تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

بأن يكون عالما بمواقعها ويتمكّن عند الحاجة من الرجوع إليها ولو كتب الاستدلال *. ومن السنّة الأحاديث المتعلّقة بالأحكام **

__________________

الأحكام ، مع الاكتفاء في الثلث بالإشعار أو تعميمه بحيث يشمل البطون.

ولا ريب أنّ الأوّل أكثر من الثاني ، فإنّ الآية الواحدة ربّما دلّت على أحكام كثيرة.

وقد ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره : أنّ سورة البقرة وحدها اشتملت على خمسمائة حكم ، وآية الشهادة منها خمسة عشر حكما ، وقد زاد المتأخّرون على ذلك كثيرا ولا يزال يزداد بتلاحق الأفكار وتعاقب الأنظار » انتهى.

* إشارة إلى ما نصّ عليه جمع من الأساطين ونفي عنه الخلاف ـ كما في مفاتيح السيّد ـ من أنّه لا يشترط في معرفة الآيات المتعلّقة بالأحكام حفظها عن ظهر القلب ، بل الواجب هو معرفة دلالتها ومواضعها بحيث يكون قادرا على الرجوع إليها واستنباط الأحكام منها ، لكن يعتبر مع ذلك معرفة ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، ومجملها ومبيّنها ، وعامّها وخاصّها ، ومطلقها ومقيّدها ، وحقيقتها ومجازها ، ومنطوقها ومفهومها كما نصّ عليه غير واحد ، والوجه في الجميع واضح ، بل يعتبر مع ذلك ـ على ما في نهاية العلاّمة وتهذيبه وشرحه للسيّد وغيرها ـ أن يعرف من حال المخاطب أنّه يعني باللفظ ما يقتضيه ظاهره إن تجرّد أو ما يقتضيه مع القرينة إن وجدت ، لأنّه لو لا ذلك لما حصل الوثوق بخطابه لجواز أن يعني به غير ظاهره أو غير ما يقتضيه مع القرينة ولم ينبّه عليه في وقت الحاجة ، وإنّما يحصل ذلك بحكمة المتكلّم وعصمته ، والحكم بكونه تعالى حكيما على اصول المعتزلة مبنيّ على العلم بأنّه تعالى عالم بقبح القبيح وبأنّه غنيّ عنه ليمتنع صدوره عنه.

وأمّا على قواعد الأشاعرة ففي النهاية : أنّهم اعتذروا بأنّه جائز الوقوع عقلا لكنّه قد علم عدم وقوعه كانقلاب ماء البحر دما ، حيث إنّه جائز عقلا وغير واقع خارجا ، فكذا هنا يجوز من الله كلّ شيء لكنّه خلق فينا علما بديهيّا بأنّه لا يعني بهذه الألفاظ إلاّ ظواهرها.

قال في النهاية : وليس بجيّد ، لتعذّر العلم مع حصول تجويز النقيض.

وفيه نظر ، إذ لا منافاة بين القضيّتين ، وهذا كما يقال في المجاز بلا حقيقة من : أنّه جائز عقلا ولكنّه غير واقع في الخارج فعلا.

** كما أنّ معرفة الكتاب على الوجه المتقدّم من شروط الاجتهاد كذلك من شروطه

٢٢١

بأن يكون عنده من الاصول المصحّحة ما يجمعها ، ويعرف موقع كلّ باب بحيث يتمكّن من الرجوع إليها * وأن يعلم أحوال الرواة في الجرح والتعديل ولو بالمراجعة ** وأن يعرف مواقع الإجماع ليحترز عن مخالفته.

__________________

أيضا معرفة السنّة ، لكن لا جميعها حتّى ما كان منها متعلّقا بالاصول والمواعظ والآداب وأحوال المعاد والمعاش وأحوال القرون السابقة والامم السالفة وغيرها ممّا لا تعلّق له بفروع الأحكام ، بل القدر الكافي في استنباط الأحكام الفرعيّة ، لكن يعتبر مع ذلك معرفة ما تقدّم في بيان الحاجة إلى الكتاب من الناسخ والمنسوخ وغيرهما من الأنواع المذكورة.

وفي كلام غير واحد مع ذلك اعتبار معرفة أنواع الحديث من المتواتر والآحاد والصحيح والضعيف والمسند والمرسل وغيرها من الأنواع الّتي يختلف أحكامها من حيث الاعتبار والترجيح ، وكأنّ المراد بمعرفة هذه الأنواع معرفتها باعتبار المفهوم وحينئذ فلا يخلو عن وجه.

وأمّا معرفة مصاديقها فالظاهر أنّها من فروع معرفة الرجال الّتي هي شرط آخر من شروط الاجتهاد.

ولك أن تقول : بأنّ معرفتها باعتبار المفهوم أيضا من توابع معرفة اصول الفقه لجريان العادة بالتعرّض لبيانها في طيّ مسائله.

* يعني لا يعتبر في معرفة القدر الكافي من السنّة حفظها عن قلبه ، بل يكفي فيه وجود أصل مصحّح عنده يرجع إليه عند الحاجة.

** صرّح به في النهاية والتهذيب ، وعن المبادئ وشرحه والقواعد والدروس والكشف والزبدة وشرحها والوافية والفوائد وفي رسالة الاجتهاد والأخبار ، بل التتبّع في كتب الاستدلال والكتب المؤلّفة في الرجال يقضي بأنّ الحاجة إليه ممّا لا خلاف فيه بين قدماء الأصحاب ومتأخّريهم من لدن فتح باب الاجتهاد إلى هذه الأعصار ، إلاّ من الفرقة الشاذّة الأخباريّة لشبهة قطعيّة الأخبار الموجودة بأيدينا أو خصوص المودعة في الكتب الأربعة.

ووجه الحاجة إليه ـ مع وضوحه ـ : إنّ العمل بالأخبار الّتي هي العمدة في طرق استنباط الأحكام ـ بل لا يكاد يتّفق مسألة إلاّ ولها أصل من السنّة عموما أو خصوصا بحيث لو لا التعويل عليه لم يتأتّ الغرض الأصلي من النظر فيها ـ.

إمّا (١) من جهة الأدلّة الخاصّة المرخّصة في الاستناد إليه من الإجماع والنصوص المستفيضة

__________________

(١) خبر لقوله : « إنّ العمل بالأخبار » الخ.

٢٢٢

القريبة من التواتر ، بل المتواترة معنى في الحقيقة حسبما تقدّم إلى شطر منها الإشارة ، أو من جهة عموم ما دلّ على حجّية ظنّ المجتهد حال انسداد باب العلم المستند إلى الكتاب والسنّة وما يرجع إليها حسبما سبق تفصيله مستوفى ، وأيّا ما كان فلا مناص من معرفة أحوال الرواة.

أمّا على الأوّل : فلما عرفت من أنّ القدر المعلوم من الأدلّة الخاصّة انحصار الحجّة بعد الكتاب في السنّة المعلومة أو الموثوق بها ، والأوّل في غاية الندرة ، والوثوق في الثاني لا يتأتّى إلاّ بعد معرفة أحوال الرواة الّتي لها مدخل في حصول الوثوق والاطمئنان بالصدق والصدور ممّا يتعرّض لها علماء الرجال وغيرها ممّا يستحصل بممارسة كتب الاستدلال.

وأمّا على الثاني : فلما قرّرناه آنفا من أنّ الظنّ بالحكم ولا سيّما الاطمئناني منه لابدّ وأن يكون عن سبب بينه وبين المظنون ملازمة ، وملزوم حكم الله ـ بحكم الاصول الكلاميّة والأدلّة القطعيّة مع ملاحظة ما سبق في دفع شبه الأخباريّة ـ منحصر في كلامه تعالى وسنّة امنائه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه ، وهذه الملازمة بنفسها وإن كانت قطعيّة لقطعيّة أدلّتها ، غير أنّها لا تكفي في قطعيّة الحكم إلاّ مع القطع بملزومها.

