تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

والتقبيح العقليّين من اصول الفقه بالمعنى الأعمّ الّذي قد ذكرنا أنّه لا مقتضي للإثم فيه.

ويمكن الذبّ عن الأوّل : بأنّ الحسن والقبح في الأشياء المذكورة وغيرها ممّا يندرج في مسألة التحسين والتقبيح ممّا يدركهما العقل بالاستقلال بشهادة العيان وبداهة الوجدان ، فهما من اليقينيّات المستندة إلى الوجدان وإنكارهما تكذيب للعيان ومكابرة للوجدان فيكون المنكر مقصّرا.

كما يمكن الذبّ عن الثاني : بأنّ الحكم العقلي من الحسن والقبح يلازم الحكم الشرعي من إيجاب أو تحريم أو غيرهما بملازمة بيّنة إجماعيّة ، على ما تقدّم في محلّه من أنّها ما يسلّمها الأشاعرة المنكرون للتحسين والتقبيح العقليّين على تقدير ثبوت الملزوم ، فالتقصير في نفي الملزوم يرجع إلى التقصير في نفي اللازم ، وهو في معنى تغيير حكم الله وتحليل حرامه فيكون قبيحا عقلا ونقلا ولو باعتبار اندراجه في الحكم بغير ما أنزل الله.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلام الشيخ.

ويمكن الالتزام من قبله بالإثم في منكر الملازمة بين العقل والشرع مع القول بثبوت الملزوم كما تقدّم عن الفاضل التوني ومن تبعه ، وفي منكر حجّيّة إدراكات العقل كما عليه جماعة من الأخباريّة ، بناء على أنّ الحقّ في المسألتين لا يكاد يخفى على المتأمّل المراعي للإنصاف المجانب عن الاعتساف لكون الملازمة

بيّنة ، كحجّية إدراكات العقل إذا كانت بعنوان القطع واليقين فيكون عبارة عن انكشاف الواقع عند العقل فنفي حجّيته يؤول إلى التناقض وتجويز اجتماع المتناقضين.

وبالجملة فهاهنا مسائل ثلاث كلّها من قبيل المقدّمات الأوّليّة والقضايا الّتي قياساتها معها ، فالقول بكون مخالف الحقّ فيها مقصّرا غير معذور ليس ببعيد عن الصواب.

المسألة الثالثة

في التخطئة والتصويب في العقليّات الفروعيّة ، وهذا العنوان ممّا ليس له معنى محصّل إلاّ الفرعيّات المستندة إلى العقل ، وهي الأحكام الفرعيّة الّتي مدركها العقل ، فإن كان خطائه في المسألة الفرعيّة باعتبار الخطأ في المسألة الاصوليّة العقليّة فمع التقصير في الاصوليّة كان مقصّرا غير معذور في الفرعيّة ومع عدمه معذور.

وإن كان خطائه باعتبار الإهمال في إعمال الأصل العقلي الحاضر عنده فالظاهر كونه غير معذور أيضا.

٣٢١

وأمّا الأحكام الشرعيّة فإن كان عليها دليل قاطع *

__________________

وإن كان باعتبار خطائه في التفريع بأن فرّع ما هو من جزئيّات أصل مخصوص على أصل آخر ، كما لو تمسّك فيما هو من جزئيّات الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ـ على القول به ـ بقبح التكليف بما لا يطاق ، وفيما هو من جزئيّات الصدق الضارّ بحسن أصل الصدق ، أو ما هو من جزئيّات الكذب النافع بقبح أصل الكذب للغفلة عن جهتي الضرر والنفع ، فإثبات التقصير عليه بقول مطلق مشكل ، والقول بالمعذوريّة فيه مطلقا غير بعيد.

وإن كان باعتبار تعويله على أصل غير معوّل عليه كالمقدّمات العقليّة ـ بناء على عدم اعتبار الظنّ العقلي ـ فالقول بالتقصير وعدم المعذوريّة مطلقا غير بعيد.

المسألة الرابعة

في التخطئة والتصويب في الشرعيّات الضروريّة كضروريّات الدين أو المذهب ، وسنذكر حكمها مع المسألتين الباقيتين في تلو شرح عبارة المصنّف.

* قرينة المقابلة بينه وبين القسم الآخر الّذي عبّر عنه بقوله : « وإن كان ممّا يفتقر إلى النظر والاجتهاد » تعطي إرادة ما لا يفتقر إلى النظر والاجتهاد من الدليل القاطع ، وهذا بظاهره لا ينطبق إلاّ على الضرورة ، فيختصّ هذا القسم بالأحكام الضروريّة دينا أو مذهبا.

فيرد عليه حينئذ ـ مع ما في إطلاق الدليل على الضرورة من المسامحة ـ : قصور العبارة ، حيث أهملت ذكر قسم القطعيّات النظريّة وهي عنوان المسألة الخامسة على ما أشرنا إليها ، واحتمال اندراجها في القسم الآخر ـ بتقريب : أنّ النظر والاجتهاد فيما يفتقر إليهما قد يؤدّي إلى القطع بالحكم وقد يؤدّي إلى الظنّ به ـ يأباه اختصاص النزاع الآتي الّذي موضوعه القسم الآخر على ما هو ظاهر العبارة بالظنّيات على ما سنبيّنه.

نعم يمكن أن يقال ـ في توجيه العبارة ـ : أنّ المعتبر فيما يفتقر إلى النظر والاجتهاد مجموع الأمرين من النظر والاجتهاد وهو استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم ، فيعتبر في مقابلة أحد الأمرين إمّا النظر كما في الضروريّات ، أو الاجتهاد بالمعنى المذكور كما في القطعيّات النظريّة ، وعليه فيحمل الدليل القاطع على ما لا يفتقر إلى النظر أو الاجتهاد بطريقة الانفصال الحقيقي.

وكيف كان فالعبارة لا تخلو عن شيء.

٣٢٢

فالمصيب فيها أيضا واحد والمخطئ غير معذور *

__________________

* تضمّنت العبارة بالنسبة إلى القطعيّات ـ ضروريّة أو نظرّية ـ حكمين :

أحدهما : كون المصيب فيها واحدا وغيره مخطئا ، وظاهره كظاهر غيره كون التخطئة هنا وفاقيّا حتّى من المصوّبة في الظنّيات ، ومرجعه إلى اتّفاق الفريقين على أنّ لله تعالى في القطعيّات حكما معيّنا فمن أدركه فهو مصيب ومن لم يدركه مخطئ.

ولعلّ السرّ في ذلك بالقياس إلى الضروريّات أنّ الضرورة العارضة للحكم متأخّرة عن تعيينه ، فهي حيثما تحقّقت كاشفة عن تعيين الحكم ، وبالقياس إلى النظريّات أنّ انتصاب القاطع متأخّر عن تعيين الحكم فيكشف عنه ومعه يستحيل تصويب الكلّ.

وثانيهما : كون المخطئ في المسألتين آثما وعدم كونه معذورا ، حيث إنّ الإثم مبنيّ على التقصير ، فإثباته في الضروريّات غير بعيد ، بتقريب : أنّ الضرورة في الضروري يقتضي اطّلاع من عاش بين المسلمين وعاشرهم ولا سيّما العلماء المجتهدين عليها إذا طلبها ، فمن اجتهد وأخطأ في اجتهاده ولم يطّلع على الضرورة الموصلة إلى الواقع فقد قصّر في طلبه ، وأمّا غيرها فكون المقصّر آثما واضح.

وأمّا إنّ كلّ من أخطأ فقد قصّر في طلب الدليل القاطع أو في نظره كما هو قضيّة إطلاق الحكم بعدم المعذوريّة ، ففيه خفاء ، إلاّ أن يراد بالقاطع ما لا يخفى على أحد لو طلبه ، ومن لم يجده وأخطأ في نظره فقد قصّر في طلبه.

