو في الرواية ، غير راض بالافتراء ، ولا متسامح في أمر الدين فيأخذ الرواية من غير ثقة أو مع فقد قرينة الاعتبار.

ومنها : نقل العالم الثقة الورع ـ في كتابه المؤلّف لهداية الناس وإرشادهم ورجوع الشيعة إليه ـ أصل رجل أو روايته على ظنّ مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل أو تلك الرواية ، وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم عليهم‌السلام.

ومنها : تمسّكه بأحاديث ذلك الأصل أو بتلك الرواية ، مع تمكّنه من أن يتمسّك بروايات اخر صحيحة.

ومنها : أن يكون راويه أحد من الجماعة الّتي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

ومنها : كونه ممّن نصّ في الروايات على توثيقه وأمر بالأخذ منه ومن كتابه ، أو أنّه المأمون في أمر الدين والدنيا.

٧٨

ومنها : وجودها في أحد الكتب الأربعة الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار ، لشهادة مؤلّفيها بصحّة ما فيها من الأخبار ، وانّهم أخذوها من الكتب المعتمدة والاصول المعتبرة الّتي إليها المرجع وعليها المعوّل » (١).

قال العلاّمة البهبهاني في رسالته في الاجتهاد والأخبار : وذكر في بيان شهادتهم ما ذكره ابن بابويه في أوّل الفقيه والكليني في أوّل الكافي.

وأمّا الشيخ فنقل عنه أنّه ذكر في العدّة : أنّ ما عملت به من الأخبار فهو صحيح.

ونقل عن الفاضل التوني أنّه قال : تصفّحت العدّة فما رأيت هذا الكلام فيه.

ثمّ قال أيضا : إنّ الشيخ كغيره كان متمكّنا من إيراد الأخبار الصحيحة ، فلا وجه لتلفيقه بين الصحيحة والضعيفة.

وعن الشيخ الفاضل الكامل الحرّ العاملي في آخر الوسائل أنّه ذكر في ضعف الاستدلال على تقسيم الأحاديث إلى صحيح وموثّق وحسن وضعيف الّذي تجدّد في زمان العلاّمة وشيخه أحمد بن طاووس وجوها تعرّض لذكر عمدتها بعضهم ، ولا بأس بإيرادها لتعلّقها بالمقام.

أحدها : أنّ المعلوم بالتواتر والأخبار المحفوفة بقرائن القطع أنّه كان دأب القدماء في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ضبط الأحاديث وتدوينها في مجالس الأئمّة عليهم‌السلام وغيرها ، وكانت هممهم على تأليف ما يعمل به الطائفة المحقّة وعرضه على الأئمّة عليهم‌السلام.

وقد استمرّ ذلك إلى زمن تأليف الكتب الأربعة حتّى بقيت جملة منها بعد ذلك ، وهذه الأربعة منقولة من تلك الاصول المعتمدة بشهادة أربابها الثقات ، ولغاية بعد تأليفهم من غيرها مع تمكّنهم منها ومن تميّز ما هو المعتبر عن غيرها غاية التمكّن ، مع علمهم بعدم اعتبار الظنّ في الأحكام الشرعيّة مع التمكّن من العلم والتبيّن ، والمعلوم من وثاقتهم وجلالتهم عدم التقصير في ذلك ، كيف وأهل التواريخ لا يأخذون القصص من كتاب أو شخص غير معتمد مع التمكّن من الأخذ عن المعتمد فما الظنّ بهؤلاء المشايخ العظام ، وعلى فرض أخذهم من الكتب الغير المعتبرة كيف يدلّسون بل يشهدون بصحّة جميع ما نقلوه وكونه حجّة بينهم وبين ربّهم.

وثانيها : أنّ مقتضى الحكمة الربّانيّة وشفقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام أن لا يضيّع

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : (١٧٨ ـ ١٧٧).

٧٩

من في أصلاب الرجال من الامّة ويتركوا حيارى يلتجئون إلى التشبّث بظنون واقية ، بل مهّد لهم اصول معتبرة يعملون بها في الغيبة كما هو الواقع والمعلوم بالتتبّع في أحوالهم والتأمّل في الأحاديث الكثيرة الدالّة على أنّهم أمروا أصحابهم بكتابة ما يسمعونه منهم وتأليفه والعمل به في الحضور والغيبة بالنصّ عليها بقولهم : « سيأتي زمان لا يستأنسون فيه إلاّ بكتبهم ».

وفي الأحاديث الكثيرة الدالّة على اعتبار تلك الكتب والأمر بالعمل بها ، وعلى أنّها عرضت على الأئمّة عليهم‌السلام فمدحوها ومدحوا صاحبها ، وقد نصّ المحقّق بأنّ كتاب يونس ابن عبد الرحمن وكتاب الفضل بن شاذان كانا عنده ، وذكر علماء الرجال أنّهما عرضا عليهم عليهم‌السلام ، فما الظنّ بأرباب الأربعة؟

وقد صرّح الصدوق في مواضع بأنّ كتاب محمّد بن الحسن الصفّار المشتمل على مسائل وجوابات العسكري عليه‌السلام كان عنده بخطّه الشريف ، وكذا كتاب عبد الله بن عليّ الحلبي المعروض على الصادق عليه‌السلام ، ثمّ رأيناهم يرجّحون كثيرا مّا حديثا مرويّا في غير الكتاب المعروض على الحديث الّذي فيه ، وهذا لا يتّجه إلاّ بأنّهم جازمون بكونه في الاعتبار وصحّة الصدور كالكتاب المعروض ، إلى آخر ما ذكره.

وثالثها : الوجه الأخير من الوجوه المتقدّمة مصرّحا فيه بحصول القطع العادي من شهاداتهم ـ كالعلم بأنّ الجبل لم ينقلب ذهبا ـ وقال : إنّه لاتّفاق الشهادات وغير ذلك أولى من نقل ثقة واحد كالمحقّق والشهيدين لفتوى من فتاوى أبي حنيفة في كتابه ، مع أنّا نرى حصول العلم لنا بذلك فكيف لا يحصل بشهادة الجماعة ... إلخ.

والجواب أمّا عن الأوّل : فبأنّ القرائن الحاليّة تحصل غالبا حال الخطاب ، فاطّلاع من ليس حاضرا مجلس الخطاب عليها بحسب العادة بعيد ، وعلى فرض الاطّلاع عليها أو على القرائن المقاليّة فأيّ قرينة منهما توجد في المتن وترجع إلى إحراز السند ومع ذلك تفيد العلم بالصدور؟ فلا بدّ له من ذكر مثال حتّى يلاحظ فيما هو حقيقة الحال ، وإلاّ فالغالب في القرائن الموجودة في المتن رجوعها إلى إحراز الدلالة وهي ظنّيّة غالبا ، وعلى فرض كونها علميّة بحسب ذواتها فإفادتها العلم بالدلالة على أنّها حكم الله النفس الأمري مبنيّ على إحراز السند بطريق العلم بالصدور ، وعلى فرض رجوعها إلى السند تبقى الدلالة موقوفة على إعمال ظنون اجتهاديّة كثيرة ، إذ لا ملازمة بين القطع بالصدور والقطع بل الظنّ

٨٠