تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

الاصولي المقلّد فيه أو لا؟ فيؤخذ بقول الغير هنا أيضا تعبّدا ، ظاهر عبارة العدّة المتقدّمة هو الأوّل ، وهو المصرّح به في كلام جماعة منهم بعض مشايخنا قائلا في الفرق بين التقليد في المقامين : « لا يعتبر في التقليد في الفروع حصول الظنّ فيعمل المقلّد مع كونه شاكّا ، وهذا غير معقول في اصول الدين الّتي يطلب فيها الاعتقاد » (١) بل في كلام بعض الفضلاء دعوى الإجماع على أنّ الإيمان لا يتحقّق بدون الإذعان. وقضيّة ذلك خروج الأخذ بقول الغير مع الشكّ في حقّيته وبطلانه عن المتنازع فيه ، على معنى إطباقهم على عدم كفاية التقليد بهذا المعنى.

ثمّ إنّ ظاهر كلام الفاضل المذكور بل صريحه تعميم الاعتقاد هنا بالقياس إلى الظنّ والجزم تعليلا : « بأنّ التقليد قد يفيد القطع ، وأنّه لم يعتبر خصوص القطع ليتمّ على القول بكفاية الظنّ ».

لكن ظاهر عبارة الشيخ في العدّة عند الاستدلال على منع التقليد ـ « بأنّه لا خلاف في أنّه يجب على العامي معرفة الصلاة وأعدادها ، وإذا كان لا يتمّ ذلك إلاّ بعد معرفة الله ومعرفة عدله ومعرفة النبوّة وجب أن لا يصحّ التقليد في ذلك » إلى آخره ـ (٢) أنّ الكلام إنّما هو في المقلّد الغير الجازم ، وهو أيضا ظاهر العضدي في استدلاله على منع التقليد فيما حكى بالإجماع على وجوب معرفة الله أنّها لا تحصل بالتقليد ، وعليه مبنيّ ما عن شيخنا البهائي في حاشية زبدته من أنّ هذا النزاع يرجع إلى النزاع في اشتراط القطع في الاصول ، فإن اعتبرناه تعيّن القول بعدم جواز التقليد وإلاّ فيجوز.

وإن أمكن المناقشة فيه بمنع الملازمة على القول بكفاية الظنّ وعدم اشتراط القطع بجواز كون المراد به الظنّ النظري وهو الحاصل بالنظر والاستدلال.

ومنهم من منع الملازمة على القول باشتراط القطع أيضا بدعوى : أنّ النسبة بين التقليد في اصول الدين والعمل بالظنّ فيها عموم من وجه ، لافتراق الأوّل في التقليد المفيد للقطع والتقليد الغير المفيد له وللظنّ ، وافتراق الثاني في الظنّ الحاصل بالنظر.

ويمكن دفع المنعين بأنّ الكلام في افتراق العنوانين واجتماعهما بحسب القائل لا باعتبار المفهوم ، والمراد أنّ من جوّز للعلماء والمجتهدين العمل في اصول الدين بالاجتهاد الظنّي والأخذ بمؤدّى الأمارات الظنّية فقد جوّز للعوامّ أيضا التقليد فيها ، ومن لم يجوّز ذلك ثمّة

__________________

(١) عدّة الاصول ٢ : ٧٣١.

(٢) عدّة الاصول ٢ : ٧٣٠.

٤٢١

لم يجوّز هذا هنا ، ولم يظهر من العلماء من جوّز الأوّل ومنع الثاني ، خصوصا مع أنّ أكثر الأدلّة المقامة على منع التقليد إنّما تدلّ عليه للدلالة على أنّ المعتبر في اصول الدين هو العلم والتقليد لا يفيده.

ولذا قد يقال في بيان الضابط الكلّي : إنّ المسألة المقلّد فيها هي المسألة المجتهد فيها ، على معنى أنّ كلّ مسألة يجوز فيها الاجتهاد وإعمال الأمارات الاجتهاديّة التعبّديّة أو الظنّية يجوز فيها التقليد وما لا فلا.

نعم ربّما يشكل الحال في الملازمة المذكورة بأنّ جهة النزاع في مسألة التقليد غير ما هو جهة النزاع في مسألة الظنّ ، ولذا قيل في الاولى بتعيّن التقليد وحرمة النظر ، ولم يعهد نحوه في الثانية قبالا للقطع.

وعلى تقدير الملازمة فقد يقال : بأنّ الحيثيّة معتبرة في كلّ من العنوانين ، فالمراد عدم كفاية الأمارة الظنّية ولا فتوى الظنّية في المسألة الاصوليّة ، على معنى عدم ثبوت الحكم الاصولي من حيث هو بهما ، وهذا لا ينافي ثبوت الأحكام الفرعيّة بهما المتفرّعة على مورديهما.

وقضيّة ذلك إلغاؤهما من حيث المسألة الاصوليّة والأخذ بهما من حيث المسألة الفرعيّة ، وذلك كما لو ورد في أخبار الآحاد ما يدلّ على كفر المفوّضة في أمر الخلق والرزق الملزوم لنجاستهم ، وأنّه على القول بعدم كفاية الظنّ في الاصول وإن كان لا يصلح مستندا في المسألة الاعتقاديّة إلاّ أنّه يؤخذ به في المسألة الفرعيّة وهي النجاسة المقتضية لوجوب التجنّب عنهم ، وكذا لو أفتى المفتي بكون الاعتقاد الفلاني كفرا خروجا عن حدّ الإسلام فإنّه لا يجوز الأخذ به تقليدا في المسألة الاصوليّة مع جواز الأخذ به فيما يتفرّع عليه من نجاسة صاحب هذا الاعتقاد ووجوب التجنّب عنه ، وكذا لو أفتى بأنّ الاعتقاد الفلاني لا يوجب كفرا فليس للمقلّد الأخذ به تقليدا.

نعم يجوز له الأخذ بالأحكام الفرعيّة المتفرّعة عليه من طهارة وعدم وجوب اجتناب ونحو ذلك.

والسرّ في ذلك : أنّ الظنّ في المسألة الاصوليّة يستلزم الظنّ في المسألة الفرعيّة ، فيندرج بذلك في عموم حجّيّة الظنّ في الأحكام الفرعيّة مطلقا أو إذا حصل الاضطرار إلى العمل به من جهة بقاء التكليف وانسداد باب العلم ، نظير الظنّ الحاصل من قول اللغوي في

٤٢٢

المسألة اللغويّة المستلزم للظنّ في مسألة فرعيّة على القول بعدم كفاية الظنّ في اللغات.

وإن استند إلى قول لغوي الّذي يلغى في الالتزام بالحكم اللغوي ويعتبر في الالتزام بالحكم الشرعي.

ويرد عليه : أنّ الأحكام الفرعيّة المترتّبة على الحكم الاصولي أو اللغوي محمولات مثبتة بأدلّة اخر تثبت لعنوان « الكافر » أو « المؤمن » و « الصعيد » مثلا.

ومن المعلوم استحالة ثبوت محمول القضيّة بدون ثبوت موضوعها ، ومرجع عدم اعتبار الأمارة الظنّية وفتوى الفقيه في الحكم الاصولي أو اللغوي إلى عدم ثبوت موضوعات هذه المحمولات بهما ، ومعه كيف يؤخذ بالمحمولات مع فرض عدم ثبوت موضوعاتها ، فالوجه منافاة عدم ثبوت الحكم الاصولي لثبوت الأحكام الفرعيّة المترتّبة عليه.

