تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

جهة أفهامهم الناشئة عن الفرار عن لزوم التكليف بما لا يطاق لو لم يكن ظنّه حجّة من جهة بقاء التكليف وانسداد باب العلم كما هو المفروض » إلى آخره ... (١).

وفيه : أنّ العقلاء إن اريد به ما يعمّ الإمام المعصوم أيضا ـ فمع أنّ الحمل على إرادة المعنى المذكور ليس حملا على ما يغاير المعنى المصطلح عليه كما لا يخفى ـ فيه : أنّ طريق العلم على الإجماع بهذا المعنى منحصر في أمرين :

أحدهما : استقصاء جميع العقلاء الّذين منهم الإمام واستيفاء أقوالهم ، أو استقصاء من كان منهم الإمام من العقلاء ، وهو غير متيسّر عادة في أزمنة الغيبة لعدم إمكان ملاقاة الإمام بحسب العادة ولو بعنوان كونه من العقلاء مع عدم معرفته بعنوان أنّه إمام على وجه نستعلم منه قوله في المسألة.

وثانيهما : أن يكون مناط الحكم المجمع عليه أمرا محرزا معلوما يقول بموجبه كلّ عاقل بحيث استقلّ العقول من جهته بإدراك الحكم المجمع عليه ، فمن جهة الانتقال إلى ذلك المناط ابتداء ، ينتقل إلى أنّ موجبه ـ وهو الحكم المجمع عليه ـ ما يقول به كلّ عاقل لكون المناط مسلّما عند الكلّ وهذا هو معنى العلم بإجماع العقلاء الّذين منهم الإمام.

وقضيّة العبارة حيث أخذ فيها قيد « من جهة أفهامهم الناشئة عن الفرار عن لزوم التكليف بما لا يطاق » إرادة هذا المعنى.

لكن يرد عليه : أنّ سبق الاطّلاع على هذا المناط يكفي في الانتقال إلى الحكم المجمع عليه ويرفع الحاجة إلى توسيط الإجماع كما لا يخفى.

وظاهر من يذكر الإجماع هنا أخذه بانفراده طريقا يتوصّل به إلى الحكم المجمع عليه من غير نظر إلى شيء آخر.

وإن اريد به ما لا يعمّ الإمام المعصوم.

ففيه ـ مع أنّ استقصاء العقلاء كافّة غير متيسّر عادة ـ : أنّ الاطّلاع على هذا الإجماع لا يوجب الانتقال إلى الحكم المجمع عليه انتقالا جزميّا إلاّ برفع احتمال الخطأ عنهم لكون المسألة نظريّة قابلة للخطأ ، ولا رافع له في أمثال المقام إلاّ أحد الأمرين من دخول معصوم فيهم والمفروض خلافه ، ومن سبق الاطّلاع على مناط الحكم المجمع عليه وكونه ممّا يستقلّ بإدراك موجبه العقول كلّها وهو ممّا يرفع الحاجة إلى توسيط الإجماع

__________________

(١) القوانين.

١٨١

عند الاستدلال كما لا يخفى.

وأمّا الآخران ، فأوّلهما : « أنّ من تتّبع سير الصحابة والتابعين في رجوع بعضهم إلى بعض وتقرير أئمّتهم ذلك ، وتجويز الرجوع إلى أصحابهم وتقريرهم على طريقتهم في فهم مطالبهم والجمع بين أخبارهم المختلفة ، وأمرهم بالجمع بالقواعد الملقاة إليهم الّتي لا يمكن التفريع عليها والعمل بها إلاّ مع الاعتماد بظنونهم في فهم موافقة الكتاب ومخالفته وفهم موافقة المشهور ومخالفته ، وكذلك معرفة الأعدل والأفقه الّذي لا ينفكّ عادة عن لزوم معرفة العامّ عن الخاصّ وطريق التخصيص ، ومعرفة الإطلاق والتقييد ، والأمر والنهي والمجمل والمبيّن والمنطوق والمفهوم بأقسامها وغير ذلك من المباحث المحتاج إليها ، فبعد ملاحظة ذلك يحصل له القطع برضا أئمّتهم عليهم‌السلام بما يتداولونه بينهم من الطريقة » إلى آخره (١).

وهذا مع اشتمال صدره بما لا مدخل له في المقام كما لا يخفى على المتأمّل ، يوهم في ظاهره الاستناد في تصحيح العمل بظنون المجتهد المطلق إلى تقرير الأئمّة أصحابهم على طريقتهم المبنيّة على إعمال الظنون وأمرهم بالتفريع الّذي لا يتأتّى غالبا إلاّ بإعمال ظنون كثيرة ، فيكون الأمر المذكور بالأخرة أمرا بإعمال تلك الظنون ، وهذا كما ترى ليس إصلاحا للإجماع المدّعى في هذا المقام ورفعا لشبهة المعترض في شيء ، مع أنّ هذا هو الغرض الأصلي.

إلاّ أن يوجّه بما يرجع إلى بعض ما قرّرناه ويقال : إنّ ملخّص مرامه بالعبارة إبداء استناد الإجماع المدّعى هنا في انعقاده إلى أمرين بعد تحقّقهما لا يفتقر إلى شيء من سبق السؤال ولا العلم بالمستند.

أحدهما : تقرير الأئمّة أصحابهم على طريقتهم في فهم مطالبهم والجمع بين أخبارهم المتضادّة وترجيح بعضها على بعض بموافقة الكتاب والمشهور والأعدليّة والأفقهيّة وغير ذلك المبنيّة على الأخذ بامور ظنّية كثيرة ومقدّمات غير علميّة متكثّرة.

وثانيهما : أمرهم بالتفريع المبتني غالبا على إعمال ظنون غير محصورة ومعرفة مقدّمات ظنّية غير معدودة.

فالإجماع على حجّية ظنّ المجتهد المطلق مستند إلى ملاحظة هذين الأمرين ، على معنى أنّ المجمعين استندوا في قولهم بالحجّية إليهما فيكون إجماعهم كاشفا عن رأي

__________________

(١) القوانين.

١٨٢

المعصوم بهذا الاعتبار ، لكن قصور العبارة عن إفادة هذا المعنى غير خفيّ على اللبيب.

وثانيهما : « أنّ الكلام هنا في مقام تجزّي الاجتهاد وإطلاقه لا في طريقة الاصولي والأخباري وغيرهما ، وحينئذ نقول : إتّفاق العلماء في كلّ عصر ومصر من زماننا مترقّيا إلى زمان أئمّتهم بحيث لم يعرف منكر يعتمد بقوله على جواز عمل المستنبط المطلق القادر على تحصيل كلّ الأحكام بقوّته الحاصلة لذلك ومتابعة مقلّده له ، بل لزوم ذلك ووجوبه يكشف عن أنّ ذلك كان من جهة رخصة من جانب أئمّتهم » إلى آخره (١).

وهذا يرجع بنحو من الاعتبار إلى ما قرّرناه أخيرا ، وأمّا الاعتراض بالنسبة إلى دعوى الضرورة فدفعه بعض الأعلام بوجهين :

أحدهما : إمكان إرادة ضرورة الدين ، بتقريب ما ذكره أخيرا في الإجماع بدعوى : أنّ هذه الطريقة المستمرّة أفادت رضى صاحب الشرع بذلك بداهة.

وثانيهما : إمكان إرادة بداهة العقل بعد ملاحظة الوسائط أعني بقاء التكليف وانسداد باب العلم وقبح التكليف بما (٢) لا يطاق.

ثمّ أورد على المعترض بقوله : « وما ذكر في الاعتراض من تسليم ذلك وتحسينه لأجل أنّه يعتمد على الدليل فليس بشيء ، لأنّه حينئذ ليس بضروري لاحتياج إبطال التقليد حينئذ إلى الاستدلال.

