تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

فيما بينه وبين مقلّديه ، ومعه لا يعقل في عمل المقلّد اعتبار أزيد من فتوى المجتهد ، والأصل في وحدة النسبة ـ حسبما بيّنّاه ـ كون الاجتهاد وتحصيل مقدّماته واجبا كفائيّا ، فإذا حصل ممّن قام به الكفاية وهو المجتهد كان مسقطا عن سائر المكلّفين الغير البالغين رتبة الاجتهاد ، وإنّما لم يسقط من البالغين رتبة الاجتهاد لقيام القاطع من العقل والشرع على عدم كون مؤدّيات اجتهاد مجتهد أحكاما فعليّة في حقّهم.

فإن قلت : إذا كان مبنى الدليل العقلي المقام على حجّية ظنّ المجتهد له وفتواه لمقلّده على تعيّن الأخذ بالأقرب كما ذكرت.

فنحن نقول : إنّ الفتوى المفيدة للظنّ للمقلّد أقرب إلى الواقع من الفتوى الغير المفيدة له ، فتعيّن الأخذ بالاولى ولا يسوغ العدول عنها إلى الثانية أخذا بموجب الدليل العقلي.

قلت : هذه الأقربيّة على فرض اطّراد إمكان حصول الظنّ للمقلّد من فتوى المجتهد ملغاة في نظر العقل ، وغير مؤثّرة في تعيين الأخذ بما أفاد الظنّ ومنع الأخذ بما لم يفده ، سواء فرضت الاختلاف في إفادتها إيّاه وعدم إفادتها له بين مقلّدين لمجتهد واحد بأن أفاد فتواه في المسألة لأحدهما الظنّ ولم تفده للآخر ، أو بين مجتهدين لمقلّد واحد بأن حصل له الظنّ في المسألة من فتوى أحدهما دون فتوى الآخر ، وليست هذه الأقربيّة إلاّ كالأقربيّة المتوهّمة في البيّنة المفيدة للظنّ للحاكم في واقعة حكمه قبالا لبيّنة اخرى موافقة لها ومساوية لها في اجتماع شرائط الحجّية والاعتبار غير مفيدة للظنّ ، مع أنّه لا ريب في كونها ملغاة في نظر العقل والشرع ، لبناء البيّنات على التعبّد الصرف فيكون الظنّ المفروض مع بيّنته في لحاظ الحاكم وقضيّة الحكم كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

والضابط في مؤثّرية الأقربيّة كونها موجبة لصيرورة مورد الأقرب حكما فعليّا بالخصوص مقرونا بالشكّ في فعليّة مورد الغير الأقرب ، أو القطع بعدم فعليّته أي عدم كونه الحكم الفعلي الّذي يجب التديّن به ، وذلك كفتوى المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء قبالا لفهم المقلّد نفسه وظنّه الحاصل له من غير جهة الفتوى أو قول غيره ممّن ليس بمجتهد جامع الشرائط كأبيه أو أمّه أو معلّمه أو عالم آخر غير فقيه ، وإن اتّفق حصول الظنّ له بأحد هذه المذكورات ولم يحصل من فتوى المجتهد الجامع للشرائط.

ولا ريب أنّ الأوّل نوعا أقرب إلى الواقع باعتبار غلبة مصادفته الواقع ، وكلّ من مقابلاته أبعد عن الواقع نوعا باعتبار غلبة عدم مصادفة الواقع ، ولذا كان ما يفسد المقلّد

٣٨١

منها أكثر ممّا يصلحه ، فيحكم العقل المستقلّ بملاحظة هذه الأقربيّة بتعيّن الأخذ بالأوّل ويمنعه من الأخذ بمقابلاته.

وقضيّة ذلك كون أحكامه الفعليّة الّتي يجب عليه التديّن بها فتاوى المجتهد دون غيرها.

ولا ريب أنّ هذه الأقربيّة غير موجودة في فتوى المجتهد المفيدة للظنّ قبالا لغير المفيدة له في شيء من الصورتين المتقدّمتين.

أمّا في الصورة الاولى : فلأنّ المفروض كون مؤدّيات اجتهاد المجتهد الواحد أحكاما فعليّة يجب بناء العمل عليها ، وهذه نسبته واحدة بينه وبين كلّ مقلّد له وهو من شأنه التقليد باعتبار عدم بلوغه رتبة الاجتهاد ، ولا تختلف هذه النسبة باتّفاق حصول الظنّ من فتواه لمقلّد دون آخر ، ضرورة أنّ من لم يحصل له الظنّ لا محيص له أيضا من تقليد هذا المجتهد.

وأمّا في الصورة الثانية : فلأنّ المفروض كون مؤدّيات اجتهاد كلّ من المجتهدين أحكاما فعليّة في حقّه وحقّ مقلّديه ، وهذه أيضا نسبة واحدة بينه وبين كلّ من شأنه ووظيفته التقليد ، سواء رجع إلى أحدهما المعيّن أو اختلفوا في الرجوع بأن اختار طائفة أحدهما واخرى الآخر ، لا يتفاوت الحال في ذلك بين اتّفاق حصول الظنّ من فتوى أحدهما في مسألة دون فتوى الآخر وعدمه.

وقضيّة ذلك كون الأحكام الفعليّة لكلّ مقلّد قبل اختياره أحدهما مخيّرا فيها بين فتاوى هذا المجتهد أو فتاوى ذاك المجتهد ، فأيّهما اختار تعيّن عليه مختاره ، والأصل في ذلك تساوي المجتهدين في غلبة مصادفة فتاوى كلّ منهما نوعا للواقع وإن اختلفوا في خصوصيّات المسائل المختلف فيها.

ومرجع هذا التساوي إلى كون فتاوى أحد المجتهدين مع فتاوى صاحبه متشاركتين في المصلحة ، فتعيّن إحداهما أحكاما فعليّة للمقلّد في ابتداء أمره دون الاخرى ترجيح بلا مرجّح وهو محال ، وما قد يتّفق حصوله له في شخص مسألة من الظنّ من فتوى أحدهما في هذه المسألة لا يصلح مرجّحا للنوع ، وإناطة الأمر بالظنّ الفعلي في خصوصيّات المسائل الموجب لتعيّن تقليد كلّ منهما في مسألة حصل الظنّ فيها من فتواه توجب عدم انتظام أمر التقليد وفي ذلك عسر عظيم وحرج شديد لا يتحمّل عادة.

نعم لو كان المجتهدان مع اختلافهما في الرأي متفاضلين ـ بكون أحدهما فاضلا والآخر مفضولا ومرجعه إلى اختلافهما في الأعلميّة وغيرها ـ أمكن القول بكون فتوى الأعلم

٣٨٢

أقرب إلى الواقع من فتوى غير الأعلم بالأقربيّة المؤثّرة في كون مؤدّيات اجتهاده أحكاما فعليّة للمقلّد المتمكّن من الرجوع إليهما باعتبار كونها أغلب مصادفة للواقع من فتاوى غير الأعلم وإن كانت هي في حدّ أنفسها أيضا غالب المصادفة له ، فيحكم العقل بتعيّن الأخذ بها ولو باعتبار كونها القدر المتيقّن من الحكم الفعلي ، لمكان الشكّ في كون فتوى غير الأعلم أيضا حكما فعليّا في حقّه وعدمه ، إلاّ أن يكون هناك صارف لهذه الأقربيّة عن التأثير ، نظير صارف أقربيّة الاحتياط عن التأثير في تعيّن العمل به من تعذّره لكثير وتعسّره للباقين فسقط اعتباره مع دوام إصابته الواقع ، فأمكن إجراء نحوه في المقام بأن يقال : إنّ الأخذ بهذا الأقرب يتوقّف على تشخيص الأعلم ومعرفته وتمكّن الوصول إليه وهو متعذّر لأكثر العوامّ ومتعسّر للباقين ، فتأمّل وتمام البحث يأتي في محلّه.

