تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

العامّين من وجه وما بحكمها من الظاهرين ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفسّاق » و « ينبغي غسل الجمعة » و « اغتسل للجمعة » لظهور الأوّل بمادّته في الاستحباب والثاني بهيئته في الوجوب ، فلا بدّ إمّا من إرجاع الأوّل إلى الثاني بحمله على الوجوب أو إرجاع الثاني إلى الأوّل بحمله على الاستحباب.

وقد يتأتّى بإرجاع التأويل إليهما معا فيحتاج إلى شاهدين ، وقد يكتفى بشاهد واحد إذا صار أحدهما بانضمام شاهد التصرّف فيه قرينة على التصرّف في الآخر كما في المتبائنين ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم العلماء » إذ لا يندفع التعارض عمّا بينهما إلاّ بتطرّق التصرّف إليهما معا بحمل الأوّل على بعض الأفراد كالفقهاء مثلا والثاني على البعض الباقي كالحكماء مثلا.

ونحوه قوله : « ثمن العذرة سحت » وقوله : « لا بأس ببيع العذرة » ومن طرق الجمع بينهما حمل الأوّل على عذرة غير مأكول اللحم والثاني على عذرة مأكول اللحم. ولكن لا بدّ لكلّ من شاهد.

ومن أمثلته أيضا « اغتسل للجمعة » و « لا تغتسل للجمعة » لظهور الأوّل في الوجوب والثاني في التحريم ، ومن طرق الجمع بينهما حمل الأوّل على مجرّد الرخصة في الفعل ـ أعني الإباحة ـ والثاني على مرجوحيّة الفعل فيثبت بهما الكراهة ، والظاهر أنّ هذا ممّا يكتفى فيه بشاهد واحد ويستغنى به عن الشاهد الآخر ، فلا بدّ في هذا المقام من التكلّم في مسائل ثلاث :

المسألة الاولى : فيما كان الجمع بينهما بإرجاع التأويل إلى أحدهما بعينه ، وهو الظاهر الّذي يتعيّن الخروج عن ظهوره بحمله على خلافه تخصيصا أو تقييدا أو تجوّزا ، ففي نحوه ينبغي القطع بتعيّن الجمع وكونه أولى من الطرح.

والسرّ فيه ورود النصّ أو حكومته على ما يقابله وهو أصالة الحقيقة في جانب الظاهر بالمعنى الأعمّ من أصالة العموم وأصالة الإطلاق ، حسبما تقدّم بيانه فيما ذكرناه أخيرا من جريان قاعدة الورود والحكومة في الاصول اللفظيّة.

ومن هنا ظهر أنّه لا تعارض حقيقة في هذه الصورة ، ولو كان فهو صوريّ أو بدويّ لما بيّنّاه من عدم وقوع التعارض بين الوارد والمورود ولا بين الحاكم والمحكوم عليه ، ومرجع هذا الجمع إلى وجوب تقديم النصّ على الظاهر بالخروج عن ظهوره ووجه تقدّمه كونه

٥٨١

واردا أو حاكما على أصالة الحقيقة فيه.

وأمّا الكلام في سائر ما يتعلّق بهذه المسألة ومن جملته التكلّم في بعض صغريّات النصّ والظاهر والأظهر ، والتكلّم في بعض مسائل تعارض الأحوال الّذي مرجعه إلى تعارض الظاهرين ، أو النصّ والظاهر ، أو الأظهر والظاهر فسنورده إن شاء الله تعالى في خاتمة الباب.

المسألة الثانية : فيما كان الجمع بينهما بإرجاع التأويل إلى أحدهما لا بعينه المحتاج إلى شاهد خارجي ، واحتياجه هنا إلى شاهد مفقود بالفرض شاهد واضح بعدم جريان قاعدة أولويّة الجمع في تلك الصورة لعدم إمكانه.

وتوضيحه : أنّ إرادة ظاهري المتعارضين غير ممكنة لاستحالة التناقض في كلام الشارع ، وما اريد منهما خلاف ظاهره ـ كما هو المتيقّن ـ لفقد القرينة عليه غير متعيّن ، فاحتمال ذلك في كلّ منهما معارض بمثله في الآخر ، ومرجعه إلى معارضة أصالة الحقيقة في أحدهما لمثلها في الآخر ، فالأخذ بأحدهما دون اخرى ترجيح بلا مرجّح ، فهذه الصورة داخلة فيما لا يمكن فيه الجمع بين المتعارضين ، فلا يجري فيها قاعدة أولويّة الجمع الّتي موضوعها إمكان الجمع ، مع أنّ الأدلّة المستدلّ بها على تلك القاعدة على تقدير تماميّتها ونهوضها لإثبات أصل القاعدة غير جارية هنا ، لأنّ من تلك الأدلّة الإجماع المنقول الّذي تقدّم في كلام ابن أبي جمهور وهو موهون بعمل العلماء في المسائل الفرعيّة في موارد تعارض العاميّن من وجه وما بحكمها ، على ما يظهر للمتتبّع من الأخذ بالمرجّحات الدلاليّة على تقدير وجودها والتوقّف ثمّ الرجوع إلى الأصل على تقدير فقدها.

ومنها (١) : أنّ الأصل في الدليلين الإعمال فيجب الجمع بينهما مهما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

وفيه : أنّ المراد بالأصل المذكور القاعدة المستنبطة من أدلّة حجّية سندي الدليلين المقتضية لوجوب تقديم السند على الدلالة عند التعارض الناشئ عن الشبهة في الدلالة ، ومعناه الأخذ بالسند وطرح الدلالة ، وهذا على ما تقدّم لا يخلو إمّا أن يكون من باب الورود أو من باب الحكومة ، إذ قد عرفت أنّ مقابل السند أصالة الحقيقة المحرزة للدلالة ، كما قد عرفت أنّ السند حيثما صحّ تقديمه على الدلالة إمّا وارد على الأصل المحرز لها أو حاكم عليه ، وإنّما يصحّ اعتبار الورود أو الحكومة على الأصل فيما سلم عن معارضة مثله

__________________

(١) هذه من جملة ما استدلّ بها على قاعدة اولويّة الجمع مهما أمكن.

٥٨٢

كما في النصّ والظاهر ، وهو فيما نحن فيه في أحد الدليلين معارض بمثله في الآخر ، فإمّا أن يعتبر الورود والحكومة في سند كلّ منهما بالقياس إلى أصل صاحبه فيلزم طرح الدليلين بالقياس إلى مادّة الاجتماع في العامّين من وجه وطرحهما مطلقا في غيرهما والمقصود هو الجمع والعمل لا الطرح ، أو يعتبرا في سند أحدهما بالنسبة إلى الأصل في صاحبه وهو لمعارضة الأصلين ترجيح بلا مرجّح.

ومنها : أنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة وعلى جزئه تبعيّة ، والجمع يستلزم طرح الدلالة التبعيّة ، وهو أولى من طرح الدلالة الأصليّة الّذي يلزم من التخيير أو الترجيح الراجعين إلى السند.

وفيه : أنّ هذا الدليل على تقدير تماميّته مخصوص بالمتبائنين ولا يجري في العامّين من وجه ، لعدم دوران الأمر فيهما بين طرح الدلالة التبعيّة وطرح الدلالة الأصليّة ، بل الأمر فيهما بين طرح الدلالة التبعيّة في أحدهما وطرحها في الآخر ، والترجيح هنا من جهة فقد القرينة غير ممكن.

وملخّص ما ذكرناه : أنّ القضيّة المشهورة غير جارية فيما نحن فيه لعدم إمكان الجمع فيه حتّى يتكلّم في أولويّته ، إذ عدم إمكان الجمع المخرج للمورد عن تلك القضيّة أعمّ من كونه لنصوصيّة دلالة كلّ من المتعارضين ومن كونه لمعارضة أصالة الحقيقة في أحدهما لمثلها في الآخر ، مع عدم جريان أدلّته فيه أمّا الإجماع المنقول فمع أنّه في نفسه ممّا لا يعبأ به موهون باستقرار عمل العلماء بخلافه ، وأمّا أولويّة إعمال الدليلين فلاختصاصها بمسألة النصّ والظاهر ومسألة المتبائنين.

