تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

كون المراد بالمعذوريّة المنفيّة ما يعمّ لازم الحكم التكليفي ولازم الحكم الوضعي.

وتوضيحه : أنّ هذا العنوان يحتمل وجوها :

الأوّل : أنّ الجاهل لا يعذر في جهله بالحكم الشرعي وإن طابق عمله الواقع.

الثاني : أنّه لا يعذر في مخالفة عمله الواقع بحيث يسقط عنه الإعادة والقضاء وإن كان قاصرا في جهله.

الثالث : أنّه لا يعذر في مخالفته ومخالفة عمله الواقع بحيث يرتفع عنه المؤاخذة على الأوّل إذا كان مقصّرا أو يسقط عنه الإعادة والقضاء على الثاني مقصّرا كان أو قاصرا.

والأوّل ـ مع أنّه يأباه استثناء مسألتي الجهر والإخفات والقصر والإتمام ـ في غاية البعد ، لابتنائه على كون تحصيل المعرفة والعلم بالأحكام واجبا لنفسه وهو خلاف التحقيق ، ويتلوه الثاني في البعد لما نبّهنا عليه من عموم العنوان لغير موارد التعبّد الّذي لم يعتبر فيه إعادة ولا قضاء.

فالأظهر هو الثالث فيراد بعدم المعذوريّة عدم رفع المؤاخذة على مخالفة الخطاب بالمعنى الدائر بين ما ورد على واجب واقعي تعبّدي أو توصّلي ترك أو حرام واقعي ارتكب ، وما ورد على الإعادة والقضاء في عبادة فعلت على خلاف الواقع.

وعليه فالنظر في المعذوريّة وعدمها في محلّ البحث إن كان إلى رفع المؤاخذة على مخالفة الواقع وعدمه فالأقوى فيه الفرق بين المقصّر فليس بمعذور والقاصر فيكون معذورا.

وإن كان إلى سقوط الإعادة والقضاء فالأقوى فيه الفرق بين المطابقة فالمعذوريّة وعدمها فعدم المعذوريّة ، ومرجعه إلى عدم الفرق بين العبادات بعد إحراز النيّة وقصد القربة فيها وبين المعاملات في عدم مدخليّة أحد الطريقين في الصحّة وعدم اعتبار قصد الوجه ومعرفته فيها ، بل الصحّة فيهما منوطة بمطابقة المشروع وعدمها ، فالعبادة الصادرة من الجاهل بقصد القربة حيثما طابقت الواقع كانت صحيحة ولازمها سقوط الإعادة والقضاء ، وحيثما لم تطابق الواقع كانت باطلة ولازمها لزوم الإعادة والقضاء من غير فرق في الحكمين بين المقصّر والقاصر ، فهاهنا مقامان :

أمّا المقام الأوّل : فلنا على عدم معذوريّة الجاهل المقصّر في مخالفة الأحكام الواقعيّة ما ذكرناه في غير موضع من كفاية العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي في تنجّز

٤٠١

التكليف ، على معنى صيرورة الخطابات المعلومة بالإجمال تكاليف فعليّة على المكلّف شاغلة لذمّته على وجه يترتّب على موافقتها ومخالفتها الثواب والعقاب.

وبالجملة شرط تنجّز التكليف وترتّب الآثار عليه في نظر العقل والعرف إنّما هو العلم الإجمالي بصدور الخطاب من المولى مع التمكّن من العلم التفصيلي بخصوص الحكم المسوق لإفادته هذا الخطاب كما تنبّه عليه بعض الفضلاء ، ولذا يحسّن العقل المستقلّ مؤاخذة العالم بالإجمال المتمكّن من التفصيل على مخالفته الحكم الواقعي المندرج في معلوماته بالإجمال ويصحّهها ، ويرشد إليه من جهة العرف مثال الطومار الصادر من السلطان إلى رعيّته مع اطّلاع البعض على صدوره وعدم رجوعه إليه لمعرفة تفاصيله وعدم اطّلاع بعض آخر عليه أصلا فصادف مخالفتهما لبعض الأحكام المندرجة فيه حيث يصحّ مؤاخذة الأوّل دون الثاني ، وليس هذا إلاّ لإقامة الحجّة على الأوّل باعتبار تحقّق شرط تنجّز التكليف في حقّه دون الثاني.

ويدلّ عليه أيضا من جهة الشرع ما عليه العدليّة ونطق به الكتاب والسنّة من كون الكفّار مكلّفين بفروع الشريعة كما أنّهم مكلّفون باصولها ، فيعاقبون عليها كما يعاقبون على الاصول مع جهلهم بتفاصيل أكثر الفروع بل كلّها ، ولو لا الاكتفاء بالعلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي لما صحّ ذلك.

ويستفاد ذلك أيضا من الروايات الواردة في موارد خاصّة :

منها : ما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيدهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ رجلا جاء إليه فقال له : إنّ لي جيرانا لهم جواز تغنّين ويضربن بالعود ، فربّما دخلت المخرج فاطيل الجلوس استماعا لهنّ ، فقال عليه‌السلام : لا تفعل ، فقال : والله ما هو شيء أتيته برجلي إنّما هو سماع منّي أسمعه باذني ، فقال عليه‌السلام : أنت أما سمعت الله يقول : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) وقال الرجل : كأنّي لا أسمع بهذه الآية من كتاب الله عزّ وجلّ من عربي ولا عجمي ، لا جرم فإنّي قد تركتها وإنّي أستغفر الله ، فقال عليه‌السلام : « قم فاغتسل وصلّ ما بدا لك ، فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوء حالك لو متّ على ذلك ، استغفر الله واسأله التوبة من كلّ ما يكره ، فإنّه لا يكره إلاّ القبيح فالقبيح دعه لأهله ، فإنّ لكلّ أهلا ».

فانظر في صراحة دلالة هذا في مواضع متكرّرة على كون الرجل مقيما على معصية عظيمة مع جهله بخصوص الحكم ، وليس هذا إلاّ لتمكّنه من المعرفة والسؤال

٤٠٢

وتركه له تقصيرا بعد علمه إجمالا.

وبالجملة فالجاهل المقصّر لعلمه الإجمالي بأنّ في الشريعة خطابات إلزاميّة إيجابيّة وتحريميّة يترتّب المؤاخذة والعقوبة على مخالفتها لا يأمن في تروكه من الوقوع في ترك واجب ولا في أفعاله من الوقوع في فعل محرّم ، فكأنّه لتركه تحصيل المعرفة والعلم التفصيلي مع إمكانه أقدم اختيارا على مخالفة تلك الخطابات المعلومة بالإجمال ، فأصل المعصية بالنسبة إلى كلّ واقعة واقعة وإن حصل في زماني الترك والفعل ، إلاّ أنّ اختيار تلك المعصية بحسب الواقع حصل في زمان ترك تحصيل المعرفة والعلم.

وإن شئت قلت : إنّه ترك حكمي للواجب وفعل حكمي للحرام ، نظير ما قيل في مقدّمات الواجب إذا ترك قبل مجيء وقته من أنّه ترك حكمي له فيستحقّ العقاب عليه من حين تركها لعلمه بأنّه يفضي إلى تركه في وقته.

وبالجملة فالأصل في تنجّز التكليف كائنا ما كان كفاية العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي ، إلاّ ما دلّ الدليل على اعتبار العلم التفصيلي في تنجّزه بالخصوص ، وقد جعل بعض الفضلاء من هذا الباب معذوريّة الجاهل ولو مقصّرا في مسألتي الجهر والإخفات والإتمام في موضع القصر ، وفيها وجوه اخر تقدّم ذكرها في بحث الضدّ ولعلّ أظهرها ما رجّحه كاشف الغطاء فراجع وتأمّل.