نعم ما ذكره يصير مرجّحا لاختيار الاجتهاد للمجتهد المطلق على التقليد ولا يفيد الضرورة ، ومقتضى ما ذكره كون جواز التجزّي أيضا بديهيّا مطلقا وهو كما ترى ، إذ ترجيحه على تقليده لمثله إن سلّم فلا نسلّم ترجيحه على تقليده للمجتهد المطلق بل ذلك يحتاج إلى الاستدلال وليس بضروريّ » (٣).

ثمّ ذكر وجها ثالثا في توجيه دعوى الضرورة وهو إمكان إرادة الاضطرار والاحتياج من الضرورة.

أقول : وهذا هو أظهر المحامل في دعوى الضرورة ، وذلك من جهة أن تعيّن العمل بالظنّ الاجتهادي لا يتأتّى إلاّ بعد انحصار المناص فيه ، ولا ينحصر المناص إلاّ بعد إبطال التقليد وهو لا يتمّ إلاّ في حقّ المجتهد المطلق ، لأنّ دليل بطلانه على ما زعموه منحصر في الإجماع ولا إجماع في حقّ المتجزّي فلم ينحصر المناص في حقّه ليضطرّ

__________________

(١ و ٣) القوانين.

(٢) وفي الأصل : « وقيح تكليف ما لا يطاق » ، وما صحّحناه أوفق بالعبارة.

١٨٣

وأقصى ما يتصوّر في موضع النزاع أن يحصل دليل ظنّي يدلّ على مساواة التجزّي للاجتهاد المطلق *. واعتماد المتجزّي عليه يفضي إلى الدور ، لأنّه تجزّ في مسألة التجزّي ، وتعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ **.

__________________

إلى العمل بظنّه ، هذا على مذاقهم.

وأمّا على ما قرّرناه من إبطال احتمال التقليد في مقابلة العمل بالظنّ الاجتهادي بقاعدة كون الظنّ الاجتهادي المأخوذ بلا واسطة أقوى من الظنّ الاجتهادي المأخوذ بالواسطة من جهة طروّ جهة الفتوائيّة ، فلا يتفاوت الحال في انحصار المناص بالنسبة إلى المطلق والمتجزّي معا.

ولعلّ هذا هو مراد المعترض من قوله : « لكنّه مشترك بين المطلق والمتجزّي » وعليه فيكون وجيها.

* تعرّض لمنع الكبرى على فرض تسليم الصغرى.

وملخّصه : أنّه لو سلّمنا مساواة المتجزّي للمطلق بدعوى : أنّ العلّة في العمل بظنّ المجتهد هي قدرته على استنباط المسألة فهي مساواة ظنّية لقيام احتمال كون العلّة هي قدرته على استنباط المسائل كلّها ولو مرجوحا ، لكن لا يلزم منها أن يجوز له العمل بظنّه كما جاز ذلك للمطلق ، لأنّ مستند المطلق في عمله دليل قطعي لا يجري هذا الدليل في حقّه ، فانحصر دليله في المساواة المدّعاة الموجبة لتعدية الحكم من المطلق إليه ، والاستناد إليها هنا غير جايز لكونها ظنّية ، ولا يجوز الاعتماد على الظنّ في العمل بالظنّ لإفضائه إلى الدور المستحيل.

وبهذا البيان ظهر أنّ مراده بالدليل الظنّي هنا هو القياس المبنيّ على المساواة الظنّية كما فهمه غير واحد من الأعيان ، لا ما احتمله بعض من جواز إرادة ما يأتي الاستدلال به من خبر أبي خديجة فإنّ ذلك ممّا لا ربط له بمقام دفع الاستدلال المتقدّم على ما زعموه من كونه قياسا الراجع إلى منع صغراه تارة ومنع كبراه اخرى ، وهذا الخبر ليس من صغرى هذا الدليل ولا كبراه.

** يعني أنّ اعتماد المتجزّي على هذا الدليل الظنّي عمل منه بظنّه في مسألة جواز عمل المتجزّي بظنّه ، وعلى هذا المعنى يكون قوله : « وتعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ » تفسيرا

١٨٤

ورجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق وإن كان ممكنا. لكنّه خلاف المراد ، إذا الفرض إلحاقه ابتداء بالمجتهد. وهذا إلحاق له بالمقلّد بحسب الذات ، وإن كان بالعرض إلحاقا بالاجتهاد *. ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد ، لاقتضائه ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى التقليد.

__________________

لقوله : « تجزّ في مسألة التجزّي » كما هو ظاهر العبارة.

وقد تقدّم تقرير هذا الدور ، ويندفع بتخصيص الظنّ في مسألة جواز عمله بظنّه بالظنّ في الفروع وحينئذ لا يلزم محذور على القول بحجّية الظنّ في الاصول ، لأنّ هذا القول لابدّ وأن يكون عن دليل علمي.

نعم على القول الآخر يلزم في المقام على تقدير الاعتماد على الدليل الظنّي المذكور محذور التسلسل كما لا يخفى.

ومن هنا قد يوجد في بعض الكلمات الاستدلال بلزوم التسلسل في إبطال القول بالتجزّي ، كما حكاه بعض الأعلام في طيّ التعرّض لذكر تقارير الدور المتقدّمة.

والأولى أن يورد عليه : باستلزامه أحد المحذورين من الدور والتسلسل ، أمّا الأوّل : فبناء على التعميم في ظنّه بحيث يشمل الظنّ في هذه المسألة الاصوليّة الناشئ عن الدليل الظنّي المذكور.

وأمّا الثاني : فبناء على تخصيصه بالظنّ في الفروع المتوقّف جواز العمل به على جواز العمل به في المسألة الاصوليّة ، وهو إن استند إلى دليل ظنّي آخر يتوقّف على جواز العمل بهذا الظنّ وهكذا.

* قد ذكرنا أنّ مسألة التجزّي ـ أي جواز عمل المتجزّي بظنّه الحاصل باجتهاده ـ ممّا يجوز أن تكون اجتهاديّة ، بأن يستند جواز العمل في حقّه إلى اجتهاد نفسه في تلك المسألة ، ويجوز أن تكون تقليديّة بأن يستند الجواز في حقّه إلى تقليده لمجتهد مطلق بنائه في المسألة بحسب اجتهاده على الجواز ، كما إذا لم يكن بنفسه قادرا على الترجيح في تلك المسألة ولو من جهة عجزه عن إقامة الدليل القطعي على الجواز أو ذهابه في الاصول إلى عدم حجّية الظنّ فيها مع كون دليله الناهض على الجواز ظنّيا.

لكن ما أورده المصنّف من التشكيك في منع التقليد هنا ممّا لا نفهم معناه ، فإنّ أخذ الحكم في مسألة ـ ولو اصوليّة ـ بطريق التقليد لا ينافي صدق عنوان المجتهد عليه حقيقة

١٨٥

وإن شئت قلت : تركّب التقليد والاجتهاد ، وهو غير معروف *.

__________________

وبالذات باعتبار استنباطه وقدرته على هذا الاستنباط في مسائل اخر فرعيّة.

وقد تقدّم عند التعرّض لتعاريف الاجتهاد أنّها للأعمّ من الصحيح والفاسد ، فجواز العمل بالاجتهاد ليس بمأخوذ في ماهيّة الاجتهاد ليكون عدمه منافيا لها فضلا عن كون الجواز ثابتا بطريق الاجتهاد ، على معنى أنّ جواز العمل بالاجتهاد ليس داخلا في مفهوم الاجتهاد سواء ثبت هذا الجواز بطريق الاجتهاد في المسألة الاصوليّة أو بطريق التقليد ، فثبوته بطريق التقليد غير مناف لصدق « المجتهد » على المتجزّي أصالة أوّلا وبالذات ، كما أنّ عدم الجواز المبنيّ عليه بالاجتهاد أو التقليد غير مناف له.