وأمّا أولويّة طرح الدلالة التبعيّة فلاختصاصها بالمتبائنين ، وحينئذ ففي المسألة المبحوث عنها ـ أعني تعارض العامّين من وجه مع فقد القرينة وانتفاء الشاهد الخارجي ـ لا مناص من الرجوع إلى المرجّحات الدلاليّة ، فإن وجد منها ما يرجّح دلالة أحدهما يؤخذ به ويطرح دلالة الآخر ، وإلاّ وجب التوقّف والرجوع إلى الأصل حسبما يناسب المورد من الاصول العمليّة.

والمراد بمرجّح الدلالة كلّ مزيّة لو اعتمد عليها المتكلّم الحكيم في إفادة المراد ارتفع عنه القبح اللازم من الإغراء بالجهل في الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه ، وميزانه أظهريّة إحدى الدلالتين بضابطة أنّها في متفاهم العرف توجب انفهام إرادة خلاف ظاهر الظاهر.

٥٨٣

وبالجملة فعلى تقدير وجود مرجّح الدلالة تكون المسألة من تعارض الأظهر والظاهر ، ومن الظاهر تقديم الأظهر على الظاهر.

لا يقال : إنّ الجمع في تعارض العامّين من وجه وما بمعناهما ممكن ، بل لم يزل واقعا حتّى على ما ذكرت من وجوب التوقّف ، بتقريب : أنّ المراد بالجمع المبحوث عنه ما يقابل الطرح على وجه التخيير أو على وجه الترجيح الّذي هو من عوارض السند ، فيراد بالجمع حينئذ الأخذ بسندي العامّين على معنى البناء على صدورهما ، فيكونان كالسندين القطعيّين وهو يستلزم بعد إرجاع التأويل إلى أحدهما للأخذ بدلالتيهما أيضا أن تعيّن محلّ الدلالة المجازيّة بقرينة أو شاهد خارجي أو مرجّح دلالتي أو تساقط الدلالتين من جهة التعارض ثمّ الرجوع إلى الأصل أو التوقّف فيهما من جهة طروّ الإجمال لهما ثمّ الرجوع إلى الأصل ، أو الأخذ بما وافق منهما الأصل على مذهب من يرى موافقة الأصل من المرجّحات ، وهذه الأحكام كلّها كما ترى من خواصّ الجمع بالمعنى المذكور وآثاره المترتّبة عليه ، إذ على تقدير الطرح السندي لأحدهما لم يتّجه شيء منها كما هو واضح. فالتوقّف المتقدّم ثمّ الرجوع إلى الأصل متفرّع على الجمع ، ومعه كيف يقال بعدم اندراج عنوان المسألة الثانية في القضيّة المشهورة إمّا لعدم إمكان الجمع فيه أو لعدم جريان أدلّة هذه القضيّة فيه؟

لأنّا نقول : إنّ المراد بالجمع وإن كان ما ذكر ولكن لا على إطلاقه ، بل بحيث يؤدّي إلى العمل بدلالتي الدليلين الحقيقيّتين أو المجازيّتين أو المختلفتين بالحقيقة والمجاز ، وإذا لم يتعيّن محلّ الدلالة المجازيّة بسبب الإجمال الناشئ من معارضة أصالة الحقيقة في أحدهما لمثلها في الآخر دخل الجمع في غير الممكن ولو باعتبار عدم إمكان قيده.

المسألة الثالثة : فيما كان الجمع بينهما بإرجاع التأويل إليهما معا بتخصيص أو غيره من سائر أنواع التجوّز ، وهذه الصورة هي القدر المتيقّن من مورد القضيّة المشهورة ، بل الظاهر اختصاصها بها بل هو المقطوع به ، لخروج الصورتين المتقدّمتين عنها خروجا موضوعيّا حيث لا تعارض بين النصّ والظاهر حقيقة لضابطة الورود أو الحكومة حسبما بيّنّاه ، ولو فرض فيهما تعارض فهو بدويّ صوري لا يعبأ به في باب تعارض الدليلين ، ولا يمكن الجمع بين العامّين من وجه وما بمعناهما حسبما قرّرناه بما لا مزيد عليه ، مع ما سمعت من بياناتنا الاخر لمنع جريان القضيّة المشهورة في الصورة الثانية ، مضافا إلى عدم انطباق الاستدلال الآتي عليها مع ما اعترض عليه وما ردّ به الاعتراض إلاّ على

٥٨٤

الصورة الثالثة ، وأيضا فإنّ ظاهر كلامهم يعطي كون المورد على تقدير العجز عن الجمع من مسألتي التعادل والترجيح المستلزم لطرح سندي تخييرا أو ترجيحا ، ولا يصحّ شيء من ذلك في العامّ والخاصّ المطلقين وما بمعناهما ، ولا العامّين من وجه وما بمعناهما ، إذ ليس فيهما طرح سندي حتّى في العامّين من وجه ، إذ السند لا يتبعّض بأن يكون العامّ صادرا بالنسبة إلى بعض أفراده وغير صادر بالنسبة إلى البعض الآخر ، والمفروض وقوع العمل بكلّ من العامّين في مادّة افتراقه ، ومن هنا جاء الاضطرار بعد فقد المرجّحات الدلاليّة إلى التوقّف والرجوع إلى الأصل من جهة الإجمال في الدلالة.

نعم في العامّ والخاصّ المطلقين قد يطرح الخاصّ فيما إذا اعتضد عموم العامّ بموافقة الكتاب أو الإجماع أو دليل العقل أو غير ذلك ممّا يتوهّن به سند الخاصّ إلى أن يخرج عن الحجّية رأسا ، غير أنّه كما ترى ليس من الطرح السندي المترتّب على التخيير أو الترجيح في مسألتي التعادل والترجيح في شيء.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلما عرفت من أنّ الترجيح هو التقديم بالمزيّة المعتبرة الّتي لم تبلغ حدّ الحجّية ولا التوهين.

وكيف كان فاختلف في أولويّة الجمع بالقياس إلى الطرح.

فالمعروف بين أوائل الاصوليّين حيث وقع هذه القضيّة أو مرادفها في كلامهم كون الجمع مع إمكانه أولى من الطرح ، وقد سمعت كلام ابن أبي جمهور مدّعيا عليه إجماع العلماء ، وأنكره جماعة من محقّقي متأخّري الاصوليّين ومنهم بعض الأعلام وعليه بعض مشايخنا قدّس الله أرواحهم ، وقد فرضوا الكلام في الظنّين من حيث السند كالخبرين ، والظاهر أنّه لا يتفاوت الحال بينهما وبين القطعيّين سندا مع ظنّية الدلالة كالكتابين والخبرين المتواترين لفظا ، أو الكتاب مع الخبر المتواتر إن فرض فيهما تعارض التبائن ، ونحن نفرض الخبرين الظنّيين قطعيّين ونتكلّم على تقدير قطعيّة سنديهما أيضا.