ولنا على معذوريّة القاصر فيما يتحقّق منه من مخالفة الأحكام الواقعيّة أنّه غافل ، وتكليف الغافل قبيح ، ومؤاخذته على مخالفته أقبح ، وهذا أوضح.

وأمّا المقام الثاني : فلنا على ما اخترناه من الفرق بين مطابقة الواقع فالصحّة ومخالفته فالبطلان ـ مضافا إلى ما قرّرناه في مسألة الإجزاء من اقتضاء الأمر الواقعي الاختياري والأمر الواقعي الاضطراري والأمر الظاهري الشرعي في كثير من صوره الإجزاء دون الأمر الظاهري العقلي مطلقا ـ تتبّع الأخبار الغير المحصورة المأثورة عن أهل بيت العصمة الواردة في جميع أبواب العبادات من الطهارات الثلاث والصلوات المفروضات والمسنونات وغيرها في وقائع وقعت بمقتضى الأسئلة الموجودة فيها الآمرة تارة بالإعادة والقضاء والنافية اخرى لهما أو للبأس بألفاظ مترادفة وعبارات متقاربة ، فإنّها في القسم الأوّل ردّ على من أطلق القول بالمعذوريّة ، وفي القسم الثاني على من أطلق القول بعدم المعذوريّة ، فهي بأجمعها حجّة على الفريقين في إطلاقهما ، إذ لا يعقل جهة للأوّل إلاّ مراعاة عدم وقوع

٤٠٣

العمل على طبق الواقع ، ولا للثاني إلاّ مراعاة وقوعه على طبق الواقع ، فلو كان لخصوص أحد الطريقين أو خصوص الأخذ من الحجّة مدخليّة في الصحّة لوجب الأمر بالإعادة أو القضاء في الجميع ، كما أنّه لو لم يعتبر المطابقة للواقع في الحكم بالصحّة لوجب نفي الإعادة والقضاء والبأس في الجميع ، والتفصيل على التقديرين غير معقول.

وأمّا تعميم الحكمين بالقياس إلى القاصر والمقصّر فإمّا بواسطة ترك الاستفصال المفيد للعموم في الجواب لو اندرج المقام في ضابطه ، أو بالفحوى بناء على ظهورها في الجاهل المقصّر إمّا باعتبار ظهور أسئلتها في صورة التمكّن من السؤال ، أو لأنّ الغالب في الناس هو التقصير فينصرف إليه الإطلاق سؤالا وجوابا ثمّ يثبت الحكم بالصحّة مع المطابقة في القاصر بطريق الأولويّة ، فاحتمال اختصاصها بالقاصر مدفوع بأحد الأمرين من العموم باعتبار ترك الاستفصال أو الظهور باعتبار السياق أو الغلبة.

ويدلّ على المختار أيضا ما روي من أنّ عمّارا أصابته جنابة فتمعّك في التراب ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كذلك يتمرّغ الحمار ، أفلا صنعت كذا؟ فعلّمه التيمّم » (١) فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفلا صنعت كذا؟ » تنديم على عدم إتيانه بالتيمّم بتلك الكيفيّة ، فدلّ على أنّه لو تيمّم كذلك ولو من غير سؤال لأجزأه ولم يتوجّه إليه تنديم.

وما يقال في منع الدلالة من أنّ التنديم يرجع إلى تقصيره في عدم السؤال حتّى يفعل صحيحا كما في كلام بعض الأعلام.

ففيه : أنّه خروج عن الظاهر لمكان قوله : « أفلا صنعت كذا » دون « أفلا سألت » فليتدبّر.

وبما قرّرناه هنا مضافا إلى ما حقّقناه في المسألة السابقة تعرف أنّ السالك لطريقة الاحتياط وإن كان جاهلا بمعنى تارك الطريقين غير أنّه معذور تكليفا ووضعا فلا مؤاخذة عليه ولا إعادة ولا قضاء ، لأنّه باعتبار سلوكه لطريقة الاحتياط في كلّ ما يحتمل الوجوب أو الحرمة مأمون في تروكه وأفعاله عن مخالفة تكليف فعلي إيجابا أو تحريما ، ولكون هذه الطريقة موصلة إلى الواقع دائما فلا جرم تقع أعماله وعباداته مطابقة للواقع.

فيبقى تحت موضوع المسألة المتسامح في دينه المقيم في المسائل على طريق غير مشروع لتسامحه لا لجهله باعتبار التفاته إلى عدم مشروعيّته اعتقادا أو احتمالا مع معرفته للطريق المشروع المبرئ للذمّة أو تمكّنه من معرفته والرجوع إليه كقول المجتهد

__________________

(١) الوسائل : الباب ٩ من أبواب التيمّم الحديث ٨.

٤٠٤

الجامع لشرائط الإفتاء ونحوه ، والغافل المقيم على طريق غير مشروع لغفلته وعدم التفاته أصلا إلى احتمال المشروعيّة وعدمها ولا إلى احتمال وجود طريق آخر هو المشروع لا الّذي أقام عليه ، والسالك لطريق غير مشروع بحسب الواقع باعتقاد المشروعيّة على خلاف الواقع من باب الجهل المركّب سواء كان جهلا بالحكم كما لو عوّل على ظنّه أو أخذ عن غير مجتهد أو مجتهد غير جامع للشرائط باعتقاد الجواز مع العلم بالموضوع ، أو جهلا بالموضوع كما لو عوّل على رأيه وظنّه باعتقاد الاجتهاد لنفسه أو أخذ عن غير مجتهد باعتقاد الاجتهاد ، أو عن مجتهد غير جامع باعتقاد الاجتماع ، والأوّل هو المقصّر والثاني قاصر ، وكذلك الثالث لأنّه ما دام معتقدا بخلاف الواقع غافل عن احتمال الخلاف وإلاّ لم يكن قاطعا ، فيكون تكليفه بخلاف معتقده تكليف بالمحال من باب تكليف الغافل بما غفل عنه فيكون قبيحا ، واللازم من ذلك أن لا يصحّ مؤاخذته على ما يتحقّق منه من مخالفة الواقع بترك واجب أو ارتكاب محرّم إذا أدّاه طريقه إلى عدم الوجوب أو التحريم.

وقد يتوهّم اندراجه في المقصّر لتمكّنه في جميع الصور المذكورة من إزالة الجهل عن نفسه بفحص وسؤال ونحوهما وقد تركه عن تقصير ، وهذا غير واضح إذ الجاهل بالجهل المركّب لا يرى اعتقاده جهلا بل يراه مطابقا للواقع فكيف يتصوّر في حقّه التمكّن من إزالة الجهل بالفحص والسؤال.

نعم هي مقدورة خارجا لا ذهنا ، بمعنى أنّه بحيث لو فحص وسأل لزال جهله إلاّ أنّه لا يفحص ولا يسأل لعدم احتماله الخلاف في اعتقاده ، واعتقاده المخالف الّذي يراه مطابقا فهو الصارف له عن الفحص والسؤال ، فلا يندرج تركه في حدّ التقصير ، وإنّما يندرج في حدّ التقصير لو كان اعتقاده المفروض في الصور المذكورة على وجه الظنّ المجامع لاحتمال الخلاف مع التفاته إلى الاحتمال ، إلاّ أنّه على هذا التقدير يرجع إلى القسم الأوّل وهو الجاهل المتسامح.