والتمسّك بعموم حجّية الظنّ في الأحكام. يدفعه : أنّ مفاد أدلّة حجّية الظنّ كفاية الظنّ في ثبوت الأحكام الفرعيّة من حيث إنّها محمولات واقعيّة لموضوعاتها المقرّرة في نفس الأمر ، لاثبوت تلك المحمولات ولو مع عدم ثبوت موضوعاتها ، فلا بدّ في التمسّك بعموم الحجّية من إحراز الموضوعات بطرقها المعتبرة عند الشارع أوّلا ثمّ إثبات المحمولات لها بواسطة الظنّ تمسّكا بأدلّة حجّيته ، هذا.

ثمّ المراد من التقليد المتنازع فيه في الاصول هل هو الأخذ بقول المجتهد الكامل فيها نظير التقليد في الفروع ، أو الأخذ بقول الغير مطلقا وإن لم يكن مجتهدا؟ ظاهر إطلاق الأكثر هو الثاني ويساعد عليه أكثر أدلّتهم.

ومن الأعلام من جزم بالأوّل ، وليس له إلاّ القرينة المقابلة بين التقليد في الاصول والتقليد في الفروع ، ويعضدها ما تقدّم من الضابط الكلّي المقرّر بأنّ المسألة المقلّد فيها هي المسألة المجتهد فيها بالبيان المتقدّم ، ولكنّهما لا تقاومان الإطلاق والأدلّة.

وعلى التقديرين لا بدّ من تخصيصه بالتقليد في الحقّ الّذي لا يتأتّى إلاّ بالرجوع إلى أهل الحقّ.

أمّا أوّلا : فلضرورة أنّ المسلمين المتنازعين في المسألة لا يجيزون تقليد أهل الباطل.

وأمّا ثانيا : فلوضوح أنّ المراد بالتقليد هنا ما يقابل النظر لا ما يقابل الواقع وإن خالفه ، فكما أنّ المراد بالنظر عند قائليه هو تحصيل العقائد الحقّة بطريق النظر والاستدلال فكذلك المراد بالتقليد تحصيلها بطريق التقليد.

٤٢٣

وأمّا ثالثا : فلأنّ معنى كفايته أنّه يكفي في ثبوت الإسلام والإيمان وترتيب آثارهما وأحكامهما ، وهذا في تقليد أهل الباطل غير معقول.

وأمّا رابعا : فلأنّ تعميم المبحث بالقياس إلى التقليد في الباطل لا يلائمه ما ستعرف عن الشيخ في العدّة من مصيره إلى العفو عن المقلّد مع قوله بوجوب النظر ، لعدم صحّة إطلاق العفو حتّى بالنسبة إلى مقلّدة الباطل حتّى بالنسبة إلى قاصريهم.

غاية الأمر كونهم لأجل القصور أو العجز عن النظر من المرجين لأمر الله وهذا ليس من العفو في شيء.

ومن هنا ربّما يشكل الحال في تحقيق موضوع المسألة بحيث يظهر فيه ثمرة النزاع ، وهي كون المكلّف في العقائد من حين الشروع في تحصيلها على بصيرة في حكمه من حيث جواز التقليد له وعدمه ، إذ النظر في محلّ البحث إن كان في القاصر الغير المتمكّن من النظر إمّا لعدم التفطّن به أو بوجوبه أو عجزه عنه فهو خارج عن المتنازع ، لقبح خطابه واقعا بالمنع من التقليد أو التخيير بينه وبين النظر ، فلا بدّ فيه من الالتزام بعدم تكليف له في العقائد أصلا ، كما ذكرنا نظيره في مسألة الجاهل في الحكم الشرعي بالنسبة إلى القاصرين في الفروع ، وهو قضيّة كونهم من المرجين لأمر الله أو يكون تكليفه فيما اعتقده بطريق التقليد حقّا كان أو باطلا.

وإن كان في المتفطّن المتمكّن من التقليد والنظر معا ، فكونه من حين الشروع في تحصيل العقائد على بصيرة في حكمه على القول بجواز التقليد له موقوف على امتياز أهل الحقّ في نظره ليقلّدهم عن أهل الباطل ليتجنّب عن تقليدهم ، وهذا ممّا لا سبيل له إليه ، لأنّ كلاّ من أرباب الديانات والمذاهب المختلفة في العقائد يزعم نفسه محقّا ومخالفته مبطلا ، وعليه فوجب أن لا يجوز له التقليد إلاّ بأن يعرف بالاستدلال أنّ ما يقوله المقلّد ـ بالفتح ـ حقّ وخرج بذلك عن كونه مقلّدا ، كما أشار إليه العلاّمة فيما حكي عنه في النهاية ، فإنّه بعد ما ادّعى الإجماع على عدم جواز تقليد غير المحقّ قال : « وإنّما نعلم المحقّ وغيره بالنظر والاستدلال على أنّ ما يقوله حقّ ، فإذن لا يجوز له التقليد إلاّ بعد الاستدلال ، وإذا صار مستدلاّ امتنع كونه مقلّدا » انتهى.

فإذا فرضنا انتفاء الاستدلال وامتناع التمييز بدونه يتعيّن عليه حينئذ لقاعدة الشغل والاحتياط الواجب في نحو المقام اختيار طريق النظر في تحصيل العقائد الحقّة لئلاّ يقع

٤٢٤

في مخالفة الواقع الموجبة للخلود في النار والعذاب الدائم ، وعليه فالقائل بوجوب النظر ومنع التقليد مستظهر لمساعدة الأصل والقاعدة عليه.

ثمّ الفرق بين الاصول والفروع أنّ المطلوب بالذات والمقصود بالأصالة في الفروع إنّما هو العمل ، والعلم مع ما يقوم مقامه إنّما يطلب لمجرّد الطريقيّة ومن باب المقدّمة فلا محيص فيها من العمل مع العلم.

غاية الأمر أنّه مع تعذّره بفقد الطرق العلميّة لابدّ من إيقاع العمل على طبق ظنّ أو أصل فلا معنى فيها للوقف عن العمل على كلّ تقدير ، بخلاف اصول الدين الّتي لا يطلب فيها عمل أصلا بل المطلوب بالذات فيها الاعتقاد مع التديّن بالمعتقد ، وهو ليس بعين الاعتقاد ولا من لوازمه ولا من ملزوماته ، بل هما قد يجتمعان وقد يتفارقان ، إذ الاعتقاد إذعان للواقع والتديّن بالمعتقد إطاعة نفسانيّة شبه إطاعة الجوارح في العمليّات ، فإنّ الإطاعة في كلّ شيء بحسبه ففي العمليّات عبارة عن عمل الجوارح وفي العمليّات عبارة عن عمل القلب وهو الانقياد والقبول الّذي يكشف عنه الإقرار باللسان تارة والعمل بالأركان اخرى.