نعم يبقى الكلام في الحكم بعدم المعذوريّة مع التقصير في طلب القاطع أيضا ، لأنّ ذلك إنّما يستقيم لو وجب تحصيل القطع بالحكم الّذي قام عليه القاطع ، وهو مع فرض انسداد باب العلم في غالب الأحكام غير واضح ، لبنائه على كفاية الظنّ مطلقا المسقطة لوجوب تحصيل القطع فيما أمكن تحصيله فيه ، كما هو المصرّح به في كلام القائلين بالظنّ المطلق ، إلاّ أن يفرّق بين العلم بوجود قاطع في المسألة إجمالا وبين احتمال وجوده ، فعلى الظنّ المطلق لا يجب طلب العلم في موضع الاحتمال لا في موضع العلم بوجود القاطع على الإجمال.

وأمّا كفر المخطئ والمخالف للحقّ في الضروريّات لضابطة أنّ منكرها كافر فينبغي القطع بانتفائه هنا ، لخروج موضوع البحث ـ باعتبار ما اخذ فيه من الخطأ الغير المجامع للعلم بكون ما أخطأه ممّا أتى به النبيّ ـ عن عنوان منكر الضروريّات المأخوذ فيه العلم بكون ما أنكره ما أتى به النبيّ ، سواء كان الكفر اللازم منه باعتبار رجوعه إلى تكذيب

٣٢٣

وإن كانت ممّا يفتقر إلى النظر والاجتهاد فالواجب على المجتهد استفراغ الوسع فيها ولا إثم عليه حينئذ قطعا بغير خلاف يعبأ به *. نعم اختلف الناس في التصويب.

__________________

النبيّ أو باعتبار كونه سببا مستقلاّ للكفر ، فلا ينبغي التكلّم عن حكمه من هذه الجهة.

* وظاهر بعض كلماتهم أنّ المعذوريّة وعدم الاثم في المخطئ هنا اتّفاق من المخطئة وإن كان على الحكم المعيّن دليل قاطع في بعض الأحيان إذا لم يصادفه ، أو لم يكن قاطعا عنده ولو لشبهة سبقت إليه ، إلاّ من بشر المريسي (١) الذاهب إلى أنّه يستحقّ الإثم لزعمه قيام دليل قاطع على الحكم المعيّن المجعول للواقعة كما ستعرفه ، ولكنّه لشذوذه لا يعبأ بقوله كما أشار إليه المصنّف.

ولكنّ العلاّمة في النهاية نسب القول بعدم الإثم إلى الأكثر ، والقول الآخر إلى بعض الإماميّة والظاهريّة وبشر المريسيّ وابن عليّة وأبي بكر الأصمّ.

ثمّ نقل احتجاج هذا القول بإنكار الصحابة بعضهم بعضا في العمل بالرأي والاجتهاد في المسائل الفقهيّة ، وبأنّ الحكم واحد معيّن وعليه دليل يتمكّن كلّ مكلّف من الوصول إليه لئلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق ، وكلّ مكلّف بالحكم مكلّف بإقامة الدليل المنصوب عليه فخطاء المخطئ إمّا أن يكون لتقصيره في الاجتهاد فيكون مأثوما بترك ما كلّف به ، أو لعدم تمكّنه من الوصول إلى الحكم وهو محال لاستلزامه التكليف بما لا يطاق.

وفي الوجهين ما لا يخفى ، إذ الإنكار لا يستلزم التأثيم ، والمسلّم من التكليف في الحكم المنصوب عليه الدليل بعد تصحيحه إنّما هو التكليف بسلوك ذلك الطريق المنصوب وهو لا يستلزم دوام التوصّل ، كما أنّ عدم التوصّل لا يلازم التقصير لجواز خفاء الدلالة والاشتغال بالتعارض ونحو ذلك ، فينكشف عند تبيّن الخطأ مع عدم التقصير عدم التكليف بأصل الحكم المعيّن ليلزم التكليف بما لا يطاق.

__________________

(١) المريسيّ ـ بفتح الميم وكسر الراء وسكون الياء المثنّاة من تحتها وبعدها سين مهملة ـ هذه النسبة إلى مريس وهي قرية بمصر.

وبشر المريسيّ هو : أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسيّ ، الفقيه الحنفي ، أخذ الفقه عن القاضي أبي يوسف الحنفي ، إلاّ أنّه اشتغل بالكلام وكان مرجئا وإليه تنسب الطائفة المريسيّة من المرجئة ، وتوفّي في ذي الحجّة لسنة ثماني عشرة وقيل : تسع عشرة ومائتين ببغداد. راجع [ وفيات الاعيان ١ : ٢٧٧ ]

٣٢٤

فقيل : كلّ مجتهد مصيب * بمعنى أنّه لا حكم معيّنا لله تعالى فيها ، بل حكم الله تعالى فيها تابع لظنّ المجتهد. فما ظنّه فيها كلّ مجتهد فهو حكم الله فيها في حقّه وحقّ مقلّده.

وقيل : إنّ المصيب فيها واحد ، لأنّ لله تعالى فيها حكما معيّنا ، فمن أصابه فهو المصيب ، وغيره مخطئ معذور.

وهذا القول هو الأقرب إلى الصواب. وقد جعله العلاّمة في النهاية رأي الاماميّة. وهو مؤذن بعدم الخلاف بينهم فيه. وكيف كان

__________________

* وهو على ما حكاه في النهاية والمنية وغيرهما لأكثر المتكلّمين من العامّة كأبي الحسن الأشعري والقاضي وأبي بكر من الأشاعرة وأبي الهذيل العلاّف وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم من المعتزلة ، وبنوا الخلاف على أنّ لله تعالى في كلّ مسألة اجتهاديّة قبل اجتهاد المجتهد حكما معيّنا في الواقع فمن أدركه مصيب ومن لم يدركه مخطئ ، أو أنّه ليس له تعالى حكم معيّن بل الحكم تابع لظنّ المجتهد ومؤدّى اجتهاده فالمخطئة على الأوّل والمصوبّة على الثاني.

واتّفق أصحابنا على التخطئة فقالوا ـ كما في النهاية والمنية وغيرهما ـ : أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما معيّنا وأنّ عليه دليلا ظاهرا ، وأنّ المخطئ فيه معذور وإنّ قضاء القاضي لا ينقض به.

وفي النهاية أكّد قوله : « ظاهرا » بقوله : « لا قطعيّا » والأولى تركه وترك قيد الظاهر ، لأنّ الدليل القائم على الحكم في المسائل الظنّية قد يكون قطعيّا كما هو واضح ، كما أنّ الأولى ترك الالتزام بقيام الدليل عليه ، إذ لا دليل على لزومه على الوجه الكلّي كما يشهد به وفور ما لا نصّ فيه أو ما فيه نصّ مجمل وغير ذلك من موارد الاصول العمليّة في الفرعيّات ، ولعلّه لذا كلّه عبّر بعض الفضلاء عمّا اختاره من مذهب الأصحاب : « بأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما معيّنا مخزونا عند أهله وهم أهل العصمة عليهم‌السلام ، فالمجتهد إن أدركه فقد أصاب وإلاّ فقد أخطأ ، وأنّه غير آثم في خطائه بعد بذل وسعه وإن كان عليه دليل قاطع إذا لم يصادفه أو لم يكن عنده قاطعا ولو لشبهة سبقت إليه ، وأنّه لا يلزم أن يكون عليه دليل ظنّي في الظاهر فضلا عن القطعي » انتهى.

وأمّا المخطّئة من العامّة فقد صاروا فرقا مختلفة.