نعم قد يكون مقصّرا في ترك الفحص والسؤال الموصلين إلى الطريق المشروع أو عدم مشروعيّة الطريق المسلوك قبل حصول الاجتهاد المفروض تسامحا ، ولا يبعد استحقاقه العقوبة على ما يتحقّق منه من مخالفة الواقع جهلا باعتبار كون تركه الفحص والسؤال مع احتمال إفضائه إلى المخالفة في معنى الإقدام على تلك المخالفة اختيارا ، فهو نحو من الترك الحكمي للواجب أو الفعل الحكمي للحرام.

٤٠٥

وممّا يندرج في القاصر ما لو عوّل المقلّد على نقل ثقة فانكشف له الخلاف بكذب الناقل أو خطأه في النقل ، وما لو عوّل على ظاهر كلام المفتي أو الناقل ثمّ انكشف له عدم إرادته ، فيحكم على التقديرين بفساد العمل لمخالفته الواقع.

حجّة القائلين بعدم معذوريّة الجاهل وجوه :

أحدها : أنّ التكاليف معلومة الثبوت بالضرورة ، والأصل حرمة العمل فيها بغير العلم ، خرج العمل بقول المجتهد بالإجماع فيبقى غيره تحت عموم المنع.

وفيه : أنّه لا يتناول القاصر غافلا كان أو جاهلا بالجهل المركّب إذا كان قاطعا بمشروعيّة طريقه الغير المشروع ، إذ لا حرمة في حقّهما لقبح خطاب الغافل في محلّ غفلته وقبح خطاب القاطع بخلاف ما قطعه ، والحرمة المستتبعة لاستحقاق العقوبة في المقصّر المتسامح الّذي أدّى طريقه الغير المشروع إلى مخالفة الواقع بترك واجب أو فعل محرّم ولكن على نفس المخالفة مسلّمة ، وكذلك حرمة سلوك الطريق الغير المشروع إذا لم يؤدّ إلى مخالفة الواقع لمجرّد كونه عملا بغير العلم مسلّمة ، ولكن استحقاقه العقوبة والمؤاخذة بذلك مع عدم مخالفته ولا مخالفة عمله الواقع محلّ إشكال من أنّه عمل بما نهاه الشارع من العمل به وعوّل بما منعه من التعويل عليه ، ومن احتمال كون النهي لمجرّد الإرشاد فتأمّل ، مع أنّه لا تعرّض في الدليل للإعادة والقضاء بإثبات ولا بنفي.

وبالجملة هذا الدليل غير مناف للفرق ، والتفصيل الّذي اخترناه في المقامين ـ المتقدّمين ، مع أنّه على تقدير الإثم واستحقاق العقوبة من الحيثيّة المذكورة ـ لا ينتج عدم معذوريّة الجاهل بالنسبة إلى الواقع مطلقا أو على تقدير مخالفته له وعدم مصادفة الطريق إيّاه ، ولا يثبت به عليه إعادة مع بقاء محلّها ولا قضاء فيما ثبت له قضاء مطلقا أو على تقدير مخالفة عمله الواقع ، مع أنّ ظاهر كلامهم عدم معذوريّة الجاهل فيما جهله من الحكم الشرعي مطلقا أو على تقدير المخالفة ليترتّب عليه ثبوت الإعادة والقضاء كما ينبّه عليه استثناء مسألتي الجهر والإخفات والقصر والإتمام من إطلاق عدم المعذوريّة.

ويرشد إليه أيضا تعبيرهم عن العنوان بالجاهل وتقييدهم له بالحكم الشرعي ، فإنّه يعطي بظاهره عدم المعذوريّة من حيث جهله في الحكم الشرعي لا من حيث تعويله على الطريق الغير الشرعي.

وثانيها : أنّ القول بمعذوريّة الجاهل يستلزم أحد المحذورين : إمّا سقوط جلّ التكاليف ،

٤٠٦

أو تأثير الأمر الغير الاختياري في ترتّب العقاب وعدمه ، والتالي بقسميه فاسد.

أمّا الملازمة : فلأنّا إذا فرضنا جاهلين بشرط واجب أصابه أحدهما عند الإتيان بذلك الواجب دون الآخر ، كما إذا كانا جاهلين باشتراط الفريضة بالوقت أو بوجوب مراعاته فصلّى أحدهما في الوقت والآخر في خارجه ، فإمّا أن يستحقّا العقاب أو لا يستحقّان أو يستحقّه أحدهما دون الآخر.

فعلى الأوّل يثبت المطلوب وهو عدم كفاية إصابة الواقع من غير طريق معتبر.

وعلى الثاني يلزم المحذور الأوّل ، لأنّ سقوط العقاب يستلزم سقوط الوجوب فيلزم سقوط جلّ التكاليف ، لإمكان تطرّق الجهل إلى كلّ فعل من أفعال الصلاة وشرائطها وكذا غيرها من العبادات.

وعلى الثالث يلزم المحذور الثاني ، لاستواء الجاهلين في الحركات الاختياريّة وإنّما حصل مصادفة الواقع كالوقت في المثال لضرب من الاتّفاق الخارج عن المقدور.

وأمّا بطلان الشقّ الأوّل من اللازم : فلأنّ الالتزام بسقوط جلّ التكاليف في حقّ الجاهل مفسدة واضحة لا يشرع لأحد الاجتراء عليها.

وأمّا بطلان الشقّ الثاني : فلأنّ تجويز مدخليّة الاتّفاق في استحقاق الثواب والعقاب ممّا اتّفقت كلمة العدليّة على فساده وبراهينهم قاضية ببطلانه.

والجواب : أنّ قضيّة ما حقّقناه من إناطة إجزاء عمل الجاهل وعدم إجزائه بمطابقة الواقع وعدمها عدم كون صلاة المصلّي خارج الوقت مجزية ، سواء أحرز فيها سائر ما اعتبر في الصلاة وفي امتثال الأمر بها حتّى القربة ممّا عدا الوقت أو لا ، فلا يستحقّ بها ثوابا ، وأمّا العقاب فإن كان مقصّرا في جهله بالوقت أو وجوب مراعاته فيستحقّه لكن لا لمجرّد جهله وعدم تعويله في عمله على طريق [ مشروع ] ، بل لإخلاله بالمأمور به إخلالا ناشئا عن تقصيره ، ومرجعه بالأخرة إلى تركه المأمور به اختيارا ، وإن كان قاصرا ـ إن صحّ فرض القصور في حقّه ـ فلا يستحقّه كما لا يستحقّ الثواب.

أمّا الأوّل : فلعدم إخلاله بواجب عليه لعدم تكليفه بالصلاة الواقعيّة بسبب قصوره وغفلته ، والواجب ما يستحقّ العقاب بتركه لا عن عذر ، والقصور المفروض في حقّه عذر.

وأمّا الثاني : فلعدم إتيانه بالمأمور به على وجهه ، إذ ليس في حقّه إلاّ الأمر الظاهري العقلي وهو لا يفيد الإجزاء.

٤٠٧

وأمّا استحقاقه الثواب على الانقياد وقصده الإطاعة فهو أمر آخر لا يرتبط بالمقام.

وأمّا المصلّي في الوقت فإن كان بحيث أحرز في صلاته جميع ما يعتبر في صحّتها حتّى القربة فهو يستحقّ الثواب ، حيث أتى بالمأمور به على وجهه مع قصده امتثال الأمر به ، ولا عقاب عليه من حيث عدم تعويله على الطريق المعتبر ، وإلاّ بأن أخلّ لعدم رجوعه إلى الطريق المعتبر مع الالتفات إلى طريقيّته ولتقصيره في جهله ببعض الامور المعتبرة في الصحّة وأقلّة القربة فيستحقّ العقاب على إخلاله بالمأمور به عن تقصير الّذي هو في الحقيقة ترك للواجب عليه اختيارا لا على جهله وعدم تعويله على الطريق المعتبر.