وقد تقرّر سابقا أنّ القطع في الغالب مسدود بابه ، فظنّيّة الحكم على ما هو الغالب إنّما تنشأ من ظنّية الملزوم إذا كان من قبيل السنّة كما هو الغالب ، ولا ريب أنّ الظنّ بالنسبة إليها ممّا لا يتأتّى عادة إلاّ بمعرفة أحوال نقلتها ولو ظنّا ، ولو اعتبرنا في الحكم كونه مظنونا في مرتبة الوثوق والاطمئنان ـ كما هو الأقوى ـ كان الوثوق به منوطا بالوثوق بملزوم الحكم ، فمن جهته يتأكّد الحاجة إلى المعرفة المذكورة ، وآكد منها الحاجة إليها أيضا في مقام علاج التعارض الحاصل فيما بين الأخبار على ما هو الغالب ، لكون العمدة من طريقه البناء على التخيير أو الطرح أو الوقف والرجوع إلى الأصل فهو فرع التعادل ، أو على الترجيح فهو فرع وجود المرجّح في أحد الجانبين سليما عن المعارض الموجود في الجانب الآخر ، ولاريب أنّ التعادل ووجود المرجّح لا يظهران إلاّ بمراجعة الرجال ، سواء قلنا بقصر الحكم في الترجيح على ما ورد من المرجّحات في النصوص ، أو بتعميمه بالقياس إلى كلّ ما أوجب الوثوق بأحد المتعارضين كما هو الأظهر.

أمّا على الأوّل : فواضح.

وأمّا على الثاني : فأوضح ، إذ بالمعرفة المذكورة يحصل من الوثوق والاطمئنان

٢٢٣

ما لا يحصل بدونه ومع عدمه يبقى متحيّرا في جلّ المسائل.

وقد يستدلّ على ذلك أيضا بوجوه اخر :

أحدها : الأصل ، الّذي يقرّر : بأنّ العمل بأخبار الآحاد لازم ـ ولو لكونها من أسباب الظنّ بل أقواها ـ للأدلّة المقامة عليه في محلّه.

والمفروض أنّ جواز العمل بها واستنباط الحكم منها بعد مراجعة الرجال وتعيين المعتبر من الأخبار بذلك في الجملة ممّا لا خلاف فيه ، بل الإجماع من الجميع واقع عليه حتّى من الأخباريّة ، لكون خلافهم في لزوم هذه المراجعة لا جوازها ، وأمّا جواز العمل بها بدون المراجعة فمحلّ إشكال وموضع خلاف ، ومقتضى الأصل عدم الجواز بمعنى عدم الاعتبار لوضوح أنّه على خلاف الأصل.

وثانيها : أنّ الآحاد لا تفيد مطلقا أو غالبا إلاّ الظنّ ، وقد وقع النهي عن العمل به في الكتاب والسنّة بل عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء ، والثابت في الخروج عن عموم النهي بالنسبة إلى الآحاد إنّما هو بعد الرجوع إلى الرجال في الجملة وأمّا قبله فلا.

ودعوى قطعيّة الصدور والاعتبار معا أو الأخير فقط يأتي ما فيها من الفساد.

وثالثها : أنّ مصير عامّة المجتهدين إلى الافتقار إلى علم الرجال ولو في الجملة مع ملاحظة ما يزيّف طريقة الأخباريّين ويضعّف مقالة المفصّلين إن لم يفد القطع بذلك فلا أقلّ من إفادته الظنّ ، ومع التنزّل فلا أقلّ من إفادته الشكّ والترديد ، ولا ريب أنّ الإقدام على العمل في هذه الحالة من غير مراجعة الرجال قبيح مذموم عقلا ونقلا.

وهذه الوجوه الثلاث كما ترى إنّما تستقيم في إثبات أصل الافتقار ولو لمقام الاعتبار ، وأمّا بالقياس إلى توقّف الاجتهاد بالمعنى الملحوظ في شروط الوجود كما هو محلّ البحث فلا ، لما سبق الإشارة إليه.

ورابعها : أنّ من المعلوم الوارد على طبقه أخبار مستفيضة وجود أخبار كاذبة وأحاديث موضوعة فيما بين رواياتنا الموجودة بأيدينا ، وإخراجها عمّا بينها حسبما يدّعيه الأخباريّة غير معلوم ، وادّعاؤه من دون قاطع يوجب القطع به غير مسموع ، فالعمل بالجميع من غير تميّز الكاذب عن الصادق والموضوع عن الصادر بالقدر المقدور قبيح ، بل منهيّ عنه بتلك الأخبار المشار إليها بقوله عليه‌السلام : « فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا » وقوله عليه‌السلام في آخر : « فلا تقبلوا علينا ما خالف القرآن » وإلى هذا المعنى يرجع ما في بعض

٢٢٤

تلك الأخبار من قوله عليه‌السلام : « فيسقط صدقنا بكذبه » بناء على أنّ معناه سقوطه عن درجة الاعتبار بسبب ما طرأه من الاشتباه بما وضعه الكذّاب ، بل هذه الرواية بنفسها دالّة على عدم جواز العمل إلاّ بعد التمييز الّذي لا يتأتّى إلاّ بمراجعة الرجال.

ومن هنا أورد المحقّق في المعتبر ـ على ما حكي ـ على الحشويّة القائلة بجواز العمل بكلّ خبر ، بقوله : « أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد حتّى انقادوا لكلّ خبر ، وما فطنوا إلى ما تحته من التناقض ، فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ستكثر بعدي القالة عليّ » (١) يعني أنّ العمل بما مرّ من الأخبار مع غيرها مطلقا موجبا للتناقض ، لوضوح أنّ العمل بغيرها إنّما يتمّ مع الإعراض عن هذه الأخبار وإلاّ فهي ناهية عن العمل.

وخامسها : الأخبار العلاجيّة المشتملة على الرجوع عند التعارض إلى الأعدل والأورع والأفقه ، وهذه الصفات لا يعلم ثبوتها في الرواة إلاّ بملاحظة الرجال لفقد المعاشرة معهم وانتفاء الشهادة اللفظيّة عليها فيهم ، فانحصر في الكتبيّة الموجودة في كتب الرجال وإن لم نقل بكونها من باب الشهادة الشرعيّة.

وكون الترجيح بالشهرة وموافقة القرآن ونحوهما ممّا لا مدخل للرجال فيه لا يغني عن الترجيح بما ذكر من الامور المذكورة ، وإلاّ لما أمر بالجميع كيف وهي أحد أسباب الترجيح.

وسادسها : أنّ سيرة العلماء قديما وحديثا على تدوين كتب الرجال وتنقيحها وتحصيلها بالاشتراء والاستكتاب ، وعلى مطالعتها والرجوع إليها في معرفة أحوال الرواة والعمل بها في الاعتداد برجال والطعن في آخرين والتوقّف في طائفة ثالثة ، حتّى أنّ كثيرا منهم كانت له مهارة في هذا العلم كالصدوق والمفيد والطوسي وغيرهم من مشائخ الحديث ، بل ربّما أمكن أن يقال : اهتمام المتقدّمين فيه كان أزيد من المتأخّرين ، وأيّ عاقل يرضى بكون ذلك كلّه لغوا مكروها أو حراما؟ فليس إلاّ للافتقار إليه.

وسابعها : إنّ سيرة الرواة والمحدّثين إلى زمن تأليف الكتب الأربعة بل إلى تأليف الثلاثة المتأخّرة الوافي والوسائل والبحار على الالتزام بذكر جميع رجال جميع الأسانيد ، حتّى أنّ أحدا لو أسقطهم أو بعضهم في مقام أشار إليهم في مقام آخر ـ ما في الفقيه والتهذيبين ـ مع التصريح بأنّه للتحرّز عن لزوم الإرسال والقطع والرفع المنافية للاعتبار.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٩.

٢٢٥

ومن المعلوم أنّ ذلك كلّه لأن يعرفهم الراجع إلى كتبهم ويجتهد في أحوالهم على حسب مقدوره ، فيميّز الموثوق الجائز أخذ الرواية عنه عن غيره ، وإلاّ لزم اللغويّة فيعلم الافتقار.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ العبرة في هذا الشرط حسبما يستفاد من الوجوه المذكورة إنّما هي بمجرّد المعرفة الموجبة للوثوق بأيّ طريق حصلت ولو لغير مراجعة الكتب المؤلّفة في هذه الصناعة ، بل لغير جهة وثاقة الراوي أو الواسطة.