مع أنّا نقول : لو بنينا على أنّ الاجتهاد اسم للصحيح منه بالخصوص لا يلزم انتفاء صدقه عن المتجزّي العامل باجتهاده من جهة التقليد ، نظرا إلى أنّ صحّة الاجتهاد ليست إلاّ عبارة عن جواز العمل به ، والصحّة بهذا المعنى ثابتة على الفرض باعتبار التقليد.

وأمّا لزوم كون ثبوتها باعتبار الاجتهاد في المسألة الاصوليّة فغير مسلّم ، هذا.

إلاّ أن يقال في توجيه العبارة : إنّ المراد من إلحاق المتجزّي بالمجتهد إلحاقه بالمجتهد المطلق في الحكم لا في مجرّد اسم المجتهد ، على معنى أن يثبت له جواز العمل بالظنّ الاجتهادي على نحو ما ثبت للمطلق ، والّذي ثبت للمطلق إنّما هو الجواز المستند إلى الاجتهاد والمفروض في حقّ المتجزّي بناء على الرجوع إلى التقليد خلاف ذلك ، فهو بالنسبة إلى هذه المسألة مقلّد وإن كان بالنسبة إلى المسائل المجتهد فيها مجتهدا ، وإثبات الجواز في حقّه بهذا الوجه ليس إلحاقا له بالمجتهد المطلق بل هو إلحاق له بالمقلّد وإن كان من جهة عمله بظنّه الاجتهادي في الفروع ملحقا بالمجتهد المطلق إلاّ أنّه إلحاق به بالعرض ، لكون عمله المذكور متفرّعا على عمله بفتوى غيره في هذه المسألة الّذي هو عنوان التقليد أصالة.

* ويظهر منه أنّ وجه الاستبعاد هو عدم المعروفيّة ، ويشكل ذلك : بأنّ عدم معروفيّة التركيب من التقليد والاجتهاد لو سلّم كان بالنسبة إلى فرض التقليد في الأصل والاجتهاد في الفرع ، وأمّا عكس هذا الفرض بأن يكون الاجتهاد في الأصل والتقليد في الفرع فليس بعزيز ولا نادر لشيوعه ، كما في مسألة جواز تقليد غير الأعلم ، وجواز تقليد الميّت ابتداء ، والبقاء على تقليد الميّت ونحو ذلك إذا علم حكم هذه المسائل باجتهاده ، فإنّه حينئذ يبني على هذا الاجتهاد ويقلّد غيره في الفروع فيكون مجتهدا من جهة ومقلّدا من اخرى ،

١٨٦

ونظيره ما في حقّ المجتهد المتجزّي باعتبار الفعل وإن كان باعتبار الملكة مطلقا إذا بنى في المسائل الّتي لم يجتهد فيها فعلا لمانع أو لعدم الفرصة أو نحو ذلك على تقليد غيره لا على الاحتياط.

ثمّ إنّ القول بجواز التجزّي بالمعنى الملحوظ في المقام الثاني له ـ مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف وعرفت تفصيله ممّا بيّنّاه ـ حجج اخر بين صحيحة وسقيمة.

الحجّة الاولى

أنّ قضيّة حكم العقل بعد انسداد باب العلم وبقاء التكاليف هو الرجوع إلى الظنّ لكونه الأقرب إلى العلم ، من غير فرق بين كون الظانّ قادرا على استنباط غيره من الأحكام أو لا.

وبالجملة العبرة إنّما هي بحال الظنّ من غير ملاحظة حال الظانّ ، فقضيّة الدليل قيامه مقام العلم مطلقا كان الظانّ أو متجزّيا.

والأولى أن يعبّر عن « الرجوع إلى الظنّ لكونه الأقرب إلى العلم » بـ « الرجوع إلى ما هو الأقرب إلى العلم وهو الظنّ » لما قرّرناه من أنّ العقل عند إنشائه الحكم ابتداء بملاحظة مقدّماته لا يلاحظ ظنّا ولا ظانّا ولا غيرهما ، بل ينشأ الحكم بالجواز فيما هو أقرب إلى العلم ممّا لم يكن مؤدّيا إلى محذور كان يؤدّي إليه اعتبار العلم ولا غيره.

نعم إنّما يلاحظ الظنّ ويعيّنه في النظر الثاني أعني نظره في تعيين ما هو الأقرب ، ليكون المرجع الّذي يجب الرجوع إليه معلوما من جميع جهاته وبجميع عنواناته.

ثمّ إنّ الأقرب في قوله : « لكونه الأقرب » يقتضي بصيغته أن يكون له مقابل حتّى يلاحظ الأقربيّة بينه وبين الظنّ ويحكم على الظنّ بكونه الأقرب بالقياس إليه ، ولا مقابل له هنا بعد القطع بأنّه على فرض مقابلة الاحتياط له كان الاحتياط أقرب منه إلاّ (١) التقليد.

فملخّص الدليل : أنّ الأمر بعد انسداد باب العلم وبقاء التكاليف مردّد بين العمل بالظنّ الاجتهادي والرجوع إلى التقليد ، لكنّ الأوّل أقرب إلى العلم من الثاني فيكون متعيّنا بحكم العقل في حقّ القادر على تحصيله كائنا من كان.

ووجه الأقربيّة : ما قرّرناه بما لا مزيد عليه من أنّ الأخذ بفتوى الغير يجري فيه من الاحتمالات المبعدة عن العلم أو الواقع ما لا يجري في الأخذ بالظنّ الاجتهادي.

وقد عرفت أنّ مناط الأقربيّة قلّة الاحتمال أو ضعفه في مقابلة ما كثر فيه الاحتمال أو قوي.

__________________

(١) كذا في الأصل والصواب : لا التقليد.

١٨٧

وبما قرّرناه من أنّ العقل يلزم المكلّف بالرجوع إلى ما لا يشارك العلم في المحذور يندفع ما أورد في نقض الدليل من : أنّه لو تمّ لقضى بحجّية الظنّ الّذي يتّفق حصوله متعلّقا بالحكم للمقلّد الغير القادر على الاجتهاد بسبب ملاحظة رواية أو ترجمتها أو فتاوى المجتهدين المودعة في الرسائل المتداولة بين مقلّديهم ، خصوصا بعد ملاحظة أنّه قد يكون أقوى ممّا يحصل للمجتهد.

فإنّ العقل يلزم المكلّف على العمل بما يمكن العمل به ، فما لا يمكن العمل به لتعذّر حصوله أو لتعذّر العمل خارج عن موضوع حكم العقل ، فيخرج به المقلّد سواء اتّفق له حصول الظنّ في بعض الأحيان أو لا.

أمّا الثاني : فواضح.

وأمّا الأوّل : فلقيام المنع الشرعي من العمل بالظنّ الحاصل في حقّه ، فالعمل بهذا الظنّ غير مقدور نظرا إلى أنّ المنع الشرعي كالمنع العقلي ، فخروج هذا الظنّ ليس من باب التخصيص.

ويمكن إجراء هذا الكلام بالقياس إلى الظنّ القياسي وغيره ممّا حرم العمل به شرعا بالخصوص في حقّ المجتهد أيضا كما لا يخفى.

ومن الأفاضل من أورد على الدليل المذكور بوجوه :

أحدها : « أنّ قضيّة العقل بعد انسداد باب العلم هو حجّية أقوى الظنون إذ هو الأقرب إلى العلم.

ولا ريب أنّ الظنّ الحاصل لصاحب الملكة القويّة الموجبة للاقتدار على استنباط جميع المسائل ومعرفة الأحكام أجمع ومعرفة جميع الأدلّة الشرعيّة والوصول إلى وجوه دلالتها وكيفيّة استنباط الأحكام منها أقرب إلى إصابة الحقّ والوصول إلى الواقع من استنباط من هو دونه في الملكة بحيث لا يقدر إلاّ على استنباط بعض المسائل.