ولا ريب أنّه أيضا معتبر في الإسلام والإيمان ولا يكفي فيهما مجرّد الاعتقاد والإذعان ، ولذا حكم بكفر إبليس وفرعون وكثير من الكفّار والمشركين ، وهو الّذي يعبّر عنه في الأخبار وكلمات العلماء الاختيار بكفر الجحود ، ويلائمه الكفر باعتبار معناه اللغوي ، فإذا كان كلّ من الاعتقاد والتديّن بالمعتقد معتبرا في مسائل اصول الدين فالنزاع في كفاية التقليد بل مطلق الظنّ فيها يمكن تصويره بوجهين :

أحدهما : أنّهم بعد ما اتّفقوا على كون كلّ من الاعتقاد والتديّن معتبرا على وجه الموضوعيّة ، على معنى محبوبيّة كلّ من الأمرين ومطلوبيّته لذاته لمصلحة فيه نفسه ، اختلفوا في أنّ هذا الموضوع المطلوب لذاته هل هو خصوص العلم بمعنى الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع المستحصل من النظر والدليل ، أو هو العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق مطلقا وإن كان من التقليد ، أو الاعتقاد مطلقا ولو ظنّا مستحصلا من النظر والاستدلال ، أو مطلقا وإن استند في حصوله إلى التقليد؟ فذهب إلى كلّ فريق ، وعليه ينطبق الأقوال الستّ المنقولة في العقائد :

الأوّل : اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال ، وهو المعروف المنسوب إلى الأكثر المدّعى عليه الإجماعات المنقولة في كلام جماعة من أساطين العامّة والخاصّة كما سبق.

٤٢٥

الثاني : اعتبار العلم ولو من التقليد ، كما اختاره جماعة وهو خيرة بعض مشايخنا وهو الأقوى.

الثالث : كفاية الظنّ مطلقا ، نسب حكايته إلى جماعة منهم المحقّق الطوسي في بعض الرسائل المنسوبة إليه ، وعزى أيضا إلى المحقّق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك وظاهر شيخنا البهائي والعلاّمة المجلسي والمحدّث الكاشاني وغيرهم.

الرابع : كفاية الظنّ المستفاد من النظر والاستدلال دون التقليد ، حكي عن شيخنا البهائي في بعض تعليقاته على شرح المختصر أنّه نسب إلى بعض.

الخامس : كفاية الظنّ المستفاد من أخبار الآحاد ، وهو الظاهر ممّا حكاه العلاّمة في النهاية عن الأخباريّين من أنّهم لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد.

السادس : كفاية الجزم بل الظنّ من التقليد مع كون النظر واجبا مستقلاّ لكنّه معفوّ عنه ، كما يظهر من الشيخ في العدّة في مسألة حجّية أخبار الآحاد.

وثانيهما : أنّهم بعد ما اتّفقوا على كون التديّن بالواقع معتبرا في المعارف على وجه الموضوعيّة ، اختلفوا في أنّ العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق أيضا معتبر على وجه الموضوعيّة أو أنّه معتبر على وجه الطريقيّة ومن باب المقدّمة؟

فإن قلنا بالأوّل ـ ولعلّه المشهور ـ فلا يصحّ بدليّة الغير عنه ، ويقبل من الشروط والخصوصيّات ككونه في مرتبة اليقين وكونه حاصلا من الدليل والبرهان لا من التقليد ونحوه كلّما يساعد عليه الدليل ، وعليه مبنى القول بوجوب نصب الطرق العلميّة والأدلّة القطعيّة على المعارف الخمس عملا باللطف الواجب عليه تعالى وحذرا من التكليف بما لا يطاق ونقض الغرض القبيحين على العدل الحكيم.

ومن هنا ربّما سبق إلى بعض الأوهام إنكار وجود القاصر ، وربّما يستشهد له بعموم آيات خلود الكفّار في النار.

وعلى التحقيق المتقدّم في مسألة التصويب في العقائد من وجود القاصر في العقائد لابدّ من التزام سقوط التكليف في المعارف عن القاصرين على تقدير وجودهم ـ كما حكي الالتزام به عن الشيخ في العدّة ـ لئلاّ يلزم التصويب الباطل من مطلوبيّة عقائد القاصرين من الكفّار الناشئة عن اتّباع أسلافهم من آبائهم وامّهاتهم.

وبهذا كلّه ظهر عدم جريان مقدّمات دليل الانسداد على القولين في وجود القاصر

٤٢٦

والبرهان الواضح قائم على خلافه فلا التفات إليه *.

__________________

وعدمه في اصول العقائد ، إمّا لعدم وجود القاصر الّذي مرجعه إلى عدم انسداد باب العلم فيها ، أو لعدم تكليفهم بالواقع على تقدير وجودهم.

وهذا بخلاف ما لو قلنا باعتبار العلم على وجه الطريقيّة ، فإنّ المطلوب المكلّف به في المعارف حينئذ إنّما هو التديّن بالواقع فيها ، والطريق الموصل إليه هو العلم ، ومن حكم العلم الطريقي جواز بدليّة الغير عنه وقيامه مقامه مطلقا أو حيثما تعذّر ، فإذا تعذّر وانسدّ بابه بفقد الطرق العلميّة مع فرض ثبوت التكليف بالواقع يقوم مقامه ما هو أقرب إليه من الظنّ أو التقليد.

وقضيّة ذلك جريان دليل الانسداد في الاصول أيضا كالفروع هذا ، ولكنّ الأظهر في كلماتهم والأنسب بأدلّتهم هو الوجه الأوّل ، وقد عرفت أنّ الأقوال الستّ المتقدّمة أيضا منطبقة عليه لا على الوجه الثاني.

* وكأنّه أراد بالبرهان الواضح أحد الأمرين من قاعدة دفع الضرر المخوف أو قاعدة وجوب شكر المنعم ، وحيث إنّ جهات البحث في المسألة كثيرة فتحقيق الحال فيها يستدعي التكلّم في جهات :

الجهة الاولى

في إثبات جواز النظر في اصول العقائد

كما هو الأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه ، قبالا لمن أنكره وقال بالمنع منه وتعيّن التقليد فيها ، ونعني بجواز النظر كونه ممّا لا حرج في فعله ولو باعتبار كونه في ضمن الوجوب.

لنا على ذلك : انتفاء المنع عنه عقلا وشرعا ، وكون أدلّة ثبوته حسبما اعتمد عليه القائلون به ـ على ما نبيّنه ـ مدخولة ، مضافا إلى ما ستعرفه في الجهة الثانية من وجوبه ودليل وجوبه ، فإنّ الوجوب أخصّ من الجواز فيستلزمه وإن كان الجواز المطلق لا يستلزم الوجوب.

احتجّ منكروه تارة بما لو تمّ لقضى بالمنع التشريعي ، وهو : أنّ النظر في اصول الدين بدعة ، وكلّ بدعة مردودة.

أمّا الأوّل : فلعدم اشتغال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه بالنظر فيها ، ولو اشتغلوا لنقل إلينا لتوفّر الدواعي وقضاء العادة به ، كما نقل اشتغالهم بالمسائل الفقهيّة على اختلاف أصنافها.

واخرى بما لو تمّ لقضى بالمنع الشرعي المستفاد من خطاب العقل ، وهو : أنّ الشبهات

٤٢٧

في الاصول كثيرة ، والنظر فيها مظنّة وقوع في الشبهة ، فيحرم النظر ويتعيّن التقليد.

وثالثة بما لو تمّ لقضى بالمنع الشرعي المستفاد من خطاب الشرع ، وهو : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الجدل كما في مسألة القدر ، فروي أنّه خرج إلى أصحابه فرآهم يتكلّمون في القدر غضب عليهم حتّى احمرّت وجنتاه ، وقال : « إنّما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا ، عزمت عليكم أن لا تخوضوا فيه » وقال : « إذا ذكر القدر فأمسكوا ».

والسرّ في اختلاف مفاد أدلّة هذا القول إمّا أنّهم أرادوا بالمنع المقابل للجواز ما يعمّ الوجوه الثلاثة أعني الأمر الدائر بين المنع التشريعي والمنع الشرعي من خطاب العقل أو خطاب الشرع ، أو أنّهم افترقوا بين قائل بالأوّل وقائل بالثاني وقائل بالثالث فاعتمد كلّ على ما وافق مختاره.