ثمّ لو فرض عدم كون نتيجة الدليل العقلي الأخذ بالأقرب ، نقول : كونه منتجا للظنّ المطلق إنّما يسلّم مع تعدّد الأمارات وأسباب الظنّ نوعا كما هو الحال في أمارات المجتهد ، وأمّا مع اتّحاد الأمارة وانحصارها في واحد ـ كما فيما نحن فيه لكون فتوى المجتهد بالقياس إلى عمل المقلّد بحسب النوع أمراة واحدة ـ فنتيجته الظنّ الخاصّ على معنى كون اعتبارها من هذا الباب ، ومرجعه إلى اعتبار ذات سبب الظنّ وإن يفده لا الظنّ الحاصل منه بالخصوص كما تنبّه عليه بعض مشايخنا قدس‌سره ، واعتبار الوحدة في النوع ممّا يدفع توهّم كون المجتهدين المختلفين في الرأي بالنسبة إلى المقلّد أمارتين متعارضتين فوجب الترجيح بينهما بالظنّ ، فيلزم كون الدليل منتجا للظنّ المطلق ، فإنّ فتوى المجتهد بالمعنى الجنسي في كلّ من المضاف والمضاف إليه نوع واحد تتعدّد تارة جزئيّاته الإضافيّة واخرى جزئيّاته الحقيقيّة ، ولا ينافي شيء منهما لوحدته النوعيّة كما في خبر الواحد.

غاية الأمر أنّه لو وقع التعارض بين الإضافيّين أو فردين منهما بنى على التخيير في المتساويين لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، وعلى الترجيح في المتفاضلين بالأعلميّة أو الأورعيّة إن قلنا به ، وإلاّ فعلى التخيير مطلقا.

ثمّ بقي في المقام شيء وهو أنّه قد يتوهّم أنّ أخذ الأقربيّة والأكمليّة في محلّ التقليد على ما هو نتيجة الدليل العقلي كما ذكرناه أوّلا ينافي ما تقدّم سابقا في معنى التقليد من أنّه الأخذ بقول الغير من حيث إنّه قوله ، على أن يكون الوسط كونه قوله لا غير ، فإنّ قضيّة هذا البيان كون قول الغير مأخوذا فيه على وجه الموضوعيّة ، وقضيّة الدليل العقلي كونه

٣٨٣

يؤخذ به على وجه الطريقيّة كما هو مفاد إناطة الأمر بالأقربيّة.

ويدفعه : أنّ أخذ قول الغير من حيث هو في معنى التقليد للتنبيه على أنّ المقلّد في أخذه بذلك القول لا يتحرّى في طلب الدليل التفصيلي الّذي نشأ منه ذلك القول ، واللازم منه كون وسطه كونه قولا للغير ، وأخذ الأقربيّة في محلّ التقليد إنّما هو لنفي اعتبار الأبعد كقول غير الفقيه الجامع للشرائط ، مع التنبيه على عدم كون مصلحة الواقع في جعل قول الفقيه مرجعا للمقلّد ملغاة في نظر الشرع والعقل وهذا لا ينافي الموضوعيّة ، لا بمعنى أن يحدث بسبب قيام أمارة الفتوى بالواقعة مصلحة فيها مقابلة لمصلحة الواقع مغيّرة للحكم ليلزم منه التصويب الباطل ، بل بمعنى أنّه قصد من الأمر بسلوكها إدراك مصلحة الواقع والوصول إليه مع اشتماله على مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع على تقدير عدم إصابتها الواقع ، كما هو الحال في الأمارات المجعولة للمجتهد لئلاّ يلزم الظلم على الشارع بتفويته مصلحة الواقع على المكلّف بلا مصلحة متدارك بها ، كما يلزم ذلك على تقدير جعلها من باب الطريقيّة ، وهذا هو المراد من اعتبارها من باب الموضوعيّة.

وإن شئت سمّه بشبه الموضوعيّة من حيث كونه برزخا بين الموضوعيّة والطريقيّة كما أو مأنا إليه في المباحث المتقدّمة.

وبالجملة فرق واضح بين معقد اصطلاحهم في التقليد ومورد الأدلّة المقامة على مشروعيّته ، ويختلف الحال في ذلك باعتبار الحيثيّة ، فقول المجتهد إن اخذ من حيث ذاته ومع قطع النظر عن الدليل الّذي هو مدرك القول ومنشائه كان داخلا في مفهوم التقليد بحسب العرف والاصطلاح ، وإن اخذ من حيث وصفه وهو الأقربيّة كان موردا للأدلّة المقامة على مشروعيّة التقليد من العقل والشرع ، ومرجعه إلى أنّ أدلّة مشروعيّة التقليد إنّما قضت بجواز الأخذ بقول الغير من غير دليله التفصيلي إذا كان أقرب إلى الواقع لا مطلقا ، ولا يكون ذلك إلاّ قول المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء ، فلا تدافع بين الاعتبارين.

وثالثها : أنّ التقليد المشروع ـ على ما ظهر من تضاعيف المسألة ـ مخصوص بالمكلّف الغير البالغ رتبة الاجتهاد ، عاميّا كان أو فاضلا عارفا بطرف من العلوم ، وأمّا غيره البالغ رتبته المعبّر عنه بصاحب ملكة الاستنباط فإن كان بحيث اجتهد في المسائل فعلا وكان مطلقا فلا إشكال في أنّه لا يجوز له التقليد قولا واحدا وعليه الإجماع بقسميه من المحصّل والمنقول مستفيضا ، ومدركه الكبرى المتحصّلة للمجتهد بموجب الأدلّة القاطعة الناطقة

٣٨٤

بحجّية ظنّه ومؤدّى اجتهاده المعبّر عنها : « بأنّ كلّما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم الله في حقّي » فإنّها في اقتضاء المنع من التقليد من القضايا الّتي قياساتها معها ، ضرورة أنّ كون مؤدّى اجتهاده حكم الله في حقّه معناه وجوب بناء العمل عليه وحرمة مخالفته ، والرجوع إلى الغير في محلّ الخلاف مخالفة وطرح له فيكون حراما.

وإن كان متجزّيا فلا إجماع على منع التقليد فيه كما لا إجماع على جواز عمله بظنّ نفسه لمكان الخلاف ، غير أنّ الأقوى جواز العمل له بظنّه لكونه أقرب إلى الواقع بالقياس إلى ظنّ غيره ، وقد يعلّل بأنّه عمل عن معرفة والتقليد عمل لا عن معرفة.

ولا ريب في رجحان الأوّل وحسنه في نظر العقل ، كحسن تحصيل ملكة الاستنباط فيمن يقدر عليه وهو مردّد بينه وبين التقليد.

ولا خفاء في ضعفه ، لأنّ حسن العمل عن معرفة إنّما يسلّم في العمل المشروع ، وما شكّ في مشروعيّته لا حسن فيه بل العقل مستقلّ بقبحه كما يظهر بأدنى تأمّل.

هذا إذا كان الناظر في حكم المتجزّي غيره من العلماء الأزكياء وأمّا إذا كان الناظر هو المتجزّي نفسه لاستعلام حكمه فلمّا كان أمره دائرا بين المحذورين حرمة التقليد وحرمة العمل بالظنّ ـ لاندراجه في كلّ من عمومات المنع من التقليد وعمومات المنع من العمل بالظنّ بل منع العمل بما وراء العلم ـ فالمتعيّن في حقّه اتّباع العلم وانتهاء عمله إليه في المسألة الفرعيّة أو الاصوليّة أو العمل بالاحتياط ولا محيص له عن أحد هذه الامور ، فإن أدّى اجتهاده في المسألة الفرعيّة إلى العلم بالحكم الواقعي فلا إشكال ، وإلاّ تأمّل في المسألة الاصوليّة فإن وصل إلى قاطع يقضي بجواز بنائه على ظنّه وأخذه بمؤدّى اجتهاده أو بجواز رجوعه إلى غيره فلا إشكال أيضا ، وإلاّ فلا مناص له من العمل بالاحتياط ، وإن كان لم يجتهد فعلا أصلا ففي جواز التقليد له أو وجوب العمل بالاحتياط خلاف.

والتحقيق هنا أيضا أنّ الحكم الواقعي في حقّه أحد الأمرين من الاجتهاد والعمل بمؤدّاه أو الأخذ بالاحتياط بعد معرفته ومعرفة موارده ، ولا يسوغ له العدول إلى التقليد لعموم أدلّة منعه وحرمته واستقلال العقل برجحان الاجتهاد وحسنه.