والحاصل : كما أنّه يجب تحصيل أقوى الظنون من حيث المدرك مع اختلاف المدارك في القوّة والضعف كذا يجب مراعاة الأقوى من حيث المدرك ، فكما يجب عليه البحث في الأدلّة لتحصيل المدرك الآخر كذا يجب عليه السعي في تحصيل القوّة القويّة حتّى يكون مدركا لتلك الأقوى ، لكون الظنّ الحاصل معها أقرب إلى مطابقة الواقع من الحاصل من

١٨٨

القوّة الناقصة والملكة الضعيفة » انتهى ملخّصا (١).

ويدفعه أوّلا : النقض بمجتهدين مطلقين أحدهما أعلم من صاحبه ، فإنّ قضيّة الوجه المذكور أن لا يجوز لغير الأعلم أن يأخذ باجتهاده حتّى يحصل له القوّة القويّة المساوية لقوّة الأعلم ، وهذا كما ترى ممّا لم يعهد القول به من أحد.

وثانيا : قد عرفت بما قرّرناه مرارا أنّ معيار التجزّي والإطلاق ليس بضعف القوّة وقوّتها بل بخصوص القدرة على الاستنباط وعمومها ، والعموم لا يستلزم كون الخصوص المندرج في ضمنه الموجود للمطلق بالقياس إلى مسألة أو عدّة مسائل أقوى من الخصوص المفارق الموجود للمتجزّي بالقياس إلى هذه المسألة أو المسائل ، وحينئذ فليفرض قوّتهما بالقياس إليها في مرتبة واحدة.

وثالثا : قد ذكرنا أيضا أنّ ظنّ المطلق على تقدير كونه أقوى بضعف احتمال الخطأ بالنسبة إليه في مقام الاجتهاد قد يطرأه باعتبار مقام الفتوى ما يوجب بعده عن الواقع ممّا لا يجري في ظنّ المتجزّي.

ورابعا : أنّ الظنّ الأقوى حيثما أمكن تحصيله من غير أدائه إلى محذور نفاه العقل أو الشرع وجب تحصيله ولو كان الظانّ هو المتجزّي ، نظرا إلى أنّ العبرة في أقوائيّة الظنّ بنفسه بالقياس إلى ظنّ آخر بكون احتمال المخالفة فيه أضعف منه في الآخر ، ضرورة أنّه كلّما ضعف هذا الاحتمال ـ الّذي يعبّر عنه بالاحتمال المرجوح اللازم في كلّ ظنّ ـ قوي الاحتمال الآخر المعبّر عنه بالاحتمال الراجح الّذي هو الظنّ إلى أن يبلغ مرتبة يغلب معه الاحتمال المذكور فيزول في جنبه الاحتمال المرجوح بالمرّة وهي مرتبة العلم بمعنى الجزم ، ومعنى أقوائيّة الظنّ كونه في مرتبة قريبة من مرتبة العلم ، وليس ذلك إلاّ بكون الاحتمال المرجوح الّذي هو احتمال المخالفة في أضعف مراتبه وبذلك يصير أحد الظنّين أقرب إلى العلم من صاحبه ، فإذا أمكن تحصيله للظانّ كائنا من كان وجب عليه التحصيل بلا إشكال ما لم يستتبع محذورا ، ومع العجز عنه يتعيّن عليه العمل بما أمكنه وحصل له ، ولا يسلّم كون الظنّ الحاصل لغيره بالنظر إليه أقوى في نظره ممّا حصل له نفسه ولو كان ذلك الحاصل لغيره بالنظر إلى نفس الأمر في مرتبة لو تعدّاها كان علما.

وتوضيح ذلك : أنّ ملاحظة القوّة والضعف في الظنّين اللذين دار الأمر بينهما أو

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٦٣٢.

١٨٩

المساواة بينهما إنّما تتأتّى لغير الظانّين كالمنازعين في المسألة إذا كان غرضهم معرفة نفس الأمر ، وكالمقلّدين إذا كان غرضهم تعيين ما يكون مرجعا لهم في مقام العمل ، وأمّا كلّ من الظانّين بأنفسهما فلا يتأتّى ملاحظة القوّة والضعف والمساواة في حقّه ، بأن يكون الظنّ الحاصل له في نظره أقوى من ظنّ صاحبه تارة وأضعف منه اخرى ويساويه ثالثة ، بل هذا الاختلاف بالنسبة إلى نظره غير معقول ، كيف وليس الظنّ الحاصل لصاحبه في نظره إلاّ الاحتمال المرجوح المجامع لظنّه ، فكيف يعقل كونه في نظره أقوى من ظنّه تارة ومساويا له اخرى؟ بل هو في نظره ليس ظنّا ، فإطلاق القول بكون ظنّ المجتهد المطلق أقوى من ظنّ المتجزّي فيتعيّن الرجوع إليه ليس على ما ينبغي ، لكونه في نظر المتجزّي إذا لاحظه مقيسا إلى ظنّه وهما.

نعم إنّما يتمّ كونه أقوى منه إذا لاحظهما غير المطلق والمتجزّي ممّن ينازع في المسألة أو من شأنه التقليد فيلاحظهما لتعيين الأقوى منهما وتشخيص الأقرب منهما إلى العلم في نظره بحسب نفس الأمر حتّى يرجع إليه ويأخذ به ، فكون ظنّ المطلق أقوى من ظنّ المتجزّي في نظر المنازعين من المجتهدين أو في نظر المقلّدين لا يستلزم كونه كذلك في نظر المتجزّي أيضا ، والعبرة في تعيّن الرجوع إلى أقوى الظنّين بكون الأقوائيّة ثابتة في نظر المكلّف ولو من جهة شهادة أهل الخبرة لا في نظر غيره ، وهذا هو السرّ في اختلاف الحكم في الأعلم وغير الأعلم ، حيث إنّ غير الأعلم ليس له إلاّ العمل بظنّ نفسه لكون اعتقاد الأعلم في نظره مخالفة للواقع فلا يجوز الأخذ به ، ويتعيّن على من يريد تقليدهما الرجوع إلى الأعلم دون غيره لكون ظنّه أقوى واجتهاده أقرب إلى الواقع.

وبالجملة فقضيّة حكم العقل بملاحظة انسداد باب العلم وجوب الرجوع إلى ما هو أقرب إلى العلم ، ويستحيل منه الحكم بالرجوع إلى ما هو أبعد عنه ، فيتعيّن على الظانّ الغير المتمكّن من العلم الأخذ بالراجح من الاحتمالين في نظره لكونه الأقرب إلى العلم وليس ذلك إلاّ ظنّه ، لكون الاحتمال الآخر المجامع للاحتمال المذكور أبعد عن العلم وليس له الأخذ به بحكم العقل.

ولا ريب أنّ الظنّ الحاصل لغير هذا الظانّ مقيسا إلى ظنّه ليس في نظره إلاّ ما هو الاحتمال المرجوح الأبعد ، فيستحيل من العقل إلزامه بالرجوع إليه.

نعم لو ثبت أنّ الشارع أسقط اعتبار الاحتمال الراجح في نظر المكلّف وعيّن له

١٩٠

الرجوع إلى الاحتمال المرجوح الّذي هو ظنّ غيره كما في المقلّد الفاقد لملكة الاجتهاد بالمرّة إذا اتّفق حصول الظنّ له بسبب من الأسباب ـ حسبما تقدّم فرضه ـ فهو خارج عن موضوع حكم العقل لما نبّهنا عليه ، وليس ذلك من باب إلزام المكلّف بالرجوع إلى ما هو أقرب عنده كما لا يخفى.