فصار محصّل الجواب : اختيار الشقّ الأوّل وهو استحقاقهما العقاب على تقدير تقصيريهما بحيث أوجب الإخلال في قصد الامتثال لإخلالهما بالمأمور به عن تقصير الّذي هو في معنى ترك الواجب لا عن عذر ، وهذا لا يجدي نفعا فيما هو مقصود المستدلّ وهو استناد الاستحقاق إلى الجهل وعدم كفاية إصابة الواقع من غير طريق معتبر.

واختيار الشقّ الثاني مع استحقاق المصلّي في الوقت الثواب على تقدير عدم تقصير لهما بحيث أوجب الإخلال بقصد القربة ، ولا يلزم بذلك إناطة استحقاق الثواب والعقاب بأمر خارج عن المقدور ، فإنّ الصلاة المفروضة من حيث صدورها عن كلّ منهما بإرادته واختياره فعل اختياري له ، وهذا الفعل الاختياري من حيث موافقته في أحدهما للأمر وانطباقه على المأمور به وصدوره منه بداعي امتثال الأمر دون الآخر فلا محالة يوجب له استحقاق الثواب دون صاحبه ، لعدم تحقّق امتثال في حقّه.

واختيار الشقّ الأخير مع استحقاق المصلّي في الوقت للثواب على تقدير إحرازه القربة في صلاته مع تقصير صاحبه في جهله ، ولا يلزم إناطة الاستحقاقين بأمر خارج عن المقدور أيضا كما عرفت.

وثالثها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « بني الإسلام على خمسة أشياء ـ إلى أن قال ـ : أمّا لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان » فإنّ العامل الّذي أخذ أحكامه من غير الطرق الشرعيّة ليس عمله بدلالة وليّ الله إليه ، لأنّه إنّما يدلّ إلى الأخذ بالطرق المعتبرة ، فلا يستحقّ الثواب به وهو يستلزم الفساد.

٤٠٨

وفيه : أنّ الرواية بمقتضى ظاهر السياق واردة في مقام ردع المخالفين الموالين للجبت والطاغوت المتبعين لهما في أعمالهم باعتبار كون جميع أعمالهم بدلالتهما إليه ، فالمقصود أنّ موالاة وليّ الله فيمن يواليه يلزمه أن يكون جميع أعماله بدلالته إليه لا بدلالة الجبت والطاغوت ، كما أنّ موالاة الجبت والطاغوت لازمه أن يكون جميع الأعمال بدلالتهما إليه.

فالرواية تدلّ على أنّ كون جميع الأعمال بدلالة وليّ الله لا بدلالة الجبت والطاغوت من لوازم موالاته ، من غير دلالة لها على كونه من لوازم الأعمال على وجه يكون له مدخليّة في صحّتها ، فقصارى ما يلزم من ذلك بطلان الأعمال باعتبار انتفاء الولاية لا باعتبار انتفاء دلالة وليّ الله إليها.

ولو سلّم فتدلّ على بطلانها باعتبار كونها بدلالة الجبت والطاغوت كما هو من لوازم موالاتهما لا باعتبار عدم كونها بدلالة وليّ الله مع موالاته ، فليس في الرواية دلالة على بطلان أعمال الجاهل الموالي لجهله ، فليتدبّر.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الرواية لا تشمل الجاهل الموالي لوليّ الله ، لأنّ غاية ما تدلّ عليه هو بطلان الأعمال عند انتفاء المجموع من موالاة وليّ الله وأخذ الأعمال منه ، وأمّا استناده إلى انتفاء الأوّل بناء على أنّ الولاية بنفسها من شروط صحّتها ، أو إلى انتفاء الثاني بناء على أنّ الأخذ من وليّ الله من شروطها ، أو إليهما معا بناء على أنّهما شرطان فكلّ محتمل ، والمطلوب إنّما يثبت على ثاني الاحتمالات والرواية غير دالّة عليه.

ورابعها : أنّ كثيرا من جزئيّات الصلاة مثلا ممّا وقع الخلاف في وجوبها واستحبابها ، والإتيان بها على أحد الوجهين واجب وذلك لا يكون إلاّ بتقليد الفقيه حتّى يقصد المقلّد الوجه الراجح عنده ، وهذا مثل الخلاف الواقع بين العلماء في وجوب السورة واستحبابها ، ووجوب التسليم واستحبابه إلى غير ذلك ، احتجّ به بعض الأعاظم.

وجوابه واضح لابتنائه على القول باشتراط قصد الوجه في صحّة العبادة حتّى في الأجزاء وقد عرفت ضعفه.

حجّة القائلين بمعذوريّة الجاهل مطلقا :

الأصل ، وتعسّر معرفة المجتهد واستجماعه الشرائط المعتبرة فيه في كثير من العوامّ ولا سيّما النسوان والأطفال في أوائل بلوغهم ، وأنّ المأمور به هو نفس العبادة وكونها مأخوذة من الإمام أو من المجتهد غير داخل في حقيقته فمتى وجد في الخارج يحصل الامتثال ، والأصل عدم مدخليّة كونها مأخوذة منهم في

٤٠٩

ماهيّة العبادات ، والأخبار الدالّة على نفي التكليف فيما لا علم به عموما أو خصوصا.

فمن الأوّل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وضع عن امّتي ـ وعدّ منها ـ ما لا يعلمون » وقوله عليه‌السلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » وقوله عليه‌السلام : « من عمل بما علم كفى ممّا لم يعلم » ونحو ذلك.

ومن الثاني صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممّن لا تحلّ له أبدا؟ فقال : أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك.

وقلت : أيّ الجهالتين أعذر بجهالته ، إنّ ذلك محرّم عليه؟ أم بجهالة أنّها في العدّة؟

فقال : إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأنّ الله حرّم عليه ذلك ، وذلك لأنّه لا يقدر على الاحتياط معها.

فقلت : هو في الاخرى معذور؟ فقال : نعم إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها (١).

وأصحّ هذه الوجوه هو الوجه الثالث وهو مع هذا أخصّ من المدّعى لوجهين :

الأوّل : لا يقضي بنفي الإثم على مخالفة الواقع فيما أدّى الجهل إلى ترك واجب أو فعل محرّم ، فإنّما يدلّ على المعذوريّة بمعنى سقوط الإعادة والقضاء في العبادات.

الثاني : أنّ أقصى مفاده المعذوريّة في العبادات على تقدير المطابقة للواقع لا مطلقا.

وأمّا الأصل ، فالظاهر أنّ المراد به أصالة البراءة النافية لوجوب الرجوع إلى المجتهد أو وجوب تحصيل المعرفة بالحكم الشرعي عن طريق معتبر ، والعقاب المترتّب على ترك تحصيل المعرفة والرجوع إلى الطريق.

ويزيّفه : أنّ وجوب تحصيل المعرفة بالحكم الشرعي بطريق الاجتهاد أو التقليد ممّا لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه ، فلا معنى لنفيه بأصالة البراءة.

نعم لمّا كان أصل المعرفة مقدّمة علميّة للإطاعة وامتثال الأحكام فوجوب تحصيلها الثابت بالعقل والنقل غيريّ لا يترتّب العقاب على مخالفته ، فلا حاجة في نفيه إلى التمسّك بالأصل.

فلو اريد به أصالة البراءة عن وجوب الإعادة فيما بقي للإعادة فيه محلّ ووجوب

__________________

(١) الوسائل كتاب النكاح ـ الباب ١٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح ٤.

٤١٠

القضاء فيما ثبت في نوعه القضاء ، ففيه : أنّه إنّما يصحّ على تقدير المطابقة ، وأمّا مع المخالفة فقد تقدّم الدليل على وجوبهما.