ونقول : إنّ وقوع التعارض فيهما مع ملاحظة استحالة التناقض في كلام الشارع وامتناع اجتماع النقيضين والضدّين قرينة عقليّة توجب تعذّر حقيقة كلا المتعارضين وتصرف كلاّ منهما إلى مجازه ، وحينئذ فإن انحصر المجاز المحتمل في كلّ واحد في واحد فلا إشكال في تعيّن الحمل عليه ، وإن تعدّد المجاز المحتمل فيهما فإن كان بعضها أقرب عرفا إلى

٥٨٥

الحقيقة من الباقي فلا إشكال أيضا في تعيّن حمل كلّ منهما على أقرب مجازاته ـ بضابطة أنّه إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى ـ وإلاّ فإن أقام قرينة في كلّ منهما على تعيين بعضها فلا إشكال في تعيّن الحمل عليه أيضا ، وإلاّ فلا سبيل في شيء منهما إلى حمله على أحد مجازاته المحتملة لمكان الإجمال ، باعتبار تردّده بعد تعذّر حقيقته بين مجازاته ، فمثل هذا ممّا لا يمكن فيه الجمع ، فلا مناص من الوقف ثمّ الرجوع إلى الأصل ، وكذا نفرض هذه الصور الأربع في الظنّيين ، والصورة الرابعة ما تعذّر حقيقة كلّ من المتعارضين وتعدّد مجازاته ولم يكن بعضها أقرب من بعض ولم يقم قرينة خارجيّة أيضا على تعيين بعضها ، ففي مثل ذلك كيف يقال : بأنّ الجمع بينهما أولى من طرح أحدهما؟

وبالتأمّل فيما ذكرنا ينقدح فساد ما قد يقال : من أنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على حجّية الدليلين المتعارضين ـ كالخبرين ونحوهما ـ أو عمومه لزوم الجمع بينهما والعمل بهما مهما أمكن ، فإنّهما في حدّ ذاتهما وإن كانا ظنّيين إلاّ أنّ دليل حجّيتهما يصيّرهما كالقطعيّين ، وكما أنّ القطعيّين كالكتابين والخبرين المتواترين إذا تعارضا يجمع بينهما ويعمل بهما فكذا ما هو بمنزلتهما ، إذ لو اريد بالجمع الأخذ بسندي المتعارضين على وجه يؤخذ معه بمدلوليهما المجازيين ويجعل دلالتهما المجازيّة مدركا للحكم الشرعي ومناطا لاستنباطه كما هو معنى العمل بهما فهو غير ممكن في القطعيّين والظنّيين معا.

وإن اريد به مجرّد حفظ سنديهما عن الطرح ولو بإبداء احتمال بعيد في دلالتيهما المجازيّتين وإن لم يترتّب عليه فائدة العمل واستنباط الحكم الشرعي ، نظرا إلى أنّه كما أنّ قطعيّة سندي القطعيّين تأبى عن طرح أحدهما والحكم عليه بعدم الصدور ، فكذلك حجّية سندي الظنّيين تأبى عن طرح أحدهما والحكم عليه بعدم الصدور كما هو طريقة الشيخ في الجمع بين الأخبار المتعارضة الّذي تداوله في التهذيبين.

ففيه : أنّه جمع لا يجدي نفعا في علاج التعارض ، وليس من الجمع المبحوث عنه المقابل للطرح في مسألتي التعادل والترجيح.

هذا مع إشكال آخر يرد على الاستدلال بإطلاق أدلّة حجّية السند لإثبات أولويّة الجمع والمنع من الطرح ، فإنّ الطرح لا ينافي مقتضى أدلّة الحجّية ولا يوجب تقييدا في مطلقاتها ولا تخصيصا في عموماتها حتّى يتمسّك لمنعه بإطلاقها وعمومها.

وتوضيحه : أنّ منع العمل بالدليل الظنّي قد يكون لفقد المقتضي لجواز العمل به ، وقد

٥٨٦

يكون لوجود المانع من العمل به ، والحجّية الذاتيّة مقتضية للجواز والتعارض أو الإجمال الناشئ منه مانع ، وأدلّة الحجّية إنّما تنهض لإحراز المقتضي وهو الحجّية الذاتيّة في كلّ من المتعارضين ، وطرح أحدهما بعنوان التخيير أو الترجيح عند قائليه لا يرجع إلى إنكار الحجّية الذاتيّة فيه لينافي مقتضى أدلّة الحجّية ، بل يستند إلى وجود المانع من العمل بهما معا ، فالتمسّك بإطلاق أدلّة الحجّية أو عمومها لنفي جواز الطرح ليس بسديد.

وكيف كان فلو كان مراد القائلين بأولويّة الجمع مهما أمكن هو الجمع على هذا الوجه ـ وضابطه إرجاع التأويل إلى الدليلين معا مطلقا ولو بتنزيلهما على احتمال بعيد لا يقبله الطبع ولم يساعد عليه فهم العرف ولم يشهد به قرينة خارجيّة ـ فالأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه أنّه غير جائز فضلا عن تعيّنه ووجوبه.

أمّا أوّلا : فلعدم صحّة هذا النحو من التأويل في الدليل عرفا ، فالجمع المذكور بهذا الاعتبار داخل فيما لا يمكن عرفا.

وأمّا ثانيا : فلعدم ترتّب فائدة العمل عليه ، إذ العمل بالدليل عبارة عمّا اشتمل على التعبّد بالدليل سندا ودلالة ، والدلالة عبارة عن كشف الدليل ولو بنوعه عن الواقع بعنوان ظهور أوّلي وهو ظهور الحقيقة بملاحظة أصالة الحقيقة ، أو ظهور ثانوي وهو ظهور المجاز مع قرينة المجاز وما يقوم مقامها.

ولا ريب في انتفاء الظهورين في مفروض المقام ، أمّا الأوّل : فلزواله بفرض التعارض.

وأمّا الثاني : فلعدم بلوغ احتمال ما احتمل فيه من المجاز حدّ الظهور ، والجمع الّذي لا يترتّب عليه فائدة العمل ممّا ينبغي القطع ببطلانه.

وأمّا ثالثا : فلأخبار العلاجيّة المتكفّلة لبيان المرجّحات الآمرة بالترجيحات أو بالتخيير مطلقا أو مع فقد المرجّح ، فإنّها بإطلاقها بل عمومها الناشئ من ترك الاستفصال تشمل ما يجري فيه وجه من وجوه الجمع ولو بعيدا من الخبرين المتعارضين بل الغالب فيهما ذلك ، فالأمر بالترجيح مطلقا ومن غير استفصال عمّا يمكن فيه الجمع وما لا يمكن ينفي أولويّة مطلق الجمع بل جوازه أيضا.

والمناقشة فيه بأنّه لو صحّ التمسّك بترك الاستفصال هنا لزم القول بعدم جواز الجمع مطلقا حتّى في نحو الصورة المتقدّمة ممّا انحصر المعنى المجازي المحتمل في كلّ من المتعارضين في واحد ، وما كان بعض مجازاته المحتملة أقرب ، وما شهد بتعيينه منها قرينة

٥٨٧

خارجيّة وغير ذلك ممّا لا إشكال في أولويّة الجمع فيه بالقياس إلى الطرح ولو بعنوان الترجيح.

يدفعها : خروج نحو هذه الصور من موارد هذه الأخبار بمقتضى سياقاتها وأسئلتها ، لظهورها في كون السائلين فيها عن حكم الخبرين المتعارضين في مقام الحيرة في كيفيّة العمل وطريقه ، ولا حيرة في نحو الصور المذكورة.

وأمّا رابعا : فلأنّه لو صحّ الجمع على الوجه المذكور لزم خروج الأخبار المذكورة على كثرتها بلا مورد ، أو انحصارها في بعض الفروض النادرة الّذي لا يليق بذلك الاعتناء والاهتمام الموجود في تلك الأخبار بتقريب : أنّه قلّما يتّفق في الأخبار المتعارضة ما لا يمكن فيه إجراء وجه من وجوه الجمع البعيدة.

وأمّا خامسا : فلاستقرار عمل العلماء قديما وحديثا على عدم الالتفات إلى كلّ جمع ، والتزام الترجيح والرجوع إلى المرجّحات مع غلبة إمكان الجمع بوجه من الوجوه البعيدة ، حتّى أنّ الشيخ الّذي تداول هذا النحو من الجمع في التهذيبين لم يعمل به ولم يتّخذه مناطا للاستنباط ولا مدركا للحكم الشرعي ، بل ابن جمهور الّذي تقدّم منه إطلاق القول بأولويّة الجمع مدّعيا عليه الإجماع لا يظنّ به ولا بمن دونه اعتباره الجمع بهذا المعنى ـ وهو تنزيل كلّ من المتعارضين على احتمال بعيد لا يقبله الطبع ، ولا يساعد عليه فهم العرف ولا يشهد به قرينة ـ فيجوز أن يكون مراده ومراد موافقيه في إطلاق القول بأولويّة الجمع ما هو من قبيل الصور المذكورة لا مطلق ما احتمل ولو بعيدا وإن قيّدوه بالإمكان ، بناء على إرادة الإمكان العرفي منه لا مجرّد التجويز والاحتمال العقلي.

