تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

احتجّ رضى الله عنه * باتّفاق فقهاء الأمصار على الحكم بشهادة العاميّ مع العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد بالأدلّة القاطعة.

لا يقال : قبول الشهادة إنّما كان لأنّهم يعرفون أوائل الأدلّة ، وهو سهل المأخذ.

لأنّا نقول : إن كان ذلك حاصلا لكلّ مكلّف لم يبق من يوصف بالمؤاخذة فيحصل الغرض وهو سقوط الإثم ، وإن لم يكن معلوما لكلّ مكلّف لزم أن يكون الحكم بالشهادة موقوفا على العلم بحصول تلك الأدلّة للشاهد منهم ، لكن ذلك محال. ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحكم بإسلام الأعرابي من غير أن يعرض عليه أدلّة الكلام ولا يلزمه بها ، بل يأمره بتعلّم الامور الشرعيّة اللازمة به كالصلاة وما أشبهها.

وفي هذا الكلام إشعار بميل المحقّق إلى موافقة الشيخ على ما حكاه عنه ، أو تردّده فيه. مع أنّه ليس بشيء ، لأنّ تحرير الأدلّة بالعبارات المصطلح عليها ودفع الشبهة الواردة فيها ليس بلازم. بل الواجب معرفة الدليل الإجمالي بحيث يوجب الطمأنينة. وهذا يحصل بأيسر نظر. فلذلك لم يوقفوا قبول الشهادة على استعلام المعرفة ، ولم يكن النبيّ ٦ ، يعرض الدليل على الأعرابي المسلم ، إذ كانوا يعلمون منهم العلم بهذا القدر ، كما قال الأعرابي : « البعرة تدلّ على البعير وأثر الأقدام على المسير؟ ، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلاّن على اللطيف الخبير؟ ».

__________________

* حجّة الشيخ على ما ادّعاه من العفو وجوه :

الأوّل : ما أشرنا إليه من قوله : « لأنّي لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الأئمّة قطع موالاة من سمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم ، وإن لم يستند في ذلك إلى حجّة عقليّة أو سمع شرعي ».

الثاني : ما حكاه المحقّق ـ على ما نقله المصنّف ـ من اتّفاق فقهاء الأمصار على الحكم

٤٤١

بشهادة العامي مع العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد بالأدلّة القاطعة.

الثالث : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحكم بإسلام الأعرابي من غير أن يعرض عليه أدلّة الكلام ، ولا يلزمه بها بل يأمر بتعلّم الامور الشرعيّة اللازمة له كالصلاة وما أشبهها.

أقول : يرد عليه فساد أصل المدّعى مضافا إلى فساد دليله.

أمّا الأوّل : فلأنّه لو أراد من العفو سقوط المؤاخذة على فعل التقليد كما هو ظاهر كلامه ، ففيه : منع محظوريّة التقليد على الوجه المتقدّم ، إذ ليس في الأدلّة العقليّة ولا الشرعيّة ما يقضي بذلك ، خصوصا على ما احتجّ به من كون التقليد ممّا لا يتمّ به المعرفة الواجبة ، وغاية ما استفيد منها بالنسبة إلى التقليد الظنّي إنّما هو المنع الوضعي وهو عدم كونه مبرئ للذمّة ومسقطا للتكليف.

وأمّا ذمّ آيات التحريم فهو ذمّ على مؤدّى الطريق لا على نفسه ، ولو سلّم كونه ذمّا على الطريق أو على المجموع منه ومن الطريق فهو مخصوص بمقلّدة الكفّار ولا يتناول مقلّدة المسلمين.

ولو أراد منه سقوط المؤاخذة على ترك النظر ، ففيه : منع وجوب النظر على الوجه المتقدّم ، بل غاية ما استفيد من أدلّته عقلا ونقلا إنّما هو الوجوب التوصّلي لحصول العلم والمعرفة ، وإذا فرض حصوله من طريق آخر سقط الوجوب عن النظر من دون أن يستحقّ المؤاخذة على تركه ، على أنّ التقليد المفروض إن لم يفد المعرفة فسقوط المؤاخذة معه غير صحيح لبقاء المعرفة الواجبة في الذمّة ، والانصراف عن تحصيلها بالنظر مخالفة للخطاب بها فيعاقب عليها قطعا.