ولو اريد به أصالة عدم اشتراط صحّة العبادة بالأخذ من الطريق فهو راجع إلى الوجه الثالث الّذي سمعت الكلام فيه.

وأمّا دعوى تعسّر معرفة المجتهد ، ففيها : العلم الضروري بأنّ الناس في كلّ زمان يعرفون مجتهديهم واستجماعهم الشرائط بطرقه المقرّرة من التسامع والاشتهار وتصديق أهل الخبرة وغير ذلك بلا عسر أو مع عسر يسير لا ينافي سماحة الشريعة.

وأمّا الأخبار ، فالقسم الأوّل منها ظاهرة في صورة العجز عن العلم الّذي يقبح معه الخطاب ، لكونه من الخطاب الّذي لا طريق للمكلّف إلى امتثاله ، مع أنّ مفاد هذه الرواية إثبات شرطيّة العلم لتنجّز الأحكام الواقعيّة وصيرورتها تكليفا فعليّا ، والمقصود بالبحث نفي مدخليّة الطرق الشرعيّة في صحّة الأعمال وامتثال الأحكام الفعليّة ولا تلازم بين القضيّتين ، مع أنّ معذوريّة الجاهل إن اريد بها أنّه لا تكليف له في قضاياه المجهولة فهو في معنى رفع جلّ التكاليف عنه ، وهذا مفسدة عظيمة لا يسوغ تنزيل الأخبار عليها ، وإن اريد بها جواز اختلاف الأحكام الواقعيّة بالعلم والجهل على وجه يكون الجهل في موارده من الوجوه المغيّرة فهو مفسدة اخرى أعظم من المفسدة الاولى ، ومع ذلك فالأخبار المذكورة ليست في مقام إفادة هذا المطلب.

والقسم الثاني ـ مع أنّه لا يشمل موارد التعبّد فلا تعرّض فيه لإعادة ولا قضاء بنفي ولا إثبات ـ معارض بمثله ، كرواية بريد الكناسي في الصحيح ـ على الصحيح ـ قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن امرأة تزوّجت في عدّتها؟ قال : إن كانت تزوّجت في عدّة طلاق لزوجها عليها الرجعة فإنّ عليها الرجم ، وإن كانت تزوّجت في عدّة ليس لزوجها عليها الرجعة فإنّ عليها حدّ الزاني غير المحصن ، وإن كانت تزوّجت في عدّة من بعد موت زوجها من قبل انقضاء الأربعة أشهر والعشرة أيّام فلا رجم عليها وعليها ضرب مائة جلدة.

قلت : أرأيت إن كان ذلك منها بجهالة؟ قال : فقال : ما من امرأة اليوم من نساء المسلمين إلاّ وهي تعلم أنّ عليها عدّة طلاق أو موت ، ولقد كنّ نساء الجاهليّة يعرفن ذلك.

قلت : فإن كانت تعلم أنّ عليها عدّة ولا تدري كم هي؟

٤١١

قال : فقال : إذا علمت أنّ عليها عدّة لزمتها الحجّة ، فتسأل حتّى تعلم (١).

وحمل ذلك على الجاهل بالتفصيل العالم بالإجمال المتمكّن من العلم التفصيلي بشهادة قوله عليه‌السلام : « فتسأل حتّى تعلم » وحمل ما مرّ على الجاهل بالتفصيل والإجمال وهو الجاهل الصرف الغير المتفطّن بقرينة قوله عليه‌السلام : « لأنّه لا يقدر على الاحتياط » فإنّ الجاهل المتفطّن يتمكّن من الاحتياط ، طريق جمع بينهما.

وبهذا ظهر أنّ هذه الأخبار من أدلّة ما حقّقناه في عنوان الجاهل بالحكم وفاقا لبعض الفضلاء من كفاية العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي في تنجّز التكليف وترتّب جميع آثار الواقع.

وممّا يدلّ عليه أيضا ما رواه المشايخ الثلاث بأسانيدهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ رجلا جاء إليه فقال له : إنّ لي جيرانا لهم جوار تغنّين ويضربن بالعود فربّما دخلت المخرج فأطلت الجلوس إسماعا منّي لهنّ؟

فقال عليه‌السلام : لا تفعل ، فقال : والله ما هو شيء أتيته برجلي إنّما هو سماع منّي أسمعه باذني فقال عليه‌السلام : أنت أما سمعت الله يقول : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً )(٢) وقال الرجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله عزّ وجلّ من عربي ولا عجمي لا جرم فإنّي قد تركتها ، وإنّي أستغفر الله.

فقال عليه‌السلام : قم فاغتسل وصلّي ما بدا لك ، فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك ، استغفر الله واسأله التوبة من كلّ ما يكره ، فإنّه لا يكره إلاّ القبيح ، فالقبيح دعه لأهله فإنّ لكلّ أهلا (٣).

وعن الجزائري الاستدلال أيضا بوجوه كثيرة حكاها بعض الأعاظم ولوضوح ضعفها لا جدوى في التعرّض لذكرها هنا ، ومن أراد العثور عليها فليطلبها من الإشارات.

حجّة بعض الأعلام على ما اختاره من معذوريّة الجاهل في العبادات

على معنى سقوط الإعادة والقضاء عنه وإن خالف عمله الواقع إذا كان قاصرا وجوه ، تعرّض لجمعها وضبطها بعض الفضلاء ، وهي : أنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، وأنّ التكاليف إنّما تثبت على حسب أفهام المكلّفين ولذا لا يشترط في صحّة صلاة المجتهد موافقتها للواقع ، وإنّ تكليف الغافل

__________________

(١) الوسائل ٢٨ : ١٢٦ كتاب الحدود والتعزيرات ، الباب ٢٧ من أبواب حدّ الزناح ٣.

(٢) الاسراء : ٣٨.

(٣) الكافي ٦ : ٤٣٢ باب الغناء ح ١٠.

٤١٢

بالإتيان بما يوافق الواقع تكليف بالمحال ، وأنّه لا معنى محصّل لموافقة الواقع فهل المراد به حكم الله الّذي لا يطّلع عليه إلاّ الله تعالى ، أو ما وافق رأي المجتهد الّذي في ذلك البلد أو أحد المجتهدين ، وما الدليل على تعيين شيء من ذلك؟ وحكم المجتهد بعد اطّلاعه بالموافقة وعدم الموافقة أيّ فائدة فيه لما فعله قبل ذلك إلاّ بالنسبة إلى الحكم بالقضاء فيما دلّ على ثبوته دليل مع الفوات كالصلاة.

والتحقيق : أنّ صدق الفوات في حقّ الجاهل الغافل ممنوع ، إذ لا تكليف له بغير معتقده حتّى يصدق في حقّه الفوات ، وثبوت القضاء في حقّ النائم والناسي إنّما ثبت بالنصّ وعموم الأخبار الدالّة على أصل البراءة وأصل العدم فيما لا يعلمه المكلّف.

والجواب عن الأوّل : منع الإجزاء في الأمر الظاهري العقلي كما حقّقناه في محلّه وأشرنا إليه مرارا ، وسنده عدم معقوليّة تأثير الاعتقاد بخلاف الواقع في حدوث حكم على طبق المعتقد ليكون الحكم الواقعي في حقّ صاحبه ما يوافق المعتقد لا غير.