ويمكن دعوى ظهور ذيل عبارته المتقدّمة حيث قال : « وإن لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجه فارجع إلى العمل بهذا الحديث » في ذلك ، لأنّ قوله : « لم يظهر لك وجه » يفيد اعتبار بلوغ احتمال وجه الجمع مرتبة الظهور ، ويلزم من ذلك انصراف قوله : « إن لم تتمكّن » إلى الإمكان العرفي ، وعليه فيكون معقد الإجماع الّذي نقله هو ذلك لا مطلق ما أمكن عقلا وإن امتنع عرفا ، ولو لا ذلك لبطل دعوى الإجماع من رأسه لما عرفت من استقرار عمل العلماء أو أكثرهم على خلافه.

هذا كلّه مع أنّ أولويّة الجمع بالمعنى المذكور ممّا لا دليل عليه ولا شاهد له من عقل ولا نقل.

وأمّا ما استدلّ عليه من : أنّ الأصل في الدليلين الإعمال فيجب الجمع بينهما مهما

٥٨٨

أمكن لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، فهو أضعف شيء ذكر في المقام وأوهن من بيت العنكبوت ، وذلك لأنّ القاعدة المستفادة من أدلّة حجّية الأدلّة الغير العلميّة وإن كانت وجوب إعمال الدليلين إلاّ أنّه مقيّد بالإمكان ، ولا يمكن إلاّ حيث لا تعارض بينهما ، فكلّ دليلين بينهما تعارض التباين لا يمكن إعمالهما معا.

وتوضيحه : أنّ إعمال الدليلين إنّما يجب من حيث دليليّتهما ، ولا ريب أنّ دليليّة الدليل كالخبر الظنّي منوطة بأمرين : أحدهما السند وهو صدوره ، والآخر دلالته ، والأوّل يحرز بجعل الشارع حيث أوجب علينا بمقتضى أدلّة الحجّية تنزيله منزلة الدليل القطعي في وجوب التعبّد بدلالته والالتزام بمدلوله على أنّه الحكم الواقعي ، كما أنّ الثاني يحرز بأصالة الحقيقة وما بمعناها من الاصول اللفظيّة. وإن شئت قلت : إنّه يحرز بالظهور أوّليا كان أو ثانويّا.

فمعنى إعمال الدليل حينئذ التعبّد بدلالته المحرزة بالظهور تنزيلا لسنده الظنّي منزلة السند القطعي ، وعليه ففي الدليلين المتعارضين كقوله عليه‌السلام : « ثمن العذرة سحت » وقوله عليه‌السلام : « لا بأس ببيع العذرة » يتصوّر وجوه أربع :

الأوّل : أن يؤخذ بسنديهما مع الأخذ بظهوريهما.

الثاني : أن يؤخذ بسنديهما مع الأخذ بظهور أحدهما وطرح ظهور الآخر.

الثالث : أن يؤخذ بسنديهما مع طرح ظهوريهما معا.

الرابع : أن يؤخذ بأحدهما سندا وظهورا ويطرح الآخر.

والأوّلان باطلان لعدم إمكانهما عقلا ، أمّا الأوّل منهما : فلفرض التعارض ، وأمّا الثاني منهما : فلأنّ التعارض لا يرتفع بمجرّد رفع اليد عن ظهور أحدهما ، لبقائه بين خلاف ظاهر أحدهما وظهور الآخر.

والصحيح من الوجهين الأخيرين أيضا ثانيهما ، لأنّ طرح ظهوريهما الأوّليين مع عدم انعقاد ظهور ثانوي فيهما في معنى ترك العمل بهما رأسا وهو خروج عن مقتضى أدلّة الحجّية ، بخلاف الوجه الأخير الّذي يؤخذ فيه بأحدهما بتمامه ، فإنّه إعمال للدليل بالمعنى المتقدّم ، ولا يلزم من طرح الآخر خروج عن مقتضى أدلّة الحجّية بتقييد أو تخصيص ، إمّا لما بيّنّاه سابقا من أنّ ترك العمل بأحد المتعارضين إنّما هو لمانع التعارض ولا يؤول إلى إنكار حجّيته الذاتّية فلا ينافيها ، أو لأن أدلّة الحجّية مقّيدة بإمكان العمل وظاهر أنّ العمل

٥٨٩

بكلا المتعارضين غير ممكن ، فترك العمل بأحدهما حال العمل بالآخر لعدم إمكانه ، فهو خروج موضوعي لا حكمي.

وما يقال : من أنّ الأمر هنا دائر بين طرح ظهورين وطرح سند وظهور كما هو اللازم من طرح أحدهما رأسا ، والأوّل أولى لأنّ فيه عملا بكلّ من الدليلين في الجملة بخلاف الثاني فإنّه طرح لأحدهما بالكلّية.

ففيه أوّلا : منع تحقّق العمل بكلّ منهما في الجملة على تقدير طرح ظهوريهما ، لما عرفت من أنّه في معنى ترك العمل بهما رأسا ، إذ لا يبقى لهما دلالة يتعبّد بها بعد طرح ظهوريهما معا ، فالأمر في الحقيقة دائر بين ترك العمل بهما معا وترك العمل بأحدهما ، وظاهر أنّ الثاني أولى بالنظر إلى أدلّة حجّية السند.

وثانيا : منع لزوم طرح سند وظهور على تقدير طرح أحدهما رأسا ، إذ الظاهر تابع للسند فما لم يسلم السند لم يعقل معه ظهور ، وطرح السند في قوّة الحكم على أحدهما بعدم الصدور ، ومعه لا يبقى لطرح الظهور محلّ ، فإنّ الدلالة المحرزة بالظهور اللفظي عبارة عن فهم المعنى من اللفظ على أنّه مراد للمعصوم وإلاّ لم يكن المدلول حكما شرعيّا ، وبعد طرح السند الّذي هو في قوّة الحكم عليه بعدم صدوره من المعصوم لا يتأتّى الدلالة بالمعنى المذكور ، فلا ظهور حتّى يطرح بعد طرح السند ، فالسالبة باعتبار انتفاء الموضوع.

وبما بيّنّاه ظهر فساد ما ذكر في الدليل تفريعا على أصالة إعمال الدليلين من أنّه يجب الجمع بينهما مهما أمكن ، فإنّ الجمع بالمعنى المبحوث عنه في معنى ترك العمل بهما رأسا فلا يكون جائزا فضلا عن وجوبه.

كما ظهر بما بيّنّاه أيضا منع ما استدلّ به على الوجوب من استحالة الترجيح بلا مرجّح إن اريد به لزوم التخصيص في أدلّة الحجّية من غير مخصّص ، وإن اريد به التعيين بلا معيّن ، ففيه : أنّ الطرح اللازم من التخيير إنّما بحكم العقل أو العرف بالتخيير إن قلنا به ، فلا يكون من باب تعيين أحدهما بالخصوص للعمل حتّى يستحيل من غير معيّن ، مع أنّ الطرح قد يكون لمرجّح مع أحدهما المعيّن إن دخل المورد بعد عدم إمكان الجمع في عنوان « الترجيح » فلا يكون بلا مرجّح.