وأمّا الثاني : فلعدم دلالة الوجوه المذكورة على كون من يسمع قول الطائفة والأئمّة ومن يحكم الفقهاء بشهادته والأعرابي الّذي حكم النبيّ بإسلامه مقلّدين في عقائدهم ، لجواز كونهم علموا من حالهم أو إقرارهم ونحوه أنّهم جازمون فيها عن نظر واستدلال ولو بالدليل الإجمالي بناء على كفايته كما هو الأقوى ، كما في قصّة « دولاب » العجوز وحكاية الأعرابي حيث قال : « البعرة تدلّ على البعير ، وأثر الأقدام على المسير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلاّن على العليم البصير؟ » والأعرابي الآخر حيث أسلم لمجرّد أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أمره بشيء يقول العقل : ليته نهاه وما نهاه عن شيء يقول العقل : ليته أباحه.

ولو سلّم انتفاء الاستدلال فهو لا ينافي علمهم بوجود الجزم التقليدي المفروض كفايته

٤٤٢

من دون إثم مقتض لاستحقاق المؤاخذة على ما تقدّم ، ولو سلّم انتفاء الجزم أيضا فدلالة الوجوه المذكورة على العفو عن المؤاخذة ليست بأولى من دلالتها على جواز التقليد ولو ظنّا.

وأمّا ما ذكره من كفاية وجود الأدلّة العقليّة والنقليّة في النكير على المقلّدين في الاصول في منع دلالة التقرير على الجواز.

يدفعه : أنّه على تقدير وجود الأدلّة إنّما يكفي في سقوط الردع والمنع من باب الهداية والإرشاد دون الردع والمنع في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فعدم النكير من هذه الجهة أيضا ربّما يكشف عن الجواز فليتدبّر.

ولنختم المسألة بذكر امور :

الأمر الأوّل : إنّ مسائل الاصول على قسمين :

أحدهما : ما يجب فيه الاعتقاد والتديّن بالمعتقد من غير اشتراطه بشيء ، وعليه فيجب تحصيله بالرجوع إلى طرقه وتحصيل كلّ ما له مدخليّة في حصوله مقدّمة ، وقد عرفت أنّ الأقوى عدم كفاية غير العلم.

وثانيهما : ما يجب فيه التديّن والقبول بشرط حصول الاعتقاد والعلم ، فالواجب مشروط ، وما لم يحصل العلم لم يجب شيء فلا يجب تحصيله ولا الرجوع إلى الأسباب المحصّلة له نعم إذا حصل وجب التديّن.

ومن حكم القسم الأوّل لزوم الكفر تارة بانتفاء الاعتقاد ، واخرى بانتفاء التديّن والقبول.

ومن حكم القسم الثاني لزوم الكفر بعدم التديّن بعد حصول الاعتقاد.

هذا ولكنّ التمييز بين آحادي القسمين لا يخلو عن غموض وإشكال إلاّ أنّ الّذي ينبغي الإذعان به هو كون معرفة الله وصفاته الثبوتيّة الراجعة إلى إثبات العلم والقدرة ، والسلبيّة الراجعة إلى نفي الحدوث والحاجة ، ونبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمامة الأئمّة الاثني عشر ، والمعاد الجسماني ووجود الجنّة والنار والحساب والكتاب والصراط والميزان من قبيل القسم الأوّل ، وكون كلامه تعالى حادثا أو لفظيّا وعينيّة صفاته ونبوّة سائر الأنبياء وعصمة نبيّنا وكونه أفضل أمّته أو أفضل من سائر الأنبياء أو من الملائكة وعصمة الأئمّة عليهم‌السلام وكونهم أفضل من الأنبياء أو الملائكة وكونهم عالمين بما كان وما يكون ، وكون علمهم حضوريّا أو إراديّا من قبيل القسم الثاني.

ومن مشايخنا من بسط هذا المقام بإيراد طائفة من الأخبار وكلام جماعة من العلماء الأخيار.

٤٤٣

الأمر الثاني : فيمن عجز عن العلم في مسائل الاصول كلّها أو بعضها مع التمكّن من الظنّ ، فالكلام فيه تارة في الموضوع من حيث إمكان تحقّقه ، فهو على حسبما بيّنّاه في مسألة التخطئة والتصويب في العقليّات من إمكان وجود القاصر فيما بين نوع المكلّفين فلا حاجة إلى إعادة البحث هنا.