هذا إذا أمكنه الاجتهاد ، وأمّا إذا لم يمكنه لضيق وقت أو فقد كتب أو مانع آخر فمقتضى الأصل والقاعدة تعيّن العمل بالاحتياط وعدم جواز التقليد له ، لكن ظاهر العلماء هنا جواز التقليد وعدم وجوب الاحتياط لعدم كونه ممّا أوجب الشارع سلوكه بعينه في امتثال أحكامه.

٣٨٥

وقد سبق البحث مشروحا في جميع هذه المسائل في مباحث الاجتهاد ولا حاجة هنا إلى الإعادة والتكرار.

ورابعها : أنّ التقليد المشروع للعامي ومن بحكمه هل هو على التخيير بينه وبين العمل بالاحتياط مع إمكانه كما هو الأصحّ ، أو على التعيين؟ فلا يجزيه الاحتياط ولا يجوز البناء عليه كما عن ظاهر الأكثر ، ويوهمه إطلاق إجماعاتهم المنقولة على بطلان عبادات الجاهل وعمل تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، وعلى وجوب معرفة واجبات الصلاة ومستحبّاتها ليقع كلّ على وجهه ، وما عن المتكلّمين من إطباقهم على وجوب معرفة واجب كلّ عبادة ومستحبّه ليقع كلّ على وجهه.

وهذا هو الكلام في الجهة الثانية من الجهتين المتقدّم إليهما الإشارة ، غير أنّه لا يختصّ بالمقلّد بل يجري في المجتهد أعني صاحب ملكة الاستنباط الّذي طريقه المشروع هو الاجتهاد ، فيقال : هل هو على التخيير بينه وبين العمل بالاحتياط أو على التعيين؟ فالعنوان العامّ الجامع لهما هو أنّ المكلّف بسلوك أحد الطريقين هل يجوز له ترك هذا الطريق وسلوك مسلك الاحتياط أو لا؟

وإنّما قيّدنا العنوان بتارك الطريقين إذ لا إشكال بل لا خلاف لأحد في غير صورة الترك في حسن الاحتياط ورجحانه بل وجوبه أيضا في بعض الأحيان ، كالمجتهد في المسائل المتردّد فيها لفقد نصّ أو إجماله أو تعارضه ، وكالمتجزّئ إذا لم يؤدّ اجتهاده في المسألة الفرعيّة إلى القطع بالحكم وعجزه عن إقامة الدلالة القاطعة في المسألة الاصوليّة على عمله بظنّه ولا ظنّ غيره ، وكالمطلق بعد فراغه من الاستنباط أو المقلّد له بعد استكماله التقليد فيحسن لهما الأخذ بطريقة الاحتياط في مظانّ مخالفة الفتوى له.

وعلى هذه الصورتين ينزّل القضيّة المشهورة المتسالم فيها المعبّر عنها : « بأنّ الاحتياط حسن على كلّ حال » دفعا لمنافاتها الإشكال والخلاف الّذي عنون لأجله المسألة إن كان.

ثمّ من الظاهر اختصاص الإشكال أو الخلاف ـ على فرض ثبوته ـ بالاحتياط المعمول به في العبادات بالمعنى الأخصّ وهو ما اعتبر في صحّته النيّة وقصد القربة ، وأمّا المعاملات بالمعنى المقابل لها سواء كان ممّا بنى مشروعيّته على ورود الأمر به إيجابا أو ندبا كالواجبات والمندوبات التوصّلية أو لا كالعقود والإيقاعات فينبغي القطع بجواز ترك الطريقين وسلوك طريقة الاحتياط فيها ، فالمريد لغسل المتنجّس مثلا يحتاط فيغسله مرّتين ، والقاصد لإجراء

٣٨٦

عقد النكاح يحتاط فيجمع بين صيغتي العقد وهكذا ، لأنّها أسباب لمسبّبات معيّنة لم يعتبر في ترتّبها عليها نيّة القربة حتّى يستشكل من جهة تعذّر إحراز النيّة من الجاهل ، ولم يقل أحد فيها باشتراط قصد الوجه ولا العلم به حتّى يستشكل تمسّكا بانتفاء الشرط ، كما أنّ من الظاهر أيضا اختصاص جريان الاحتياط في العبادات بكلّ واقعة لم يحتمل فيها الحرمة الذاتيّة لعدم إمكانه مع احتمالها.

وأمّا الحرمة التشريعيّة فلا تنافي الاحتياط بل هو رافع لموضوعها ، لأنّه عبارة عن الإتيان بما لم يعلم كونه من الشرع لرجاء كونه من الشرع ، ويتأتّى معه نيّة القربة لو كانت عبادة أو احتمل كونها كذلك ويرتفع به موضوع التشريع ، سواء أخذناه بمعناه الأعمّ وهو إدخال ما لم يعلم دخوله في الدين فيه ، أو بمعناه الأخصّ وهو إدخال ما علم خروجه من الدين فيه كما هو واضح.

ولا ينافيه أيضا قوله تعالى : ( أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ * وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) لأنّه ليس قولا على الله بل هو أخذ بما لعلّه من الله.

ثمّ إنّ صور الاحتياط بأجمعها ومواردها مقصورة على أربع يختلف باختلافها كيفيّته ، ففي محتمل الوجوب أو الحرمة يتأتّى باختيار الفعل في الأوّل والترك في الثاني ، وفيما يشكّ كون وجوبه على التعيين أو التخيير بينه وبين غيره يتأتّى بإتيان ما احتمل التعيين ، وفيما يشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للعبادة يتأتّى بالإتيان بها مع المشكوك فيه جزءا أم شرطا ، وفيما يتردّد المكلّف به بين المتبائنين كالظهر والجمعة والقصر والإتمام يتأتّى بالجمع والتكرار ، فهل يشرع في الجميع ، أو لا في الجميع ، أو شرع في الصورة الاولى خاصّة ، أو في الصورتين الاوليين كذلك ، أو في الصور الثلاث الاولى دون الأخيرة؟ ومنشاؤه الاستشكال في صحّة العمل اكتفاء بالامتثال الإجمالي ـ وهو ما لا يعلم أنّ موافقة الأمر بأيّ شيء حصل ـ مع إمكان الامتثال التفصيلي بمعرفة الحكم الفعلي بطريق الاجتهاد ولو ظنّا أو التقليد ولو تعبّدا ، والمراد من مشروعيّة الاحتياط ـ على ما نبّهنا عليه في عنوان المسألة ـ كونه طريقا مجعولا ليكون في مقابلة كلّ من الطريقين أحد فردي الواجب التخييري ، بناء على أنّه يشاركهما في المصلحة الباعثة على جعلهما طريقين وهو إدراك مصلحة الواقع أو مثل مصلحة الواقع.

ومن الاصول العقليّة أنّ الشيئين المتشاركين في المصلحة يقبح إيجاب أحدهما على

٣٨٧

التعيين ، كما أنّ الشيء ما لم يشارك الواجب في المصلحة الباعثة على إيجابه يقبح أخذه طرفا للتخيير وجعله بدلا عن الواجب.

وهاهنا احتمال آخر على تقدير عدم كونه طريقا مجعولا ليكون أحد فردي الواجب التخييري ، بناء على أنّ الأدلّة النافية للعسر والحرج كما تنفي وجوبه تعيينا كذلك تنفي وجوبه تخييرا ، وهو أنّه هل يكون مسقطا عن الطريق المجعول لكونه محصّلا لأصل المقصود أو لا؟ فالمشروعيّة المبحوث عنها في المقام قد يراد بها كون الاحتياط أحد فردي الواجب التخييري ، وقد يراد بها كونه مسقطا عمّا هو واجب بعينه ، وليس بين الاعتبارين فائدة يعتدّ بها على الظاهر إلاّ في ترتّب الثواب على الفعل الاحتياطي لتحقّق الاحتياط به وعدمه إن قلنا به في الواجبات الغيريّة ، وفي جواز قصد الوجوب التخييري به من حيث تأدّي الاحتياط الواجب به وعدمه كما نبّه عليه بعض الفضلاء.

وكيف كان فالأصحّ الأقوى جوازه لتارك الطريقين مطلقا حتّى في نحو الصورة الأخيرة.