٣٢٥

فمنهم من قال : بأنّ ذلك الحكم المعيّن ليس عليه أمارة ولا دلالة كما عن جماعة من الفقهاء والمتكلّمين ، قالوا : وهذا الحكم مثل دفين يعثر عليه الطالب اتّفاقا ، فلمن عثر عليه أجران ولمن اجتهد ولم يصبه أجر واحد على ما تحمّله من الكدّ والمشقّة في الطلب.

ومنهم من قال : إنّ عليه أمارة كما عن جماعة ، ولكنّهم اختلفوا فقال بعضهم : إنّ المجتهد لم يكلّف بإصابة ذلك الدليل الظنّي لخفائه وغموضه ، ولهذا عذّر المخطئ واجر عليه ، عزى إلى الفقهاء كافّة والشافعي وأبي حنيفة.

وقال آخرون : بأنّه مأمور بطلبه أوّلا فإن أخطأ وغلب على ظنّه شيء آخر انقلب التكليف وصار مأمورا بالعمل بمقتضى ظنّه وسقط عنه الإثم تخفيفا.

ومنهم من قال : بأنّ عليه دلالة أعني دليلا قطعيّا ، فهؤلاء اتّفقوا على أنّ المجتهد مأمور بطلبه لكنّهم اختلفوا في موضعين :

أحدهما : أنّ المخطئ هل يستحقّ الإثم أو لا؟ فذهب بشر المريسي (١) إلى أنّه يستحقّ الإثم ونفاه الباقون.

وثانيهما : هل ينقض قضاء القاضي فيه أو لا؟ قال أبو بكر الأصمّ : ينتقض ، وخالف فيه الباقون.

وأمّا المصوّبة فهم أيضا اختلفوا فمنهم من قال بالأشبه وهو : أنّه وإن لم يوجد في الواقعة حكم إلاّ أنّه يوجد فيها ما لو حكم الله تعالى بحكم لما حكم إلاّ به ، وهو منسوب إلى كثير من المصوّبين.

ومنهم من لم يقل بذلك أيضا كما عن باقي المصوّبين هكذا نقل المذاهب في النهاية والمنية ، وربّما خفي المراد بالأشبه بالمعنى المذكور في كلام قائليه ، والظاهر أنّ المراد به الأشبه بالقواعد والاصول المتلقّاة من الشارع ، كما يرشد إليه تعبير العضدي : « بما هو أليق بالاصول وأنسب بما عهد من الشارع اعتباره ».

وبما شرحناه من معنى القول بالأشبه انقدح أنّ ما ذكره بعض الفضلاء بعد حكاية هذا القول من : « أنّ هذا قريب من القول بالتخطئة بل ربّما كان راجعا إليه » ليس على ما ينبغي كما يظهر بأدنى تأمّل.

كما أنّ بما بيّنّاه ـ من أنّ المصوّبة بعد اتّفاقهم على نفي وجود الحكم في كلّ واقعة اختلفوا في القول بالأشبه وعدم القول به ـ يظهر أنّ النفي في قولهم : « بأنّه ليس لله تعالى في الواقعة قبل اجتهاد المجتهد حكم معيّن » راجع إلى أصل الحكم الّذي لو كان موجودا

__________________

(١) المريسي من المريسه ـ كسكينة ـ قرية ( منه ).

٣٢٦

لوجد بوصف التعيّن ، لأنّ المراد به مصداق الحكم كالوجوب بالمعنى الإنشائي والطلب الفعلي المنقدح في نفس الحاكم مثلا ، فإنّه بهذا المعنى لا يكون إلاّ متعيّنا فيراد به الحكم المخصوص ، لا إلى قيده (١) وهو التعيين فقط مع وجود أصل الحكم من غير تعيين بالقياس إلى المجتهدين قبل اجتهادهم ولازمه التعدّد على حسب تعدّد آرائهم ، بل هذا المعنى ممّا لا يتحمّله كلامهم الدائر بين القول بالأشبه وعدم القول به ، فلا حاجة لتصوير القول بالتصويب إلى تكلّف ما ذكره في الضوابط من أنّه يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أنّ الحكم تابع للحسن والقبح وإنّهما يختلفان بالوجوه والاعتبارات الّتي منها العلم والجهل ، فعروض العلم والجهل يوجب حدوث صفة يتبعها الحكم ، فيكون رأي المجتهد علّة محدثة للحكم.

الثاني : أنّه تعالى أوجد في الواقعة أحكاما مقصودة بالأصالة ثمّ صادفها آراء المجتهدين بإجباره تعالى كلاّ منهم بأداء اجتهاده إلى أحدها قهرا عليه.

الثالث : أنّه تعالى أوجد أحكاما واقعيّة فصادفها آراء المجتهدين من باب الاتّفاق.

الرابع : أنّه تعالى لمّا علم بعلمه الأزلي بالمجتهدين وعدد آرائهم فجعل أحكاما واقعيّة على حسب تعدّد آراء المجتهدين من غير أن يعيّن كلاّ لكلّ ، فتأدّى اجتهاد كلّ إلى أحدها.

لابتناء (٢) ما عدا الأوّل منها إلى توهّم رجوع النفي إلى القيد لا إلى أصل المقيّد ، وقد عرفت أنّه ممّا لا يتحمّله كلام المصوّبة.

لا يقال : لو لا اعتبار وجود حكم مجعول غير معيّن بالنسبة إلى آحاد المجتهدين في الواقعة قبل اجتهاد المجتهد استحال صدق الاجتهاد بالمعنى المأخوذ فيه طلب الظنّ بالحكم الشرعي على فعل المجتهد ، لأنّ طلب الشيء يقتضي سبق وجود المطلوب على الطلب وإلاّ استحال طلبه.

لأنّ هذا إنّما يتّجه لو كان المطلوب بالاجتهاد هو نفس الحكم وليس كذلك ، لأنّ المأخوذ في مفهوم الاجتهاد هو طلب الظنّ بالحكم لا طلب الحكم ، ويكفي في صحّة طلب الظنّ إمكان حصوله ، ولا يعتبر سبق حصوله ، بل يعتبر عدم سبق حصوله لاستحالة طلب الحاصل ، وإنّما يستحيل طلب الظنّ الغير الحاصل مع امتناع حصوله بعنوان القطع.

فإن قلت : إنّ طلب الظنّ المتعلّق بالحكم يقتضي سبق وجود الحكم على الظنّ وعلى

__________________

(١) عطف على قوله : « يظهر انّ النفي في قولهم ... راجع إلى أصل الحكم » الخ.

(٢) تعليل لقوله : « فلا حاجة لتصوير القول بالتصويب إلى تكلّف ما ذكره في الضوابط ».

٣٢٧

طلبه ، لتأخّر المتعلّق بالكسر عن متعلّقه.

قلت : فرق واضح بين ظنّ المجتهد بما هو حكم له ولمقلّده بالفعل وظنّه بما يصير حكما له ولمقلدّه وهو الأشبه أو ما هو حكم السلف من النبيّ والصحابة وغيرهم من العالمين به.

وبهذا البيان أيضا يندفع الدور المتوهّم في المقام من جهة أنّ الظنّ لكونه علّة محدثة للحكم يتوقّف عليه الحكم ، والحكم لكونه متعلّقا للظنّ يتوقّف عليه الظنّ ، نظير الدور الّذي توهّمه العلاّمة في جعلهم العلم شرطا للتكليف ، فأنكر الشرطيّة دفعا لمحذور الدور.

ووجه الاندفاع : تغائر طرفي التوقّف ، وحاصله : أنّ المظنون هو حكم العالمين به والمجعول بعد الظنّ هو حكم الجاهل ، فإنّ ظنّه يتعلّق أوّلا بحكم العالمين ثمّ يحدث بسببه مثل ذلك الحكم الحاصل ، وهذا قريب ممّا أشرنا إليه بل راجع إليه كما يظهر بأدنى تأمّل.