وأيّا مّا كان فلا خفاء في ضعف الوجوه المذكورة ووضوح فسادها.

أمّا الأوّل : فأوّلا : لمنع عدم نقل اشتغالهم بالنظر في الاصول إلينا ، فإنّ الكتاب العزيز وكتب التفاسير وكتب الأحاديث النبويّة والإماميّة وغيرها من كتب التواريخ مشحونة من مناظرات الأنبياء ورسلهم مع اممهم ، ومناظرات النبيّ والصحابة والتابعين والأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم في المطالب الكلاميّة مع الزنادقة والملاحدة ومنكري الشرائع والنبوّات وعبدة الأصنام وغيرها من الآلهة الباطلة وأهل الكتاب والمخالفين وغيرهم من أرباب الديانات والمذاهب الباطلة ، وتعليم الأئمّة أيضا أصحابهم طريق المناظرة وآدابها.

وثانيا : لمنع الملازمة بين عدم نقل اشتغالهم به على تقدير تسليمه وبين عدم اشتغالهم به في الواقع.

والتمسّك له بتوفّر الدواعي وقضاء العادة. يدفعه : أنّهما إنّما يقضيان بالنقل في الامور التوقيفيّة الّتي لا طريق إلى إدراكها إلاّ النقل وما نحن فيه ليس منها ، إذ النظر إنّما يجوز بل يجب لا لنفسه بل لكونه طريقا محصّلا للمعرفة الواجبة والحاكم بطريقيّته العقل وهو يغني عن نقل اشتغالهم به ، ولعلّ المتصدّين لنقل أمثاله إنّما أهملوا في نقله لعدم الحاجة إليه من جهة كفاية حكم العقل بطريقيّته ومشروعيّته لذلك.

وثالثا : لمنع تحقّق البدعة على تقدير عدم اشتغالهم ، سواء فرضناها محمولة للنظر نفسه أو للقول بجوازه.

أمّا على الأوّل : فلأنّ « الدين » في تفسير البدعة عبارة عن مجموع المعارف الخمس

٤٢٨

وما يلحق بها وغيرها من الفروع ، والنظر طريق إلى تحصيلها فيكون خارجا من الدين ، ولا يلزم من اعماله إدخال ما علم خروجه من الدين في الدين ليكون من الدين.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الأحكام العقليّة بحكم الملازمة بين العقل والشرع كلّها داخلة في الدين ، وجواز النظر حكم عقلي فالقول به إدخال لما هو من الدين في الدين.

وأمّا الثاني : فلأنّ كلّ تقليد لابدّ وأن ينتهي إلى النظر لئلاّ يلزم التسلسل ، وهذا النظر المنتهى إليه التقليد مظنّة وقوع في الشبهة فيكون التقليد المنتهي إليه مثله.

ومع الغضّ عن ذلك فإن اريد بكثرة الشبهات في اصول الدين كثرة الشكوك فيها فنمنع كون النظر مظنّة وقوع في الشكّ ، فإنّه مزيل للشكوك لا أنّه موجب للوقوع فيها.

وإن اريد بها كثرة الاعتقاد الجهلي فيها نظرا إلى الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة الّتي لا تكاد تحصى كثرة فيها ، فنمنع أيضا كون النظر الصحيح الّذي لم يقصّر فيه الناظر مظنّة وقوع في الاعتقاد الجهلي ، وما يرى من كثرة وقوعه بملاحظة الأديان والمذاهب الباطلة على تقدير كونها عن نظر واجتهاد فهو مستند إلى نوع من التقصير ، على ما حقّقناه في مسألة التصويب في العقائد من كون كلّ مجتهد مخطئ فيها مقصّرا.

وإن اريد بها كثرة الإشكالات الغير المندفعة أو الّتي يصعب دفعها ، فالنظر فيها مزلقة ومظنّة وقوع في الخطأ ، فنمنع وجود إشكال في كلّيات اصول الدين وهي المعارف الخمس ، ووجوده مع الكثرة في جملة من توابعها الّتي منها مسائل القدر غير مضرّ ، لعدم وقوع التكليف بتحصيل المعرفة فيها ، فالمنع من النظر فيها مع فرض مظنّة الضلالة غير بعيد ، بل هو في خصوص مسائل القدر منصوص عليه في الأخبار.

وبالجملة النظر فيما هو من محلّ البحث ليس مظنّة الوقوع في الشبهة وما هو مظنّة الوقوع فيها خارج عن محلّ البحث.

وأمّا الثالث : فمع أنّه معارض بقوله تعالى : ( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أنّ النهي عن الخوض في مسائل القدر لغموضها وقصور العقول الناقصة عن البلوغ إلى كنهها وحقيقتها ـ ولأجل ذلك صارت من مزالّ الأقدام ومظانّ الضلالة والانحراف ـ لا يلازم النهي عن مطلق الجدل في اصول الدين.

ولو سلّم فالحكمة في النهي عن الجدل لكونه في غالب موارده ناشئا عن المراء أو مفضيا إلى المراء وهو مبغوض للشارع ومنهيّ عنه ، وهو لا يلازم كون مطلق النظر وطلب

٤٢٩

الدليل في اصول الدين لتصحيح العقائد من غير جدال أو معه من غير اشتماله على المراء منهيّا عنه كما هو واضح.

الجهة الثانية

أنّ جواز النظر حسبما بيّنّاه إنّما هو على وجه الوجوب ، على معنى تحتّم فعله المتضمّن للمنع من تركه لا إلى بدل ولا عن عذر ، قبالا لتساوي فعله وتركه.

لنا على ذلك : قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وإزالة خوف العقوبة عن النفس الّذي لا يتأتّى إلاّ به ، بالبيان المتقدّم في تضاعيف بحث التحسين والتقبيح العقليّين ، مضافة إلى قاعدة وجوب شكر المنعم المتوقّف على المعرفة الّتي لا تتمّ إلاّ بالنظر ، وإن رجع بالأخرة أيضا إلى دفع الضرر المحتمل وإزالة خوف العقوبة حسبما قرّرناه أيضا في البحث المذكور.

وهذه القاعدة وإن كانت أعمّ موردا من القاعدة الاولى لشمولها من لم يبلغه صيت الإسلام إذا التفت وتفطّن إلى ما عليه من النعم وأنّه لا بدّ لها من منعم ، إلاّ أنّ الاولى أوضح في تصوير حصول الخوف للنفس كما نبّهنا عليه في المبحث المذكور.

ولذا اورد على الثانية المناقشة تارة : بمنع استلزام مجرّد التجويز حصول الخوف.

واخرى : بأنّه ربّما يحصل لبعض الناس دون بعض فلا وجه للإطلاق ، كمن قلّد محقّا وجزم به واطمأنّ نفسه وإن فرض احتمال التضرّر بالتقليد فهو لا يوجب الخوف ، ولو فرض حصوله فقد يزول بما ظنّ به ، إذا شكره على حسب ما ظنّ به. وإن كان الجميع واضح الدفع بأنّ : المقصود إثبات وجوب النظر عقلا في الجملة وإن أغنى عنه التقليد في بعض الأحيان قبالا لمن أطلق القول بالتقليد في اصول الدين ، وستعرف أنّ الأقوى كفاية التقليد المحصّل للمعرفة والعلم الّذي معياره انكشاف الواقع على ما هو عليه من دون احتماله الخلاف في نظر المكلّف بتحصيل المعارف.