لنا : أنّه براءة يقينيّة وامتثال علمي فليكن مبرئ للذمّة ومخرجا عن العهدة.

وتوضيحه : أنّه طريق يتضمّن إدراك الواقع في العمل وإن لم يوجب إدراكه في العلم قبل العمل فكان أولى بالإجزاء بالقياس إلى الطريقين ، لوضوح أنّ مؤدّى الاجتهاد في عمل المجتهد ومؤدّى التقليد في عمل المقلّد إنّما يؤخذ به على أنّه هو الواقع مع عدم مصادفته في بعض الأحيان على وجه يشتمل سلوك هذا الطريق في صورة عدم المصادفة على مثل مصلحة الواقع ليتدارك به ما يفوت من مصلحة الواقع ، والعمل بالاحتياط أخذ بنفس الواقع دائما.

هذا مضافا إلى أنّه قد تقدّم عند تقرير دليل الانسداد في غير موضع أنّ قضيّة الأصل العقلي في محلّ الاشتغال اليقيني بأحكام الله المعلومة بالإجمال اعتبار الامتثال العلمي التفصيلي ، ومع تعذّره اعتبار الامتثال العلمي الإجمالي ، ومع تعذّر أو سقوط اعتباره شرعا ـ ولو للتوسعة في الشريعة السمحة السهلة ـ اعتبار الامتثال الاجتهادي أو التقليدي ، فالعدول إلى أحد الطريقين إنّما هو في مرتبة متأخّرة عن مرتبة الاحتياط ، ومعه كيف يعقل عدم كونه مجزيا.

وأقصى مفاد دليل عدم اعتباره إنّما هو عدم وجوب سلوكه على التعيين في نظر الشارع ، وهو لا ينافي جواز سلوكه على أنّه أحد فردي الواجب التخييري.

ولو سلّم قضاء أدلّة نفي العسر والحرج أو غيرها بعدم وجوبه مطلقا حتّى تخييرا فهو

٣٨٨

لا ينافي أيضا جوازه وحصول الإجزاء به بل حسنه ورجحانه ، إذ ليس مفاد هذه الأدلّة حرمته والمنع من سلوكه ، ومرجعه على تقدير صحّة الفرض إلى كونه مسقطا عن الطريق المجعول وإن لم يكن بنفسه طريقا مجعولا يجب سلوكه تعيينا أو تخييرا ، بناء على أنّ وجوب سلوك أحد الطريقين غيريّ قصد به إدراك مصلحة الواقع ، أو إدراك مثل مصلحة الواقع المتدارك به مصلحة الواقع وإذا كان هناك طريق آخر غير مجعول أفاد إدراك نفس الواقع دائما لم يعقل عدم كونه مجزيا ومسقطا عن الطريق المجعول.

مع أنّه لا نجد في الوجوه العقليّة ولا الشرعيّة عدا أمور ربّما يتخيّل كونها وجها للمنع ، من الأصل المعبّر عنه بأصالة التعيين في واجب دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، أو التشكيك في كفاية الموافقة الإجماليّة في الامتثال الواجب في موضع الاشتغال اليقيني مع إمكان الموافقة التفصيليّة حسبما أشرنا إليه ، أو لزوم قصد الوجه بمعنى الوجوب والندب في صحّة العبادة ، أو اعتبار معرفة الوجه على أنّها بنفسها من شروط الصحّة لا على أنّها مقدّمة لقصد الوجه على تقدير وجوبه ، أو إطلاق الإجماعات المنقولة على عدم معذوريّة الجاهل وبطلان عباداته الّتي منها ما ادّعاه السيّد الرضيّ وقرّره عليه أخوه السيّد المرتضى قدس‌سرهما في مسألة جاهل المقصّر إذا صلّى تماما المحكوم عليه في المشهور بصحّة صلاته ، حيث سئل عن هذه المسألة فقال : « الإجماع منعقد على أنّ من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزية ».

وأجاب المرتضى رحمه‌الله عنه : بجواز تغيّر الحكم الشرعي بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور.

ولا خفاء في وهن الجميع :

أمّا الأوّل : فلأنّ الأصل النافي للاجتزاء بغير ما احتمل كونه واجبا على التعيين وإن صحّ في مظانّه غير أنّ المقام ليس من مظانّه ، إذ لا مدرك له سوى قاعدة الاشتغال فيدور في جريانه مدار هذه القاعدة ، وظاهر أنّها لا تجري إلاّ في موضع الشكّ في البراءة لو لا العمل بما يوجب اليقين ، وقد ظهر ببياناتنا المتقدّمة أنّ العقل مستقلّ بإدراك الامتثال والخروج عن العهدة فلا شكّ في البراءة على تقدير العمل بالاحتياط فيخرج المقام عن مجرى القاعدة ، كيف ولا موجب للشكّ إلاّ أحد الوجوه الباقية وستعرف عدم صلاحية شيء منها منشأ له.

وأمّا الثاني : ـ فمع توجّه المنع إلى إطلاق دعوى الموافقة الإجماليّة بالقياس إلى جميع

٣٨٩

الصور الأربع المتقدّمة وإنّما تسلّم في خصوص الصورة الأخيرة ، لوضوح أنّ الاحتياط في الثلاث الاولى موافقة تفصيليّة ، لأنّه فيما يحتمل الوجوب إنّما يأتي به بداعي امتثال الأمر به بعينه على تقدير وجوبه في الواقع ، وفي الإتيان بما جامع المحتملات في مسألة الجهل بحكم الأجزاء من حيث الوجوب والاستحباب إنّما يأتي بالمأمور به بداعي الأمر به بعينه.

غاية الأمر أنّه على تقدير عدم وجوب جميع الأجزاء إنّما أتى بعين المأمور به مع زيادة ، وفي الإتيان بما احتمل كون وجوبه على التعيين إنّما يأتي بنفس المأمور به بداعي الأمر به المردّد بين التعيين والتخيير ـ : أنّ شبهة كفاية الموافقة الإجماليّة في الامتثال إمّا ترجع إلى الشكّ في صدق الإطاعة والامتثال على الموافقة الإجماليّة ، أو إلى الشكّ في الكيفيّة المطلوبة من الامتثال بحسب جعل الآمر ، على معنى أنّ الإطاعة والامتثال المطلق وإن كان يصدق على الموافقة الإجماليّة كما يصدق على الموافقة التفصيليّة غير أنّ الشكّ في خصوص المقام في أنّ الامتثال في لحاظ الآمر هل قصد مطلقا أو مقيّدا بجهة التفصيل؟

وبعبارة اخرى : أنّ الشكّ في أنّ الامتثال المقصود من الأمر هل يتأتّى بالموافقة الإجماليّة أو لا يتأتّى إلاّ بالموافقة التفصيليّة وعدم الاجتزاء بالموافقة الإجماليّة؟

وأيّامّا كان فهي ليست في محلّها ، إذ الإطاعة والامتثال ممّا لا يعقل له معنى إلاّ أداء المأمور به على حسبما امر به بداعي الأمر به ، وهذا المعنى صادق في جميع صور الاحتياط حتّى صورة التكرار ، لأنّه عند الإتيان بالفعلين المتعاقبين إنّما يقصد بإتيانهما أداء المأمور به منهما على حسب ما امر به بداعي الأمر به لا غير ، وهذا المعنى بعد فرض صدقه مع الموافقة الإجماليّة ممّا لا يقبل التقييد في لحاظ الأمر بجهة التفصيل ، لما نجد بالعيان وشهادة الوجدان المغني عن مؤنة إقامة البرهان أنّ الآمر في لحاظ الأمر غير متعرّض لتقييد ما قصده من الامتثال بجهة التفصيل ، وليس هذا إلاّ من جهة أنّ غرضه حصول أداء المأمور به على حسبما امر به في الخارج من غير نظر إلى جهتي الإجمال والتفصيل اللاحقين بالامتثال ، ومن غير خصوصيّة لجهة التفصيل تعلّق غرضه بها ، بل يقبح عليه في نظر العقل مؤاخذة المقتصر على الموافقة الإجماليّة بعد إحراز حصول أداء المأمور به على حسب ما امر به في الخارج لمجرّد إخلاله بجهة التفصيل في الامتثال.