وقد يستدلّ على أولويّة الجمع ـ كما في النهاية والتهذيب والمنية وغيرها ـ : بأنّ دلالة اللفظ على تمام مفهومه أصليّة وعلى جزئه تبعيّة ، والجمع بين الدليلين بمعنى العمل بكلّ

٥٩٠

منهما من وجه دون وجه آخر ترك للدلالة التابعة ، والعمل بأحدهما دون آخر ترك للدلالة الأصليّة ، والأوّل أولى.

واعترضه في النهاية : بأنّ العمل بكلّ منهما من وجه عمل بالدلالة التابعة في كلّ منهما ، والعمل بأحدهما دون آخر عمل بالدلالة الأصليّة والتابعة في أحدهما وإبطال لهما في الآخر.

ولا ريب أنّ العمل بأصل وتابع أولى من العمل بالتابعين وإبطال الأصلين. وردّه في المنية : بأنّ العمل بأصل وتابع إنّما يكون أولى إذا كانا لدليلين كما في النصّ والظاهر ، حيث يطرح ظهور الظاهر بنصوصيّة النصّ ، وأمّا إذا كانا لدليل واحد فلا نسلّم كون العمل بهما أولى من العمل بالتابعين لدليلين.

وأنت خبير بما في الاعتراض وردّه ، لمنع تعدّد الدلالة على تقدير العمل بأحد الدليلين وترك العمل بالآخر بالكلّية.

والتحقيق في الجواب : أنّ العمل بكلّ من الدليلين في وجه دون آخر ترك للعمل بدلالة كلّ منهما وعمل بالاحتمال الغير البالغ حدّ الدلالة المعتبرة ، فهو في الحقيقة ترك للعمل بالدليلين معا ، بخلاف العمل بأحدهما بتمامه وطرح الآخر ، ويظهر وجهه بملاحظة ما مرّ في جواب الوجه السابق.

وقد يقال : إنّه قد يمكن الجمع بين المتبائنين فيما لو اشتمل كلّ منهما على جهة نصوصيّة وجهة ظهور ، بأن يكون نصّا من جهة وظاهر من اخرى ، فيطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر ، وذلك كما في قوله عليه‌السلام : « ثمن العذرة سحت » مع قوله عليه‌السلام : « لا بأس ببيع العذرة » فإنّ الأوّل نصّ في عذرة غير مأكول اللحم ، وظاهر في عذرة مأكول اللحم والثاني بالعكس ، للقطع في الأوّل بدخول عذرة غير المأكول في المراد على كلا تقديري إرادة عذرة المأكول منه وعدم إرادته ، ومرجعه إلى القطع بعدم إرادة عذرة المأكول منه بدون إرادة عذرة غير المأكول.

وفي الثاني بدخول عذرة المأكول في المراد على كلا تقديري إرادة عذرة غير المأكول منه وعدم إرادته ، ومرجعه إلى القطع بعدم إرادة عذرة غير المأكول بدون إرادة عذرة المأكول.

وقضيّة طرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر تخصيص الأوّل بعذرة غير المأكول وتخصيص الثاني بعذرة المأكول.

أقول : وهذا أيضا عند التحقيق وفي النظر الدقيق غير سديد ، لأنّ القطع بدلالة العامّ في

٥٩١

الجملة الّذي هو مناط النصوصيّة مع ظنّية سنده غير معقول.

ومع الغضّ عن ذلك أنّ النصوصيّة المفروضة هنا ليست من جوهر اللفظ كما في قوله : « لا تكرم زيدا العالم » بالقياس إلى « أكرم العلماء » وكما في « أكرم العلماء » بالإضافة إلى « إكرام عالم مّا » ، بل إنّما هي باعتبار الخارج من أولويّة أو إجماع أو نحو ذلك ، فالقطع الّذي هو مناطها معلّق على تقدير لم يقطع معه بوقوع المقدّر فيكون القطع المفروض تقديريّا لا فعليّا ، لتكثّر الاحتمالات في التأويل الّتي منها : كون مورد الروايتين مطلق العذرة من مأكول اللحم وغيره مع كون الاختلاف بينهما بالسحتّية وجواز البيع باعتبار اشتمالها على غرض عقلائي ومنفعة محلّلة مقصودة للعقلاء وعدمه.

ومنها : كون موردهما عذرة الإنسان بالخصوص كما هو مقتضى ظاهر « العذرة » أيضا ، وكان الاختلاف بينها باعتبار ما قصد ببيعه فائدة تسميد الزرع مثلا وما لم يقصد به هذه الفائدة.

ومنها : كون موردهما عذرة غير المأكول خاصّة مع اختصاص الاولى بعذرة غير الإنسان والثانية بعذرته لما فيها من فائدة التسميد المجوّزة لبيعها دون غيرها ، إلى غير ذلك من الاحتمالات.

ولا ريب أنّ القطع التقديري ممّا لا تأثير له في نصوصيّة الخطاب.

هذا كلّه في أولويّة الجمع مع إمكانه وعدمها في الدليلين المتعارضين.

وأمّا لو وقع التعارض بين البيّنتين وغيرهما من الأمارات المعمولة في الموضوعات الخارجيّة ، فهل يجمع بينهما ، ويكون الجمع بينهما أولى من الطرح كما قيل في الدليلين أو لا؟ ففيه إشكال بل منع ، وإن قلنا بالأولويّة في الدليلين.

ولكن ينبغي أن يعلم أنّ ليس المراد بالجمع هنا ما تقدّم في الدليلين ـ من تأويلهما معا وصرفهما عن ظاهريهما إلى احتمال خلاف الظاهر ولو بعيدا ، إذ التأويل هنا على معنى حمل كلّ من البيّنتين على إرادة خلاف ظاهرها غير معقول ـ ولا الجمع المتداول عند جماعة في مسألة تعارض الجرح والتعديل وهو تصديق ما لا يستلزم منهما تكذيب الآخر ، ولذا قدّموا قول الجارح تعليلا بأنّه لا يلزم منه تكذيب العدل ، ففي الحقيقة لا تعارض بينهما لأنّ مرجع الاختلاف بينهما إلى دعوى « أدري » و « لا أدري ».

وبعبارة اخرى : أنّ الجارح إنّما يجرح بدعوى العلم بصدور موجب الفسق ، والمعدّل

٥٩٢

يعدّل بدعوى عدم العلم بصدور موجب الفسق ، ومن الظاهر عدم التعارض بينهما ، وإطلاق هذا التعليل كإطلاق تقديم قول الجارح وإن كان عندنا عليلا ـ كما حقّقناه وفصّلناه في محلّه ـ غير أنّ المقصود هنا بيان عدم جريان الجمع بهذا المعنى في مسألة تعارض البيّنتين لكون تصديق كلّ منهما تكذيبا للاخرى.

والسرّ فيه : أنّ كلاّ منهما إخبار بالحقّ عن علم.

بل المراد به الأخذ بكلّ منهما في نصف المدّعى به ، فلو قامت بيّنتان عند التداعي في عين شخصيّة يجمع بينهما بإعطاء نصف تلك العين أحد المتداعيين عملا ببيّنته في الجملة والنصف الآخر المتداعي الآخر عملا ببيّنته أيضا في الجملة ، ومثله ما لو اختلف مقوّمان في تقويم عين معيّنة ، فقال أحدهما : بأنّ قيمتها عشرة ، والآخر : أنّها إثنا عشر ، فيجمع بينهما بأخذ نصف كلّ منهما فيحكم بأنّ قيمة العين أحد عشر ، لأنّه مجموع النصفين من المجموعين ، فهل الجمع بهذا المعنى أولى هنا من طرح إحداهما بالكلّية والأخذ بالاخرى كذلك تخييرا أو لا؟

والّذي يظهر من ثاني الشهيدين في تمهيد القواعد هو الأولويّة ، بل جعل التنصيف الّذي يحكم به الحاكم في تعارض البيّنتين من فروع أولويّة الجمع بين الدليلين وثمراته ، وهذا بظاهره مشكل بل لا وجه له ، لعدم إمكان الجمع بحيث يجدي في ارتفاع التعارض ، إذ المانع من الأخذ بنصف مقتضى كلّ منهما بعينه مانع من الأخذ بالنصف الآخر من كلّ منهما ، ضرورة أنّه لا مانع في المقام من العمل بهما معا في النصف الساقط إلاّ المعارضة ، وهي كما أنّها موجودة بالنسبة إلى أحد النصفين فكذلك موجودة بالنسبة إلى النصف الآخر ، لوضوح أنّ كلاّ منهما تقتضي ثبوت تمام الحقّ لصاحبها ، والمقتضي لثبوت تمام الحقّ يقتضي ثبوت بعض الحقّ أيضا ، فيقع التعارض بينهما في كلّ من النصفين ، وطرح النصف عن مقتضى كلّ منهما لا يقضي بعدم المعارضة بينهما بل هي بعد باقية على حالها ، وجعلها مانعة في البعض دون غيره كما ترى.