ثمّ إنّ زوال الخوف بالتقليد الظنّي أو الاعتقاد الظنّي الناشئ عن أمارة ظنّية اخرى إذا شكره حسبما ظنّ إنّما يتمّ إذا صحّ له الاستناد إلى أصل البراءة من حيث كونه حكما عقليّا ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بالفحص والنظر المستتبع للعجز عن الوصول إلى الواقع بطريق علمي لا مطلقا ، إذ العقل إنّما يحكم بالبراءة على وجه يزول معه الخوف على هذا التقدير لا مطلقا.

وهذا الفرض على تحقّقه مقام آخر خارج عن موضوع المسألة ، وسنشير إلى حكمه تكليفا ووضعا بحسب أحكام الدنيا والآخرة.

٤٣٠

وكيف كان فعن الأشاعرة الاعتراض على الدليل تارة : بمنع حكم العقل بالحسن والقبح.

واخرى : بدلالة العقل والنقل على خلافه. أمّا النقل فقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ). وأمّا العقل : فلأنّه إن كان وجوبه لا لفائدة فهو عبث غير جائز عقلا ، وإن كان لفائدة فإمّا تعود إلى المشكور فهو متعال عن ذلك ، وإمّا إلى الشاكر فهو منتف أمّا في الدنيا فلأنّه مشقّة بلا حظّ ، وأمّا في الآخرة فلا استقلال للعقل فيها ، وأيضا هو تصرّف في مال الغير بدون إذنه فلا يجوز.

وثالثة : بمنع توقّف الشكر وزوال الخوف على المعرفة المستفادة من النظر ، بل يكفي فيهما المعرفة السابقة على النظر الّتي هي شرط النظر ، سلّمنا عدم كفايتها ولكن لا نسلّم توقّفها على النظر ، لجواز حصولها بالتعليم كما هو رأي الملاحدة أو بالإلهام على ما يراه البراهمة أو بتصفية الباطن بالمجاهدات كما يراه الصوفيّة.

ورابعة : بمنع وجوب ما يتوقّف عليه الواجب.

والجواب عن الأوّل : مضافا إلى ما مرّ في محلّه مستوفى أنّه إنكار لبداهة الوجدان.

وعن الثاني : أنّه مغالطة في مقابلة البرهان ، لمنع دلالة النقل والعقل على النفي.

أمّا النقل : فلما بيّنّاه في محلّه عند الكلام على حجج الأشاعرة في إنكار العقل.

وأمّا العقل : فلأنّ المحافظة على النعم عن الزوال في الدنيا وعلى النفس عن العقوبة في الآخرة كافية في حصول الفائدة وعودها إلى الشاكر.

ودعوى عدم استقلال العقل في الآخرة.

يدفعها : أنّه يكفي في حصول الخوف وتجويز العقوبة احتمالها وهو قائم بلا ريب ، مع إمكان إثبات استقلال العقل بالمعاد باعتبار أنّه لولاه لضاع عمل العاملين وضاعت حقوق المظلومين مع أنّه أمر بإغاثتهم على الظالمين ، ولساوى أشقى الأشقياء أفضل الأنبياء ، إذ ليس في الدنيا ما يصلح للجزاء مع أنّ إقبالها على الفجّار بمقدار إعراضها عن الأخيار ، وكونه جسمانيّا باعتبار كون الجسم مباشرا للطاعات والآثام ، وكون الشكر تصرّفا في مال الغير بدون إذنه ممنوع في كلّ من صغراه وكلّية كبراه.

وعن الثالث : منع كفاية المعرفة السابقة في حصول الشكر الرافع للخوف إن اريد بها معرفة أنّ له منعما ، لأنّها معرفة إجماليّة والشكر المزيل للخوف لابدّ وأن يقع على حسب

٤٣١

ما هو اللائق بحال المنعم وهذا يستدعي معرفة تفصيليّة ، وكون التعليم أو الإلهام أو تصفية الباطن ممّا يحصل به المعرفة على فرض تسليمه لا ينفي مقدّميّة النظر غاية الأمر كونه أحد أفراد المقدّمة ، مع أنّ التعليم إن اريد به تلقين الغير للعقائد فهو غير خارج عن حدّ التقليد فيما لا يوجب العلم على ما هو الغالب ، والإلهام على تقدير جوازه ووقوعه في حقّ [ غير ] الأنبياء باعتبار كونه فعل الله عزّ وجلّ من المقدّمات الخارجة عن مقدور المكلّف فلا تأثير له في نفي المقدّميّة ولا منع حكمها عن المقدّمة المقدورة ، وتصفية الباطن بالمجاهدات وإن كانت لذاتها من مقدورات نوع الإنسان إلاّ أنّها لغاية صعوبة مبادئها على وجه لا يتحمّلها غالب آحاد النوع بل لا يتأتّى عن الأكثر مندرجة في عداد الغير المقدورات فلا يلتفت إليها في نظر العقل ، فانحصرت المقدّمة المقدورة العادية بالقياس إلى جميع آحاد النوع في النظر.

وعن الرابع : بما حقّق في محلّه من وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به.

احتجّ المنكرون لوجوب النظر الموجبون للتقليد بوجوه :

منها : لزوم الدور لو وجب النظر ، وتقريره ـ على مذهب الأشعري النافي لحكومة العقل ـ : أنّ وجوب النظر في معرفة الله المفروض استفادته من إيجابه تعالى موقوف على معرفة الله تعالى ، وأنّه هل يجب اتّباعه أم لا؟ ومعرفته كذلك موقوفة على وجوب النظر في معرفة الله المفروضة.

وعلى مذهب العدليّة : أنّ وجوب النظر في معرفة الله نظريّ موقوف على النظر في دليل ذلك ، وهو نظر آخر فيجب ذلك النظر ، ووجوبه موقوف على وجوب النظر في معرفة الله ، إذ لو لم يجب النظر في معرفة الله لم يجب النظر في دليل وجوب النظر في معرفة الله.

ويندفع الأوّل : بأنّ وجوب النظر عندنا عقليّ فلا يتوقّف على استفادته من إيجابه تعالى ، مع إمكان دفعه على طريقة الأشعري أيضا : بمنع توقّف معرفة الله على وجوب النظر ، بل إنّما يتوقّف على وجوده أعني النظر نفسه ، ويكفي في حصوله والتحريك إلى الإقدام عليه عروض خوف العقوبة للنفس الحامل له على النظر وإن لم نقل بحكومة العقل.

ويندفع الثاني : بمنع توقّف وجوب النظر في معرفة الله على النظر في دليل وجوب النظر ، بل إنّما يتوقّف على وجوب إزالة الخوف عن النفس ، أو على وجوب معرفة الله المتوقّف على وجوب شكر المنعم ، فإنّ وجوب المقدّمة يتوقّف على وجوب ذيها لا غير.

نعم إنّما يتوقّف عليه العلم بوجوب النظر في معرفة الله ، وهو ليس من جملة النظر في

٤٣٢

معرفة الله ليكون وجوبه من وجوبه ، ولا أنّه من مقدّماته ليجب بوجوبه.

ومنها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحكم بإسلام من أقرّ بالشهادتين وكان يكتفي بذلك منهم ولم يكلّفهم بالاستدلال والنظر ، وذلك آية عدم وجوبه وإلاّ لكلّفهم به.