وعن الثاني : أنّ تبعيّة التكاليف لأفهام المكلّفين إن اريد بها تبعيّة الأحكام الواقعيّة للأفهام على وجه تختلف باختلافها فبطلانه من جهة بطلان التصويب واضح لا حاجة له إلى البيان ، وإن اريد بها تبعيّة الأحكام الفعليّة الظاهريّة لها فهو مسلّم إذا كانت الأفهام مستندة إلى الطرق الشرعيّة الّتي قرّرها الشارع ، لقضاء أدلّة مشروعيّة تلك الطرق بكون مؤدّياتها أحكاما فعليّة ، وفهم الجاهل ليس مستندا إليها كما هو المفروض ، ولا دليل من عقل ولا نقل على كون مقتضى فهمه أيضا حكما فعليّا.

وأمّا الاستشهاد بالمجتهد بتوهّم عدم اشتراط صحّة صلاته بموافقة الواقع كما تقدّم ، ففيه : منع الحكم في الشاهد في تقدير ووجود الفارق بينه وبين ما نحن فيه في آخر.

ومبنى التقديرين على منع عدم اشتراط صحّة صلاته بموافقة الواقع ، لأنّ دعوى عدم الاشتراط يدفعها : أنّه لو لا الاشتراط المذكور لما وجب عليه التدارك إعادة مع بقاء الوقت أو قضاء مع خروجه في صورة القطع بالمخالفة إذا عثر في النظر الثاني لدليل قطعي أفاده القطع ببطلان أعماله الماضية الواقعة على طبق الأمارة الاولى الّتي هي مأخذ الحكم في الاجتهاد الأوّل ، وهذا هو التقدير الأوّل.

ومبنى القول بالعدم في صورة الظنّ بالمخالفة ـ فيما لو قام أمارة ظنّية على بطلان مؤدّى الأمارة الاولى على معنى مخالفته الواقع على وجه عدل المجتهد إلى العمل بها مع

٤١٣

وقوع الأعمال الماضية على طبق الأمارة الاولى ـ على دعوى عدم انكشاف الواقع ومخالفته بالنسبة إلى الأعمال الماضية ، إذ ليس هناك إلاّ الظنّ وهو لا يكفي في انكشاف مخالفة الواقع وتبيّن بقاء المأمور به الواقعي في العهدة ، إذ الظنّ المستند إلى الأمارة الثانية لا يمنع احتمال كون الواقع على طبق الأمارة الاولى ، وهذا الاحتمال ما دام قائما يمنع صدق قضيّة الفوات المعلّق عليها الأمر بالقضاء ، ويمنع أيضا من تبيّن بقاء المأمور به الواقعي في العهدة ليتوجّه الأمر بالإعادة ، لا (١) على إجزاء ما فعله من الأعمال الماضية مع انكشاف مخالفتها الواقع. وتمام الكلام في هذا المقام تقدّم في مسألة الإجزاء.

وعن الثالث : أنّ عدم تكليف الجاهل الغير المقصّر بما يوافق الواقع لقبح تكليف الغافل مسلّم ولكنّه لا يلازم تكليفه في الواقع بمعتقده.

غاية الأمر أنّه اعتقد كون معتقده هو المأمور به الواقعي ، وقد عرفت أنّ اعتقاد الأمر لا يحدث أمرا.

وبالجملة هذا الوجه لابتناء إنتاجه على ثبوت الملازمة المشار إليها راجع بالأخرة إلى الوجه الأوّل ، وقد عرفت جوابه.

وعن الرابع : ما نذكره من تفسير الواقع وموافقته وأنّ المراد به مؤدّى الطريق المشروع الّذي يجب الرجوع إليه حال التفطّن والالتفات ، والدليل على تعيينه كلّما دلّ على طريقيّته للمكلّف المتفطّن ، ودعوى عدم صدق الفوات في حقّه عند مخالفة الأعمال الماضية لذلك الطريقة مجازفة لمنع كونه مكلّفا بمعتقده.

والمفروض على ما حقّقناه في محلّه أنّ صدق الفوات لا ينوط بثبوت التكليف في الوقت بالمأمور به الواقعي ، بل بعدم دخوله في ظرف الخارج ممّن من شأنه الدخول منه فيه.

وبهذا الوجه مع قطع النظر عن النصّ أمكن إثبات القضاء على النائم والناسي.

وعن الخامس : ما مرّ في دفع الأصل من أدلّة القول بالمعذوريّة المطلقة ولا حاجة إلى الإعادة.

تنبيه

المراد بـ « الواقع » في موضوع مسألة سقوط الإعادة والقضاء وعدمه حسبما رجّحناه

__________________

(١) راجع إلى قوله : « على دعوى عدم انكشاف الواقع ومخالفته بالنسبة إلى الأعمال الماضية ».

٤١٤

المأمور به الواقعي بالمعنى الدائر بين الأوّلي ـ وهو الّذي أمر به المكلّف المختار الّذي لم يطرئه جهة اضطرار ـ والثانوي وهو الّذي أمر به المضطرّ الّذي طرئه جهة اضطرار بالقياس إلى بعض الأفعال أو الشروط ، فإذا التفت الجاهل إلى عمله وتردّد بين صحّته وبطلانه وجب عليه تطبيقه على المأمور به الواقعي بأحد قسميه حسبما ساعد عليه حالته من الاختيار والاضطرار ليظهر عليه مطابقته أو مخالفته له ، وحينئذ فإن كان له طريق إلى الواقع بالمعنى المذكور فلا كلام ، وإلاّ وجب عليه الرجوع إلى ما يقوم مقام العلم بالواقع شرعا وهو الطريق المشروع للمكلّف المتفطّن الّذي يجب عليه حال التفطّن والالتفات الأخذ بمؤدّاه من اجتهاد أو تقليد مجتهد يصحّ تقليده.

فالمراد بالواقع حينئذ مؤدّى ذلك الطريق ، بتقريب : أنّ مقتضى أدلّة طريقيّته حسبما بيّنّاه مرارا وجوب الأخذ بمؤدّاه وترتيب الآثار والأحكام عليه على أنّه الواقع ، فالجاهل بعد العمل ولو بمدّة متطالية إذا حصل له التردّد في صحّته وبطلانه راعى الطريق المشروع في حقّه من اجتهاد أو تقليد بالمراجعة إليه ، فإن ساعد على صحّة نوع هذا العمل المأتيّ به انكشف مطابقته للواقع بالمعنى المذكور ، وإن ساعد على فساد نوعه انكشف مخالفته الواقع ، مثلا لو صلّى صلاة بلا سورة باعتقاد عدم [ وجوب ] غير ما أتى به لقصور أو تقصير ، ثمّ التفت إليه بعد مدّة وتردّد في صحّة هذه الصلاة رجع إلى الطريق الّذي يجب عليه في هذه الحالة أن يرجع إليه والأخذ بمؤدّاه ، فإن أدّاه إلى وجوب السورة في الصلاة تبيّن فساد صلاته المأتيّ بها لعدم مطابقتها الواقع فوجب عليه إعادتها أو قضاؤها ، وإن أدّاه إلى عدم الوجوب تبيّن صحّتها لمطابقتها الواقع فلا عليه إعادة ولا قضاء ، ولا يكفي في إحراز مطابقة الواقع مطابقة العمل لفتوى من فتاوى الفقهاء وإن لم يكن حال الالتفات وطروّ الشكّ طريقا مشروعا في حقّه كما حكي القول به ، إذ مطلق [ الفتوى ] قد يكون فتوى الميّت مع وجود الحيّ ، وقد يكون فتوى المفضول مع وجود الأفضل ، أو غيرهما ممّن فقد بعض شرائط الإفتاء وليس بطريق مشروع في حقّ المقلّد في حال الالتفات على القول باعتبار الأعلميّة.