وبهذا البيان يندفع توهّم التناقض على مذهب المصوّبة باعتبار أنّ الظنّ والقطع مفهومان متناقضان فلا يجتمعان في محلّ واحد ، واللازم من مذهبهم اجتماعهما في محلّ واحد وهو الحكم ، لأنّ ما ظنّه المجتهد حكما يقطع بكونه حكما ، فالحكم أمر واحد توارد عليه الظنّ والمقطوع.

ووجه الاندفاع : اختلاف القضيّنين بكون المظنون هو الأشبه أو حكم السلف من النبيّ وغيره من العالمين به والمقطوع هو الحكم الفعلي في حقّ المجتهد.

ثمّ إنّ من الظاهر أنّ اختلاف الأحكام الكلّية الواقعيّة باعتبار اختلاف موضوعاتها وتعدّدها على حسب تعدّدها ـ كالصحيح والمريض والحاضر والمسافر والقادر والعاجز والمختار والمضطرّ وما أشبه ذلك ، بالقياس إلى وجوب صيام رمضان وحرمته أو جواز إفطاره ووجوب التقصير في الصلاة وإتمامها ووجوب القيام فيها وجواز العدول عن القيام إلى القعود وحرمة أكل الميتة وإباحتها ـ ليس من باب التصويب ، لكون محلّ النزاع هو الواقعة الواحدة الّتي يتعدّد فيها الأحكام الواقعيّة على حسب تعدّد آراء المجتهدين على هذا القول.

كما أنّ الظاهر أنّه ليس من التصويب تعدّد الأحكام الظاهريّة في المسائل الاجتهاديّة الظنّية ، على معنى الأحكام الفعليّة وهي مظنونات المجتهدين الّتي يجب عليهم وعلى مقلّديهم بناء العمل عليها والتديّن بها ما لم ينكشف الخلاف ، بل هو من لوازم القول بالتخطئة ، ولذا يجب التديّن بما انكشف كونه الحكم الواقعي فيما انكشف مخالفته الواقع ، لا بالمظنون الّذي كان حكما ظاهريّا سقط بارتفاع موضوعه.

فآل الكلام إلى أن يقال : إنّ النزاع إنّما هو في تعدّد الحكم الواقعي التابع للآراء واتّحاده ، لا في تعدّد الأحكام الظاهريّة التابعة للآراء فإنّه ممّا لا ينكره المصوّبة.

٣٢٨

وهل نزاع التخطئة والتصويب جار في الأحكام الظاهريّة المختلف فيها الّتي اخذ في موضوعها جهالة الحكم الواقعي ـ كعنوان مجهول الحكم لفقد نصّ أو إجماله أو تعارضه الّذي اختلف المجتهدون والأخباريّون في حكمه المجعول من حيث جهالة حكمه الواقعي هل هو البراءة والإباحة أو وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة أو الشكّ في المكلّف به مع ثبوت التكليف يقينا ـ أو لا؟ وجهان : من اختصاص النزاع على ما بيّنّاه بالأحكام الواقعيّة وهذا حكم ظاهري ، ومن أنّ هذه أيضا مسألة اختلف العلماء في حكمها ، أو أنّ مجهول الحكم من حيث هو كذلك موضوع من الموضوعات الكلّية قابل لأن يجعل له حكم كلّي من البراءة أو الاحتياط ، فيجوز أن ينازع في أنّه هل لله تعالى في هذا الموضوع قبل اجتهاد المجتهدين لمعرفة حكمه حكم معيّن فمن أدركه فهو مصيب وغيره مخطئ ، أو ليس له تعالى فيه حكم معيّن بل حكمه المجعول تابع لرأي المجتهدين ومؤدّى اجتهادهم ، ولازمه أن يتعدّد على حسب تعدّد آرائهم؟

فعلى الأوّل يكون المصيب أحد الفريقين من المجتهدين والأخباريّين.

وعلى الثاني كلّ منهما مصيب.

ويزيّف وجه عدم جريان النزاع : بأنّ الحكم الواقعي الّذي يختصّ به النزاع هو الحكم الثابت لموضوعه في الواقع ونفس الأمر ، لا بمعنى الحكم المجعول للواقعة من حيث هي قبالا للحكم الظاهري ، وهو الحكم المجعول لها من حيث جهالة حكمها الواقعي.

ولا ريب أنّ كلّ حكم ظاهري مجعول فهو في موضوعه حكم واقعي بالمعنى المذكور ، وكونه حكما ظاهريّا إنّما هو باصطلاح آخر.

ولك أن تقول ـ بناء على كون الأحكام الظاهريّة أحكاما واقعيّة ثانويّة ـ : أنّ الحكم الواقعي الّذي هو موضوع المسألة أمكن كونه أعمّ من الواقعي الأوّلي والواقعي الثانوي ، فيعمّ النزاع للأحكام الظاهريّة أيضا بهذا الاعتبار.

هذا ، ولكنّ الإنصاف عدم صحّة إجراء النزاع فيها ، أمّا أوّلا : فلا بتناء الاختلاف في مسألة الاحتياط والبراءة والحظر والإباحة على التخطئة المبنيّة على أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما معيّنا ليصحّ فرض جهالة الحكم الواقعي المأخوذ في موضوع الأحكام الظاهريّة ، فجهالة الحكم الواقعي المقتضية لوجود حكم واقعي في كلّ واقعة مع قطع النظر عن اجتهاد المجتهد ممّا لا يجامع القول بالتصويب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مسألة البراءة والاحتياط إن سلّمنا كونها من المسائل الفرعيّة

٣٢٩

لا الاصوليّة ولا الكلاميّة لابدّ وأن يكون الدليل القائم عليها قاطعا ، فتخرج عن محلّ النزاع بهذا الاعتبار ، لاتّفاق الفريقين على التخطئة فيما قام عليه قاطع.

وهل النزاع يجري في الأحكام الجزئيّة المترتّبة على الموضوعات الخارجيّة كالقبلة والوقت وغيرهما لمن اجتهد فيهما فانكشف خلاف مؤدّاه أو لا؟

يظهر أثر التخطئة والتصويب فيها في حصول الإجزاء المسقط للإعادة والقضاء ، وقد يعبّر بالتخطئة والتصويب في الموضوعات الخارجيّة ، وضابطها الامور الّتي يجتهد فيها ويرجع لإحرازها إلى الأمارات الغير العلميّة بترخيص من الشارع.

فظاهر بعضهم كالشهيد في التمهيد ـ حيث جعل من فروع مسألة التخطئة والتصويب ظهور خطأ المجتهد في القبلة ، فهل عليه الإعادة والقضاء وجهان مبنيّان على القولين في المسألة ـ دخولها في محلّ النزاع.

ويظهر من بعضهم دعوى الاتّفاق فيها على التصويب ، وهذا غير سديد ، إذ لو اريد بالتصويب هنا إدراك نفس الأمر بالنسبة إلى نفس الموضوع فهو ـ مع أنّه خلاف فرض ظهور الخطأ ـ محال ، إذ الجهة الشخصيّة الّتي يقال لها « القبلة » وغيرها من الجزئيّات الحقيقيّة ممّا لا يتحمّل التعدّد.

ولو اريد به إدراك الحكم التكليفي المترتّب على مؤدّى الاجتهاد وإن خالف الواقع ـ كجواز الدخول في الصلاة لمن اجتهد في القبلة أو الوقت ـ فهو حكم ظاهري يتعبّد به من جهة التعبّد بالأمارة أو الظنّ الحاصل منها ، نظير الحكم الظاهري في العمل بالظنون الاجتهاديّة في الأحكام.

وقد عرفت أنّ اختلافه وتعدّده ليس من التصويب بالمعنى المتنازع فيه وإلاّ لم يقل به المخطّئة.