وفيه : عدم قضاء ذلك برضاء النبيّ منهم بالتقليد الظنّي ، وذلك لما بيّنّاه سابقا من اشتمال الإسلام على جزئين : الإذعان والإقرار باللسان ، واكتفاؤه منهم بالإقرار بالشهادتين لعلّه لبقاء هذا الجزء منه بعد حصول الجزء الأوّل وقد علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بموجب علم النبوّة أو ظهر له من مقتضى ظاهر الإقرار بناء على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مكلّفا بالظاهر لا بما خفي في السرائر.

ولعلّه السرّ في اكتفائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنافقين بكلمتي الشهادة ، مع أنّ الغالب كون إقرارهم بهما مسبوقا بمشاهدة معجزاته وبيّناته ولو كانت من قبيل حالاته الحسنة وأخلاقه المستحسنة وهي من أسباب العلم.

ولو سلّم انتفاء العلم والإذعان حين الإقرار باللسان فهو أيضا لا يدلّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يكلّفهم فيما بعد بالنظر لتصحيح العقائد وتحصيلها ، خصوصا مع ملاحظة ما هو المعلوم من سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان بعد إقرارهم بالشهادتين يكمّلهم ببيان الأحكام وأمرهم باصول الدين وفروعه على التدريج. والقول بأنّه لو كان كلّفهم لنقل إلينا لتوفّر الدواعي وقضاء العادة ، يدفعه : ما بيّنّاه سابقا في دفع نظيره.

ومنها : قوله : « عليكم بدين العجائز » ولا ريب أنّ دينهنّ على طريق التقليد لعدم اقتدارهنّ على النظر ، ولفظة « على » يدلّ على الوجوب فيحرم النظر.

وفيه ـ مضافا إلى منع الملازمة بين وجوب التقليد وحرمة النظر ، لإمكان الواسطة وهو كون النظر مباحا مسقطا عن الواجب وهو التقليد ـ : منع نهوض ذلك دليلا على نفي وجوب النظر ولا على وجوب التقليد ، لعدم ثبوت كونه رواية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو معصوم آخر ، لما قيل ـ كما عن القوشجي والفاضل الجواد ـ من كونه كلام سفيان لما روي أنّ عمرو بن عبيدة لما أثبت منزلة بين الكفر والإيمان ، فقالت عجوزة : قال الله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) فلن يجعل الله من عباده إلاّ الكافر والمؤمن ، فقال سفيان : عليكم بدين الأعجاز.

ولو سلّم كونه عن المعصوم فهو خبر واحد غير واضح السند ، وعلى تقدير صحّته غير ثابت الحجّية في مثل ما نحن فيه ، ولو سلّم فدلالته غير واضحة ، بل هو ـ على ما حكي

٤٣٣

من كونه واردا في قضيّة « دولاب » حيث استدلّت على وجود الصانع للأشياء المحرّك للأفلاك المدبّر في العالم بآثارها الّتي منها حركة الأفلاك تنظيرا له بدولابه الّذي لا يتحرّك إلاّ به بتحريكها ـ على خلاف مطلوب المستدلّ أدلّ ، بل هو دليل لنا لا علينا ، وعليه فالإلزام بدين العجائز المستفاد من كلمة « عليكم » إرشاد إلى تحصيل المعرفة على الوجه الّذي حصلته العجوز إمّا من حيث كونها على يقين ، أو من حيث طريق تحصيله وهو استدلال الإنّ تنبيها على أنّه الطريق السهل السالم لا طريق اللمّ ، أو من حيث الاكتفاء في الاستدلال بالإجمال تنبيها على عدم لزوم التفصيل.

ومنها : أنّ مسائل الاصول أغمض من مسائل الفروع ، فإذا جاز التقليد في الثاني جاز في الأوّل بطريق الأولويّة.

وفيه : منع الأغمضيّة ، بل الاجتهاد في مسائل الفروع لعدم محصوريّتها وافتقاره إلى صرف معظم العمر في تحصيل مبادئه وتحمل مشاقّ كثيرة لا يتحمّلها عادة إلاّ أقلّ قليل من الناس أغمض بمراتب شتّى ، بخلاف مسائل الاصول ولا سيّما أوائلها الّتي يتمّ النظر فيها في زمان يسير من دون مشقّة إلاّ يسيرا في حقّ بعض الأشياء (١).

ومنها : قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(٢).

وفيه : أنّ الآية على ما يرشد إليه صدرها نزلت في بشريّة الأنبياء ، مع كون المراد من أهل الذكر علماء أهل الكتاب فليس لها كثير تعلّق بما نحن فيه ، إلاّ أن يقال : بأن لا عبرة بخصوص المورد ، لكن يرد عليها : منع الدلالة على خصوص التقليد المتنازع فيه ، بل تعليق الأمر بالسؤال على عدم العلم يقتضي مطلوبيّة تحصيل العلم.

ومنها : أنّا نعلم أنّ قول النبيّ والإمام بل العدل العارف أوقع في النفس ممّا يفيده هذه الأدلّة المدوّنة في علم الكلام ، إذ هي موقوفة على مقدّمات نظريّة يتوقّف إثباتها على دفع شكوك وشبهات لا يتخلّص عنها إلاّ من أيّده الله.

وفيه : أنّ قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عند من ثبت نبوّته وإمامته دليل وكذا قول العدل العارف ، ومع هذا فالاستدلال بطريق الإنّ أتمّ في إفادة الاطمئنان والعلم بل اليقين من دون حاجة إلى سائر الأدلّة المدوّنة في علم الكلام ، مع أنّ جعل قول الغير مطلقا أوقع في النفس من النظر والاستدلال ممّا يشهد الضرورة ببطلانه.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والأنسب « الأشخاص » بدل « الاشياء ».

(٢) النحل : ٤٣.

٤٣٤

الجهة الثالثة

أنّ النظر بعد ما ثبت وجوبه يعتبر بلوغه حدّ الاطمئنان بل العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق ، ولا يكفي النظر المؤدّي إلى الظنّ مع إمكان العلم كما هو المعروف المشهور المدّعى عليه الإجماع مستفيضا ، ومرجعه إلى اشتراط القطع في اصول الدين وعدم كفاية الظنّ.

لنا في إثباته طريقان :

أحدهما : طريق العقل ، وهو : أنّ إزالة خوف العقوبة الّتي هي مناط حكم العقل بوجوب النظر أو بوجوب معرفة الله المقتضي لوجوب النظر لا تتأتّى إلاّ بالنظر المحصّل للعلم ، فإنّ الأمارات الظنّية الّتي منها أخبار الآحاد لعدم دوام إصابتها الواقع ليست مأمونة من الخطأ ومخالفة الواقع ، فلا يزول خوف العقوبة مع التعويل عليها إلاّ إذا انضمّ إليها أصل البراءة النافي للعقاب واستحقاقه على مخالفة الواقع من حيث كونه حكما عقليّا.

وقد عرفت أنّه لا يصحّ إلاّ بعد الفحص عن الدليل والعجز عن العلم.

وثانيهما : طريق الشرع من الإجماع والكتاب والسنّة.

فمن الأوّل : الإجماعات المنقولة المستفيضة القريبة من التواتر.

ومن الثاني : الآيات المانعة من اتّباع الظنّ المفيدة كون المرجع والمعوّل عليه في الشرعيّات هو العلم خرج منها الظنّ في الفروع بدليل ، كقوله تعالى : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١) و ( إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (٢) و ( لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٣) و ( وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) (٤) ( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (٥) ( وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (٦) وكونها عمومات مخصّصة ـ مع أنّ الأقوى حجّية العامّ المخصّص ـ لا يمنع من الاستدلال بها ، لأنّ العامّ المخصّص نصّ في المورد ومورد نزول الآيات اصول الدين ، مضافا إلى الآيات الآمرة بالعلم مثل قوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ )(٧) وقوله تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها )(٨).