وهذا كلّه آية أنّ تلك الخصوصيّة ملغاة في نظر العقل والعرف والشرع.

وإن شئت فاستوضح ذلك بالصلاة إلى القبلة فيمن صلاّها إلى جهتين يقطع بكون

٣٩٠

إحداهما قبلة وهو متمكّن من تحصيل العلم بها ويتركه اكتفاء منه في أداء الصلاة إلى القبلة بالاحتياط المقتضي للجمع والتكرار ، حيث إنّ الامتثال في نحو المثال صادق مع الموافقة الإجماليّة ولا يصحّ المؤاخذة على تفويت الموافقة التفصيليّة مع إمكانها.

وبالتأمّل فيما ذكرناه يظهر بطلان ما قد يفصّل في المقام من أنّه إن قلنا بكون الامتثال من قيود المأمور به في نحو قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) فالأقرب الاكتفاء بالامتثال الإجمالي تمسّكا بإطلاق الأمر بالقياس إلى قسمي الامتثال ، وإن قلنا بكونه من أغراض الآمر فلا سبيل إلى التمسّك بالإطلاق.

وحينئذ فالأحوط بل المتعيّن مراعاة الامتثال التفصيلي ولو ظنّا عملا بقاعدة الاشتغال ، فإنّ كون الامتثال من قيود المأمور به غير معقول ، إلاّ أن يفسّر بغير ما فسّرناه وهو غير واضح ، ومع فرض كونه من قبيل الأغراض فقد عرفت أنّه حاصل وصادق مع الموافقة الإجماليّة ولا يقبل التخصيص بالجهة.

وأمّا الثالث والرابع : فلأنّه قد تقرّر في محلّه من مباحث الواجب من باب الأوامر من الكتاب عدم اعتبار شيء من قصد الوجه ومعرفته في صحّة العبادة على أن يكونا من قيود المأمور به ـ ويكفي في نفي اعتبارهما الأصل والإطلاق مع عدم دليل مخرج عنهما ـ ولا على أن يكونا من شروط صدق الامتثال ، بل الدليل ناهض بخلافه وهو السيرة القطعيّة المتّصلة بأعصار أهل العصمة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام الكاشفة عن رضاهم.

وتمام الكلام في تقرير السيرة عند تحقيق المسألة في الفقه أوردناه في مباحث نيّة الوضوء من كتاب الطهارة (١) مع أنّ قصد الوجه على ما يظهر من دليل معتبريه إنّما اعتبر لكونه من شروط الامتثال لا من قيود العمل ، والقدر المسلّم من مدخليّته في الامتثال إنّما هو حيث يتوقّف عليه التعيين الّذي هو في الحقيقة من شروط الامتثال ، فقصد الوجوب أو الندب المتوقّف عليه التعيين المتوقّف عليه الامتثال إنّما يجب بشرطين أحدهما : اشتراك العبادة ، وثانيهما : انحصار مميّز العبادة المشتركة في ذلك القصد.

وأمّا إذا كان هناك مميّز آخر ـ ولو نحو العنوان الّذي وجبت أو استحبّت لأجله أو بسببه العبادة ـ فقصد هذا المميّز كاف في التعيين وصدق الامتثال ولا حاجة معه إلى قصد الوجوب والندب ، مثلا لو وجب على الإنسان ركعتان من الصلاة احتياطا أو بسبب النذر

__________________

(١) ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام ( مخطوط ).

٣٩١

واستحبّت اخريان نافلة أو لأجل الحاجة فيشترط في صحّة عمله قصد ما يميّزه في الخارج ، ويكفي فيه قصد الاحتياط أو النذر في الأوّل وقصد النفل أو الحاجة في الثاني.

نعم لو وجبت عليه ركعتان واستحبّت اخريان من دون معلوميّة مميّز غير وجوب الأوّل وندب الثاني اتّجه لزوم قصد الوجوب والندب ، وهذا لا يمنع من الاجتزاء بسلوك طريقة الاحتياط حيث لا اشتراك أو لا انحصار لمميّز المشتركة على تقدير الاشتراك في قصد الوجه ، لعدم ابتناء الاحتياط في شيء من صوره الأربع على فرض الاشتراك فضلا عن ابتنائه على انحصار مميّز العمل في قصد الوجه.

وأمّا الخامس : فلمنع الإطلاق المتوهّم في الإجماعات المنقولة بحيث تشمل المحتاط ، بل هي عند التحقيق منصرفة إلى تارك الطريقين الغير المراعي في عباداته طريقة الاحتياط ، مع احتمال كون معقدها الجاهل الّذي لم يطابق عمله الواقع أو لم يحرز في عمله بسبب جهله القربة.

فتلخّص ممّا ذكرناه : أنّه لا دليل من عقل ولا شرع على بطلان أعمال المحتاط ، ولا على انحصار طريق الإطاعة وصحّة الأعمال في الاجتهاد والتقليد ، بل الدليل على ما بيّنّاه ناهض بخلافه.

وأمّا ما يوهم الانحصار ممّا في كلامهم من تقسيم المكلّف إلى مجتهد ومقلّد فقابل للحمل على أن يكون المراد منهما من شأنه ووظيفته الاجتهاد باعتبار بلوغه رتبته ، أو التقليد باعتبار عدم بلوغه رتبة الاجتهاد ، والمحتاط على ما شرحناه في عنوان المسألة وجعلنا عنوانه تارك الطريقين غير خارج عنهما.

أو يقال : إنّ نظرهم في التقسيم المفيد للحصر إلى مورد الوجوب على التعيين ، بناء على أنّ الاحتياط طريق لا يجب سلوكه لا عينا ولا على أنّه أحد فردي الواجب التخييري.

فالحصر المستفاد من التقسيم على التقديرين لا ينفي طريقة الاحتياط ، فإذا حصل كان مسقطا لما هو واجب بعينه من سلوك أحد الطريقين.

وإذا ثبت جواز العمل بطريقة الاحتياط في تحصيل الإطاعة وامتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال فلا يتفاوت الحال فيه بين العمل بها في جميع المسائل المحتاج إليها بترك الطريقين رأسا والعمل بها في الجملة على وجه التلفيق بينه وبين أحد الطريقين ، بسلوكها في جملة من المسائل وسلوك أحدهما في اخرى.

٣٩٢

وينبغي التنبيه على امور من باب التفريع :

أحدهما : أنّ المسألة الّتي عرفت البحث فيها لكونها نظريّة ـ مبنيّة على دليل نظري لا يتمّ إلاّ بدفع الاحتمالات القادحة فيه ـ إنّما يتيسّر التكلّم فيها للعلماء المجتهدين المتمكّنين من النظر وإقامة الدليل النظري ، وتتميمه بدفع معارضاته والاحتمالات القادحة فيه ، وعليه ففائدة جواز العمل بالاحتياط على وجه يقطع به العامل إنّما يظهر للمحتاط العالم البالغ رتبة الاجتهاد ، وأمّا العامي الغير البالغ رتبته الّذي وظيفته التقليد فلا يتيسّر له إثباته بطريق النظر ، لعجزه عن إقامة دليله أو تتميمه وعدم تمكّنه من دفع الاحتمالات القادحة فيه المانعة من إنتاجه الّتي منها احتمال مدخليّة قصد الوجه ومعرفته في صحّة العبادة إذا التفت إليه بملاحظة القول به ، بل واحتمال اعتبارهما أيضا في أجزاء العبادة الّتي كثيرا مّا تختلف بالوجوب والندب حيثما التفت إليه وإن لم نقف على قائل به ، ضرورة عدم تيسّر دفع جميع ذلك إلاّ لصاحب ملكة الاستنباط العارف بالاصول والقواعد الّتي عليها يبتنى تتميم هذا الأصل ، وعليه فلا يسوغ له العمل بالاحتياط ولا محيص له من اختيار التقليد والاقتصار عليه في الفروع ، لأنّه المبرئ اليقيني للذمّة في نظره مع شكّه في جواز الاحتياط الّذي مرجعه إلى الشكّ في كونه مبرئ للذمّة ، أو لابدّ وأن يبنى في جواز العمل به على تقليد من يجوّزه ممّن له أهليّة الفتوى ويصلح للتقليد ثمّ بعد تقليده في هذه المسألة يحتاط في الفروع.