ومحلّ البحث ليس من هذا الباب ، إذ لم يقم من الشرع ما يقضي بسقوط اعتبار ظنّ المتجزّي بالخصوص ، فيبقى قاعدة الأقربيّة المنوطة بحكم العقل جارية قاضية بتعيّن الرجوع إلى ظنّه دون التقليد الّذي مرجعه إلى الأخذ بظنّ غيره الّذي هو في نظره احتمال مرجوح بعيد عن الواقع.

فما قيل في الفرق بين المطلق والمتجزّي في مقام منع عمل المتجزّي بظنّه : من أنّ الوثوق بالأوّل باعتبار كماله وقوّته وزيادة علمه أشدّ من الوثوق بالثاني باعتبار ضعفه وقصوره ، واضح الضعف بملاحظة ما قرّرناه.

نعم إنّما يصحّ ذلك في حقّ مقلّد تردّد بين تقليد هذا أو ذاك وهذا ممّا لا مدخل له بمقام عمل المتجزّي نفسه.

وثانيها « أنّ ما ذكر من الدليل إنّما يتمّ لو لم يقم إجماع على حجّية ظنّ المطلق ، وأمّا مع قيامه على حجّيته فلا وجه للحكم بحجّية ظنّ غيره ، فإنّ قضيّة انسداد باب العلم وبقاء التكليف هو الرجوع إلى الظنّ في الجملة ، والقدر الثابت هو الظنّ الخاصّ لقيام الإجماع عليه فالباقي يندرج تحت ما دلّ على المنع من الأخذ بالظنّ.

نعم إن لم يثبت هناك مرجّح بين الظنون من حيث المدرك ـ كما أنّه ليس بينها مرجّح من حيث المدرك على ما ادّعاه القائل بأصالة حجّية الظنّ ـ لزم الحكم بتساوي الكلّ من الجهة المذكورة أيضا لانتفاء المرجّح أيضا ، وليس كذلك لما عرفت من كون الإجماع على حجّية ظنّ المطلق مرجّحا في المقام » انتهى (١).

وفيه : أنّ مبنى هذا الكلام على دعوى كون نتيجة دليل الانسداد مهملة لا مطلقة ولا محصورة ، مع فرض الإهمال بالقياس إلى جميع جهات الظنّ الّتي منها أشخاص الظانّ من المجتهد المطلق والمتجزّي والمقلّد المتوقّف رفعه باعتبار عموم الحجّية على توسيط المقدّمات المعمّمة الّتي منها لزوم الترجيح بلا مرجّح لو خصّ الحجّية ببعض دون بعض.

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٦٣٦.

١٩١

لكن قد تقرّر في محلّه ـ على ما فصّلناه ـ أنّ أثر الإهمال إنّما يحصل في القدر الزائد على القدر الكافي في معرفة الأحكام الشرعيّة والمسائل الفقهيّة ، والمراد بالقدر الكافي مقدار من الظنون الّتي لو لا بناء العمل عليها لأدّى إلى المحاذير الّتي كانت تلزم على تقدير البناء على الاصول من أصلي البراءة والاحتياط والتقليد وغيره ممّا احتمل كونه مرجعا على تقدير عدم مرجعيّة الظنّ.

وقد عرفت أنّ من المحاذير ما يستلزمه البناء على التقليد مع وجود الظنّ الاجتهادي المخالف له الحاصل لصاحب الملكة المقتدر بها على الاستنباط من الأخذ بما هو أبعد عن العلم والواقع من الاحتمالين في نظر المكلّف.

وهذا كما عرفت منفيّ بحكم العقل بالرجوع إلى الأقرب الّذي لا يكون في حقّ الظانّ إلاّ ظنّه ولو [ كان ] متجزّيا ، بل أنت بملاحظة ما قرّرناه مرارا ـ من أنّ العقل بملاحظة الانسداد وبقاء التكليف لا يحكم إلاّ بالرجوع إلى ما هو أقرب إلى العلم من الامور المحتملة ولا أقرب في حقّ الظانّ إلاّ ظنّه الحاصل له دون ظنّ غيره ـ تعرف أنّه لا يعقل الإهمال بالنسبة إلى آحاد الظانّ فلا حاجة في تعميم الحكم إلى مرجّح.

مع أنّ أخذ الإجماع مرجّحا موجبا لتخصيص الحكم على تقدير الإهمال بالمطلق ممّا لا وجه له ، بل هو عند التحقيق ممّا لا يتعقّل ، لأنّ الإجماع المذكور لو صحّ واستقام لكان رافعا للحاجة إلى إعمال دليل الانسداد وموجبا لعزل العقل عن العمل في تعيين المرجع لأنّ عمدة مقدّماته فرض انسداد باب العلم.

ومن المصرّح به في كلماتهم أنّ العلم المفروض انسداد بابه أعمّ من العلم بالواقع والعلم بالمرجع ، والإجماع على فرض ثبوته ـ كما هو الحقّ ـ ممّا يفيد العلم بمرجعيّة الظنّ.

غاية الأمر أنّه لو كان إجمال في مورده لقضى بالاقتصار على القدر المتيقّن منه وهو ظنّ المطلق ـ على ما زعمه المورد ـ ومعه لا انسداد لباب العلم ، فلا يعقل من العقل حينئذ عمل وحكم بمرجعيّة الظنّ حتّى يلزم بعده مراجعة المرجّح إحرازا لموضوع حكمه.

وإن شئت فقل : إنّ فرض ثبوت الإجماع على حجّية الظنّ ممّا يرفع موضوع حكم العقل فلا وجه لإعماله ، وحيثما يصحّ إعماله لا يعقل كون رافع موضوعه مرجّحا له ومحرزا لموضوعه ، وهذا نظير أخذ الدليل الاجتهادي الوارد في مسألة على طبق حكم الأصل مويّدا له ومؤكّدا لمقتضاه ، وما يرى من الاستناد إلى دليل الانسداد بعد الاستناد إلى

١٩٢

الإجماع مثلا فهو مبنيّ على فرض المسألة بلا دليل الحجّية وقطع النظر عن الدليل الوارد فيها إجماعا كان أو غيره ، ومعنى قطع النظر عن الإجماع فرضه معدوما ، وهو لا يجامع أخذه مرجّحا لأنّ المعدوم لا يرجّح الموجود ، وملاحظته موجودا تقضي بانعدام هذا الموجود ، بل حقيقة معنى المرجّح هاهنا كون شيء مبيّنا لموضوع الدليل ، ودليل الانسداد على تقدير جواز : الجمع بينه وبين دليل الإجماع أولى باعتباره مبيّنا لموضوع دليل الإجماع رافعا للإجمال عنه ، بناء على ما قرّرناه من أنّه بنفسه يقضي ببطلان التقليد في حقّ المتمكّن من الظنّ الاجتهادي ، وذلك لأنّ الإجماع على حجّية ظنّ المطلق ليس معناه ما يكون مفاده نفي حجّية ظنّ المتجزّي ، بل معناه أنّه إجماع انعقد في مورد مجمل وقضيّة الأخذ بالقدر المتيقّن منه اختصاص الحجّية بظنّ المطلق ، لكن إذا ضمّ إليه دليل الانسداد كان مفاده رفع هذا الإجمال بكشفه عن كون معقد الإجماع أعمّ من ظنّ المطلق وظنّ المتجزّي ، فليتدبّر.

وثالثها : « أنّ انسداد باب العلم والعلم ببقاء التكليف إنّما يقضي بجواز العمل بما يظنّ أنّه مكلّف به في ظاهر الشريعة لا ما ظنّ أنّه كذلك بحسب الواقع ، كما هو المقصود بالاستدلال.