ولو اريد به الإجزاء المسقط للإعادة والقضاء في العمل الواقع على طبق الاجتهاد.

ففيه أوّلا : منع إطلاق الإجزاء.

ولو سلّم فهو متفرّع على كون ما ثبت كونه شرطا في العبادة شرطا علميّا وهو ممّا لا مدخليّة في ثبوته للقول بالتصويب بل يتبع دليل الشرط ، ومع عدم الدلالة يبنى على كونه شرطا واقعيّا للأصل فيه.

وأمّا توهّم شمول النزاع للموضوعات فهو أيضا غير سديد ، إذ الموضوعات لكونها

٣٣٠

جزئيّات حقيقيّة ليس لأحكامها الجزئيّة جعل على حدة ، حتّى ينازع في أنّه هل لله تعالى فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معيّن أو لا؟ بل يكفي في ثبوت أحكامها جعل الأحكام الكلّية لكلّياتها ، فالمجتهد في القبلة إنّما يجتهد فيها بعد الفراغ عن إثبات الحكم الكلّي وهو وجوب الصلاة إلى القبلة ، وجواز الصلاة إلى هذه الجهة الشخصيّة مثلا أو إلى ما عيّنته الأمارة وأدّى إليه الاجتهاد من مقتضى هذا الحكم الكلّي لا لجعل مستقلّ.

ثمّ يترتّب الإجزاء وعدم الإجزاء في صورة ظهور الخطأ على ما أفاده دليل ذلك الحكم الكلّي من كون القبلة شرطا واقعيّا أو اعتقاديّا.

وعلى هذا فالمجتهد في عنوان المسألة عبارة عن المجتهد في الأحكام ولا يدخل فيه المجتهد في الموضوعات ، فالنزاع في التخطئة والتصويب بالمعنى المأخوذ في المسألة بالبناء المتقدّم غير جار في الموضوعات والأحكام الجزئيّة.

نعم ربّما يمكن التكلّم في التخطئة والتصويب فيها من جهة اخرى غير مرتبطة بالبناء المذكور راجعة إلى التكلّم في وجه اعتبار الأمارة القائمة بها ، هل هو وجه الطريقيّة أو الموضوعيّة بالمعنى الّذي شرحناه في مسألة الإجزاء وغيرها ، ولعلّنا نشير إليه أيضا فيما بعد.

والأقوى في التكلّم من هذه الجهة هو الطريقيّة ، ويظهر من جماعة ـ منهم بعض الأعلام ـ القول بالموضوعيّة ، ومن ذلك ظهر زيادة على ما مرّ من أنّ التصويب في الموضوعات ليس من فروع القول بالتصويب المبحوث عنه في المسألة ليختصّ بالمصوّبة لكون قائله من أصحابنا المخطّئة ، مع أنّه من باب تعدّد الموضوع الباعث على تعدّد الحكم لا من باب تعدّد الحكم مع اتّحاد الموضوع كما هو التصويب بالمعنى المعروف في الأحكام.

ثمّ إنّ طرق الأحكام على أنحاء :

منها : الأدلّة العلميّة المفيدة للقطع بالحكم على تقدير وجودها وتيسّر الوصول إليها ولو في بعض الأزمنة ، كزمن الحضور أو في حقّ بعض الناس كالصحابة مثلا ومن يحذو حذوهم في تحقّق الشرطين.

ومنها : الأمارات الظنّية المنوط اعتبارها بإفادتها الظنّ بالحكم ولو لعموم ما دلّ على حجّية ظنّ المجتهد.

ومنها : الأمارات الغير العلميّة التعبّديّة الواجب اتّباعها تعبّدا من غير نظر إلى إفادتها الظنّ ، كأخبار الآحاد عند من يراها حجّة بالأدلّة الخاصّة.

٣٣١

أمّا النوع الأوّل : فهي خارجة عن موضوع مسألة التخطئة والتصويب ، لاتّفاق الفريقين على أنّ لله تعالى في كلّ واقعة من مواردها حكما معيّنا من أصابه أصاب ومن لم يصبه أخطأ ، والمخطئ آثم غير معذور ، ووجه الإثم : أنّه مع تحقّق الشرطين مقصّر في خطائه ، والخطأ إذ كان عن تقصير ليس عذرا فيكون بمنزلة ترك امتثال أحكام الله الفعليّة بلا عذر بعد تنجّزها ، بناء على ما ذكرناه في غير موضع من كفاية العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي في تنجّز التكليف.

وأمّا النوع الثاني : فهو القدر المتيقّن ممّا اندرج في موضوع المسألة ولكن على بعض وجوهه لا مطلقا.

وتوضيح ذلك : أنّ اعتبار الأمارات الغير العلميّة وجواز التعويل عليها والعمل بها يحتاج إلى جعل الشارع ، وهو يتصوّر من وجوه ثلاث : الجعل الطريقي ، والجعل الموضوعي ، والمتوسّط بينهما.

والمراد بالأوّل أن يعتبر الأمارة بتجويز العمل بها أو إيجابه لمجرّد كونها كاشفة عن الواقع كشفا ظنّيا من غير أن يلاحظ فيها مصلحة سوى كشفها الظنّي عن الواقع ، وهذا على فرض تحقّقه من لوازم القول بالتخطئة.

وأمّا جواز نحو هذا الجعل وعدمه ففيه تفصيل بين صوره المتصوّرة من كون الأمارة في علم الله تعالى دائم المصادفة للواقع ، أو غالب المصادفة له ، أو أغلب مصادفة بالنظر إلى الطرق العلميّة المفروض وجودها ، بناء على كون المراد بها ما يفيد القطع بالواقع وإن خالفه لا خصوص العلم فيوجد فيها أيضا ما خالف الواقع مع فرض كونها أقلّ مصادفة له ، فالجعل الطريقي إن فرض مع وجود الطرق العلميّة ووفورها كما في صورة انفتاح باب العلم صحّ على الوجه الأوّل والأخير دون الوجه الثاني مع دوام المصادفة في الطرق العلميّة ، لأنّ جعل الأمارة طريقا مع ما يتحقّق فيها من مخالفة الواقع ـ ولو في الفروض النادرة ـ تفويت لمصلحة الواقع على المكلّف ، وهو مناف للحكمة من جهة أوله إلى نقض الغرض من جعل الحكم الواقعي وهو إيصال المكلّف إلى المصالح الواقعيّة.

وإن فرض مع فقدها أو قلّة وجودها صحّ على الوجهين الأوّلين دون الوجه الأخير لكونه خلاف الفرض.

والمراد بالجعل الموضوعي أن يعتبر الأمارة الظنّية القائمة بالفعل ـ لأنّ قيامها به ـ

٣٣٢

وتأدّي نظر المجتهد إلى مؤدّاها [ يؤثّر ] في حدوث [ حكم ] واقعي مطابق لمؤدّاها للجاهل بحكم العالمين به ، سواء وافق ذلك الحكم أو خالفه مع فرض خلوّه عن الحكم الواقعي بالنسبة إليه مع قطع النظر عن قيام الأمارة ، بل ما لم ينظر فيها المجتهد أو لم يتأدّ نظره إلى شيء ، بأن يكون الحكم للواقعة من غير جهة الأمارة مختصّا بالعالمين أو المتمكّنين من العلم به ، وهذا هو المعنى المعهود من التصويب المعروف من المصوّبة كما تقدّم بيانه.

فمبنى القول بالتصويب على الالتزام بالجعل الموضوعي في الأمارات ، وعليه ينطبق القول بأنّ العلم والجهل من الوجوه والاعتبارات المغيّرة للأحكام الواقعيّة عند بعض من يرى الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات ، إذ المراد به أنّ الجهل بالحكم الواقعي المجعول للعالمين به المقرون بقيام الأمارة بالواقعة للجاهل الناظر فيها يوجب جعل مؤدّاها حكما واقعيّا له مغايرا لحكم العالمين به في محلّ المخالفة.