وربّما يستغني عن التقليد إذا كان متجزّيا بناء على صحّته وكان اجتهاده في النيّة وفروعها فظهر عليه أنّه لا يعتبر قصد الوجه ولا معرفته مطلقا في العبادة وأجزائها ، فبعد إثباته جواز العمل بالاحتياط بطريق القطع يعمل به في المسائل الغير المجتهد فيها الّتي وظيفته فيها التقليد.

فدفع إشكال العمل بالاحتياط بالنسبة إلى العامي من الجهة الّتي أشرنا إليها هيّن ، إذ أقصى مراتبه البناء في سلوك اختياره على تقليد من يجوّزه حسبما عرفت.

نعم هاهنا إشكال آخر بالنسبة إليه ربّما يكون دفعه من المعضلات وهو : أنّ العمل بالاحتياط لا يتأتّى إلاّ بعد تشخيص موارده وإحراز شروطه الّتي منها عدم احتمال الحرمة الذاتيّة في الواقعة ، ومرجعه إلى عدم دوران الأمر فيها بين المحذورين مع معرفة كيفيّته الدائرة بين الصور الأربع المتقدّمة الّتي يختلف فيها الموارد.

وهذا كلّه كما ترى ممّا لا يتيسّر إلاّ لصاحب ملكة الاستنباط المتمكّن من استفراغ

٣٩٣

الوسع في تتبّع اصول المسائل وفروعها الجزئيّة لضبط موارده ومعرفة كيفيّته وإحراز انتفاء احتمال الحرمة الذاتيّة في كلّ مسألة حاول فيها العمل بالاحتياط ، ومعرفة عدم كون الاحتياط في كلّ مورد في ترك الاحتياط ، ولو سلّم عدم الحاجة في إحراز جميع ذلك إلى وجود ملكة الاستنباط فلا أقلّ من أن يكون ممّن له حظّ وافر من العلم.

فتلخّص من ذلك أنّ العامي البحت لا حظّ له في العمل بالاحتياط على الوجه الكلّي ، ورجوعه إلى مجتهد أو عالم آخر لإحراز الامور بتلقين ذلك المجتهد وتعليمه إيّاه يوجب العدول من الطريق الأسهل إلى الأشقّ ، ضرورة أنّ التقليد الكلّي أسهل بمراتب من هذا الأخذ والتعلّم الّذي هو مقدّمة للعمل بالاحتياط كما لا يخفى.

وثانيها : أنّه قد عرفت على ما برهنّاه على جواز العمل بالاحتياط أنّ الجهة المجوّزة له في نظر العقل كونه براءة يقينيّة وامتثالا علميّا ، فليكن هذا هو معيار العمل لمن حاوله ، وعليه فيعتبر فيه كونه بحيث يطمئنّ على نفسه بعدم الخطأ في تشخيص مورده وكيفيّته لئلاّ يعمل به في غير مورده أو على غير كيفيّته ، بأن يقطع في كلّ واقعة عمد إلى العمل به فيها بكونها مورده ، ويقطع أيضا بالكيفيّة الخاصّة الّتي هي كيفيّته الواقعيّة في خصوص المورد ، ولم يحتمل في حقّه الخطأ في المقامين ، وإلاّ لم يكن ما يستعمله براءة يقينيّة فلا يجوز الاجتزاء به عن طريقه المجعول الّذي هو مبرئ يقيني أعني الاجتهاد أو التقليد ، ولا يجوز أن يقاس في محلّ عدم الأمن من الخطأ على طريق الاجتهاد الّذي هو أيضا غير مأمون من الخطأ بتوهّم أنّ الخطأ كما أنّه معفوّ ومغتفر في الاجتهاد فكذلك في طريق الاحتياط ، لوضوح الفرق بين المقامين بقيام الدلالة القاطعة على العفو والاغتفار في المقيس عليه دون المقيس ، لكون الدليل على مشروعيّته هو العقل وحكمه بها منوط بكونه براءة يقينيّة ، فمع احتمال الخطأ لا حكم للعقل بسلوكه فضلا عن حكمه بالعفو واغتفار الخطأ على تقدير وقوعه.

وثالثها : أنّ ما عرفته من عنوان المسألة وتحقيق الحال فيها إنّما هو في الشبهات الحكميّة الّتي يرجع فيها إلى الاجتهاد أو التقليد ، والظاهر أنّه لا فرق في مشروعيّة الاحتياط وجواز سلوكه بينها وبين الشبهات الموضوعيّة ، فمن اشتبه عليه القبلة وكانت مردّدة بين جهتين معيّنتين بحيث يقطع بعدم خروجها عنهما وتمكّن من الاجتهاد المورث للظنّ بها يجوز له العدول من الاجتهاد إلى العمل بالاحتياط بتكرار الصلاة إلى الجهتين لأنّه براءة يقينيّة ومؤدّ إلى المأمور به الواقعي ، وكذلك الكلام في مسألة اشتباه الثوب الطاهر بالثوب

٣٩٤

النجس مع إمكان التمييز بينهما أو إمكان تطهيرهما فيعدل عنهما إلى الأخذ بالاحتياط بتكرار الصلاة فيهما معا ، وكذا في سائر الموارد من الشبهات الموضوعيّة الّتي يمكن رفع الشبهة بطريق علمي أو ظنّي حيث يعتبر الظنّ ، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه.

ولكن يشكل الحال في مسألة اشتباه القبلة الّذي يصلّى فيه إلى الجوانب الأربع بالنظر إلى أنّ ظاهر كلام الأصحاب كون مشروعيّة الصلاة إلى الجوانب مرتّبة على العجز عن الاجتهاد وتحصيل المظنّة ، فيلزم كونها مع عدم العجز بدعة محرّمة ، كما حكي التصريح به عن بعض الأجلّة في الرياض مستظهرا للإجماع عليه ، ويظهر الارتضاء به أيضا من السيّد حيث نقل عن بعض الأجلّة قوله : « وهل له الاجتهاد إذا أمكنه الصلاة إلى أربع جهات ، الظاهر إجماع المسلمين على تقديمه وجوبا على الأربع قولا وفعلا وإنّ فعل الأربع حينئذ بدعة » إلى ما نقله ، ثمّ عقّبه بقوله : « ونعم ما قال ».

فالخروج عن ظاهر كلام الأصحاب مع عدم خلوصه عن وصمة مخالفة الإجماع بالعدول إلى الأربع مطلقا مشكل ، وطرح القاعدة العقليّة المقتضية لجواز العدول على ما بيّنّاه أشكل.

ويمكن الذبّ بمنع كون تقديم الاجتهاد على الأربع مخالفا للقاعدة العقليّة لكون الصلاة إلى الأربع حكما تعبّديا ثبت بالنصّ وليس مبناه على أنّها براءة يقينّيّة لعدم اتّفاق حصول العلم بكون إحدى الأربع هي الصلاة إلى القبلة الواقعيّة ، إلاّ في بعض الفروض النادرة وهو ما لو علم المكلّف بعدم خروج القبلة عن الجوانب الأربع ، وهو غير معتبر في موضوع ذلك الحكم بل المعتبر عدم العلم بخروجها عنها وهو لا يلازم العلم المذكور ، بل الغالب فيه عدم العلم بكون إحدى الأربع هي الصلاة إلى القبلة الواقعيّة.

وإن شئت فاستوضح ذلك برسم دائرة بعد محيطها عن مركزها كما بين محلّ سجود المصلّي وموقفه ، ثمّ اقسمها بخطّين متقاطعين عند المركز على زوايا قوائم ، فإنّ مبدأ كلّ من الخطّين ومنتهاه ممّا يلي محيط الدائرة هي الجوانب الأربع ، ولا يعتبر محاذاة أحدها نقطة القبلة ولا العلم بها بل لا يتّفق ذلك إلاّ في بعض الفروض النادرة ، وعليه فالمصلّي في غالب حالاته بفعله الأربع ليس على يقين من الصلاة إلى القبلة الواقعيّة ، فكان عدوله عن الاجتهاد مع إمكانه إليها بدعة محرّمة كما نقله السيّد عن بعض الأجلّة ، وعليه فالوجه هو وجوب تقديم الاجتهاد ولا يلزم به خرم القاعدة العقليّة.