والمناقشة في الاولى بأنّ المراد التثبّت على العلم ، لأنّه عليه‌السلام كان عالما قبل نزول الآية

__________________

(١) الأسراى : ٣٦. (٢) البقرة : ١٦٩. (٣) الزخرف : ٨٦.

(٤) الجاثية : ٢٤. (٥) الأحقاف : ٤. (٦) النجم : ٢٨.

(٧) محمّد : ١٩. (٨) الحديد : ١٧.

٤٣٥

إذ لم يقل أحد إنّها أوّل ما نزلت عليه.

وفيهما (١) أنّه ليس طلبا لتحصيل للعلم بل إثبات للعلم وإيجاد له من قبيل قول المعلّم : « اعلم كذا ».

مدفوعة بأنّ الخطاب في الآية الاولى وإن كان في ظاهره متوجّها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنّ الظاهر كونه من باب « إيّاك أعني واسمعي يا جاره » فهو أمر لغيره بتحصيل العلم ولا يكون إلاّ بالنظر.

ولو سلّم اختصاص الخطاب بنفسه الشريفة فيستفاد منه وجوب تحصيل العلم أيضا على من لم يسبقه حصوله ، إمّا لأنّ وجوب التثبّت على العلم على من سبقه يستلزم ـ ولو باللزوم العرفي ـ وجوب تحصيله على من لم يسبقه ، أو لأنّ التثبّت على العلم عبارة عن إبقاء العلم والاستمرار عليه ولا يتأتّى ذلك إلاّ باستحضار الدليل الموجب له ، ومرجع الأمر بالتثبّت إلى إيجاب إعمال النظر في ذلك الدليل في كلّ آن يحتاج العلم في بقائه إليه ، وهذا يرجع إلى ابتداء النظر لتحصيل العلم في ذلك الآن لأنّه لولاه لكان الشكّ والتزلزل ، فلولا النظر المؤدّي إلى العلم واجبا لم يكن التثبّت عليه واجبا.

وقول المعلّم ونظائره : « اعلم » إيجاد للعلم التصوّري ، والمقصود إثبات العلم التصديقي الّذي لا يتأتّى غالبا بمجرّد قول المعلّم بل يحتاج إلى ذكر دليل ولذا صحّ للمتعلّم مطالبة الدليل ، وكان الغالب في المعلّمين التنبيه على دليل ، ولو صدر قول : « اعلم » من الله سبحانه أو أحد من المعصومين أو العلماء الموثوق بهم في المعارف وكفى بمجرّده في حصول العلم كان ذلك علما حاصلا من الدليل الحاضر في الذهن المؤلّف من المقدّمتين الملتفت إليهما إجمالا.

ويدلّ على اعتبار العلم أيضا من الكتاب قوله تعالى : ( إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) وقوله : ( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) وقوله : ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) وقوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) أي ليعرفون ، كما نصّ عليه المفسّرون ونطقت به الروايات الّتي منها المرويّ عن العلل عن الصادق عليه‌السلام قال : خرج الحسين بن عليّ عليهما‌السلام على أصحابه ، فقال : « أيّها الناس إنّ الله ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه » فقال له رجل : يا بن رسول الله بأبي أنت

__________________

(١) عطف على قوله : « والمناقشة في الاولى » أي : والمناقشة فيهما.

٤٣٦

وامّي فما معرفة الله؟ قال : « معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الّذي يجب عليه طاعته » إلى آخره.

وإنّما فسّر معرفة الله بمعرفة إمام الزمان لأنّ من عرف الإمام بوصف الإمامة ومن حيث إنّه مفترض الطاعة ـ لا بوصف الالوهيّة ولا من حيث الخالقيّة والرازقيّة والإحياء والإماتة كما عليه الغلاة والمفوّضة ـ فقد عرف الله بوصف الالوهيّة وبالوحدانيّة في ذاته وصفاته وأفعاله واستحقاقه العبادة.

ويمكن أن يكون وجهه أنّ من عرف إمام زمانه المنصوب من النبيّ عن الله سبحانه فقد عرف الله بصفاته الكماليّة الّتي منها عدله وحكمته المقتضية لئلاّ يهمل أمر الإمامة لكونه إخلالا باللطف الواجب عليه تعالى وهو قبيح ، ولئلاّ ينصب إماما مفضولا غير معصوم لكونه تفضيلا للمفضول على الفاضل وهو أيضا قبيح.

ومن الثالث : الأخبار الدالّة عليه عموما ، كقول العالم عليه‌السلام : « من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة » وخصوصا كقوله : « ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس » بناء على أنّ الأفضليّة من الواجب خصوصا مثل الصلاة تستلزم الوجوب ، وقوله عليه‌السلام : « من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه ، ومن دخل فيه بغير علم خرج عنه كما دخل فيه » وقوله عليه‌السلام : « من أخذ دينه من كتاب الله وسنّة نبيّه زالت الجبال قبل أن يزول ، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال » وقوله عليه‌السلام : « إيّاك أن تنصب رجلا دون الحجّة فتصدقه في كلّ ما قال » وقوله عليه‌السلام : « إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك ، إيّاك أن تفتي الناس بغير علم ، وأن تدين الله بما لا تعلم » إلى غير ذلك من الأخبار المتكاثرة الآمرة بمعرفة الله وغيرها من المعارف.

الجهة الرابعة

المشهور بين العلماء المدّعى عليه الإجماع في كلام جماعة من الخاصّة والعامّة عدم جواز التقليد في اصول الدين على ما تقدّم بيانه ، ومرجعه إلى وجوب النظر المفيد للعلم على التعيين وعدم بدليّة غيره عنه وهو الأصل ، وقد شاع بينهم الاستدلال عليه بما دلّ من الآيات المتكاثرة على ذمّ الكفّار في تقليدهم لآبائهم وأسلافهم كقوله تعالى : ( ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ) وقوله : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) وقوله : و ( قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) وقوله في غير موضع : ( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ).

٤٣٧

ويشكل التعلّق بهذه الآيات لإثبات المنع من التقليد بالمعنى المتنازع وهو تقليد أهل الحقّ المستتبع للاعتقاد الظنّي ، وتقليد الكفّار ليس لأهل الحقّ ولم يعلم كونه مفيدا للظنّ لهم مع ذلك ، مع أنّ الظاهر في توجّه الذمّ إليهم في الآيات كونهم كفّارا أخذوا أديانهم بطريق التقليد لأسلافهم ، فالذمّ ليس على الطريق بل على ذيه وهو الكفر ، ومع التنزّل فهو على المجموع منه ومن مؤدّاه وهو الكفر على اختلاف أصنافه ، فالعلّة مركّبة ومن حكم العلّة المركّبة انتفاء المعلول بانتفاء أحد أجزائها ، فلم يدلّ الآيات على كون التقليد لأهل الحقّ المفيد للظنّ أيضا مذموما.

إلاّ أن يقال : إنّه ينساق من مجموعها في متفاهم العرف عدم كون التقليد بعنوان أنّه تقليد في نظر الشارع طريقا يعوّل عليه في المعارف وإن أفاد الظنّ وكان مؤدّاه حقّا ، وإذا انضمّ إلى ذلك آيات الذمّ على اتّباع الظنّ في اصول الدين كما هو ظاهر سياقاتها ثبت أنّ المعارف لا يطلب فيها إلاّ العلم ، ويتأكّد ذلك بما عرفت من الآيات المصرّحة بالعلم وبالأخبار الدالّة عليه عموما وخصوصا.