والمراد بالجعل المتوسّط بين القسمين الأوّلين هو أن يعتبر الأمارة بإيجاب العمل على طبقها ـ على معنى تطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة عليها ـ والالتزام بمؤدّاها وترتيب الآثار عليه على أنّه هو الحكم الواقعي ، مع اشتماله على مصلحة يتدارك بها ما يفوت عن المكلّف على تقدير المخالفة من مصلحة الواقع من دون أن يؤثّر قيامها على هذا التقدير في حدوث مصلحة ولا حكم في نفس الفعل.

وهذا يفارق الجعل الطريقي في ملاحظة مصلحة في العمل على طبق الأمارة يتدارك بها مصلحة الواقع على تقدير فواتها ، والجعل الموضوعي في عدم تأثير قيامها بالفعل في حدوث مصلحة ولا حكم فيه ، وهو الصحيح من أقسام الجعل الموافق للشرع والاعتبار العقلي من حيث عدم استلزامه محذور نقض الغرض ولا التصويب.

وملخّص هذا الاعتبار : أنّ الفعل له بنفسه ومع قطع النظر عن الأمارة القائمة به حكم ناش عن صفة كامنة فيه غير مرتبطة بالأمارة وجودا وعدما ، غير أنّ الشارع أمرنا بالبناء عليها والأخذ بمؤدّاها على أنّه هو الواقع بعينه ، مع تضمّن ذلك البناء في صورة المخالفة مصلحة يتدارك بها المصلحة الواقعيّة الفائتة من غير أن يحدث بسببها مصلحة ولا حكم في نفس الفعل.

قيل : إنّ هذا هو الّذي يقول به المخطّئة والفرق بينه وبين الجعل الموضوعي يظهر في الإجزاء وعدمه عند تبيّن مخالفة الأمارة للواقع.

٣٣٣

ثمّ إنّ الجعل الموضوعي كما يمكن فرضه مع خلوّ الواقعة عن الحكم بالنسبة إلى الجاهل رأسا ، كذلك يمكن فرضه مع اشتمال الواقعة على حكم مجعول مشترك بين العالم والجاهل متوقّف فعليّته بالنسبة إلى الجاهل على العلم أو تمكّنه من العلم منه ، فمن لم يعلم ولم يتمكّن من العلم به إذا عثر على الأمارة القائمة بها أثّر ذلك في حدوث حكم له في الواقع مغائر للحكم الأوّل المشترك بينه وبين العالم به.

والفرق بين الاعتبارين ـ مع اشتراكهما في كون الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهل بحكم العالمين تابعا لقيام الأمارة ـ أنّ المنتفي عن الجاهل على الأوّل مع قطع النظر عن الأمارة أصل جعل حكم آخر ، وعلى الثاني فعليّة الحكم المجعول.

والّذي ينطبق منهما على القول بالتصويب بالمعنى المتقدّم المبنيّ على إنكار وجود حكم معيّن في الواقعة قبل اجتهاد المجتهد إنّما هو الوجه الأوّل دون الثاني ، وهل هو قسم آخر من التصويب أو هو نحو من التخطئة لم نقف في كلامهم على نصّ في ذلك ، غير أنّ الّذي ينبغي أن يقطع به عدم اندراجه في القول بالتخطئة ، لابتنائه على وحدة حكم الله الواقعي في كلّ واقعة وعدم كونه تابعا للأمارات والآراء الناشئة منها ، فهو بالتصويب أشبه.

وهل هو من التصويب الباطل فيه خلاف على ما يظهر من بعض كلمات أصحابنا.

فإنّ منها ما يظهر منه اختيار الصحّة كالمحكيّ عن العلاّمة في النهاية تبعا للشيخ في العدّة من قوله : « إنّ الفعل الشرعي إنّما يجب لكونه مصلحة ، ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا الّتي يجوز كون الفعل عندها مصلحة » انتهى.

وهذا بإطلاقه وإن كان يعمّ الوجهين ، إلاّ أنّ إجماع أصحابنا على بطلان التصويب بالمعنى المتقدّم يوجب صرفه عن الوجه الأوّل إلى الثاني ، وإليه أيضا يمكن إرجاع ما ذكره العلاّمة في التهذيب وغيره في غيره في دفع الإشكال المعروف الوارد على تعريف الفقه ـ من أنّ الظنّ في طريق الحكم ، وظنّية الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم ـ على أحد وجوهه من كون المراد بالحكم المتكرّر هو الحكم الواقعي ، ومن ظنّية الطريق كون دليله مفيدا للظنّ به ، وقضيّة الفرض اعتبار الظنّ في الأمارات المفيدة له على وجه الموضوعيّة.

ومنه ما يظهر منه اختيار البطلان كعبارة المصنّف في تعريف الفقه حيث ضعّف ما عرفته عن العلاّمة بعد ما نقله بقوله : « ضعفه ظاهر عندنا ، وأمّا عند المصوّبة القائلين بأنّ كلّ مجتهد

٣٣٤

مصيب فله وجه » بناء على أنّ إطلاقه يعمّ الوجهين معا ، فتأمّل.

وأمّا التحقيق في صحّة هذا الوجه وبطلانه فيأتي عند الاستدلال على بطلان التصويب وإثبات التخطئة.

وأمّا النوع الثالث : فالظاهر دخوله في موضوع المسألة لجريان اعتباري الجعل الموضوعي وغيره من الجعل المتوسّط بينه وبين الجعل الطريقي في الأمارات التعبّدية المعمولة في الأحكام ، كما يمكن جريانهما في الأمارات التعبّديّة المستعملة في الموضوعات ، فإمّا أن يراد بوجوب التعبّد بالأمارة مطلقا وإن لم تفد الظنّ بالحكم وجوب تطبيق العمل عليها والالتزام بمؤدّاها على أنّه الواقع بعينه مع وجوب اشتماله على مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع عند المخالفة ، أو يراد به العمل بها والأخذ بمؤدّاها على أنّ قيامها بالفعل أثّر في حدوث مصلحة فيه مقتضية لجعل ذلك المؤدّى حكما واقعيّا في حقّ المجتهد الجاهل بحكم العالمين.

وإنّما لم نذكر الجعل الطريقي هنا لمنافاة التعبّد للكشف عن الواقع المنحصر في الكشف العلمي والكشف الظنّي ، فلا يتأتّى إلاّ فيما انيط اعتباره بإفادته العلم أو الظنّ بالواقع.

ولا ينافيه ما احتجّ به ابن قبة على استحالة التعبّد بخبر الواحد باستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، لابتنائه على كون التعبّد بخبر الواحد من حيث إفادته الظنّ ، لابتناء الملازمة وبطلان اللازم كليهما على فرض الجعل الطريقي ، إذ على الجعل الموضوعي يتطرّق المنع إلى دعوى الملازمة باعتبار أنّه يستلزم تعدّد الحكم الواقعي بواسطة تعدّد موضوعه وهو الواقعة الملحوظة من حيث ذاتها والملحوظة من حيث قيام خبر الواحد الظنّي بها ، فهي على الحيثيّة الاولى تتضمّن مصلحة ذاتيّة مقتضية لحكم ومن الحيثيّة الثانية تتضمّن مصلحة اخرى عرضيّة مقتضية لحكم آخر.