واخرى في حكمه التكليفي من حيث إنّه بعد اليأس من العلم هل يجب عليه تحصيل الظنّ بالواقع ثمّ التديّن به ، أو لا بل يجب عليه الوقف؟ فالظاهر هنا عدم وجوب تحصيله ، إذ التكليف بالإيمان سقط بفرض تعذّر العلم حذرا عن التكليف بما لا يطاق والتكليف بالظنّ ممّا لا دليل عليه ، ولا مجرى لدليل الانسداد هنا لفرض عدم ثبوت التكليف بالواقع مع العجز عن الوصول إليه ، فلا مناص من الوقف عملا بعموم قوله عليه‌السلام : « إذا جاءكم ما لا تعلمون » وغير ذلك ممّا تقدّم في أوائل باب الاجتهاد عند البحث مع الأخباريّين في مسألة حجّية الظنّ.

ومن مشايخنا من قال : « لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة إلى العالم ووجد العالم منه التمكّن من تحصيل الظنّ بالحقّ ولم يخف عليه إفضاء نظره الظنّي إلى الباطل فلا يبعد وجوب إلزامه بتحصيله ، لأنّ انكشاف الحقّ ولو ظنّا أولى من البقاء على الشكّ فيه ».

وثالثة في حكمه الوضعي من حيث الكفر وعدمه ، فظاهر طائفة من الأخبار أنّه مع الجحود والإنكار لما هو ضابط الإسلام كافر ، ومع الإقرار بما هو مناط الإسلام ليس بكافر وإن لم يكن مؤمنا أيضا ، فيكون من المرجين لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم.

ففي رواية : « لو أنّ الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا » ورواية محمّد بن مسلم : « قال سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام قال : ما تقول فيمن شكّ في الله؟ قال : كافر يا أبا محمّد ، قال : فشكّ في رسول الله؟ قال : كافر ، ثمّ التفت إلى زرارة فقال : إنّما يكفر إذا جحد ».

ورواية زرارة الواردة في تفسير قوله تعالى : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ، ثمّ أنّهم دخلوا الإسلام فوحّدوا الله وتركوا الشرك ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا مؤمنين فيجب لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النار ، فهم على تلك الحالة إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم ».

وظاهر الرواية الاولى أنّ المتوقّف الّذي لا يقرّ ولا يجحد أيضا لا يحكم بكفره ، وعليه

٤٤٤

أصل ويعتبر في المفتي الّذي يرجع إليه المقلّد مع الاجتهاد أن يكون مؤمنا عدلا *

__________________

فالجحود بالنسبة إلى الشاكّ الوارد في تلك الأخبار وغيرها إمّا أن يراد به إظهار عدم الثبوت وإنكار التديّن لأجل عدم الثبوت ، أو يراد به الإنكار الصوري أعني ما هو بصورة الجزم.

وأيّا مّا كان فهو خلاف ظاهر إطلاق الجحود وهو إنكار ما جزم بثبوته واقعا ، كما في رواية عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الكفر في كتاب الله عزّ وجلّ على خمسة أوجه ، فمنها كفر الجحود ـ إلى أن قال ـ : فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة ، والجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ، وقد قال الله تعالى ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ).

الأمر الثالث : أنّ مسألة جواز التقليد في اصول الدين وعدمه أو كفاية الظنّ وعدمه لكونها نظريّة مبتنية على الأدلّة النظريّة الشرعيّة من الآيات والروايات وغيرها ، فالنظر فيها لإثبات الحكم لا يتمّ إلاّ إذا كان الناظر فيها من أهل النظر والاجتهاد ، بل لا يتأتّى إلاّ من المجتهد الّذي له قوّة استنباط المطالب من الأدلّة الشرعية النظريّة لقصور نظر العوامّ عن ذلك ، فلا بدّ وأن يكون الناظر فيها خصوصا من غير جهة العقل المستقلّ بوجوب دفع الضرر أو شكر المنعم المجتهدين في الفروع لا غير ، وفائدته حينئذ إمّا معرفة نفس الأمر أو تنبيه الغافل وإرشاد الجاهل من العوامّ الّذين يغلب عليهم سلوك طريق التقليد أو بناء عقائدهم على الظنون ، فإذا التفتوا وتردّدوا في المسألة ولم يتمكّنوا من الاستقلال بإثبات المطلب بطريق النظر ولو من جهة العقل فلا مناص لهم من الرجوع إلى المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء والأخذ بقوله ولو تقليدا.