فتحقيق المقام : أنّ الكلام في مسألة التقليد إن رجع إلى الأخذ بقول الغير المستتبع للعلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق للواقع أو إلى التقليد بالمعنى المصطلح المنطقي فالحقّ كفايته ، لما عرفت من أنّ المستفاد من مجموع الأدلّة هو اعتبار العلم بمعنى الجزم المطابق وكفايته في المعارف مطلقا.

وأمّا اعتبار بلوغه مرتبة اليقين المصطلح أو حصوله بطريق النظر والاستدلال فلم يدلّ عليه دليل ولم يقم عليه برهان ، إلاّ حيث توقّف العلم أو المعرفة في حصولهما عليه فيجب مقدّمة وقد عرفت أنّه المستفاد من العقل المستقلّ.

فما عرفت من العلاّمة وغيره ممّن وافقه من اعتبار النظر والاستدلال أو كون المعتبر العلم الحاصل بطريق خاصّ فليس على ما ينبغي ، بل الأقوى كفاية الجزم المطابق الحاصل بطريق التقليد وفاقا لجماعة منهم بعض مشايخنا قائلا ـ بعد التصريح بما سمعت ـ : « مع أنّ الإنصاف أنّ النظر والاستدلال بالبراهين العقليّة للشخص المتفطّن لوجوب النظر في الاصول لا يفيد بنفسه الجزم ، لكثرة الشبه الحادثة في النفس والمدوّنة في الكتب ، حتّى أنّهم ذكروا شبها يصعب الجواب عنها للمحقّقين الصارفين لأعمارهم في فنّ الكلام فكيف حال المشتغل به مقدارا من الزمان لأجل تصحيح عقائده ليشتغل بعده بامور معاشه

٤٣٨

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ المحقّق رحمه‌الله ، بعد مصيره إلى المنع في هذا الأصل وذكره الاحتجاج عليه ، قال : « وإذا ثبت أنّه غير جائز ، فهل هذا الخطأ موضوع عنه؟. قال شيخنا أبو جعفر رضى الله عنه : نعم ، وخالفه الأكثرون *.

__________________

ومعاده ، خصوصا والشيطان يغتنم الفرصة لإلقاء الشبهات والشكوك في البديهيّات » انتهى.

وإن رجع إلى النزاع في كون التقليد مفيدا للعلم ليكون كافيا وعدمه ليتعيّن النظر مع اتّفاق الكلّ على اشتراط العلم وعدم كفاية غيره ـ كما ربّما يظهر من العضدي وغيره في استدلالهم المتقدّم على عدم جواز التقليد بأنّه لا يفيد العلم بعد دعوى الإجماع على وجوب معرفة الله ـ فالوجه أنّ هذا النزاع ممّا لا جدوى فيه بعد بناء كلام المجوّزين على أخذ القضيّة فرضيّة ، مع أنّه لا يبعد دعوى كونه في بعض الأحيان باعتبار خصوصيّات المقام مفيدا للعلم ، كما لو قلّد عدلا عالما عارفا يثق به ويعتمد عليه.

وإن رجع إلى النزاع في جواز التقليد وكفايته مع فرض إفادته الظنّ مع إمكان بلوغه مرتبة الجزم أو تحصيل الجزم بالنظر ـ كما استظهرناه سابقا ونصّ عليه شيخنا البهائي حيث أرجع الخلاف إلى النزاع في اشتراط القطع وعدمه ـ فالحقّ الّذي لا محيص عنه هو عدم جواز التقليد ، لما ذكرناه مرارا من أنّ المستفاد من مجموع الأدلّة اشتراط القطع ومطلوبيّة العلم من غير فرق بين أسبابه وعدم كفاية غيره كائنا ما كان ، سواء قرّرنا الملازمة : بأنّ كلّ من جوّز التعويل على الأمارات الظنّية للمجتهد في الاصول جوّز التقليد للعامي المقلّد له ، أو بأنّ من جوّز التعويل على الأمارة الظنّية في الاصول للمكلّف مجتهدا كان أو عاميا جوّز التقليد له أيضا ومن منع من التقليد منع من التعويل على الأمارة مطلقا من غير فرق بين المجتهد والعامي المقلّد له.

* والظاهر أنّ مراده بالخطاء المعصية اللازمة من اختيار التقليد ، بناء على كونه محظورا بالحظر النفسي ومحرّما بالحرمة الذاتيّة لمفسدة في ذاته وإن صادف الواقع.

والمراد بوضعه سقوط المؤاخذة والعقوبة المترتّبة عليه من باب العفو مع فرض كونه صغيرة لئلاّ يقدح في العدالة ، على ما يظهر من بعض كلمات الشيخ في العدّة ، كقوله ـ عند الاحتجاج على حجّية أخبار الآحاد : « وأمّا ما يرويه قوم من المقلدّة فالصحيح الّذي أعتقده

٤٣٩

أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا معفوّ عنه ، ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه » انتهى.

وربّما يسبق إلى الوهم احتمال إرادة سقوط المؤاخذة المترتّبة على ترك النظر بناء على كونه واجبا مستقلاّ ، أو على أنّه وجب لجهتين جهة التوصّل على معنى كونه موصلا إلى الواقع ومحصّلا للعلم به وجهة النفسيّة على معنى مطلوبيّته لنفسه لمصلحة في ذاته زائدة على مصلحة التوصّل ، ولكنّه بعيد من عبارته المتقدّمة والآتية أيضا.

وأبعد منه كون مراده سقوط أصل الخطاب بالمنع من التقليد مع الجهالة به فيكون معذورا لكونه جاهلا بالحكم ، كما احتمله المحقّق السلطان عقيب احتماله الوجه الأوّل.

وأبعد من الجميع احتمال إرادة سقوط أصل الخطاب أيضا عنه مطلقا من باب العفو مع فرض كونه قبيحا بحسب حكم العقل ، نظير العفو عن قصد المعصية القبيح عقلا على ما نطق به الروايات بناء على أحد احتماليه والاحتمال الآخر سقوط المؤاخذة وعدم ترتّبها على مجرّد القصد وإن قبح عقلا ونهي عنه شرعا.

وبالجملة هذه الاحتمالات ما عدا الوجه الأوّل بعيدة عن عبارة الشيخ المنقولة عن العدّة ، حيث إنّه بعد ما استدلّ على عدم جواز التقليد بأنّه : « لا خلاف في أنّه يجب على العامي معرفة الصلاة وأعدادها ، وإذا كان لا يتمّ ذلك إلاّ بعد معرفة الله ومعرفة عدله ومعرفة النبوّة وجب أن لا يصحّ التقليد في ذلك ».

ثمّ اعترض على نفسه : « بأنّ السيرة كما جرت على تقرير المقلّدين في الفروع كذلك جرت على تقرير المقلّدين في الاصول وعدم الإنكار عليهم ».

فأجاب : « بأنّ على بطلان التقليد في الاصول أدلّة عقليّة وشرعيّة من كتاب وسنّة وغير ذلك وهذا كاف في النكير » ، قال : « على أنّ المقلّد للحقّ في اصول الديانات وإن كان مخطئا في تقليده غير مؤاخذ به وأنّه معفوّ عنه ، وإنّما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة الّتي قدّمناها لأنّي لم أجد أحدا من الطائفة » إلى آخر ما ذكره وستعرفه.

٤٤٠