غاية الأمر كون المصلحة العرضيّة بالنسبة إلى المجتهد راجحة على المصلحة الذاتيّة مانعة له من التأثير والحكم ، فهما موضوعان جعل لكلّ منهما حكم واقعي ، وعلى الجعل المتوسّط يتوجّه المنع إلى بطلان اللازم ، إذ على تقدير اشتمال سلوك الأمارة في موضع المخالفة على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة عن المكلّف لا ضير في إفادة الأمارة لتحليل ما هو حرام في الواقع ، لأنّ ما يفوت من مصلحة ترك الحرام الواقعي يتدارك بما حصل له من مصلحة سلوك الأمارة وتطبيق العمل عليها وهكذا في صورة العكس ، فليتدبّر.

٣٣٥

وإذا تمهّد هذا كلّه فاعلم : أنّ الأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو القول بالتخطئة بالمعنى الّذي عليه أصحابنا ، وهو أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما مخصوصا ، وأنّ أحكام جميع الوقائع مخزونة عند أهل بيت العصمة عليهم‌السلام ، وأنّ كلّ حكم اقتضت المصلحة إظهاره للامّة أظهروه وإن اقتضت إخفاءه لم يظهروه ، وأنّ كثيرا ممّا أظهروه ذهبت عنّا بالحوادث والأسباب الخارجيّة وأنّ من المجتهدين من صادف شيئا ممّا أظهروه فهو مصيب ، ومن صادف غيره مخطئ ولكنّه معذور غير آثم إذا استفرغ وسعه وبذل جهده وإن كان عليه دليل قاطع إذا لم يظفر به لو لم يكن في نظره قاطعا ولو لشبهة سبقت إليه ، وأنّه لا يجب أن يكون عليه دليل ظنّي في الظاهر فضلا عن القطعي.

والعمدة من دليله وجوه :

منها : الضرورة الكاشفة عن صدق الدعوى ومطابقة المدّعى للواقع ، المستكشفة بكون وجود حكم لله تعالى في كلّ شيء من القضايا المركوزة في الأذهان ، حتّى العوام والنسوان والصبيان تراهم يقولون عن اعتقاد يقيني في موارد كثيرة : أنّ حكم الله واحد ، ويتناكرون تعدّده بحسب الواقع ، فتكون القضيّة من الضروريّات الّتي قد تختفي على النظر لشدّة الضرورة فيها.

ومنها : الآيات الكتابيّة يكفي منها قوله عزّ من قائل : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فإنّ إكمال الدين لا يتمّ إلاّ ببيان جميع ماله مدخليّة في الدين ومنه حكم كلّ واقعة ، وظاهر أنّ بيان الحكم مسبوق بجعله فيدلّ بالالتزام على أنّه تعالى جعل لكلّ واقعة حكما ، وقوله تعالى : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) وفيه تبيان كلّ شيء يدلّ ولو بمعونة الأخبار المفسّرة على ورود حكم كلّ شيء في الكتاب وإن لم يبلغ إلى أكثرها الأفهام القاصرة.

ومنها : الأخبار المتكاثرة على اختلاف طوائفها مع استفاضة كلّ طائفة منها بل تواترها ، كالنبويّ المرويّ بطرق الفريقين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا » فإنّ المراد من التمسّك بهما هو التمسّك في استعلام الأحكام ـ اصوليّة وفروعيّة ـ فلولا أنّه لكلّ شيء حكم وارد في الكتاب مستودع عند العترة الطاهرة لم يكن التمسّك بهما كافيا في الحفظ عن الضلال.

والأخبار المدّعى تواترها الواردة على اختلاف ألفاظها : « بأنّ لكلّ شيء حكما حتّى أرش الخدش فما دونه ».

٣٣٦

والأخبار القريبة من التواتر بل المتواترة معنى الواردة في الطعن على القائسين وأصحاب الرأي وأهل الاجتهاد من المخالفين ، المعلّلة باستكمال الدين المنزل من الله على نبيّه لجميع أحكامه ، وقد تقدّم أكثرها في احتجاج الأخباريّين على نفي الظنّ والاجتهاد.

ومن ذلك المرويّ عن نهج البلاغة من قول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في ذمّ اختلاف علمائهم في الفتيا مع صراحته في نفي التصويب قال عليه‌السلام : « يرد على أحدكم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم بها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ يجتمع القضاة عند الإمام الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد فأمرهم الله بالاختلاف فأطاعوه أو نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل لله دينا تامّا فقصّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) وفيه تبيان كلّ شيء ».

ومنها : الأدلّة السمعيّة الدالّة على أصل البراءة فيما لا نصّ فيه ، وغيره من عمومات الكتاب والسنّة كقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) وقوله عليه‌السلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » و « الناس في سعة ما لم يعلموا » و « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » و « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » إذ يستفاد من مجموعها أنّ في الوقائع المجهولة الحكم لله تعالى حكما لولا كونه مجهولا لترتّب عليه التكليف الفعلي من المؤاخذة واستحقاق العقوبة على المخالفة ، ولو انضمّ إليها أخبار التوقّف وأخبار الاحتياط لاستفيد من المجموع أنّ الجهالة في الوقائع المجعولة توجب التوقّف عن حكمها الخاصّ ثمّ البناء في العمل على البراءة أو الاحتياط ولا يتمّ ذلك إلاّ على تقدير وجود حكم خاصّ لله تعالى في كلّ واحد.

لا يقال : إنّ غاية ما ثبت من هذه الأدلّة وجود الأحكام الواقعيّة في الوقائع لذواتها للعالمين بها ، وهذا ليس بمحلّ كلام بل الكلام في كون الحكم المجعول للعالمين مشتركا بينهم وبين الجاهلين به الّذين منهم المجتهدون ، والأدلّة المذكورة ساكتة عن إفادة هذا المعنى.

لأنّا نقول : مع أنّ بعض ما سبق يدلّ على ثبوت الحكم الواقعي في كلّ واقعة على وجه العموم ، أنّ العموم يثبت بأدلّة الاشتراك في التكليف من الإجماع والضرورة والأخبار المتواترة الناطقة بأنّ : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » و « أنّ حكم الله

٣٣٧

على الأوّلين والآخرين سواء » وغير ذلك ممّا يقف عليه الخبير البصير.

واستدلّ عليه أيضا بوجوه اخر :

منها : ما اعتمد عليه بعض الفضلاء من : « أنّه قد تقرّر عند العدليّة أنّ أحكامه تعالى تابعة لمصالح واقعيّة في

موارد لاحقة لذواتها أو لوجوه واعتبارات طارئة عليها ، وإن كان لحوق تلك الأحكام لها مشروطا بعلم المكلّف أو ما في حكمه ، وحينئذ فما من واقعة إلاّ ولها حكم معيّن يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على زوال جهله به ، ولا نعني بالحكم الواقعي إلاّ ذلك ».

أقول : هذا لا ينهض ردّا على من كان من المصوّبة من الأشاعرة المنكرين لتبعيّة الأحكام بالصفات الكامنة القائلين بكون حسن الأشياء وقبحها بالشرع.

نعم إنّما ينهض ردّا على العدليّة منهم ، فإنّ الصفة الكامنة في كلّ شيء توثّر في جعل حكم للواقعة من حيث هي ، متوقّف تعلّقه بالمكلّف وصيرورته حكما فعليّا عليه على علمه به.

لا يقال : إنّ هذا لا يتمّ على مذهب العدليّة أيضا القائلين بكون الصفة الكامنة في الشيء قد يكون بالوجوه والاعتبارات بناء على كون العلم والجهل منها.