ولو تعدّد من له أهليّة الإفتاء وجاز تقليد كلّ على وجه التخيير واختلفا في الرأي اعتبر في إحراز المطابقة والعدم موافقة العمل لمن اختاره ومخالفته ، ولا يكفي الموافقة لأحدهما ومخالفته قبل الاختيار لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

٤١٥

ثمّ إنّ هذا كلّه مع وحدة مجتهد زماني العمل والالتفات واضح ، وكذلك مع تعدّده وموافقتهما في الرأي.

وأمّا لو تعدّد واختلفا في الرأي كما لو صلّى صلاة خالية عن السورة إلى مدّة من غير تقليد صحيح ، وقارن عمله لوجود مجتهد صالح التقليد ثمّ التفت في زمان مجتهد آخر وقد مات الأوّل أو زال عنه بعض الشرائط وكان من رأي الأوّل صحّة الصلاة من غير سورة ومن رأي الثاني بطلانها أو بالعكس ، ففي كون المعتبر في المطابقة وعدمها رأي الأوّل أو الثاني وجهان : من أنّه لا يعتبر في صيرورة مؤدّى الطريق حكما فعليّا لمن وظيفته الرجوع إليه الأخذ به والالتزام بمؤدّاه فعلا ، وكما أنّ فتوى المجتهد الأوّل كان في زمان حياته أو استكماله الشرائط حكما فعليّا في حقّه فكذلك كان حكما فعليّا لغيره ممّن وظيفته تقليده ، وكان من مقتضى هذا الحكم الفعلي صحّة الصلاة المذكورة الملزومة لسقوط الإعادة والقضاء أو بطلانها المقتضي لثبوتهما ، فيستصحب هذه الآثار إلى زمان المجتهد الثاني الّذي هو زمان الالتفات والتردّد في صحّة العمل وفساده.

ومن أنّ البناء في ذلك الزمان على صحّة الأعمال السابقة ليترتّب عليها عدم وجوب الإعادة والقضاء أو على فسادها ليترتّب عليه وجوبهما لابدّ له في ذلك من مستند شرعي على معنى استناده إلى طريق مشروع ، فلو استند فيه إلى فتوى المجتهد الأوّل رجع ذلك إلى تقليد الميّت ابتداءا أو فاقد الشرائط وهو غير سائغ ، والاستصحاب المشار إليه مخدوش بعدم بقاء موضوع المستصحب أو الشكّ في بقائه ، لاحتمال كون موضوع الحكم الفعلي هو المجتهد الحيّ بوصف الحياة المستكمل للشرائط.

ومن هنا ظهر أنّ الأوجه بل الأظهر هو الوجه الثاني ، ومبناه على منع تقليد الميّت ابتداء وعدم جواز تقليد الغير المستكمل للشرائط.

نعم لو كان المجتهد الأوّل باقيا في زمان الالتفات على استكماله الشرائط وتجدّد فيه مجتهد آخر مستكمل لها أيضا فالمتعيّن حينئذ هو الرجوع إلى فتوى المجتهد الأوّل ، لأصالة عدم صيرورة مؤدّى اجتهاد المجتهد الثاني حكما فعليّا لهذا الجاهل ، وأصالة عدم حدوث التخيير بينهما في حقّه ، إذ مؤدّى الأوّل قبل تجدّد الثاني كان حكما في حقّه على التعيين بخلاف الصورة الاولى الّتي كان المتعيّن فيها الرجوع إلى المجتهد [ الحيّ ] حذرا عن تقليد الغير الجامع للشرائط الّتي منها الحياة ، ولا ينتقض ذلك بصورة التقليد في الأعمال السابقة

٤١٦

حيث يجب الرجوع بموت المجتهد أو طروّ النقص له إلى مجتهد آخر من دون انتقاض فتوى الأوّل في الأعمال السابقة المقلّد فيها ، لأنّ مستند الحكم بصحّتها الملزومة للإجزاء إنّما هو فتوى الأوّل في زمان كماله فلا ينتقض ذلك الحكم في زمان طروّ النقص ، وقد سبق منّا في فروع مسألة الإجزاء ما ينفعك في هذا المقام.

ومحصّله : أنّه يعتبر في اعتبار الاجتهاد والتقليد المتأخّرين عن العمل بالنسبة إليه عدم مصادفته حين وقوعه لاجتهاد أو تقليد ، على معنى عدم استناده إلى أحدهما ، فإنّهما على تقدير الاستناد إليه في زمان وقوعه لا يعتبران بالنسبة إليه بحيث يترتّب عليه آثارهما إلاّ مع انتهائهما إلى حدّ القطع ببطلان الاجتهاد والتقليد المقارن له أو بطلان العمل الواقع بموجبهما باعتبار القطع بالخطأ في الاجتهاد في شخص المسألة.

فروع

الأوّل : لو شكّ في مطابقة عمله السابق للطريق المشروع له المرجوع إليه ومخالفته له بواسطة نسيان بعض خصوصيّاته ففي الاحتياط بالبناء على بطلانه المقتضي لمراعاة التدارك إعادة وقضاء تحصيلا ليقين البراءة فيما ثبت فيه الشغل اليقيني ، أو البناء على الصحّة الملزومة لسقوطهما عملا بعموم أدلّة عدم اعتبار الشكّ بعد الفراغ أو بعد خروج الوقت مضافا إلى أصالة البراءة النافية للتكليف بالإعادة والقضاء وجهان ، أجودهما الأوّل للاسترابة في اندراج المقام في عموم الأدلّة المذكورة ، لاختصاصها ـ ولو بحكم الانصراف ـ بالشكّ في وقوع خلل في العمل المطابق للطريق المشروع أو الشكّ في وقوعه في الوقت ، والشكّ هاهنا إنّما هو في مطابقة العمل الواقع في الوقت للطريق المشروع ومخالفته له ولم يظهر من الأدلّة عدم الاعتبار بهذا الشكّ أيضا.

ويندفع أصالة البراءة بعدم جريانها في مجرى قاعدة الاشتغال.

ويمكن التفصيل بالفرق بين الإعادة لو حصل الالتفات إلى الصحّة والبطلان في الوقت فيجب ، والقضاء لو حصل الالتفات إليها بعد خروج الوقت فلا يجب.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاعادة حيثما تجب ليس وجوبها من مقتضى أمر آخر لينفي احتماله في موضع الشكّ بأصل البراءة ، بل إنّما هو من مقتضى الأمر الأوّل بالأداء باعتبار عدم الخروج عن عهدته بالإتيان الأوّل.

غاية الأمر حصول الشكّ فيما نحن فيه في الخروج وعدمه فيستصحب بقاؤه المقتضي

٤١٧

لوجوب الإتيان ثانيا على طبق الطريق المرجوع إليه ، مضافا إلى قاعدة الشغل المستدعية ليقين البراءة الّذي لا يحصل إلاّ بذلك.

وأمّا الثاني : فلأنّ القضاء إنّما يثبت بالأمر الجديد ، وهو معلّق على صدق قضيّة الفوات ، وهي مع وقوع العمل المذكور في الوقت مشكوك الصدق لاحتمال الصحّة ، فلم يظهر شمول الأمر المعلّق عليها.

غاية الأمر بقاء الشكّ في توجّه ذلك الأمر من باب الشكّ الابتدائي في التكليف والأصل براءة الذمّة عنه ، ولا يجري معه أصل الشغل لانتفاء موضوعه وهو الشكّ في المكلّف به.