ورابعها : أنّ الاحتياط الّذي فتحنا بابه إنّما يحسن سلوكه ويثمر في إدراك الواقع إذا

٣٩٥

لم يصادف ما يقتضي بطلان العبادة ولو ظاهرا ، أو لم يكن هو بنفسه مخلاّ بشرط من شروط صحّتها ومفوّتا له وإلاّ فلا جهة لسلوكه ولا يبعد اندراجه حينئذ في عنوان التشريع ، ومن أمثلته المكلّف بالطهارة للصلاة المبتلى بالإنائين المشتبهين أحدهما نجس ولم يتمكّن من ماء آخر يتطهّر به عن الحدث ولكن أمكنه الصلاة المتيقّنة باستعمال الانائين معا ، بأن يتطهّر أوّلا بأحدهما وصلّى ثمّ يتطهّر بالآخر بعد ما غسل مالاقاه الأوّل من أعضائه وصلّى ثانيا ، فقد يسبق إلى الوهم أنّ ذلك من مقتضى الاحتياط اللازم أو الراجح ، لأنّ المكلّف قبل إقدامه على إيجاد الوضوئين على الوجه المذكور يعلم أنّ أحدهما يقع بماء طاهر على محلّ طاهر ، فيعلم أنّ إحدى الصلاتين تقع جامعة لشرطي الطهارة الحدثيّة والخبثيّة معا وإن لم يعلم أنّها أيّ الصلاتين.

وفيه ـ بعد الإغماض عن أنّ استعمال النجس الواقعي المعلوم بالإجمال في الشبهة المحصورة حرام وهو مقتض لوجوب اجتناب الانائين معا ومانع من الاحتياط المذكور ـ :

أنّ هذا الاحتياط غير مثمر في حصول البراءة الواقعيّة ، لمقارنة الصلاة الاولى لاستصحاب الحدث باعتبار الشكّ في كون الوضوء الأوّل رافعا للحدث المتيقّن فيستصحب بقاؤه ، ومقارنة الصلاة الثانية لاستصحاب النجاسة باعتبار أنّ الغسل المتخلّل بين الوضوئين أوجب اليقين بطروّ النجاسة لأعضاء الوضوء ، وهو مع ذلك مردّد بين كونه مقتضيا لطروّ تلك النجاسة على تقدير كون النجس الواقعي هو الإناء الثاني أو رافعا للنجاسة الطارئة على تقدير كونه الإناء الأوّل ، وإن لم نقل بأنّ أصالة التأخّر بالنسبة إلى طروّ النجاسة المتيقّن حدوثه المشكوك في بدو زمان حدوثه ممّا يعيّن الأوّل فلا أقلّ من إنكار أصل آخر يعيّن الثاني ، وهذا يوجب الشكّ في ارتفاع النجاسة بعد الغسل المفروض والاستصحاب يقتضي بقاءها.

ومن المعلوم أنّ الحدث والنجاسة المستصحبين كالحدث والنجاسة المتيقّنين في اقتضاء بطلان الصلاة فتقع كلّ من الصلاتين باطلة ، أمّا الاولى فبالحدث المستصحب ، وأمّا الثانية فبالنجاسة المستصحبة ، ومعه فكيف ينفع الاحتياط المتوهّم في حصول يقين البراءة؟

ولئن سلّمنا أنّ المكلّف يقطع أنّ أحد الاستصحابين مخالف لمصادفته انتقاض حالته السابقة وإن لم يعلمها بالخصوص ، فيكون أحد الوضوءين مؤثّرا في حصول الطهارة الحدثيّة واردا على محلّ طاهر ، ويلزم منه العلم بكون الصلاة المتعقّب لهذا الوضوء صحيحة باعتبار

٣٩٦

اجتماعها الطهارتين حدثيّة وخبثيّة ، نقول : إنّ كلّ استصحاب بالقياس إلى الصلاة المقارنة له ممّا يقتضي بطلان تلك الصلاة ظاهرا وإن لم يطابق الواقع في إحدى الصلاتين.

ولا ريب أنّ هذا البطلان الظاهري في كلّ صلاة مانع من النيّة وقصد القربة ، فهو في كلّ منهما يؤدّي إلى البطلان واقعا باعتبار انتفاء النيّة في كلّ من الصلاتين وهي من شروط الصحّة ، ولعلّه لهذا كلّه أو بعضه صرّح جماعة من أساطين الطائفة في مفروض المسألة بمنع استعمال الانائين وتعيّن العدول إلى التيمّم أيضا.

وفي الحدائق : « الظاهر أنّه لا خلاف في الحكم المذكور ».

وأمّا ما قيل في المقام من أنّ الأقوى وجوب الجمع بين الوضوئين مع التيمّم على تقدير إمكان غسل العضو الملاقي لأوّل المائين ثمّ الصلاة عقيب كلّ وضوء لا وجه له إلاّ الاحتياط المتوهّم.

ويدفعه : أنّ المصحّح للصلاة حينئذ هو التيمّم من غير تأثير للوضوئين في الصحّة ، لاقتران كلّ منهما بما يقتضي بطلان الصلاة معه ظاهرا بل واقعا أيضا باعتبار فوات النيّة لولا التيمّم ، فيكون وجودهما بمنزلة عدمهما ، فهما مع التيمّم المفروض ليسا إلاّ كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

فإن قلت : إنّ بطلان الصلاتين باعتبار انتفاء النيّة إنّما هو إذا اعتبرنا أفراد كلّ صلاة بنيّة على حدة وهذا ليس بلازم ، بل يكفي نيّة واحدة مقارنة لهما معا ، والمفروض من حين قصده الإتيان بالصلاتين المتعقّبتين للوضوئين المتخلّل بينهما غسل الأعضاء إنّما ينوي أداء المأمور به الواقعي من الصلاتين وهو الصلاة الجامعة للطهارتين بداعي الأمر بها ، وهذه نيّة واحدة مستمرّة من حين الشروع في الأعمال المذكورة إلى الفراغ عن الصلاة الأخيرة ، وهي كافية في صحّة ما جامع من الصلاتين للطهارتين في الواقع وإن لم يعلمها بالخصوص ، وانضمام التيمّم حينئذ إلى الوضوئين إنّما هو للخروج عن شبهة الحرمة الذاتيّة في التطهّر بالماء النجس الموجبة لسقوط الأمر بالمائيّة ، لعدم إمكانها بعد فرض وجوب الاجتناب عن الجميع من باب المقدّمة العلميّة للاجتناب الواجب الثابت وجوبه بالقياس إلى النجس الواقعي ، فيكون الوجه في وجوب الجمع حينئذ هو الاحتياط الواجب في نظائر المقام.

قلت : إنّ الالتزام بذلك الاحتياط رعاية لتحصيل الطهارة الحدثيّة على وجه اليقين ترك للاحتياط بالقياس إلى رعاية الطهارة الخبثيّة ، لما عرفت من أنّ الغسل المتخلّل بين

٣٩٧

الوضوئين مورث لليقين بطروّ النجاسة مع الشكّ في ارتفاعها ، ومحرز لموضوع استصحاب النجاسة المتيقّنة إلى أن يقارن الوضوء والصلاة الثانيين للنجاسة المستصحبة في العضو ، ومعه لا يعقل كونهما بعضا من العدد المندرج فيه المأمور به الواقعي ، فالأقوى حينئذ الاكتفاء بصلاة واحدة مع التيمّم ، وهل يحتاط بانضمام الوضوء إليه بأحد الإنائين؟ قيل : نعم ترجيحا للصلاة مع الطهارة الاحتماليّة عليها مع الحدث المتيقّن.

وفيه : أنّ استصحاب الحدث قائم مقام يقينه ومعه لا ينفع احتمال زواله ، فهذا المكلّف مع الوضوء المذكور محدث شرعا كما أنّه بدونه كان محدثا عقلا ، فإلزامه على الوضوء إيقاع له في مشقّة خالية عن الفائدة.