وبالجملة المعتبر تحصيل ما يوجب الوثوق بصدق الرواية وصدورها ، سواء كان ذلك لأجل وثاقة الراوي بل وصحّة السند أو غيرهما ، حصل ذلك الأمر بمراجعة كتب الرجال أو غيرها من الأسباب الّتي تعرف بعضها وإن كان الغالب هو الأوّل.

وما ذكرناه هو المصرّح به في كلام بعض الأعلام ، بل المعهود من سيرة فقهائنا العظام ، لشيوع ما نشاهدهم أنّهم كثيرا مّا يعتمدون على خبر اعتمد عليه الحلّي وأضرابه المانعون للتعبّد بخبر الواحد العاري عن قرائن الصدق وإن جهل رجاله أو ضعف سنده ، ومنه ما في كلام غير واحد من الاعتماد على رواية صحّحها العلاّمة أو غيره وفي طريقها رجل مجهول لم يذكر في الرجال بمدح ولا قدح بناء على أنّه يفيد توثيقا له أو وثوقا بها ، كما اتّفق ذلك في محمّد بن عليّ ماجيلويه المجهول حيث إنّ العلاّمة صرّح بصحّة طريق الصدوق إلى إسماعيل بن رياح وهو فيه (١).

ونحوهما أيضا ما اتّفق للمصنّف ـ على ما حكي ـ في محمّد بن إسماعيل النيسابوري من اعتماده على روايته مع أنّ المعروف من مذهبه في العمل بأخبار الآحاد اشتراطه بتزكية عدلين وعدم اكتفائه بتزكية عدل واحد ، ومن هنا جاء الفرق بين مذهبه ومذهب المشهور في صحيح الحديث وجرت عادته بإعلام الصحيح عند المشهور. بـ « صحر » والصحيح عنده بـ « ص » عن الهاء مجرّدا (٢).

وعن تلامذته أنّهم لتوهّم المنافاة بين مذهبه وما ذكر في النيسابوري الّذي لم يوثّقه إلاّ عدل واحد والّذي وثّقه عدلان هو ابن بزيع فأخذوا بالاعتراض عليه وسألوه عن ذلك ، فجاوبهم : بأنّي موثّق له.

وهذا منه كما ترى ليس إلاّ من جهة أنّه حصل عنده من الخارج قرائن قضت بوثاقة

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٤٣٨ ، الفائدة الثامنة من الخاتمة.

(٢) وهذا سهو منه ١ لأنّ الرمز إلى الصحيح عنده هو « صحى ». راجع المنتقى ١ : ٢٢.

٢٢٦

هذا الرجل لغير جهة ما ثبت في حقّه من توثيق الواحد.

ونحوه أيضا ما عليه المعظم من جبر الخبر الضعيف بالإرسال أو جهالة الراوي أو فسقه أو غيرها من الأسباب المضعّفة بالشهرة وعمل معظم الطائفة ، فإنّ ذلك ينهض قرينة على الصدق مورثة للوثوق بالصدور كما هو الأقوى.

ونحوه أيضا ما عن الحلّي من مصيره في مسألة المواسعة والمضائقة إلى المضائقة القاضية بتقديم الفائتة على الحاضرة استنادا إلى أخبارها الّتي هي أخبار آحاد ، تعويلا على إجماع القمّيين على العمل بها حيث لم يتعرّضوا في كتبهم إلاّ لذكرها من غير تعرّض لمعارضاتها من أخبار المواسعة ، وليس ذلك منه إلاّ من جهة أنّ إجماعهم المذكور ينهض أمارة لاعتبار تلك الأخبار كاشفة عن صدقها ، وإن كان قد يستشكل ذلك ـ بناء على مذهبه المتقدّم ذكره ـ نظرا إلى أنّ العمل بالخبر أعمّ من العلم بصدقه ، إذ قد يكون العمل لمجرّد التعبّد الشرعي الثابت عند من يقول به بدليله ، ولذا حكي عن بعض المتأخّرين اعتراضه عليه : « بأنّ هذا منه ينافي مذهبه في أخبار الآحاد ، فإنّ الاعتماد على إجماع القميّين على أخبار المضايقة يوجب الاعتماد على إجماعهم في جواز العمل بأخبار الآحاد لأنّه إجماع نشأ عن هذا الإجماع ».

ثمّ عرفت أنّه لا مخالف في المسألة إلاّ الفرقة الأخباريّة لدعواهم القطع بالصدور في كتب الأخبار المتداولة بين أصحابنا أو خصوص الأربعة المعروفة ونسب ذلك إلى أكثرهم ، وعن بعضهم أنّه راعى الإنصاف وتحرّز عن هذا الجزاف فبنى على اعتبار جميع ما في الكتب الأربعة لشهادة مصنّفيها الثقات بذلك ، فأخبارها وإن لم تكن قطعيّة الصدور إلاّ أنّها قطعيّة الاعتبار.

وقد يحكى قول آخر عن الأخباريّة ـ كما في حكاية أو مطلقا كما في اخرى ـ وهو التفصيل بين صورة التعارض وغيرها ، فاقتصروا في نفي الحاجة إلى الرجال على الثاني.

وقد يحتمل قول آخر وهو التفصيل بين صورة وجود الشهرة محقّقة أو محكيّة في خصوص بعض الأخبار المفيد لبعض الأقوال أو اختصاص الراجح منها بجانب وبين غيرها ، فيقتصر في الحاجة إلى الرجال على الأخير.

ولك أن تلحق القول بجواز الاكتفاء بتصحيح الغير مطلقا ـ كما عزى إلى أكثر العلماء في كتبهم الفقهيّة وغيرها ـ بمقالة المنكرين للحاجة إلى الرجال.

٢٢٧

وللأخباريّة النافية للحاجة مطلقا شبهات كثيرة ممّا ذكروها أو يمكن أن يذكروها.

منها : إنّ علم الرجال علم منكر يجب التحرّز عنه لما فيه من تفضيح الناس وقد نهينا عن التجسّس عن معائبهم وامرنا بالغضّ والستر.

واجيب تارة : بالنقض بجرح الشهود وتعديلهم عند الحاكم والغيبة عند المشاورة المستثناة عن عموم التحريم.

واخرى : بمنع شمول الأدلّة الناهية عن التجسّس الآمرة بغضّ البصر وستر العيوب.

وثالثة : بما قرّر في محلّه من سقوط حرمة المقدّمة المنحصرة إذا توقّف عليها واجب أهمّ كإنقاذ الغريق مثلا عند كونه أجنبيّة ، أو توقّفه على غصب في الطريق أو الآلة أو غيرهما.

ورابعة : بانعقاد الإجماع والسيرة حتّى من الأخباريّة على الجواز في المقام ، إذ الكلام إنّما هو في وجوب معرفة الرجال ـ للافتقار إليه ـ وعدمه لا في أصل جوازه ، وهذا هو المعتمد فإنّ الإجماع على الجواز وكون ما ذكر كجرح الشهود وتعديلهم منقوله واقع في كلام بعض أساطين متأخّري الطائفة ، ومحصّله قائم كما يظهر للمتتبّع في سيرة العلماء كافّة قديما وحديثا خلفا عن سلف من الخاصّة والعامّة ، ويشهد به ملاحظة عملهم ووضعهم في ذلك فهارس ورسائل ومصنّفات متداولة بين قاطبتهم تداول سائر الكتب المعمولة في سائر الفنون المعهودة من غير نكير من المؤالف والمخالف ، حتّى أنّه كان متعارفا بين أصحاب الأئمّة وخواصّ الشيعة المعاصرين لهم عليهم‌السلام مع اطّلاعهم عليه وتقريرهم أصحابهم على ما هم عليه من ذكر الرجال وجرحهم تارة وتعديلهم اخرى وتأمّلهم في ثالث ، بل لو تتبّعت الروايات لوجدت فيها ما يشهد بكون عمل الأئمّة أيضا على ذلك ، ولذا ورد فيها مدح جملة من الرواة أو توثيقه في بعضها وذمّ جملة اخرى أو جرحه في بعضها ، فأصحابنا رضوان الله عليهم من لدن أعصار الأئمّة عليهم‌السلام كانوا لا يزالون يشدّدون الاهتمام في ضبط أحوال الرجال وأوصافهم ومدائحهم وذمومهم ، حتّى أنّهم كانوا يتعرّضون لضبط الأنساب والألقاب مثل كونه عربيّا صحيحا أو مولى ، وكونه كوفيّا أو قميّا أو نحو ذلك ليفيد في مقام تعارض الروايتين إحداهما ممّن لا نجابة له بحسب نسبه والاخرى ممّن له نجابة ليترجّح الثانية على الاولى ، أو إحداهما من العربي الصحيح والاخرى من المولى ليترجّح الثانية على الاولى من حيث إنّ العرب كان فيهم الحسد والحميّة والعصبيّة ، ولذا ترى أنّ أجلاّء الرواة بل أكثر رؤساء الدين بين المسلمين كانوا من الموالين لمكان الوثوق بهم وخلوّهم

٢٢٨

عن الريب وتنزّههم عن العيب.