وبالجملة مآل الجمع بهذا المعنى إلى الأخذ بكلّ منهما في الجملة وطرح كلّ منهما في الجملة ، ونحن نقول : إنّه ليس بأولى من طرح إحداهما بالكلّية والأخذ بالاخرى بالكلّية ، وليس لأحد أن يجعل الأوّل أرجح بالنظر إلى دلالة ما دلّ على وجوب العمل بالأمارات والبيّنات ، لأنّه كما أنّ الأوّل موافقة لتلك الأدلّة بالعمل بالبعض في الكلّ فكذلك الثاني أيضا

٥٩٣

موافقة لها بالعمل بالكلّ في البعض ، ولا يعقل للأوّل رجحان على الثاني لاشتمال كلّ على عمل في الجملة ومخالفة في الجملة.

غاية الفرق بينهما حصول العمل والمخالفة في بعض الكلّ وكلّ البعض ، وكون ذلك موجبا لرجحان أحدهما على الآخر غير معقول ، وليس مبنى بناء الأصحاب في عنوان هذه المسألة على التنصيف من غير خلاف يعرف بينهم على كون ذلك جمعا بل الحكم إجماعي ظاهرا ، ولعلّ النكتة فيه أنّ المخالفة القطعيّة في الجملة مع الموافقة القطعيّة كذلك أولى من المخالفة والموافقة الاحتماليّتين في نظائر المقام.

وتوضيح ذلك : إنّ إعمال البيّنة ونحوها من الأمارات إنّما هو لأجل إثبات حقّ من حقوق الآدميّين ، والعمل بالبيّنات لإثبات الحقوق والأموال ليس كالعمل بالأدلّة لإثبات الأحكام والتكاليف ، فإنّ المخالفة القطعيّة في الأحكام والتكاليف ـ على ما حقّق في محلّه ـ غير جائزة ، فلو اجتمع الواجب والحرام واشتبها كالإنائين المشتبهين مثلا إذا وجب استعمال أحدهما وحرم استعمال الآخر فلا يجوز القول باستعمال كليهما ولا بترك استعمال كليهما لاستلزام كلّ منهما مخالفة قطعيّة ، أمّا الأوّل فلاستلزامه ارتكاب المحرّم بعنوان القطع ، وأمّا الثاني فلاستلزامه ترك الواجب بعنوان القطع ، وإن استلزم كلّ منهما القطع بالموافقة من جهة فعل الواجب في الأوّل وترك الحرام في الثاني ، بل في نحو ذلك لابدّ من استعمال أحدهما وترك الآخر بحكم القوّة العاقلة بأولويّة المخالفة والموافقة الاحتماليّتين بالقياس إلى المخالفة والموافقة القطعيّتين ، بخلاف المقام الّذي هو من الحقوق فإنّ القطع بإثبات نصف الحقّ لصاحبه مع إبطال نصفه الآخر أولى من احتمال إثبات تمام الحقّ مع احتمال إبطال تمام حقّه ، وذلك لبناء العرف واستقرار طريقة الشارع عليه ، ولذا ترى الناس في الخصومات والمنازعات لا يزالون يبادر أذهانهم إلى الإصلاح بين المتنازعين ويحملونها مهما أمكن على الصلح ، بل صار أولويّة ذلك ورجحانه عندهم من سجاياهم ، وقد ورد في الروايات أيضا ما يقضي بذلك ونطق به الكتاب العزيز أيضا.

فصار محصّل الكلام : أنّ بناء الناس في تعارض البيّنات ونحوها على عكس بنائهم في الأدلّة المتعارضة ، لبنائهم ثمّة على الجمع بين الحقوق.

ويؤيّده الاعتبار أيضا من حيث إنّ التنصيف والأخذ بكلّ منهما في البعض تسوية وهي لا تقتضي داعيا إلاّ رفع الخصومة وقطع المنازعة ، بخلاف الأخذ بإحداهما وطرح

٥٩٤

الاخرى فإنّه ربّما يتبع الدواعي النفسانيّة من الميل والبغض وغيرهما ممّا لا تنضبط ، والدواعي من الارتشاء ولذا يسأل الحاكم ويؤاخذ وربّما يتّهم ، فالتسوية ممّا ينقطع به الخصومة وينسدّ به باب المنازعة ويتحفّظ به الحاكم عن التهمة ، فالحكمة الإلهيّة تقتضي جعله التنصيف والعمل بكلّ في البعض ميزانا للعمل بالبيّنات في موضوع التعارض.

ثمّ إنّ هذا كلّه في منع أولويّة الجمع ، ولمّا كان ذلك بمجرّده لا يلازم أولويّة الطرح اللازم من التخيير فينبغي التكلّم في ذلك.

وليعلم أوّلا : أنّ الدليلين الظنّيين ـ كما هو موضوع المسألة ـ ليسا كالقطعيّين ، فإنّ قطعيّة سند الدليل تأبى عن طرحه ، فإن كان دلالتاهما ظنّية وانحصر طريق الجمع بينهما في تأويل بعيد فيهما وتنزيل كلّ منهما على احتمال لا يساعد عليه فهم العرف ولم يشهد له شاهد خارجي فالحكم ما أشرنا إليه سابقا من أنّه لا مناص فيهما من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، وأمّا مع نصوصيّة دلالتيهما فإمّا أن يكون المورد ممّا يجوز فيه النسخ ولا يجري فيه التقيّة كما لو كانا من الكتاب أو من الأخبار النبويّة فلا مناص فيهما من التزام النسخ بجعل أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، ولابدّ في تميز الناسخ من المنسوخ معرفة التاريخ ، أو يكون ممّا يجوز فيه التقيّة ولا يجري فيه النسخ كما لو كانا من الأخبار الإماميّة فلا مناص من التزام جهة التقيّة في صدورهما ، وإن لم يقصد بها العمل ولا إظهار الموافقة في المذهب بل مجرّد إلقاء الخلاف بين الشيعة على ما ورد في الروايات مع إشكال فيه يأتي وجهه في بحث المرجّحات.

بخلاف ما لو كانا ظنّيين سندا فإنّ احتمال النسخ لا يجري فيهما وإن كانا من الأخبار النبويّة ، لعدم جواز النسخ بخبر الواحد ، واحتمال التقيّة يندفع بالأصل ، وحينئذ فإذا لم يكن الجمع بالمعنى المتقدّم أولى فقد يقال بأولويّة الطرح تمسّكا ببناء العرف ، فإنّ أوّل ما يلاحظه العرف عند سماع الخبر إنّما هو الدلالة والمضمون ، فإذا عارضه مثله كما في « أكرم زيدا » و « لا تكرم زيدا » يبقى متردّدا ومتحيّرا ويشاهد نفسه عاجزا من العمل بهما معا لانتقاله إلى عدم إمكانه فيختار أحدهما للعمل ويطرح الآخر من جهة تفطّنه بكون أدلّة الحجّية والاعتبار مقيّدة بالإمكان ولا ممكن إلاّ هذا ، وذلك عندنا ليس بسديد ، لأنّه لو لم ندّع كون بناء العرف في نحو ذلك من جهة التحيّر الناشئ من التعارض على التوقّف والعمل بالأصل إلى أن يتبيّن المخرج منه فلا أقلّ من منع كون بنائهم على التخيير.