وتوضيحه : أنّه بعد العلم بوقوع التكاليف فيجب في حكم العقل للحكم بالبراءة والامتثال الأخذ بما يعلم كونه موجبا لفراغ الذمّة ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بسلوك ما علم كونه طريقا مجعولا من الشارع إلى الواقع ، أو بأداء ما علم كونه الواقع ، ومع تعذّر العلم على أحد الوجهين بأن انسدّ سبيل العلم بما جعل طريقا إلى الواقع وانسدّ أيضا سبيل العلم بالواقع مع القطع ببقاء التكليف تعيّن تحصيل الظنّ بما جعل طريقا ، ومراعاة ما يظنّ كونه الطريق المجعول لقيام الظنّ بذلك حينئذ مقام العلم به في حكم العقل ، ولا يصحّ الاكتفاء حينئذ بمجرّد ما يظنّ معه بأداء الواقع ، وحينئذ فلا يتمّ الاحتجاج إذ مجرّد ظنّ المتجزّي بالحكم مع الشكّ في كونه مكلّفا شرعا بالعمل بظنّه أو رجوعه إلى ظنّ المجتهد المطلق لا يكفي في الحكم بحجّية ظنّه » انتهى ملخّصا (١).

وفيه من الفساد والشبهة ما لا يخفى على ذي مسكة ، إذ المفروض في دليل الانسداد انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال فيقابله انفتاح باب الظنّ بها ، فيتعيّن العمل به حذرا عن التكليف بما لا يطاق والإرجاع إلى الأبعد عن العلم والواقع مع وجود

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٦٤٠.

١٩٣

الأقرب إليهما ، وهذا كما ترى ممّا لم يؤخذ فيه الظنّ بالطريق إلاّ إذا نشأ منه الظنّ بالحكم.

وقضيّة ذلك قطع المتجزّي بكونه بحسب الشرع مكلّفا بالعمل بظنّه ، وأمّا ما لم ينشأ منه الظنّ بالحكم فلا يجوز التعويل عليه ما لم يقم دليل علمي على كونه طريقا وإن ظنّ طريقيّته.

ومع التنزّل عن هذا المقام وإدراج الظنّ بالطريق في دليل الانسداد ، نقول : إنّ العقل إنّما يحكم بجواز العمل بالظنّ بالطريق باعتبار أنّه ظنّ بالمبرئ للذمّة عن الأحكام الواقعيّة المعلوم باشتغال الذمّة بامتثالها ، وهذا ممّا لا يتفاوت الحال فيه بين ما لو تعلّق الظنّ بنفس الواقع أو بما جعل طريقا إليه ، لأنّ كلاّ منهما ظنّ بالمبرئ للذمّة فلا وجه لدعوى انحصاره في الظنّ بالطريق.

ولو سلّم صحّة هذه الدعوى فلم لا يجوز أن يحصل للمتجزّي ظنّ بطريقيّة بعض الطرق الاجتهاديّة المعهودة مع تمكّنه من استفادة الحكم الشرعي من بعض جزئيّاته دون بعض؟ فيندرج ظنّه المذكور حينئذ في الدليل المزبور فيكون من الظنّ المقطوع بجواز العمل به.

ورابعها : « أنّ الاحتجاج المذكور إنّما يتمّ إذا قام دليل قطعي على عدم وجوب الاحتياط على مثله ، إذ مع احتمال وجوبه عليه يتعيّن ذلك بالنسبة إليه لأنّه أيضا نحو من العمل بالعلم ، وهو ممنوع بل الظاهر خلافه ، إذ أقصى ما يستفاد ممّا دلّ على عدم وجوبه إنّما هو في أصل الشريعة وعدم وجوبه على المجتهد المطلق ومن يقلّده ، وأمّا عدم وجوبه في الصورة المفروضة فلا ، كما هو الحال بالنسبة إلى غير البالغ درجة الاجتهاد إذا تعذّر عليه الرجوع إلى المجتهد » (١).

وفيه : أنّ العمدة من دليل عدم وجوب الاحتياط هو إجماع الفرقة بالتقرير المتقدّم إليه الإشارة ، وملاحظة كلماتهم واستدلالاتهم على طرفي المسألة وغيرها تقضي بعدم الفرق فيه بين المطلق والمتجزّي ، وعلى فرض الاستناد لنفي وجوبه إلى الأدلّة النافية للعسر والحرج أمكن إدراج المتجزّي فيه أيضا ، بناء على اعتبار العسر والحرج المنفيّين نوعيّا لا شخصيّا ، مع أنّ من الفروض ما لا يمكن فيه الأخذ بالاحتياط فيسقط احتمال وجوبه حينئذ جدّا.

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٦٤١.

١٩٤

والقول بأنّ غاية الأمر حينئذ هو جواز الاعتماد على ظنّه في بعض الفروض النادرة ممّا لا يمكن فيه مراعاة الحائط بشيء من وجوهها لمكان الضرورة وأين هذا من المدّعى؟

يدفعه : أنّ هذا عين المدّعى في مقابلة القول بتعيّن التقليد في حقّه مطلقا ، نظرا إلى أنّ حكم العقل بجواز الاعتماد على الظنّ ممّا لا يتأتّى إلاّ إذا قام الضرورة والاضطرار إليه ، ولذا ترى أنّ موضوعه ما يكون أقرب إلى العلم الغير المستتبع للمحاذير الّتي كان يستتبعها الأخذ بالعلم أو الاحتياط أو غيرهما ممّا احتمل كونه مرجعا.

وبالجملة الاحتياط ما لم يمنع وجوبه بالعقل أو الشرع لم يقم ضرورة إلى الأخذ بالظنّ حتّى بالنسبة إلى المطلق ومعه يمتنع من العقل تجويز العمل بالظنّ ، لما تقدّم ذكره مرارا من أنّ الامتثال العلمي ولو إجمالا مع إمكانه وعدم نهوض ما دلّ من الشرع على نفي اعتباره ممّا لا يجوز في حكم العقل العدول عنه ، وفرض الضرورة بالنسبة إلى المتجزّي إنّما يتأتّى إذا اتّفق اجتهاده فيما لا يمكنه الأخذ بالحائط فيه من المسائل ، وثبوت جواز اعتماده على هذا الاجتهاد يكفي في نقض مقالة المانع لرجوع كلامه إلى دعوى السلب الكلّي كما لا يخفى.

الحجّة الثانية

عموم ما دلّ على المنع من التقليد ، خرج عنه العامي الصرف الغير المتمكّن من الاجتهاد بالإجماع وغيره فيبقى الباقي الّذي منه المتجزّي بالنسبة إلى ما اجتهد فيه تحت العموم ، فيتعيّن عليه العمل باجتهاده حينئذ إذ لا قائل بغيره.

وقد تقدّم منّا عند تأسيس الأصل ما يقضي بضعف ذلك ، من حيث إنّ نظير هذا الكلام يجري بالقياس إلى الأخذ بالاجتهاد لاندراجه في عموم ما دلّ على المنع من العمل بالظنّ ، ولذا عورض بما في كلام غير واحد من أنّ التقليد كما أنّه خلاف الأصل وينفيه عموم ما ذكر فكذلك العمل بالظنّ أيضا خلاف الأصل وينفيه عموم آيات الذمّ على العمل به ، والعمل بالاجتهاد عمل بالظنّ.

غاية الأمر خروج المجتهد المطلق بالدليل ويبقى تحته الباقي الّذي منه المتجزّي.

وقرّره بعض الفضلاء : « بأنّه كما يمكن التمسّك بتحريم التقليد على جواز العمل بالظنّ إذ لا قائل معه بغيره ، كذلك يمكن التمسّك بتحريم العمل بالظنّ على جواز التقليد إذ لا قائل أيضا معه بغيره فيسقط الاحتجاج حيث لا ترجيح » (١).

__________________

(١) الفصول : ٣٩٧.