وبالجملة كون بناء قاطبة العلماء بل كافّة الرؤساء على ذلك وعلى ضبط دقائق أحوال الرجال وخفايا عيوبهم وذمومهم ومناقبهم وعقائدهم من السلامة والفساد وأعماله من الشناعة والصحّة ممّا لا يكاد يخفى على جاهل فضلا عن العالم الكامل ، بل هو عند التحقيق يعدّ من ضروريّات أهل الحلّ والعقد من أهل الحقّ والباطل وإن لم يبلغ حدّ الضرورة عند كافّة الناس ، من حيث إنّه لا رجوع إلى مورده إلاّ لأهل العلم بل فقهائهم ، فيكون كاشفا عن رضا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام الكاشف عن رضا الله سبحانه كشفا جزميّا بتّيا بحيث لا سبيل إلى إنكاره ولا مجال للاسترابة فيه ، بل الجواز في هذا المقام آكد منه في مقام الشهادة والحكومة من حيث إنّ جرح الشهود ممّا لا يجوز أن يتبرّع به كنفس الشهادة الّتي لا يصحّ التبرّع بها وإنّما يجوز متى ما طلبه صاحب الحقّ ، بخلاف مقام الرواية فإنّ الجرح والتعديل فيها ممّا يستحبّ التبرّع به في كلّ مقام بل قد يجب كما لا يخفى.

ومنها : أنّ بعض أهل هذا العلم الّذي قد بنوا على أقوالهم في الجرح والتعديل كانوا فاسدي العقيدة وإن لم يكونوا فسّاقا بالجوارح ، مثل ابن عقدة وكان جاروديّا مات عليه بنصّ النجاشي والشيخ (١) وكان زيديّا ، ومثل عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال وكان فطحيّا بتصريح الشيخ والنجاشي (٢) وصرّح في الخلاصة (٣) بفساد مذهبه ، ومع ذلك كلّه قال في التعليقة في بيان حاله : « أنّ الطائفة عملت بما رواه بنو فضّال وكثيرا مّا يعتمدون على قوله في الرجال ويستندون إليه في معرفة حالهم من الجرح والتعديل ، بل غير خفيّ أنّه أعرف بهم من غيره بل من جميع علماء الرجال ، فإنّك إذا تتبّعت وجدت المشايخ في الأكثر بل كاد أن يكون الكلّ يستندون إلى قوله ويعتمدون عليه » (٤).

وجوابه أوّلا : النقض باتّفاقهم على الرجوع إلى الكتب العربيّة الثلاث المتقدّمة وأخذ المطالب اللغويّة منهم مع أنّهم في الغالب من المخالفين وفاسدي المذهب بل الفاسقين بجوارحهم على ما قيل في حقّ بعضهم.

وثانيا : النقض بعمل الطائفة حتّى الأخباريّة برواية المتحرّزين عن الكذب من المخالفين

__________________

(١) رجال النجاشي : ٩٤ رقم ٢٣٣ ـ الفهرست ـ للشيخ الطوسي ـ : ٦٨ ، رقم ٨٦.

(٢) راجع رجال النجاشي : ٢٥٧ رقم ٦٧٦ ـ الفهرست ـ للشيخ الطوسي : ٢٧٢ ، رقم ٣٩١.

(٣) الخلاصة : ٩٣ / ١٥.

(٤) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٢٢٩.

٢٢٩

وغيرهم من فاسدي العقيدة لمجرّد الوثوق والاعتضاد بقرائن الثبوت ، ويرشدك إلى ذلك ما تكثر عن الشيخ والمحقّق وغيرهما في حقّ جملة من دعوى عمل الطائفة بتلك الرواية.

وثالثا : إنّ الأخذ بجرح علماء الرجال وتعديلاتهم إنّما هو من باب الأخذ بأمارات الظنّ والوثوق ، فالعبرة في كلّ منهما بهما لا لمجرّد التعبّد فلا يضرّ حينئذ فساد عقيدة الجارح أو العدل بل ولا كونه فاسقا بجوارحه ، فالمتّبع هو الظنّ والوثوق لمكان تعذّر العلم بانسداد بابه وإن حصلا من قول من لا يعتمد على قوله شرعا في غير هذا المقام.

ومنها : ثبوت الخلاف في معنى العدالة ومعنى الكبيرة وعددها قلّة وكثرة ، وفي قبول الشهادة على أحدهما من غير ذكر السبب ، فلا يمكن الاعتماد على تعديل المعدّلين ولا جرح الجارحين إلاّ بعد معرفة موافقة مذهبهم في العدالة وأسباب الجرح لمذهب المجتهد العامل على مقتضى جرحهم وتعديلهم ، خصوصا مع ابتناء تعديل بعضهم على تعديل من تقدّم عليهم مع جهالة الحال بالنسبة إلى الموافقة والمخالفة ، بل مختار الشيخ في العدالة أنّها ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق وكثير من التعديلات منه ، بل على ظاهر دعوى الشيخ أنّه المشهور فيكون مذهب من عداه أيضا كذلك ، والمتأخّرون لا يكتفون بذلك فكيف يعتمدون على تعديله بل تعديل غيره.

وجوابه أوّلا : منع الخلاف في معنى العدالة وإن اشتهر ، بل هي عند الكلّ حتّى الشيخ وتابعيه عبارة عن الملكة وهي الحالة النفسانيّة الرادعة عن ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر ، وما يذكر في كلام الشيخ وتابعيه من ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق وفي كلام آخرين من حسن الظاهر فإنّما يعتبر عندهم طريقا إلى معرفة الملكة وأمارة على إحراز وجودها في المتّصف بها لا لأنّهما بأنفسهما العدالة.

وتحقيق المسألة يطلب من رسالتنا المعمولة في العدالة (١).

وثانيا : بعد ما كان البناء في الرجوع إلى كلمات علماء الرجال على تحصيل الظنّ والوثوق بالعدالة ومقابلها أو صدق الرواية وكذبها فلا يضرّ الخلاف المذكور ، ولا حاجة في شيء من الجرح والتعديل إلى إحراز الموافقة في المذهب ، كما لا يقدح العلم بالمخالفة أيضا ، على أنّ المعدّل لا يخبر بعدالة الراوي إلاّ لأن يعتمد على قوله غيره ممّن لا يعرفه بهذه الصفة ، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا كان العدالة المخبر بها مرادا بها ما هو ملزوم للصدق ، للقطع

__________________

(١) رسالة في العدالة ، من منشورات جماعة المدرسين بقم المشرّفة سنة ١٤١٤.

٢٣٠

الضروري لكلّ أحد بأنّ بغيره لا يحصل ظنّ الصدق ووثوق الصدور ، وهذا الغرض حاصل في تعديلاتهم جدّا سواء سمّي المخبر به ملكة أو حسن الظاهر أو غيره.