ـ تعليقة ـ

في عبادات الجاهل الغير المراعي للاحتياط

واعلم أنّه قد ذكرنا أنّ الاجتهاد والتقليد لا مدخليّة لهما في صدق الامتثال ، وأنّ قصد الوجه ومعرفته لا مدخليّة لهما في صحّة الأعمال ، وهذا لا يختصّ بالمحتاط بل يجري في العمل إذا وقع لا عن احتياط بشرط مطابقته الواقع وصدوره على وجه القربة عن تارك الطريقين كما هو عنوان مسألة عبادات الجاهل ، فإنّه إذا أتى بما طابق الواقع وأحرز فيه قصد القربة. ـ وبعبارة اخرى : إذا أتى بالمأمور به الواقعي بداعي الأمر به لا غير اعتمادا على ظنّه الغير المعتبر أو على ما لا يجوز الأخذ به من قول أبيه أو امّه أو معلّمه أو غيرهم ممّن لا أهليّة له في الإفتاء شرعا ـ كان عمله صحيحا مجزيا مخرجا عن العهدة ، ولا يجب عليه بعد ذلك إعادة ولا قضاء سواء فرضته قاصرا في جهله وعدم تحصيله المعرفة أو مقصّرا فيه.

وبالجملة لا فرق بين العبادات بعد إحراز قصد القربة فيها وبين المعاملات في كون الصحّة فيهما مراعى بمطابقة الواقع ، ولا مدخليّة لخصوص أحد الطريقين في الصحّة ، بل وجه اعتبارهما إنّما هو وجه الطريقيّة ، فإنّما يعتبران لتشخيص مورد الصحّة عن غيره وتمييز العمل الصحيح عن غيره ، فمتى تبيّن فيها مطابقة الواقع صحّت بعد ما أحرز فيها قصد القربة الّذي هو المائز بينها وبين المعاملات وفاقا لجماعة من محقّقي المتأخّرين.

ومنهم المحقّق الأردبيلي على ما هو المعروف منه من فرقه في عبادات الجاهل بين

٣٩٨

المطابقة وعدمها بالمعذوريّة في الأوّل دون الثاني.

ومن الأعاظم من نسب إليه المعذوريّة في القاصر مع المطابقة وغيره.

ومن الأعلام من فصّل بين كونه مقصّرا أو قاصرا فخصّ المعذوريّة بالثاني دون الأوّل ، ونسب هذا القول إلى شارح الوافية السيّد صدر الدين خلافا لمن أطلق القول بعدم المعذوريّة كما عن الأكثر.

وفي كلام غير واحد أنّه المشهور ، فقالوا : إنّ الناس في غير زمان حضور الإمام صنفان إمّا مجتهد أو مقلّد له ، ومن لم يكن من أحد الصنفين فعباداته باطلة.

وقد يحكى في المسألة قول بالمعذوريّة مطلقا ونسبه بعض الأعاظم إلى الجزائري ، وهذا على فرض ثبوته مع سابقه على تقدير كونه على الإطلاق واقعان في طرفي الإفراط والتفريط ، ولكن يمكن منع ثبوت الثاني من أصله ولذا تركه غير واحد من المتعرّضين لنقل الخلاف في المسألة.

والجزائري ربّما يستشمّ عن عبارته المحكيّة عنه الميل إلى التفصيل بين القاصر والمقصّر ، كما يفوح رائحة ذلك من كلام المجلسي حيث إنّه حكم بكون المستضعفين من الكفّار ممّن لم يقم عليه الحجّة من العوامّ ومن بعد من بلاد الإسلام ممّن ترجى لهم النجاة.

ونفى الجزائري عنه الاستبعاد بعد اعترافه بكونه مخالفا لكلام الأكثر ، ومنع إطلاق الأوّل بدعوى خروجه مخرج الغالب ، نظرا إلى أنّ الغالب في تارك الطريقين الغير المراعي للاحتياط وقوع خلل في أعماله وعباداته ، باعتبار الإخلال في بعض الامور المعتبرة في المأمور به من أجزائه أو شرائطه الّتي هي قيود للعمل أو في امتثال الأمر به وإن لم تكن من قيود العمل كقصد القربة ونحوه ، ولا ينافيه ما في بعض العبائر من التصريح بالبطلان وإن طابق الواقع ، لأنّ المراد به موافقة المأتيّ به للمأمور به الواقعي باحتوائه لأجزائه وشروطه الّتي هي من قيوده ، ويجوز فيه مع ذلك البطلان بالإخلال في بعض شروط الامتثال ، ويجوز شمول هذا العنوان مع التوجيه المذكور للقاصر أيضا حتّى على القول بكون الأمر الظاهري العقلي أمرا في الحقيقة ، بناء على أنّ المراد من الصحّة الّتي تراعى بمطابقة الواقع إنّما هو الصحّة بمعنى ترتّب الأثر الّذي هو في العبادات عبارة عن الإجزاء بمعنى إسقاط الإعادة والقضاء ، ويقابلها البطلان وهو لا ينافي الصحّة بمعنى موافقة الأمر كما لا يخفى.

وأمّا على القول بعدم كونه أمرا في الحقيقة كما هو الحقّ المحقّق في محلّه فاندراجه فيه واضح.

٣٩٩

وربّما عزى إلى الأكثر كلام آخر وهو : أنّ الجاهل في الحكم الشرعي غير معذور إلاّ في مسألة الجهر والإخفات ومسألة الإتمام في محلّ القصر.

ويظهر من بعض الأعلام وغيره رجوع ما تقدّم إلى هذا العنوان ، وكأنّه أراد به كونه أحد أفراده كما يرشد إليه استثناء المسألتين وإلاّ فلا ينبغي الاسترابة في الفرق بينهما بالعموم والخصوص ، فإنّ هذا العنوان كما قيل يشمل الواجبات والمحرّمات وماهيّات العبادات وكيفيّاتها ، فإنّ الجاهل قد يترك ما هو بحسب الواقع من الواجبات التعبّدية أو توصّلية ، وقد يرتكب ما هو بحسب الواقع من المحرّمات لجهله بالحكم الشرعي ، وقضيّة عموم هذا العنوان أن لا يكون معذورا على معنى عدم رفع مؤاخذة ترك الواجب وفعل الحرام عنه ، نظرا إلى أنّ العذر عبارة عن رفع المؤاخذة فنفيه يفيد ثبوتها ، بخلاف ما تقدّم فإنّه مقصور على ما لو وقع العبادة بمعناه الأخصّ من الجاهل مع نوع خلل فيها لجهله بتفاصيل ما اعتبر فيها شرعا.

ومن هنا ربّما أمكن فرق آخر بين العنوانين باعتبار حكم القضيّتين ، فإنّ ما تقدّم مسوق لإثبات الإعادة والقضاء في العبادة الباطلة الّذي هو من قبيل الوضع المترتّب على انتفاء الصحّة من غير نظر فيه إلى المؤاخذة بإثبات أو نفي ولذا يعمّ القاصر أيضا ، وهذا مسوق لإثبات المؤاخذة على مخالفة الواقع الّذي هو من لوازم الحكم التكليفي.

وعلى هذا فينبغي اختصاصه بالجاهل المقصّر ، لقبح مؤاخذة القاصر على مخالفة الواقع باعتبار قبح خطاب الغافل ، بل قولهم : « الجاهل في الحكم الشرعي غير معذور » بظاهر هذا العنوان أيضا لا يشمل القاصر ، فلا يقدح فيه كونه معذورا في مخالفته الواقع على معنى كونه مرفوعا عنه المؤاخذة ، فإنّ معنى هذا العنوان أنّ الجاهل بجهله لا يعذر ، ومعناه : أنّ الجهل ليس من الأعذار الرافعة للتكليف المانعة من المؤاخذة على مخالفة [ الواقع ] ، والقاصر حيثما يعذر إنّما يعذر لعجزه عن الامتثال وعدم قدرته على الإطاعة بسبب غفلته.

ولا ريب أنّ العجز وعدم القدرة على الامتثال عذر عقلي رافع للمؤاخذة على مخالفة الواقع ، ولا ينافيه عدم كون الجهل المصادف له بوصف كونه جهلا عذرا ، فلا مانع من تعميم العنوان بحيث يندرج فيه القاصر من حيث جهله المحكوم عليه بعدم كونه عذرا ، فهو من حيث جهله غير معذور وإن كان من حيث قصوره معذورا.

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ هذا العنوان أعمّ من العنوان الأوّل موضوعا وحكما ، على معنى

٤٠٠