١٩٥

وقد يقرّر المعارضة : بأنّ حرمة التقليد ليس لخصوصيّة فيه بل لأجل كونه عملا بما وراء العلم ، ودليل المنع منه عامّ يشمل العمل بالظنّ أيضا ، ومن الممتنع الفرق بين أمرين متساويين بالمنع من أحدهما دون الآخر بدليل عامّ لهما في الدلالة على المنع.

وبعبارة اخرى : تخصيص العامّ بإخراج بعض الأفراد عنه بسبب دخول البعض الآخر فيه مع تساويهما في الاندراج تحته غير معقول ، وهذا ضعيف جدّا.

وأضعف منه ما في كلام بعض الأفاضل في دفع الاحتجاج أيضا من : « أنّه ليس فيما دلّ على المنع من التقليد ما يشمل تقليد المجتهد مع كمال ثقته وأمانته ووفور علمه وكونه بحسب الحقيقة حاكيا لقول الإمام بحسب ظنّه.

غاية الأمر أنّه لا دليل على جواز اعتماد المتجزّي على ذلك ، فلا يمكن الحكم ببراءة ذمّته بمجرّد ذلك ، وحينئذ فالدليل على المنع منه هو الدليل على المنع من الأخذ بالظنّ ، فليس على المنع من التقليد دليل خاصّ يلزم الخروج عن مقتضاه لو قلنا بوجوب الرجوع إليه ، بخلاف ما لو قلنا برجوعه إلى الظنّ فلا يتمّ ما ذكر في الاحتجاج » (١).

وجه الضعف : بطلان دعوى عدم الدليل على حرمة التقليد لخصوصيّة فيه ، كيف وفي الآيات ما هو صريح فيه كقوله تعالى في ذمّ الكفّار على تقليد آبائهم : ( ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ) وقوله أيضا حكاية عنهم : ( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) كما في آية و ( مُهْتَدُونَ ) كما في اخرى.

والقدح في عمومها بحيث يشمل نظائر المقام ـ بعد القطع بأنّ الكفر وكون المقلّد بالفتح هو الآباء ممّا لا مدخل له في الحكم لكون الذمّ متوجّها إليهم من حيث اقتدائهم واهتدائهم وتطبيق عملهم في عباداتهم على ما لم يمضه الشارع ـ ليس في محلّه ، مع أنّ المنع من التقليد ليس لأمر يرجع إلى المقلّد بالفتح من مجتهد وغيره ليجدي في رفع شموله لتقليد المجتهد كمال ثقته وأمانته ووفور علمه ، بل لأمر قائم بأصل التقليد من حيث كون الأخذ به في امتثال أحكامه تعالى أخذا بما لم يحرز بالعقل كونه حكما واقعيّا ولا بالشرع كونه حكما فعليّا ظاهريّا.

ومن هنا يتّضح فساد ما في كلام بعض الأفاضل من دعوى كونه بحسب الحقيقة حاكيا لقول الإمام ، إذ لو اريد بقول الإمام ما هو ملزوم للحكم الواقعي فهو واضح المنع ، لعدم

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٦٤٤.

١٩٦

الملازمة بين محكيّه والحكم الواقعي عقلا ولا شرعا ، ولو اريد به ما هو ملزوم للحكم الفعلي الواجب اتّباعه فهو فرع دلالة الشرع على جواز الرجوع إليه وهو أوّل المسألة ، وحينئذ فيكفي في المنع منه قضاء العقل بقبح التعبّد في دين الله بغير علميّ الراجع بالأخرة إلى التعبّد بالشكّ كما هو واضح ولو فرض كون التقليد بالنسبة إلى المقلّد مفيدا للظنّ ، نظرا إلى أنّ الظنّ بعد بطلان التسلسل لابدّ من انتهائه إلى العلم أو الشكّ والأوّل مفروض العدم والثاني ممّا يقبح في حكم العقل التعبّد به وهذا كاف في دليل المنع منه لو سلّم عدم شمول عمومات الكتاب له في المقام ، كيف وقد عرفت أنّه لا مانع من شمولها.

وحينئذ نقول : إنّه لا إشكال في أنّ المتجزّي مخرج عن عموم الأدلّة الناهية عن العمل بما وراء العلم لا محالة ، سواء تعيّن عليه العمل بظنّه أو الأخذ بالتقليد ، وإنّما الإشكال في أنّه هل يكون معه مخرجا عمّا دلّ بعمومه على المنع من التقليد أو عمّا دلّ كذلك على المنع من العمل بالظنّ فلابدّ من الترجيح؟ والاحتجاج المذكور قاصر عن إفادته.

نعم بناء على ما عرفت منّا عند تأسيس الأصل ـ مضافا إلى ما تكرّر في تضاعيف كلماتنا المتقدّمة ـ كان الترجيح حاصلا للثاني ، بل لو قلنا بانحصار دليل المنع في الأدلّة المانعة من العمل بما وراء العلم لقلنا برجحان إخراج الظنّ عنها ، نظرا إلى أنّ الظنّ فرد ممّا وراء العلم كما أنّ التقليد أيضا فرد منه.

والأولى بملاحظة ما تقدّم ـ بعد الاضطرار إلى الأخذ بأحدهما في حقّ المتجزّي ـ تعيّن العمل بالظنّ ، لكن هذا ليس من إصلاح الحجّة المذكورة في شيء ، كما أنّه ليس من إصلاحها ما قيل في ترجيح الأخذ بالظنّ من : أنّ الحاصل في تقليد المجتهد جهتان من المنع نظرا إلى الاتّكال فيه إلى الظنّ وإلى الغير ، ففيه استناد إلى التقليد وإلى الظنّ بخلاف العمل بالظنّ.

نعم لو كان من يقلّده عالما بالحكم كان المانع هناك مجرّد التقليد ، فربّما يكافؤ ذلك رجوعه إلى الظنّ إلاّ أنّه لا يكون ذلك إلاّ في نادر من الأحكام ، ومرجعه إلى اختيار التخصيص في أحد العامّين عليه في كليهما ، نظرا إلى أنّ التقليد يوجب التخصيص تارة في أدلّة المنع منه واخرى في أدلّة المنع من العمل بالظنّ ، لأنّ الأخذ به يتضمّن الأخذ بظنّ المجتهد.

ونظير هذا الترجيح ما حكي عن الوافية في دفع المعارضة ـ وإن ضعف بما سنشير إليه ـ من أنّ المتجزّي لابدّ له من اتّباع ظنّ لا محالة إمّا الظنّ الحاصل من التقليد أو الظنّ

١٩٧

الحاصل من الاجتهاد ، فكيف يكون هو منهيّا عن اتّباع الظنّ على الإطلاق بخلاف التقليد.

وملخّصه : أنّ المتجزّي مخرج عن دليل المنع من اتّباع الظنّ لا محالة سواء أخذ بظنّه أو أخذ بالتقليد ، ضرورة أنّه لا بدّ من الرجوع إلى أحد أمرين وأيّا ما كان فهو اتّباع للظنّ ، وحينئذ فلو رجع إلى التقليد وأخذ بالظنّ الحاصل منه لزم تخصيص آخر بإخراجه عن دليل المنع من التقليد بالخصوص ، بخلاف ما لو رجع إلى ظنّه الحاصل باجتهاده ، إذ لا يلزم تخصيص آخر بعد إخراجه عن دليل المنع من اتّباع الظنّ ، وحاصله أنّ الأمر في حقّ المتجزّي دائر بين الاكتفاء بتخصيص دليل واحد أو التزم تخصيصين في دليلين.

وإن شئت فقل : بين الاكتفاء بتخصيص واحد أو التزام تخصيصين ، ومن البيّن أنّ الأوّل متعيّن.

وجه الضعف : منع كون مبنى التقليد على العمل بالظنّ الحاصل منه للمقلّد ، فرجوعه إليه لا يوجب التخصيص في أدلّة المنع من العمل بالظنّ.