ومنها : أنّ الصحّة عند المتأخّرين لابدّ فيها من العدالة والضبط والإماميّة في جميع سلسلة السند ، وقلّما يتعرّض في الرجال لجميع ما ذكر ، بل نراهم يكتفون فيها بقولهم : « فلان ثقة » أو « من وجوه أصحابنا » أو « كبارهم » ونحو ذلك ، ولا دلالة في شيء من ذلك على جميع الامور المذكورة حتّى لفظ « الثقة » ، فإنّ غاية مفادها العدالة وأمّا الضبط ولا سيما الإماميّة فلا ، خصوصا إذا كان ذلك في كلام غير إمامي كابن عقدة وغيره ممّن تقدّم ، وخصوصا إذا وقع في كلام الإمامي جرحه ، وأيضا كثيرا مّا يقال في حقّه ـ بعد إطلاق « الثقة » عليه ـ : إنّه فطحيّ أو واقفيّ أو غير ذلك ، وهذا ينافي كون مفاد هذا اللفظ ما ذكر من المفهوم المركّب.

وفيه : أنّه بمكان من السقوط لا حاجة له إلى التنبيه والبيان ، إذ قد يعلم بإرادة ما جامع الصفات الثلاث بنصّ من قائله ، كما لو كان القائل المحقّق المجلسي رحمه‌الله لما حكي عنه في الوجيزة من أنّه صرّح بما مضمونه : « أنّي كلّما اورد بعد ذكر الرجل لفظ « الثقة » فإنّما أردت به العدل الإمامي الضابط ، وكلّما ذكرت حرف « القاف » فقد أردت منه العدل الضابط الغير الإمامي » وقد يظنّ بملاحظة القائل أيضا إرادتها أو إرادة الوصفين الأوّلين كما قيل ذلك في النجاشي.

فعن المحقّق والشيخ محمّد رحمه‌الله أنّهما قالا (١) : « أنّ النجاشي إذا قال : « ثقة » ، ولم يتعرّض إلى فساد المذهب فظاهره أنّه عدل إمامي ، لأنّ ديدنه التعرّض إلى الفساد فعدمه ظاهر في عدم ظفره وهو ظاهر في عدمه ، لبعد وجوده مع عدم ظفره ، لشدّة بذل جهده وزيادة معرفته ، وإنّ عليه جماعة من المحقّقين » انتهى (٢).

بل قد يقال : إنّ مطلق هذه اللفظة اصطلاح لهم في جامع الأوصاف أو الوصفين الأوّلين فيحمل عليه ما لم يقارنه ما يوجب الخروج عن أحد الأوصاف أو كلّها ، وقد يدّعى الانصراف إليه ولو من جهة انصراف المطلق إلى فرده الكامل ، نظرا إلى أنّ كمال الوثوق

__________________

(١) هذا سهو من قلمه الشريف ، والصواب : « فعن المحقّق الشيخ محمّد ١ أنّه قال : » الخ ، وهو المحقّق الشيخ محمّد بن الحسن بن الشهيد الثاني.

(٢) انظر : منتهى المقال في أحوال الرجال ١ : ٤٣ ـ فوائد الوحيد البهبهاني ـ الفائدة الثانية.

٢٣١

إنّما هو باجتماع الأوصاف أجمع.

وقد يحرز الأوصاف مع ذكر هذا اللفظ بملاحظة سائر القرائن وضمّ بعضها إلى بعض ، كوصفه بكونه من أصحابنا أو من أجلاّء أصحابنا إذا كان القائل إماميّا ، أو كونه فاضلا أو فقيها أو ذا أصل أو كونه من مشايخ الإجازة أو شيخا للأجلاّء من أصحابنا الموثوق بهم أو نحو ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع.

وقال المحقّق البهبهاني في فوائده الرجاليّة : « لا يخفى أنّ الرواية المتعارفة المسلّمة المقبولة أنّه إذا قال عدل إمامي ـ نجاشيّ كان أو غيره ـ : « فلان ثقة » أنّهم يحكمون بمجرّد هذا القول بأنّه عدل إمامي كما هو ظاهر إمّا لما ذكر ـ يشير به إلى ما تقدّم عن المحقّق (١) وغيره ـ أو لأنّ الظاهر من الرواة التشيّع والظاهر من الشيعة حسن العقيدة ، أو لأنّهم وجدوا منهم أنّهم اصطلحوا على ذلك في الإماميّة ـ وإن كانوا يطلقونه على غيرهم مع القرينة ـ بأنّ معنى ثقة : عادل ، أو عادل ثبت ، فكما أنّ عادلا ظاهر فيهم فكذا ثقة ، أو لأنّ المطلق ينصرف إلى الكامل ، أو لغير ذلك على منع الخلوّ » انتهى (٢).

ومع الغضّ عمّا ذكر فغاية ما في المناقشة القدح في دلالة هذا اللفظ على الأوصاف الثلاث بأجمعها ، لكن طريق معرفة اجتماعها غير منحصر في ملاحظة هذا اللفظ ، بل كثيرا مّا يحصل بملاحظته مع مجموع سائر القرائن والأوصاف والألقاب الّتي لا تعرف إلاّ بمراجعة علماء الرجال كما عرفت.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا فأقصى ما هنا لك انهدام ما أسّسه المتأخّرون من العلاّمة وغيره في تنويع الحديث أربعة أنواع وتخصيصهم كلّ نوع باسم ، حتّى أنّهم اصطلحوا فيها بالصحاح والموثّقات والحسان والضعاف ، لما قيل في وجهه ـ كما عن شيخنا البهائي في مشرق الشمسين (٣) وقبله المصنّف في مقدّمات كتاب المنتقى ـ ملخّصا من : « أنّ السبب الداعي إلى تقرير المتأخّرين رضوان الله عليهم هذا الاصطلاح في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة هو أنّه لما طالت المدّة بينهم وبين الصدر الأوّل وبعدت عليهم الشقّة وخفيت عليهم ما كان متّسعا على غيرهم ، التجأوا إلى العمل بالظنّ بعد فقد العلم لكونه أقرب مجاز إلى الحقيقة عند تعذّرها ، وبسبب التباس الأخبار غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها التجأوا إلى

__________________

(١) هو : المحقّق الشيخ محمّد بن الحسن بن الشهيد الثاني.

(٢) انظر : منتهى المقال ١ : ٤٣ ـ عدة الرجال ـ للكاظمي ـ : ١٧ ، الفائدة الخامسة.

(٣) مشرق الشمسين : ٢٧٠.

٢٣٢

هذا الاصطلاح الجديد وقرّبوا لنا البعيد ونوّعوا الحديث إلى الأنواع الأربعة » انتهى (١).

فيقال عليهم : إنّ هذا الاصطلاح مجرّد مفهوم لا يجدي في معرفة مصاديق كلّ نوع عن آخر ، ولا سيّما الصحيح الّذي لا طريق لنا إلى معرفة أشخاصه ، حيث لا سبيل إلى إحراز الأوصاف الثلاثة في جميع سلسلة السند.

وهذا ـ مع أنّه مكابرة محضة لا يلتفت إليها ـ لا يخدش فيما هو الغرض الأصلي عن مراجعة الرجال من تحصيل الوثوق والاعتماد على الراوي والاطمئنان بصدق الرواية وصدورها ، فإنّ حصول كلّ من ذلك بمراجعة الرجال واضح بديهي ولو بملاحظة وصف الرجل بالثقة لو سلّمنا عدم دلالته على الأوصاف المذكورة ، خصوصا إذا كان قائله عدلا إماميّا معتمدا وخصوصا إذا لم يقارنه ما يزاحمه ، وخصوصا إذا أكّد مثله فيقال : « ثقة ثقة » أو ما يرادفه أو يقاربه في المعنى ، فيقال : « ثقة نقة » بالنون مكسورة ، كيف ولفظ « الثقة » باعتبار وضعه اللغوي العرفي ظاهر فيما يفيد الوثوق والاعتماد والاطمئنان.

فعن المصباح المنير : وثق الشيء بالضمّ وثاقة قوي وثبت ، فهو وثيق ثابت محكم ، وأوثقته جعلته وثيقا ، ووثقت به أثق بكسرهما ثقة ووثوقا ائتمنته.

وعن القاموس : وثق به كوَرِث ثقة وموثقا ائتمنته.