٥٩٥

فتحقيق المقام : أنّ ما لا يصحّ الجمع بينهما من المتعارضين مع ما لا يمكن الجمع بينهما مندرجان في عنواني المقامين الآتيين وهما التعادل والترجيح ، فيعلم حكمهما من البحث في المقامين.

المقام الثاني

فيما لو تعارض الدليلان أو الأمارتان وتكافئا من جهة المرجّحات المعتبرة ويعبّر عنه بالتعادل.

والكلام فيه تارة في الصغرى واخرى في الكبرى.

أمّا الأوّل : فاختلفوا في جواز تعادل الأمارتين على معنى خلوّهما عن المرجّح كما عليه الأكثر وهو المعتمد ، ونفاه بعضهم كما عن الكرخي وأحمد بن حنبل ، وعزاه في التهذيب إلى قوم ، وعن غاية المبادئ أنّهم التزموا بأنّه لابدّ من ثبوت مرجّح لأحد المتعارضين وإن خفي على المجتهد مسلكه.

لنا : أنّه لا مانع منه عقلا ولا شرعا ، أمّا الأوّل : فلأنّ العقل لا يأبى ذلك ، وقرّره في المنية : « بأنّه لا يمتنع أن يخبرنا رجلان متساويان في العدالة والثقة ، واحتمال الصدق بحكمين متنافيين والعلم بذلك ضروريّ » انتهى.

وما اعتمد عليه المانع من المنع العقلي غير صالح للمانعيّة.

وأمّا الثاني : فلأنّه ليس في الأدلّة الشرعيّة وقواعد الشرع ما يقضي بالمنع ، بل فيها ما يدلّ على خلاف ذلك كالأخبار الآمرة ـ من الأخبار العلاجيّة ـ بالتخيير في الخبرين المتعارضين ، لوضوح أنّه لا يصحّ إلاّ إذا تكافئا وتساويا من جهة المرجّحات.

احتجّ المانعون : بأنّه لو وقع التعادل بين الأمارتين المتعارضتين فالعمل بهما محال لأدائه إلى اجتماع حكمين متنافيين في موضوع واحد ، وتركهما معا يقتضي العبث بوضعهما ، إذ وضع أمارة لا يمكن العمل بها عبث وهو أيضا محال ، والعمل بإحداهما دون الاخرى ترجيح بلا مرّجح وهو أيضا محال.

وربّما عزى إليهم القول بجوازه عقلا وعدم وقوعه شرعا ، وقرّر ذلك دليلا على عدم الوقوع.

وأيّا ما كان فهو باطل لإمكان اختيار الشقّ الثاني ومنع الملازمة ، لعدم اختصاص وضع الشارع بالأمارتين المتعارضتين ، فبترك العمل بهما معا لمانع التعارض لا يلزم خروج

٥٩٦

الوضع المتعلّق بنوع الأمارة من دون نظر إلى خصوصيّاتها عبثا ، كما في جعل الحكم التكليفي المعلّق على العامّ كقوله : « أكرم العلماء » إذا اتّفق التنافي بين فردين منه.

هذا مع جواز اختيار الشقّ الأخير ومنع الملازمة أيضا ، ويعلم وجهه بمراجعة ما حقّقناه في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين عند الكلام في قاعدة استحالة الترجيح من غير مرجّح ، وقد بيّنّا ثمّة أنّ الترجيح في عنوان هذه القاعدة عبارة عن اختيار أحد طرفي الممكن ، والمرجّح عبارة عمّا يوجب رجحانه في نظر الفاعل المختار عقلائيّا كان أو فاعليّا ، وعدم المرجّح فيه عبارة عن انتفاء المرجّح بقسميه ، وإنّما يكون الترجيح حينئذ مستحيلا لمدخليّة المرجّح في تحقّق المقدّمة الأخيرة من مقدّمات وقوع أحد طرفي الممكن من فعل شيء وتركه أو من فعل أحد أشياء على البدل وترك الجميع وهي الإرادة بمعنى الجزم بالإيقاع ، لاستحالة وجود الشيء مع انتفاء مقدّمة وجوده كاستحالة أن يختار الفاعل المختار أحدهما ما دام متردّدا بينهما ، فلابدّ في الترجيح من زوال التردّد بمراعاة مرجّح عقلائي أو فاعلي أوجب رجحان أحد الطرفين المستتبع للجزم بإيقاعه ، فالتردّد إن كان في أشياء بين فعل أحدها على البدل وترك الجميع لابدّ فيه من مرجّح أوجب رجحان أحدها على وجه يستتبع الجزم بإيقاعه ، ولو فرض تحقّقه في جانب فعل أحدها كفى في اختيار بعض معيّن منها ، لأنّه حينئذ ليس من الترجيح حال التردّد ويكفي فيه الرجحان المشترك على البدل ، لوضوح أنّه في مقابلة ترك الجميع ترجيح مع المرجّح ، وهو في مقابلة اختيار المعادل لا تردّد بينهما ليستدعي اعتبار مرجّح آخر.

ولا ريب أنّ أدلّة حجّية الأمارة بنوعها مع انضمام استحالة العمل بالمتعارضين من أفرادها تصلح مرجّحة لأحدهما على البدل في مقابلة تركهما معا ، فتعيين إحداهما للعمل به واختياره دون الاخرى ليس من الترجيح بلا مرجّح ليكون مستحيلا ، فليتدبّر.

وأمّا الثاني : فاختلفوا في أنّ الدليلين المتعارضين إذا تعادلا بعد عدم إمكان الجمع بينهما فهل الأصل فيهما التساقط ـ على معنى خروجهما عن الحجّية فيتساقطان فيرجع في الواقعة إلى الأصل الجاري فيها ـ أو لا؟ وعلى الثاني فهل الأصل فيهما التخيير على معنى وجوب العمل بأحدهما على البدل وطرح الآخر أو لا؟ فلابدّ من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، وجوه بل أقوال.

فقد يقال : بأنّ الأصل فيهما التساقط ، لأنّ الأصل الأوّلي في كلّ دليل غير علمي عدم

٥٩٧

الحجّية ، إذ الحجّية الّتي يتولّد منها وجوب العمل أو وجوب العمل الّذي ينتزع منها الحجّية أمر حادث منوط حدوثه بوضع الشارع وجعله والأصل عدمه ، وليس هنا من جهة الحجّية أصل ثانوي يكون بالقياس إلى المتعارضين واردا على الأصل الأوّلي رافعا لموضوعه ، لعدم تناول مادلّ على حجّية الأدلّة الغير العلميّة للمتعارضين ، لأنّه إن كان لبّيّا كالإجماع على تقدير ثبوته فهو أمر معنوي وقضيّة معقولة ليس فيه عموم ولا إطلاق لفظي ، وشموله للمتعارضين غير معلوم ، فيجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن وليس إلاّ ما لا معارض له ، وإن كان لفظيّا من إجماع منقول أو آية أو رواية فدلالتها إنّما هي بالإطلاق وينصرف إلى ما لا معارض له من الأفراد لأنّه الظاهر الحاضر في الأذهان.

وأيضا فإنّه لو كان متناولا للمتعارضين فإمّا أن يدلّ على وجوب العمل بكلّ منهما على التعيين ، أو على وجوب العمل بكلّ منهما على التخيير ، أو على وجوب العمل بهما معا فيما إذا كان بينهما قدر مشترك كان الأخذ به عملا بهما معا ، كرجحان الفعل أو عدم الإباحة بالمعنى الأخصّ في خبرين كان تعارضهما في الوجوب والاستحباب ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل : فلامتناع العمل على الوجه المذكور.

وأمّا الثاني : فللزومه استعمال اللفظ في الوجوب العيني بالنسبة إلى ما لا معارض له والوجوب التخييري بالنسبة إلى المتعارضين وهو غير جائز.