* اعلم أنّ المجتهد يتضمّن حيثيّتين : حيث كونه مستنبطا للأحكام الشرعيّة عن الأدلّة التفصيليّة وحيث كونه مفتيا ، ويعتبر فيه من حيث استنباطه امور يعبّر عنها بشرائط الاجتهاد وقد تقدّم ذكرها في مباحث الاجتهاد ، ومن حيث إفتائه شروط اخر وهي شروط لنفوذ فتواه وصحّة رجوع المقلّد إليه ، ومن حيث الوفاق على شرطيّتها والخلاف فيها على قسمين ، فالكلام في بيانها يقع في مقامين :

٤٤٥

المقام الأوّل :

في بيان الشروط الوفاقيّة

وهي الاجتهاد والبلوغ والعقل والإيمان والعدالة ، والمراد باشتراط الاجتهاد كون فتواه عن اجتهاد ، ومرجعه إلى الإخبار عن حكم الله على حسب فتواه ورأيه الناشئ عن اجتهاده ، والمراد بالإيمان ما يقابل الكفر والمخالفة ومرجعه إلى كونه مؤمنا إثني عشري. والدليل على اشتراط هذه الامور وجوه :

الأوّل : الأصل ، المقرّر من وجوه :

منها : أصالة عدم نفوذ فتوى أحد على أحد ، وعدم ترتّب الآثار الشرعيّة على الفتوى إلاّ ما أثبته الدليل من الإجماع وغيره ، وليس إلاّ فتوى الجامع للصفات المذكورة.

ومنها : أصالة الاشتغال بالقياس إلى المرجع الّذي يجب الرجوع إليه على المقلّد بعد اشتغال ذمّته بامتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال والرجوع إلى الجامع للصفات مبرئ يقيني بخلاف غيره ، فتأمّل.

ومنها : أصالة حرمة التقليد المستفادة من العمومات خرج منها تقليد الجامع للصفات وبقي غيره.

الثاني : ظهور الإجماع وعدم الخلاف في الجميع كما استظهره بعض مشايخنا وقبله السيّد الجليل في المفاتيح ، فإنّه في كلّ واحد منها ادّعى ظهور الإجماع ، بل الإجماعات المنقولة عن جماعة من أساطين الطائفة في بعضها كالاجتهاد كما عن المقاصد العليّة قائلا : « الإجماع واقع على أنّه لا يجوز الفتوى والحكم للعاجز عن درجة الاجتهاد » ومجمع الفائدة قائلا : « عدم جواز الإفتاء لغير المجتهد متّفق عليه مدلول الأخبار والكفاية قائلا لا يكفي تقليد غير المجتهد بغير خلاف » وكذلك العدالة كما عن المبادئ والتهذيب والنهاية وشرح المبادئ والمنية وغيرها لتضمّنها الإجماع على اعتبار الورع والتديّن.

الثالث : أنّ الحكم المفتى به ما لم يحرز كونه حكما فعليّا لم يجز الأخذ به كما ظهر في مسألة مشروعيّة التقليد ، ولم يعلم ذلك إلاّ في فتوى الجامع للصفات.

الرابع : أنّ الصبيّ والمجنون لا ينفذ قولهما في حقّ أنفسهما ففي حقّ غيرهما بطريق أولى ، وأنّه لا يعتبر قولهما كالفاسق في الرواية والشهادة ففي الفتوى بطريق أولى ، و « أنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » ، وقول الصادق عليه‌السلام في حديث الاحتجاج : « وكذلك عوام امّتنا

٤٤٦

عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا وبالترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا ، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الّذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة » الحديث.

والروايات الناهية عن الإفتاء بغير علم وقد تقدّم نبذة منها ، وإنّ غير المؤمن ظالم فيحرم الركون إليه لقوله تعالى : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) ، وأنّ المفتي لا بدّ وأن يكون عالما بالحكم الواقعي أو الظاهري لقوله تعالى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) ومن ليس بفقيه غير عالم.

ولا فرق في المجنون بين المطبق والأدواري ، ولا في الكافر والمخالف بين مخالفة فتواه أو استنباطه لاصولنا وغيرها.

فما استشكله بعض الأعلام بقوله : « فلو فرض أنّ مخالفا ثقة صدوقا أفتى على وفق اصولنا وطريقتنا بحيث يحصل الاطمئنان بمساواته مع المفتي من أصحابنا في الاستنباط على اصولنا ـ كما كان جماعة من أصحابنا مفتي الفرق والعامّة كانوا يعتمدون عليهم ـ فيشكل الحكم بعدم جواز الرجوع إليه ، وعدم اعتقاده بالحكم لا ينافي عدم التقصير في الاستنباط وعدم الكذب في الإخبار عنه » واضح الضعف ، إذ الحكم بمقتضى الاصول والأدلّة المتقدّمة تعبّدي ، فالموافقة لاصولنا غير مجدية.