ومنها : أنّ أكثر أسامي الرجال مشتركة بين عدل أو ممدوح وغيره ، وأكثر أسباب التميّز لا تفيد إلاّ أقلّ مراتب الظنّ المنهيّ عن العمل به عقلا ونقلا كتابا وسنّة وإجماعا ، وكيف يجوز القول باعتبار مثل هذا الظنّ دون ما يحصل من الشواهد الآتية في اعتبار أخبار الكتب المعتبرة من القطع أو الظنّ القويّ القريب إليه؟

وأيضا فإنّ كثيرا من تعويلاتهم وتضعيفاتهم إنّما نشأ عن ترجيحهم واجتهادهم ، ولا يجوز للمجتهد بناء العمل على اجتهاد غيره ، وإن وجد فيها ما ليس من اجتهاديّاتهم فهو شهادة كتبيّة وقد أجمع الأصحاب على أنّه لا عبرة بالكتابة كما ورد في بعض الروايات

__________________

(١) منتقى الجمان ١ : ١٤ ، قال في المنتقى : « فإنّ القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح قطعا لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالّة على صدق الخبر وإن اشتمل طريقه على ضعف كما أشرنا إليه سالفا ، فلم يكن للصحيح كثير مزيّة توجب له التمييز باصطلاح أو غيره ، فلمّا اندرست تلك الآثار واستقلّت الأسانيد بالأخبار اضطرّ المتأخّرون إلى تمييز الخالي من الريب وتعيين البعيد عن الشكّ ، فاصطلحوا على ما قدّمنا بيانه ، ولا يكاد يعلم وجود هذا الاصطلاح قبل زمن العلاّمة إلاّ من السيّد جمال الدين بن طاووس ـ رحمه‌الله ـ ».

٢٣٣

أيضا ، مع أنّ الأغلب منها شهادة فرع بل شهادة فرع فرع وهكذا ، ولا خلاف عندهم في عدم اعتبار ما عدا الاولى ، ومورد اعتبار الاولى أيضا عند قائليه إنّما هو أموال الناس وحقوق الآدميّين لا غير ، مع أنّ العدالة ليست من الامور الحسّيّة الّتي يمكن الاطّلاع عليها بالحسّ.

وقد صرّحوا فيها بلزوم كون المشهود به حسّيّا.

وأيضا فغايتها كونها شهادة علميّة وإلاّ فالغالب كونها ظنّية ، وقد اختلفوا في اعتبار الشهادة العلميّة فكيف بالظنّية.

وأيضا فالمعتبر في الشهادة التعدّد والمعروف فيهم هنا كفاية الواحد.

وبالجملة : فملاحظة هذه الامور تعطي عدم العبرة بالرجال ، ويلزم منه انتفاء الحاجة إليه ، لأنّ دعوى الحاجة في الاجتهاد الّذي هو أمر شرعي إلى ما ليس بمعتبر شرعا كما ترى ممّا يضحك به الثكلى.

والجواب عنه بجميع فقراته : بأنّ مسيس الحاجة إلى الرجال ليس لتعبّد شرعي ليقدح فيه ما ذكر من القوادح الّتي تقدح في الأخذ بالشهادة تعبّدا بعد تسليم كون الجرح والتعديل من باب الشهادة ناشئين عن الاجتهاد غير علميّين ، بل المحوّج إليه ـ على ما بيّنّاه مرارا ـ إنّما هو توقّف الاجتهاد في وجوده الخارجي على معرفة أحوال رواة أحاديثنا المتوقّف عليها الاجتهاد ولو ظنّية حيثما تعذّر العلم ، ليترتّب عليها الظنّ والوثوق بصدق تلك الأحاديث وصدورها عن أهل العصمة على غير جهة التقيّة ليترتّب عليهما الظنّ بالأحكام الشرعيّة ، أو استقرار هذا الظنّ وبلوغه مرتبة الاطمئنان اللذين لا يحصلان إلاّ بالفحص واستفراغ الوسع اللذين منهما مراجعة كتب الرجال ومزاولة كلمات أهله ، لما دلّنا عليه القاطع من جهات شتّى من وجوب التعبّد في معرفة الأحكام الشرعيّة والتديّن بها بالظنون الاجتهاديّة الاطمئنانيّة المستندة إلى الكتاب والسنّة المقطوع أو الموثوق بها وما يرجع إليهما من الطرق المقرّرة المعهودة ، فليس مراجعة الكتب الرجاليّة لغرض بناء العمل على اجتهاد الغير تقليدا بل لغرض تحصيل الظنّ الاجتهادي الّذي لا يقدح فيه شيء ممّا ذكر ، حتّى دعوى كون تعديلاتهم وترجيحاتهم ناشئة عن اجتهاداتهم ، فإنّ غاية ما يترتّب على ذلك نظرا إلى عدم كون الاجتهاد مأمونا من الخطأ قيام احتمال عدم المطابقة ، وهو لا يمنع عن حصول الظنّ بل الاطمئنان لنا ولو بعد تراكم القرائن الموجودة في كلامهم وضمّ بعضها إلى بعض ، كما هو معلوم بالعيان ومشاهد بالوجدان على حدّ الغنية عن مراعاة البرهان.

٢٣٤

وبذلك كلّه يرتفع شبهة وقوع الاشتراك في أكثر أسامي الرجال ، فإنّ أسباب التمييز وافرة مقرّرة لديهم مضبوطة في كتبهم ، وهذا أيضا أحد مقتضيات الرجوع إلى تلك الكتب ، حيث إنّ الاسم المشترك لا يتميّز إلاّ بذلك ، كيف وكتاب المشتركات المعمول في هذا الفنّ موضوع لغرض رفع هذه الشبهة. وغاية حلّ هذا الإشكال لكلّ من لا يعرف الحال.

ولا يضرّ عدم كون ما يحصل فيها إلاّ تمييزا ظنّيا ، لما عرفت من أنّ بناء الأمر هنا ليس إلاّ على الظنّ الكافي بدليله القاطع ولو كان في أقلّ مراتبه إذا فرض تعذّر ما زاد عليه كفرض تعذّر العلم الّذي هو المرجع الأولي ، وإلاّ فالمعاين المحسوس بالوجدان حصول الاطمئنان الّذي هو أعلى مراتب الظنّ ولو في الغالب أو الأغلب أو الكثير ، والظنّ المنهيّ عن العمل به عقلا ونقلا كتابا وسنّة وإجماعا ليس هو هذا الظنّ على ما تقدّم تفصيل القول فيه.

ومنها : إنّ من تأمّل المنتقى وغيره من كتب الماهرين في معرفة الطبقات يعرف أنّ جملة من الروايات لا سيّما ما في كتب الشيخ مرسلة بالمعنى الأعمّ ، لسقوط واسطة أو واسطتين ، وغير العارف بالطبقة يظنّ الاتّصال فيصحّح السند وهو في الواقع ليس كذلك.

وأيضا يعلم أنّ كثيرا من الأسانيد وقع فيه الغلط والاشتباه في أسامي الرجال أو آبائهم أو كناهم أو ألقابهم ما لا يخفى ، وكذا كثيرا مّا يقع كلمة المجاوزة مكان « الواو » فيضعّف السند بضعف أحدهما وهو صحيح في الواقع ، وقد ينعكس الأمر فيصحّح السند بصحّة أحدهما وهو ضعيف في نفس الأمر ، وقد تكون كلمة المجاوزة مصحّفة من كلمة « ابن » فيشتبه الراوي ويضعّف السند بالوالد ولا دخل له فيه ، وقد ينعكس الحال أيضا فينعكس الحكم.

ومن هنا قد يقال : إنّ كثيرا ممّا رواه الشيخ عن موسى بن القاسم العجلي أخذه من كتابه ، وهو أيضا أخذه من كتاب جماعة فينقل عنهم من غير ذكر الوسائط اتكّالا على ذكرها في أوّل الكتاب فينقل الشيخ عن موسى عن أحد الجماعة من غير إشارة إلى الواسطة ، فيظنّ الغافل فيه الاتّصال مع أنّ الواقع الإرسال ، وجميع ذلك محتمل في جميع روايات الشيخ وغيره.