لأنّ كون العلم والجهل من الصفات الموجبة لتبدّل الأحكام الواقعيّة وإن سبق إلى بعض الأوهام احتمالا أو اختيارا غير أنّه عند التحقيق وفي النظر الدقيق ممّا لا يرجع إلى محصّل ، إذ لو اريد بمدخليّة الجهل في الحكم الواقعي أنّ الجهل بالحكم الواقعي المجعول في الواقعة للعالمين به علّة تامّة لحدوث حكم واقعي آخر للجاهل بجعل إلهي فهو غير معقول ، لأنّ غاية ما يسلّم من تأثير الجهل عند العقل إنّما هو منع شمول الحكم الواقعي المتعلّق بالعالمين به للجاهل ، ولا يعقل تأثيره في حدوث حكم معيّن آخر من الأحكام الباقية بعد فرض عدم شمول الحكم الأوّل له كائنا ما كان كما هو واضح ، ولو اريد بها كونه جزء للعلّة التامّة المفروض كونها المجموع من أمر عدمي ـ وهو عدم العلم بالحكم المفروض عدم شموله للجاهل من باب رفع المانع ـ وأمر وجودي وهو قيام أمارة ظنّية أو تعبّديّة بالواقعة ، فيؤثّر المجموع في حدوث مؤدّى تلك الأمارة حكما واقعيّا للجاهل بجعل إلهي.

ففيه : أنّ الجهل وإن كان يؤثّر في منع شمول الحكم الواقعي المجعول للعالمين به ، إلاّ أنّه ليس معناه أنّه يمنع من مجعوليّة ذلك الحكم بالقياس إلى الجاهل ، ليكون مفاده اختصاص ذلك الحكم بالعالمين به المبنيّ على أخذ قيد في موضوعه يوجب ذلك الاختصاص من

٣٣٨

حيث الجعل ، فإنّه ممّا لا قاضي به من العقل والنقل ، بل غاية ما يساعد عليه العقل باعتبار قبح تكليف الغافل وإلزام الجاهل إنّما هو منع فعليّة المجعول وتعلّقه بالجاهل بحيث يصير تكليفا فعليّا عليه ، وهو لا يقتضي منع شمول أصل الجعل وتساوي نسبة (١) المجعول إلى كلّ مكلّف.

بل نقول : إنّ من الجائز عقلا أنّ الشارع جعل لكلّ واقعة بمقتضى الصفة الكامنة فيها حكما مشتركا يتساوى نسبته إلى كلّ مكلّف ، مشروط تعلّقه ـ الّذي عليه مدار فعليّة الحكم الفعلي بكلّ مكلّف ـ بعلمه به ، فمن علم به تعلّق به ومن جهله لم يتعلّق به مع وجوده في الواقع باعتبار كونه مجعولا ، وهذا هو معنى اختصاص الحكم الواقعي بالعالمين به لا أنّ جعله يختصّ بهم.

كيف وأنّه لا يتأتّى باعتبار الجعل إلاّ بتقييد وأخذ قيد في موضوعه والأصل ينفيه ، مع أنّه خلاف مقتضى أدلّة الاشتراك في التكليف.

نعم يبقى الكلام ـ بعد نفي تعلّق الحكم الواقعي المتعلّق بالعالمين به بالجاهل ـ في أنّ قيام الأمارة بالواقعة للجاهل الناظر فيها المتؤدّي اجتهاده إلى مؤدّاها هل أثّر في حدوث ذلك المؤدّى حكما واقعيّا في حقّه؟ وهل الشارع جعله بعد تأدّي اعتقاده إليه حكما واقعيّا له خاصّة أو لا؟

وهذا أيضا لم ينهض به برهان ولم يشهد له شاهد من عقل ولا نقل ، فالأصل ينفيه.

منها : ما ذكره الفاضل المتقدّم من : « أنّه لو أصاب كلّ مجتهد لزم الجمع بين المتنافيين وهو قطعه بالحكم ما دام ظانّا ، والظنّ والقطع متنافيان لا يتواردان على محلّ واحد ، ولا يلزم ذلك على المخطّئة لتغاير المحلّ عندهم ، إذ مورد الظنّ نفس الحكم ومورد القطع وجوب البناء عليه ، أو مورد الظنّ الحكم الواقعي ومورد القطع الحكم الظاهري ».

وفيه : منع الملازمة على التصويب أيضا بتغاير محلّيهما على ما قدّمناه من أنّ المقطوع به إنّما هو الحكم الواقعي المتعلّق بالمكلّف وهو مصداق الوجوب مثلا بالمعنى الإنشائي المتعلّق بالمكلّف ، والمظنون أحد الامور الثلاث من مفهوم الوجوب ، وما يصير حكما بجعل لاحق ، وحكم العالمين به.

ومنها : ما في تهذيب العلاّمة من « أنّ إحدى الأمارتين إن ترجّحت على الاخرى تعيّنت للعمل والمخالف لها مخطئ ، وإن لم تترجّح كان اعتقاد كلّ واحد من المجتهدين

__________________

(١) وفي الأصل : « نسبته » والصواب ما أثبتناه في المتن.

٣٣٩

لرجحان أمارته خطأ. » (١)

وتوضيحه : أنّ اختلاف المجتهدين في المسألة إنّما ينشأ من اختلاف الأمارتين وتعارضهما فإمّا أن تكونا من التراجيح أو من التعادل ، فعلى الأوّل كان الآخذ بالأمارة المرجوحة مخطئا ، لاستلزامه اعتقاد رجحان الأمارة المرجوحة وهو خلاف الواقع.

وعلى الثاني كان الآخذ بكلّ منهما مخطئا ، لاستلزامه اعتقاد رجحان الأمارة الغير الراجحة وهو أيضا خلاف الواقع.

وفيه : ـ مع ابتنائه على كون المدار في الترجيح على رجحان الأمارة في نظر المجتهد بحسب نفس الأمر لا مطلقا ولعلّه موضع منع عند الخصم ، فيمنع معه كون اعتقاد الرجحان في الصورتين خطأ ـ منع الملازمة بين خطأ ذلك الاعتقاد المتعلّق برجحان الأمارة وخطأ الاجتهاد المتعلّق بالمسألة الفرعيّة والكلام إنّما هو فيه ، فإنّ اعتقاد الرجحان في الأمارة وإن كان خلاف الواقع أوجب الظنّ بمؤدّاها وهو على مفروضهم يؤثّر في حدوث ذلك المؤدّى حكما واقعيّا للمجتهد الناظر فيها.

فدعوى كونه مخطئا إن اريد به كونه كذلك في المسألة الفرعيّة لا يخلو عن مصادرة ، إلاّ أن يقال : إنّ مؤثّر حدوث الحكم إنّما هو الظنّ المطابق لا مطلقا.

ويدفعه : مع أنّه غير معهود من المصوّبة ، أنّ اعتبار المطابقة في الظنّ مع خلوّ الواقعة قبل اجتهاد المجتهد عن الحكم ـ كما عليه مبنى القول بالتصويب ـ غير معقول ، فلا ينقسم الظنّ المستند إلى الأمارة عندهم إلى المطابق وغير المطابق ، إلاّ أن يلاحظ المطابقة والعدم بالقياس إلى حكم العالمين به ، أو إلى ما يسمّى عند فريق منهم بالأشبه.

ويرد عليه حينئذ : أنّ اعتبار المطابقة على رأيهم يوجب استحالة التصويب فيما هو موضوع مسألة التخطئة والتصويب وهو المسائل الخلافيّة ، لاستحالة مطابقة كلّ من الأمارات المتعارضة الموجودة في مسألة واحدة ـ الّتي يستند إليها الآراء المختلفة ـ لأحد الأمرين حكم العالمين أو الأمر المسمّى بالأشبه ، فلا بدّ وأن يكون كلّ من الظنّ المطابق وغير المطابق مؤثّرا عندهم في حدوث حكم للظانّ فبطل اعتبار المطابقة.

ومنها : ما في التهذيب أيضا من : « أنّ المكلّف إن كلّف لا على طريق كان حكما في الدين إمّا تشهّيا أو بما لا يطاق ، وإن كان عن طريق فإن خلا عن المعارض تعيّن وإلاّ

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ١٠٢.

٣٤٠