نعم مرجعه إلى العمل بالظنّ الحاصل للمجتهد فهو بالنسبة إليه عمل بالظنّ بالواسطة بخلاف عمل المتجزّي بظنّه فإنّه عمل به بلا واسطة ، فترجيحه على التقليد حينئذ من جهة كون الظنّ المأخوذ به بلا واسطة أقرب إلى العلم أو الواقع من الظنّ المأخوذ به بواسطة ، وهذا الترجيح ونظيره إنّما يناسب لتأسيس أصل في المسألة لا لتتميم الحجّة المتقدّمة ، لعدم ابتنائه إلاّ على عدم قائل بغير اتّباع الظنّ بعد بطلان التقليد من غير تعرّض بالترجيح بنحو ما ذكر.

وبما بيّنّاه في توضيح عبارة الوافية يندفع ما أورد عليها السيّد في مفاتيحه من أنّه ضعف ذلك في غاية الوضوح ، إذ غاية ما يحصل للمتجزّي العلم بكونه مكلّفا بالعمل بغير العلم ، وأمّا أنّه التقليد أو الاجتهاد فغير معلوم له بعدم الدليل على التعيين ، فعلى هذا يجب عليه العمل بأحد الأمرين دون الآخر من دون علم بالتعيين ، فيكون محلّ الفرض من باب اشتباه الحرام بالحلال كالزوجة المشتبة بالأجنبيّة فيجب عليه حينئذ الاجتناب عن الأمرين معا ، ولو لم يكن له بدّ من الإقدام على أحدهما تخيّر ، فلا يتعيّن عليه العمل بالظنّ.

ووجه الاندفاع واضح ، نظرا إلى أولويّة تخصيص أحد العامّين من تخصيص كليهما.

ومن الأفاضل من أورد على الحجّة المذكورة مضافا إلى ما تقدّم منه : « بأنّ الملحوظ في المقام أنّ المتجزّي بعد تحصيل الظنّ بالحكم هل هو داخل في عنوان الجاهل أو العالم؟

١٩٨

فاندراجه فيما دلّ على المنع من التقليد غير ظاهر بل الظاهر خلافه ، لدلالة الأدلّة الدالّة على المنع من العمل بالظنّ على عدم الاعتداد بظنّه فيندرج في الجاهل ويشمله ما دلّ على وجوب رجوعه إلى العالم » انتهى (١).

وفيه : أنّ الجاهل إن اريد به الجاهل بالحكم الواقعي فكما أنّ المتجزّي داخل في عنوانه فكذلك المطلق ، فعلم أنّه بمجرّده لا يوجب الرجوع إلى التقليد ، وإن اريد به الجاهل بالحكم الفعلي فالمتجزّي عالم بحكمه الفعلي المردّد بين مؤدّى اجتهاد نفسه أو مؤدّى اجتهاد غيره.

غاية الأمر أنّه لا يتعيّن عليه أحدهما إلاّ بمرجّح خارجي ، فكيف يشمله ما دلّ على رجوعه إلى العالم.

الحجّة الثالثة

أنّ جواز التقليد في الأحكام مشروط بعدم كون المكلّف مجتهدا فيها ، ضرورة عدم جواز تقليد المجتهد لغيره ، وحينئذ فإن قام دليل على عدم جواز رجوعه إلى ظنّه وعدم تحقّق الاجتهاد في شأنه فلا كلام.

وأمّا مع عدم قيامه ـ كما هو الواقع ـ فلا وجه لرجوعه إلى التقليد ، إذ لو كان هناك أمران مرتّبان بكون التكليف بأحدهما متوقّفا على انتفاء الآخر لم يصحّ الأخذ بالثاني مع عدم قيام الدليل على انتفاء الأوّل.

وفيه : أنّ هذه الدعوى إن كان مبناها على ما قرّرناه عند تأسيس الأصل فهي في كمال المتانة ـ وإن كان خلوّ العبارة عن الإشارة إلى وجهها خروجا عن ضابط الاستدلال ـ وإلاّ فهي في غاية الوهن ، ولذا قد تقلب بأنّ صحّة اجتهاده في المسألة وجواز رجوعه إلى ظنّه مشروط بأن لا يكون وظيفته التقليد ، ضرورة أنّه ليس الرجوع إلى الأدلّة من وظيفة المقلّد إلى آخر ما ذكر ، فمجرّد اشتراط جواز تقليده مع انتفاء اجتهاده لا يفيد تقدّم الآخر بحسب التكليف على الوجه المذكور.

كيف ومن البيّن أنّ وجود كلّ من الضدّين يتوقّف على انتفاء الآخر ، ومع ذلك فلا ترتّب بينهما كذلك ، وإلاّ لزم حصوله من الجانبين وهو غير معقول ، بل في كلام العلاّمة البهبهاني : « أنّ فرض من لا يعلم الرجوع إلى من يعلم والأخذ منه لعموم ما دلّ عليه ، وأنّه

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٦٤٥.

١٩٩

مسلّم عند الكلّ فإنّهم يستدلّون لجواز اجتهاده ولا يستدلّون لجواز تقليده ، وظاهرهم أنّ مع عدم ثبوت الاجتهاد يعيّنون العمل بالتقليد » انتهى.

الحجّة الرابعة

أنّ الأدلّة الدالّة على حجّية الظنون الخاصّة والطرق المقرّرة [ تعمّ المطلق والمتجزّي ] من الكتاب والسنّة الدالّة على الأخذ بالأخبار المأثورة عن الأئمّة عليهم‌السلام بتوسّط من يعتمد عليه من النقلة وغيرها تعمّ المطلق والمتجزّي ، ولا دليل على اختصاصها بالمطلق بل الظاهر منها كون الأخذ بها وظيفة لكلّ قادر على استنباط الحكم منها ، هكذا قرّره بعض الأفاضل (١).

ومن الفضلاء (٢) من فصّل فذكر من الكتاب قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ) فإنّ الإنذار يعمّ الإنذار بطريق الفتوى والرواية ، ورجحان الحذر أو وجوبه في حقّ القوم المنذرين يوجب جواز عملهم بفتواهم وروايتهم ، خرج منهم المجتهد المطلق بالنسبة إلى العمل بالفتوى والعامي الصرف بالنظر إلى العمل بالرواية ولو في الجملة للإجماع فيبقى المتجزّي مندرجا في العموم فيجوز له العمل برواية المنذرين ، وهو إنّما يكون بالاجتهاد.

وقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) فإنّه يدلّ بمفهومه على عدم وجوب التبيّن عند مجيء العادل به ، ومقتضاه وجوب قبول نباءه والخطاب فيه غير مختصّ بالمجتهد المطلق فيتناول المتجزّي أيضا.

غاية ما في الباب أن يخرج العامي الصرف لقيام الإجماع على تعيين التقليد في حقّه فيبقى الباقي.

ومن السنّة قول الصادق عليه‌السلام : « أنّ العلماء ورثة الأنبياء ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ : إنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّا وافرا » وقوله عليه‌السلام : « أحاديثنا يعطف بعضكم على بعض ، فإنّ أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها إنّا بنجاتكم زعيم » وقوله عليه‌السلام : « الرواية لحديثنا يثبّت بها قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد » (٣) وقوله عليه‌السلام : « اعرفوا منازل الرجال على قدر روايتهم عنّا » وقريب من ذلك ما دلّ على الحثّ على حفظ أربعين حديثا ممّا ينتفع به الناس ، وقال : بهذه الأخبار تمسّك بعض أفاضل المتأخّرين ، ووجّه الاحتجاج بها أنّها تدلّ بالصراحة أو الفحوى على

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٦٤٥.

(٢) الفصول : ٣٩٦.

(٣) الكافي ١ : ٣٣ ح ٩ ، وفيه بدل « يثبّت بها » « يشدّ به ».

٢٠٠