ومنه أيضا ما في روايات الشيخ المنقولة عن الكافي ، فإنّ الكليني كثيرا مّا يترك أوّل السند اعتمادا على سبق ذكره فيأخذ عنه الشيخ بإسقاط أوّل السند غفلة بزعم الاتّصال وعدم الإرسال ، وأيضا كما أنّه لا يمكن العلم بالمعدّل والمجروح غالبا بسبب اشتراك

٢٣٥

الاسم مع فقد التمييز ، فكذلك لا يمكن العلم بصحّة السند مطّردا أو غالبا من جهة قيام احتمال السقط في كلّ سند أو غالب الأسانيد ، فلعلّ ما سقط من الرجال كان ضعيفا مجروحا فلا يبقى فائدة في الجرح والتعديل وتصحيح الأسانيد مع إمكان حصول أمثال ما ذكر فيما لم يظهر لنا حصوله فيه ، ومعه تسقط الفائدة في معرفة علم الرجال.

وجوابه بجميع فقراته يعلم بملاحظة ما سبق ، فإنّ احتمال طروّ الحزازات المذكورة بعد التتبّع التامّ واستفراغ الوسع وملاحظة القرائن من جهة الراوي والمرويّ عنه وطبقة الرجال وغير ذلك من أسباب الظنّ والرجحان مع انضمام الاصول النافية لاحتمال السقط والغفلة والسهو والنسيان والزيادة والنقصان ممّا لا يمنع عن حصول الظنّ والاطمئنان ، هذا مضافا إلى ما أفاده بعض الأعلام من أنّ السهو النادر والغفلة القليلة لا يوجبان انتفاء الظنّ الحاصل من ظاهر حال الثقة الضابط ومن جهة الكثرة والغلبة ، إذ لا يستريب أحد في أنّ إصابة هؤلاء الأجلاّء أكثر من زلاّتهم وحفظهم أغلب من سهوهم ، فإنكار حصول الظنّ من ملاحظة الرجال مكابرة لا يلتفت إليها في حال.

ومنها : أنّ مراجعة الكتب الرجاليّة ممّا يستلزم المخالفة القطعيّة وهي حرام ، كما أنّ المستلزم للحرام حرام.

وبيان الملازمة : أنّها توجب ضعف كثير من الروايات والأخبار فلا بدّ من طرحها لمكان ضعفها الموجب لعدم الاعتداد بها ، وطرح ضعاف الأخبار بأجمعها يوجب القطع بالمخالفة ، لمكان القطع الإجمالي بصدور جملة منها عن المعصوم.

وهذا أضعف الوجوه لتوجّه المنع إلى الملازمة تارة وبطلان اللازم اخرى.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأخبار الضعاف كثيرا منها يعمل بها لانجبارها تارة بعمل الأصحاب ، واخرى بموافقة الكتاب أو لورودها في السنن الّتي يتسامح في أدلّتها أو لاعتضادها بغير ما ذكر من قرائن الصدق وشواهد الاعتبار حسبما يقف عليه المتتبّع المستنبط ، فلا يبقى منها ما خلى عن جميع الامور المذكورة إلاّ قدر قليل منها ، ووجود العلم الإجمالي بالنسبة إلى هذا المقدار لعلّه ممنوع وادّعاؤه لعلّه غير مسموع.

وأمّا الثاني : فلأنّ الحجّة إذا اشتبهت بغيرها وكانت الشبهة قليلة في قليل سقطت عن الحجّية ، لوجوب الاجتناب عن الجميع المستلزم للاجتناب فيها أيضا عملا بموجب قاعدة الشبهة المحصورة المقرّرة في محلّه.

٢٣٦

وفي بعض الأخبار أيضا ما يشير إلى ذلك كالخبر المتقدّم إليه الإشارة في وجود الأخبار الكاذبة المتضمّن لقوله : « فيسقط صدقنا بكذبه » حسبما بيّنّاه سابقا.

ومنها : كون مراجعة الكتب الرجاليّة بدعة ، لأنّ علم الرجال قد حدث تدوينه في الأزمنة المتأخّرة فلم يكن مأخوذا عن أهل العصمة كما عداه من العلوم المتداولة ، وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار.

وفيه أوّلا : النقض بعلم الفقه ومراجعة الكتب الفقهيّة لعين ما ذكر.

وثانيا : منع كلّية الكبرى ، فإنّ هذا العلم وتدوينه ومراجعة كتبه من البدع المستحسنة الدائرة بين الواجبة منها أو المستحبّة بل الواجبة على التحقيق في موضع وجوب الاجتهاد عينا أو كفاية ، على أنّ البدعة تنقسم عندهم انقسام الأحكام الخمسة ، وقد نقل ثاني الشهيدين في الروضة (١) عن بعضهم تقسيمها إليها.

وعن شرح المشكاة : « البدعة على خمسة أقسام : واجبة كتعلّم النحو وحفظ إعراب القرآن والحديث وكتدوين علم اصول الفقه ، ومحرّمة كمذهب القدريّة والجبريّة والمرجئة ، ومندوبة كإحداث المدارس وكلّ إحسان لم يعهد في العصر الأوّل ، ومكروهة كتزيين المساجد وتذهيب المصاحف ، ومباحة كالمصافحة عقيب الصبح والعصر والتوسّع في لذيذ المآكل والمشارب والملابس والمساكن المباحة » انتهى.

وبالجملة البدعة المحرّمة على سبيل الإذعان واليقين هو : إدخال ما ليس من الدين في الدين على أن يكون من الدين مع الاعتقاد أنّه ليس من الدين ، ولا يوجد ذلك إلاّ في الأحكام أو موضوعاتها الشرعيّة.

ولا ريب أنّ علم الرجال ليس من هذا الباب ولا بشيء من الأمرين ، كيف ولم يدوّن إلاّ لأجل حفظ الدين عن الانهدام وصونه عن الهرج والمرج ومعه كيف يكون محرّما إن لم نقل بوجوبه ، بل تدوينه ـ مع الغضّ عمّا يقتضي وجوبه ووجوب المراجعة إلى كتبه ومزاولة مطالبه ـ مندرج في عموم ما ورد في الروايات من أنّه : « من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها » كما ورد في ضدّه : « أنّ من سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ».

ومنها : ما عن بعض الفضلاء من : « أنّ الاستقراء وتتبّع سير السلف يكشفان عن أنّ

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٥٨١.

٢٣٧

علماءنا كانوا يعملون بكلّ ما حصل لهم الظنّ بأنّه مراد المعصوم وإن كان من رواية ضعيفة أو غيرها ، فلا حاجة إلى معرفة حال الرواة بل المتّبع إنّما هو الظنّ ، سلّمنا لكن مراجعة الكتب الرجاليّة مبنيّة على لزوم المداقّة في عدالة الرواة وفسقهم وجرحهم وتعديلهم وهو خلاف ما هو المعهود من سيرة العلماء وأصحاب الأئمّة من عدم بنائهم على هذه المداقّات وبناء على العمل بالروايات بمجرّد ظنّ الصدور أو الظنّ بتحرّز الراوي عن الكذب ، وهذا ممّا يحصل غالبا بدون مراجعة الكتب أيضا ، فليكتف به لئلاّ يراجع الكتب الرجاليّة ».

وجوابه ـ بعد المنع عن كلّية الاستقراء المدّعاة كما يظهر وجهه بملاحظة ما تقدّم ـ : أنّ العمدة في أسباب الظنّ والغالب من طرق الأحكام الظنّية إنّما هي الأخبار الغير العلميّة ، وقد مرّ مرارا أنّ الظنّ بالحكم من جهة الخبر ممّا لا يتأتّى إلاّ بعد إحراز سنده علما أو ظنّا ، فإنّ ملزوم الحكم الشرعي هو السنّة المقطوع أو الموثوق بها لا ذات الخبر من حيث هو.

ومن البيّن أنّ إحراز السند بأحد الوجهين اللذين يغلب ثانيهما ممّا لا يتأتّى في الغالب إلاّ بمراجعة الكتب الرجاليّة ومعرفة أحوال الرواة ، ولا ينافي ذلك حصول ظنّ الصدور وتحرّز الراوي عن الكذب في بعض الأحيان بدون المراجعة المذكورة من جهة الامور المتقدّم إليها الإشارة في صدر المسألة ، إلاّ أنّ مجرّد ذلك لا يرفع الحاجة عن أصل المراجعة ، لأنّ مثل ما ذكر لا يتّفق إلاّ في جملة قليلة من المقامات ، كما أنّ استقرار العمل بكلّ ما حصل منه الظنّ ـ على فرض تسليمه ـ ممّا لا يرفع الحاجة عن العمل بالروايات الظنّية سندا ومتنا ودلالة.