هذا ويمكن ترجيح الوجه الأوّل وهو البناء على البطلان رأسا والالتزام بالإعادة والقضاء معا ، لأنّ قضيّة الجمع بين أدلّة الأداء وأدلّة القضاء في الموقّتات ـ على ما قرّرناه في مسألة الإجزاء ـ هو وجوب أحد الأمرين من الفعل في الوقت والفعل في خارجه على وجه الترتّب ، على معنى ترتّب الثاني على فوات الأوّل ، والمفروض عدم حصول الثاني بعد وحصول الأوّل أيضا مشكوك ، لأنّ المراد بالفعل في الوقت هو أداء المأمور به الجامع للشرائط وسائر ما اعتبر فيه وحصوله على هذا الوجه مشكوك والأصل عدمه ، وعليه فيجب الإتيان به على طبق الطريق المرجوع إليه إعادة مع بقاء الوقت أو قضاء مع خروجه.

ولكنّ الإنصاف أنّ إثبات وجوب القضاء في غاية الإشكال ، خصوصا بعد إرجاع الشكّ في صحّة الفعل الحاصل في الوقت إلى الشكّ في وقوع المأمور به الجامع للشرائط وحصول أدائه فيه ، إذ لا مانع حينئذ من اندراجه في عموم الشكّ بعد خروج الوقت وهذا أصل اجتهادي وارد على أصل العدم ، فهذا مع انضمام أصل البراءة إليه ممّا يقرّب التفصيل المذكور إلى الذهن ، هذا ولكنّ المسألة لم تصف بعد وطريق الاحتياط الّذي هو سبيل النجاة واضح.

الثاني : لو شكّ في استناد أعماله السابقة إلى الطريق المشروع له حين وقوعها ، على معنى الشكّ في أنّه هل قلّد فيها مجتهد ذلك الزمان المستكمل للشرائط لئلاّ يجب عرضها على الطريق المشروع المرجوع إليه في زمان الالتفات أو لا ليجب عرضها عليه استعلاما للمطابقة والعدم؟ ففي وجوب البناء فيها على الصحّة أو البطلان أو الرجوع إلى الطريق المشروع إليه وجوه ، أوجهها الأخير لأصالة عدم التقليد المعتضدة بالاحتياط واستدعاء الشغل اليقيني ليقين البراءة.

الثالث : لو وقعت منه في الأزمنة الماضية أعمال مستندة إلى الطريق المشروع له في

٤١٨

أصل

والحقّ منع التقليد في اصول العقائد ، وهو قول جمهور علماء الإسلام ، إلاّ من شذّ من أهل الخلاف *.

__________________

تلك الأزمنة وأعمال اخر غير مستندة إليه واختلطتا على وجه لا يتمكّن من التميز ليرجع في الأعمال الغير المستندة إليه إلى الطريق المرجوع إليه استعلاما لحالها من حيث المطابقة والعدم ، ففي البناء في الجميع على الصحّة أو البطلان أو الرجوع إلى الطريق المرجوع إليه وجوه أيضا ، لا يبعد ترجيح الأخير.

* الأنسب بما قدّمناه في مفتتح باب التقليد من ترتيب مقاصده بحسب البحث عن حكمه وأركانه ـ المقلّد والمقلّد والمقلّد فيه ـ إيراد هذه المسألة في مباحث المقام الثالث الّذي يجب فيه عن أحكام المقلّد فيه ، غير أنّ بناء المصنّف كغيره لمّا لم يكن على مراعاة هذا الترتيب فأوردها هنا ونحن اقتفينا أثره ، فنقول :

اختلفوا في أنّه هل يحرم التقليد في اصول العقائد ويتعيّن النظر والاستدلال ـ على معنى تحصيل المعارف بطريق النظر والاستدلال ـ أو الأمران معا جائزان أو يجب التقليد ويحرم النظر على أقوال ، غير أنّ المعروف المنسوب إلى الأكثر [ هو الأوّل ] وادّعى عليه العلاّمة في الباب الحادي عشر من مختصر المصباح إجماع العلماء كافّة حيث قال :

« أجمع العلماء كافّة على وجوب معرفة الله سبحانه وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة وما يصحّ عليه و [ ما ] يمتنع [ عنه ] والنبوّة والإمامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد ، فلابدّ من ذكر ما لا يمكن جهله على أحد من المسلمين ومن جهل شيئا من ذلك خرج عن المسلمين واستحقّ العقاب الدائم » ونحوه عن شرحه للسيوري.

وعن المبادئ : الإجماع على عدم جواز التقليد كما عن ظاهر غاية المبادئ أيضا.

وعن نهاية العلاّمة ـ زيادة على ما مرّ ـ : الإجماع على وجوب المعرفة وما يجب عليه ويمتنع.

ونحوه ما عن غاية المأمول والآمدي والحاجبي والقوشجي إلاّ أنّه ادّعى إجماع المسلمين.

وعن العضدي ادّعاء إجماع الامّة على وجوب معرفة الله ، وقالوا : « إنّها لا تحصل بالتقليد لجواز كذب المخبر ، ولأنّه لو حصل منه العلم لزم اجتماع النقيضين في المسائل

٤١٩

الخلافيّة ، ولأنّه لو حصل منه العلم فالعلم بصدقه إمّا أن يكون ضروريّا أو نظريّا ، والأوّل باطل جزما ، والثاني يحتاج إلى دليل والمفروض عدمه وإلاّ لم يكن تقليدا » انتهى.

وكأنّ مبنى هذه الإجماعات مع ما عرفت وستعرف أيضا من وجود الخلاف على عدم الالتفات إليه لشذوذ المخالف أو وضوح غفلته عن الحقّ أو اتّضاح فساد دليله أو لحوقه بالإجماع ، وهي لكشفها باستفاضتها عن حقّيّة المورد في الجملة تنهض دليلا على حكم المسألة.

وليعلم أنّ المراد بالتقليد هنا معناه المعروف وهو الأخذ بقول الغير من غير حجّة يحتجّ بها على هذا القول ، بأن يأخذ المكلّف في اصول عقائده كوجود الصانع تعالى ووحدانيّته وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة وعدله ونبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمامة الأئمّة عليهم‌السلام والمعاد بقول الغير ويعوّل عليه لا على حجّة يحتجّ بها ودليل يستدلّ به عليه ، وإلاّ لم يكن تقليدا بل كان أخذا فيها بالنظر وتحصيلا لها بالاستدلال كما أشار إليه العضدي في العبارة المتقدّمة في الوجه الأخير من الوجوه الثلاث الّتي أقامها على منع حصول العلم من التقليد ، وعليه فالتقليد في الاصول من هذه الجهة لا يغائر التقليد في الفروع ، فإنّ التقليد في الفروع يتضمّن جهتين :

إحداهما : أنّه لا يعتبر فيه في لحاظ الأخذ بقول الغير دليل يستدلّ به ولا حجّة يحتجّ بها على هذا القول بل يعتبر العدم كما لا يخفى.

واخراهما : أنّه لا يعتبر أيضا في القول المأخوذ به كونه مستتبعا لاعتقاد المقلّد بالحكم المقلّد فيه لا قطعا ولا ظنّا ، لبنائه على التعبّد المحض ومن علامته كون مستند الآخذ في أخذه نفس ذلك القول المأخوذ به كما تقدّم مشروحا.

والتقليد في الاصول المأخوذ في محلّ البحث لا يغائره من الجهة الاولى كما أشار إليه العضدي وأشار إليه أيضا شيخ الطائفة في صريح عبارته في العدّة عند الاستدلال على العفو عن خطأ المقلّد في تقليده بقوله : « إنّي لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الأئمّة قطع موالاة من يسمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وإن لم يستند في ذلك إلى حجّة عقليّة أو سمع شرعي » (١).

وهل يغايره من الجهة الثانية فيعتبر حصول الاعتقاد من قول الغير للمقلّد بالحكم

__________________

(١) عدّة الاصول ٢ : ٧٣١.

٤٢٠