وأمّا الثالث : فلكون كلّ نافيا لما أثبته الآخر وعدم وجود قدر مشترك بين مدلوليهما ليكون الأخذ به عملا بهما.

وتوهّم كون رجحان الفعل أو نفي الإباحة قدرا مشتركا بينهما.

يدفعه : أنّ القدر المشترك الّذي يكون الأخذ به عملا بهما معا هو ما اتّفقا عليه لا القدر المشترك الانتزاعي الّذي يعتبره العقل بإلقاء الخصوصيّتين ، وما ذكر ليس من القدر المشترك المتّفق عليه بأن يكون ممّا اتّفقا في الدلالة عليه ، لكونه في كلّ بمنزلة الجنس من مدلوله ، فيكون في كلّ متفصّلا بما فيه من الفصل.

ولا ريب أنّ الجنس المتفصّل في أحدهما بفصله مع الجنس المتفصّل في الآخر بفصله باعتبار الخارج متغايران ، لوضوح أنّ اختلافهما في الفصل يوجب تغايرهما في الجنس من حيث الخارج ، وما يتراءى من كونه متّحدا فيهما إنّما هو باعتبار الذهن بعد إلقاء الخصوصيّتين ، وهذا ليس بعين الجنس الموجود فيهما باعتبار الخارج ، وذلك نظير ما لو

٥٩٨

أخبرنا مخبر بمجيء الإنسان وأخبرنا آخر بمجيء الحمار من حيث إنّهما لم يتّفقا في الدلالة على أمر مشترك بينهما ، والحيوان المتفصّل بالناطقيّة مغائر بحسب الخارج للحيوان المتفصّل بالناهقيّة ولهما وجودان متغايران.

نعم إذا ألقى عن كلّ منهما الخصوصيّة الحاصلة من الفصل يبقى الحيوان المطلق ويعبّر عنه بالقدر المشترك ، غير أنّه قدر مشترك انتزاعي لا أنّه من الأمر المشترك المتّفق عليه بينهما ، فلا يكون الأخذ به عملا بهما معا ، بل هو عند التحقيق ترك للعمل بهما معا ، ولذا يعتبر في الخبر المتواتر المعنوي الّذي يفيد العلم بالقدر المشترك أن يكون ذلك القدر المشترك ممّا اتّفقت الأخبار في الدلالة عليه بحيث لم يكن اختلافها في الخصوصيّات المستفادة منها آئلا إلى الاختلاف في ذلك القدر المشترك ، كما لو اتّفقت الأخبار في تعيين الميّت الّذي اتّفقت على موته أو في تعيين الواقعة الّتي اتّفقت على وقوعها ، بأن يخبرنا أحد بأنّ الّذي مات زيد وآخر بأنّه عمرو وثالث بأنّه بكر ورابع بأنّه خالد وهكذا ، أو أخبرنا الأوّل بأنّ الواقعة الّتي وقعت في الخارج موت زيد والثاني بأنّها قدوم عمرو من السفر والثالث بأنّها خروج بكر إلى السفر والرابع بأنّها قيام خالد وهكذا ، فإنّه في نحو ذلك يحصل العلم بملاحظة كثرة المخبرين بحدوث موت في الخارج ووقوع واقعة في العالم ، بخلاف ما لو اختلفت الأخبار في الخصوصيّات على وجه يؤول إلى اختلافها في القدر المشترك ، كما لو أخبرنا أحد بأنّه مات زيد وآخر بأنّه مات عمرو وثالث بأنّه مات بكر ورابع بأنّه مات خالد وهكذا ، أو أخبرنا الأوّل بموت زيد والثاني بقدوم عمرو من السفر والثالث بخروج بكر إلى السفر والرابع بقيام عمرو وهكذا ، فإنّه لا يحصل في الأوّل بملاحظة كثرة المخبرين العلم بتحقّق موت في الخارج ، ولا في الثاني العلم بوقوع واقعة في العالم وإن بلغت في الكثرة إلى ما بلغت.

ولا ريب أنّ الخبرين المتعارضين أو غيرهما من الدليلين المتعارضين من هذا الباب لا من قبيل الأوّل ، لوضوح كون اختلافهما في الفصل اختلافا في الجنس المتفصّل بذلك الفصل ، فالدالّ منهما على الوجوب ناف لرجحان الفعل أو عدم الإباحة الّذي هو في ضمن الاستحباب ، كما أنّ الدالّ منهما على الاستحباب ينفي الرجحان أو عدم الإباحة الّذي هو في ضمن الوجوب ، فليسا واردين بالرجحان المطلق ولا عدم الإباحة المطلق ليكون من القدر المشترك المتّفق عليه.

٥٩٩

وبالجملة اتّفاق المتعارضين على الجنس مع فرض اختلافهما في الفصل غير معقول ، لكون كلّ نافيا للجنس المتفصّل بما ينفيه من مدلول الآخر من الفصل.

والجواب عن ذلك أوّلا على سبيل الإجمال وهو : أنّ إنكار تناول أدلّة الحجّية للمتعارضين سدّ لباب التكلّم والبحث في باب تعارض الدليلين بجميع أنحائه ، لوضوح أنّ دليليّة الدليل الغير العلمي منوطة بالحجّيّة ، فما ليس بحجّة ليس بدليل ، ومعه لا يعقل التعارض ، وعليه فتعارض الدليلين عنوان لا خارج له أصلا وموضوع لا مصداق له أبدا وهو كما ترى ، على أنّ الكلام في مقام التعادل ليس للإشكال في مقتضي الحجّيّة حتّى يمنع وجوده إلاّ في القدر المتيقّن ، بل للإشكال في علاج منع المانع من العمل بكلا المتعارضين وهو التعارض ، وهذا لا يستقيم إلاّ بعد الفراغ عن إحراز الحجّية الذاتيّة فيهما معا ، ولا يتمّ إلاّ بعد نهوض الأدلّة بها فيهما وتناولها لهما سواء كانت لبّيّة أو لفظيّة ، ومعه فجعل الأصل فيهما مع التعادل التساقط استنادا إلى منع تناول دليل الحجّية لهما كما ترى.

وثانيا : بمنع عدم تناول أدلّة الحجّية للمتعارضين ، بدعوى تناولها لمحلّ التعارض وإن كان على وجه التعادل ، سواء فرضناه لبّيّا ـ كالإجماع على فرض تحقّقه في الأدلّة الغير العلميّة ، بناء على عدم قدح ما عليه السيّد المرتضى وأضرابه من القدماء من القول بعدم حجّية أخبار الآحاد الغير المحفوف بقرائن العلم في انعقاده ـ أو لفظيّا.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاسترابة في تناول الإجماع إن كان لوجود القول بالخلاف وهو القول بالتساقط في عنوان التعادل.

ففيه : أوّلا منع وجود هذا القول بين أصحابنا بل هو لبعض العامّة على ما حكي كما في المفاتيح ، وأشار إليه المصنّف رحمه‌الله حيث قال : « لا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا وعليه أكثر أهل الخلاف ».

وثانيا : منع كون مبنى التساقط على عدم الحجّية الذاتيّة ، وعدم استلزام القول به إنكار الحجّية من أصلها ليستند في ذلك إلى عدم تناول الإجماع لمحلّ التعارض ، بل القول به إنّما هو بعد الفراغ عن الحجّية الذاتيّة ، كما يرشد إليه اختلافهم في عنوان « التعادل » الّذي هو من لواحق التعارض وافتراقهم فرقا ثلاث أحدها : أهل القول بالتساقط ، ولذا استدلّ أهل القول بالتخيير الّذي عليه الأكثر بأنّهما دليلان تعارضا ولا يمكن العمل بهما معا ، ولا بأحدهما بالخصوص دون الآخر ولا إسقاطهما فوجب التخيير ، وعلّل بطلان الأخير

٦٠٠