وقد ذكرنا في صدر المسألة أنّ معرفة أحوال الرجال المعدودة عندهم من شروط الاجتهاد أعمّ ممّا

يحصل بمراجعة الكتب الرجاليّة وما يحصل بدونها من جهة مراعاة الأسباب الخارجة عن تلك الكتب.

ومنها : ما تقدّم عند الكلام على الشكوك الواقعة في انسداد باب العلم بالأحكام عن رئيس الأخباريّة الفاضل الأستر آبادي من أنّ أخبارنا كلّها قطعيّة الصدور عن المعصوم عليه‌السلام فلا يحتاج إلى ملاحظة سندها ، أمّا الكبرى : فظاهر ، وأمّا الصغرى : فلأنّ أحاديثنا محفوفة بالقرائن الحاليّة المفيدة للقطع بصدورها عن المعصوم.

وقد أشبعنا الكلام سابقا في هدم هذا الدليل وإبطال ما تضمّنه من دعوى وجود القرائن القطعيّة ودفع هذه القرائن بأجمعها من وجوه شتّى ، إلاّ أنّ ذلك ثمّة إنّما هو لإثبات مطلب

٢٣٨

آخر غير ما هو محلّ المقال من بيان وجه الحاجة إلى علم الرجال وإثبات توقّف الاجتهاد على ملاحظة أسانيد الروايات ومعرفة أحوال رجالها ، فالأولى التعريض لذكر هذه القرائن أيضا وإن استلزم تكرارا في أصل ذكرها ، ثمّ الكلام عليها على وجه يتعلّق بالمقام ويثبت معه المرام.

فأوّل تلك القرائن ـ حسبما حكاها الوحيد البهبهاني في رسالة الاجتهاد والأخبار ـ أنّه كثيرا مّا نقطع بالقرائن الحاليّة والمقاليّة بأنّ الراوي كان ثقة في الرواية لم يرض بالافتراء ولا برواية ما لم يكن بيّنا واضحا وإن كان فاسد المذهب أو فاسقا بجوارحه ، وهذا النوع من القرينة وافرة في أحاديث كتب أصحابنا.

وفيه : أنّه إن اريد بتلك القرائن الموجبة للقطع بوثاقة الراوي نظائر الامور المتقدّم إليها الإشارة في صدر المسألة أو ما يعمّها وما يوجد في بعض المتون من ترديد الراوي بين اللفظين المحتملين في نظره ، أو قوله في موضع الشكّ في لفظ الإمام عليه‌السلام : « أظنّ أنّه قال كذا » أو « لا أحسبه إلاّ قال كذا » أو ما أشبه ذلك أو ما يعمّها وما يتّفق في بعض الأسانيد من قولهم : « فلان عن فلان الثقة » أو « فلان الجليل » أو « الشيخ الجليل فلان » ونحوه.

فالقول بلزوم مراعاتها اعتراف بالحاجة إلى مراعاة ما يوجب معرفة الرجال ولا يكون إلاّ للحاجة إلى تلك المعرفة ، بناء على ما بيّنّاه من أنّ معرفة الرجال المحتاج إليها ليست عبارة عن خصوص ما يحصل بمراجعة الكتب الرجاليّة ، فرجع شبهة الخصم في نفي الحاجة إلى نفي لزوم مراجعة الكتب الرجاليّة لا نفي الحاجة إلى معرفة أحوال الرجال رأسا ، فيعود الخلاف حينئذ لفظيّا.

ومع هذا نقول إلزاما له : إنّ مراعاة هذه القرائن على مقتضى كلامه إنّما هي للحاجة إلى معرفة حال الراوي في العمل بروايته ، فلو فرض حينئذ انتفاء هذه القرائن بالمرّة بحيث لم يكن إلى معرفة حال الراوي طريق إلاّ مراجعة الكتب أو ندرة وجودها بحيث لم يكن معه بدّ من مراجعتها أيضا ، فهل يوجب تلك المراجعة أو ينكرها؟ فإن قال بالأوّل كان كرّا على ما فرّ منه ، إذ الّذي يوجبها إنّما يوجبها لأحد هذين الفرضين ، وإن قال بالثاني فقد أتى بما يناقض مقتضى كلامه ، مع أنّ أمثال هذه القرائن لا توجد إلاّ في طائفة قليلة من أحاديثنا بحيث لا تشفي العليل ولا تروي الغليل ، فلا مناص عن مراجعة الكتب ومزاولة ما تضمّنتها من كلمات أهل هذه الصناعة ، مع أنّ كون هذه القرائن صالحة لإفادة القطع بوثاقة الراوي

٢٣٩

كما ترى ، بل قصارى ما ينشأ منها ـ على فرض التسليم ـ إنّما هو الظنّ أو الوثوق بها ، ولو سلّم فالملازمة بين القطع بوثاقة الراوي والقطع بصدور روايته بعينها واضحة المنع ، كيف وهو لا يستقيم إلاّ بإحراز امور لا يفي بثبوتها مجرّد وثاقته المقطوع بها.

منها : القطع بصدق الإسناد من أوّل السند إليه الّذي لا يتأتّى إلاّ بعد القطع بصدق الوسائط ، وأيّ قضاء لوثاقة الراوي بهذا الأمر؟

ومنها : القطع بأنّه إنّما رواها عن مشافهة للإمام المرويّ عنه ، ولعلّه عوّل في ذلك على الأمارات اجتهادا وهو غير مأمون من الخطأ وإن فرضت الأمارات بالقياس إليه مفيدة للقطع ووثاقته غير منافية له ، أو حذف الواسطة الّذي بينه وبين الإمام على حدّ ما يصنعه الرواة من الإرسال تعويلا منه على صدقه أو وثاقته وهو قد لا يكون موثوقا به عندنا لو عثرنا على حاله ، ولا ملازمة بين وثوقه بصدقه أو وثاقته ووثوقنا بهما ، كما أنّه لا منافاة بين وثوقه بهما ووثاقته.

ومنها : القطع بعدم طروّ السهو والنسيان أو سبق اللسان له في نقل الرواية أو إسنادها إلى الإمام عليه‌السلام.

وأيّ طريق إلى ذلك؟ مع ملاحظة أنّ وثاقته إنّما تمنع التعمّد على الكذب لا سائر الاحتمالات المشاركة لاحتماله في منع حصول القطع بالمطابقة.

والمفروض أنّ أقصى ما يوجبه الاصول المقرّرة لرفعها ـ على فرض تسليمه ـ إنّما هو الظنّ أو الوثوق بعدمها وهو دون القطع.

وبالجملة فصغرى الدليل المذكور فاسد الوضع من وجوه شتّى ، مع توجّه المنع إلى كبراه أيضا ، فإنّ القطع بصدور هذه الرواية ـ بعد تسليمه ـ ربّما لا يرفع الحاجة إلى الرجال بالمرّة ، لجواز كونها إنّما صدرت على جهة التقيّة ، أو كونها ممّا عارضها ما كان قد صدر على تلك الجهة مع القطع بصدورهما معا ، فهما حينئذ إمّا أن يتراجحا فلا بدّ من الترجيح بإعمال المرجّح من الأعدليّة أو الأصدقيّة أو الأفقهيّة أو غير ذلك ممّا ورد في النصوص ولا تعرف إلاّ بمراجعة الكتب الرجاليّة ، أو يتعادلا إلى أن ينتهي الأمر فيهما على التخيير أو الطرح أو الوقف ثمّ الرجوع فيهما إلى الاصول على الخلاف في المسألة ولا مناص أيضا عن مراجعة الكتب الرجاليّة إحرازا للتعادل وفقد المرجّحات.

وبالجملة لا مناص عن المراجعة المذكورة في مقام المعارضة الّذي لا يتأتّى القطع

٢٤٠