وأضعف منه ما ناقشه في اشتراط العدالة بقوله : « وأمّا العدالة فظاهرهم الوفاق في اعتباره ، وإن كان يمكن القول بكفاية الوثوق في الاستنباط والصدق نظير ما كان يقوله الشيخ رحمه‌الله في إخبار المتحرّزة عن الكذب مع كونهم فاسقين بسائر الجوارح » لوضوح الفرق بين العمل بالفتوى والعمل بالرواية ، لابتناء الأوّل على كون الحكم المفتى به فعليّا ولم يثبت في فتوى الفاسق ، مع قضاء الأدلّة بكون العدالة كالإيمان وسائر الشروط شرطا تعبّديّا ، وكون الثاني عند الشيخ وموافقيه منوطا بظنّ صدور الرواية عن المعصوم والوثوق بصدقها ـ وهو الأقوى ـ ويكفي في ذلك كون الراوي متحرّزا عن الكذب.

٤٤٧

نعم لو كان النظر في اعتبار العدالة إلى إحراز الصدق ورفع اتّهام الكذب عن المفتي من حيث تضمّن فتواه الإخبار برأيه واستنباطه ـ فإنّ قوله : « العصير العنبي حرام » مثلا حيثما سئل عن حكمه يتضمّن إخبارين : كون رأيه في هذا الموضوع الناشئ عن الاستنباط الحرمة ، وكون الحرمة حكم الله الفعلي في الواقعة ، فلا بدّ من اعتبار العدالة فيه دفعا لاحتمال الكذب عن إخباره برأيه واستنباطه ، كما يشير إليه ما عن الذكرى من الاستدلال بآية التثبّت وببعض الأخبار مثل قوله : « أعدلهما » في مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة ـ اتّجه القول بكفاية الوثوق والاطمئنان بالصدق في الإخبار بالرأي وعدم التقصير في الاستنباط وإن حصل من ملاحظة كونه متحرّزا عن الكذب مع كونه فاسقا من جهة اخرى ، ولكنّه لا يلائم كلماتهم الظاهرة في تعبّدية الشرط ويعضده ظهور الإجماع عليه.

وهل المعتبر في الشروط المذكورة وجودها في زمان الاجتهاد أعني استنباط الأحكام عن مداركها ، أو في زمان الإفتاء الّذي هو زمان الأخذ بالنسبة إلى المقلّد ، أو في زمان العمل بالمأخوذ الّذي هو متأخّر عن الأوّلين ، أو يعتبر وجودها في حالي الإفتاء والعمل معا؟

والظاهر أنّه لا يشترط في زمان الاجتهاد ما عدا وجود الملكة المقتدر بها على استنباط الأحكام عن مداركها بل الظاهر أنّه إجماعيّ ، ولذا ذكرنا أنّها من شرائط المفتي من حيث إفتائه لا من حيث استنباطه ، فلو اجتهد في حال النقص بصبائة أو جنون أو كفر أو فسق مع كونه في جميع الصور ذا ملكة ثمّ استكمل في زماني الإفتاء والعمل جاز الأخذبه والعمل عليه.

وأمّا في الأخيرين فقد يدخل في الوهم اشتراط وجودها في حال الإفتاء فقط وكفايته قياسا للفتوى على الرواية الّتي يشترط فيها وجود الشروط المذكورة مع الضبط ما عدا الاجتهاد في الراوي ، فإنّ المعتبر وجودها حال الرواية والإخبار لا بشرط وجودها حال تحمّل الرواية ولا حال العمل بها ، ولذا أجمعت الطائفة على العمل بروايات جماعة تحمّلوها حال نقصهم وتخليطهم وعدم استقامتهم مع استكمالهم واستقامتهم حال الرواية ، وكذلك على العمل بروايات جماعة رووها حال استقامتهم ثمّ طرأهم النقص والتخليط فيما بعد ذلك.

وبالجملة النقص وعدم استقامة السابقان كالنقص وعدم استقامة اللاحقين لا يقدحان في صحّة الرواية وجواز العمل بها فكذا الفتوى ، كما يستشمّ هذه المقايسة ممّن نقض الثانية بالاولى في ردّ من لا يجوّز تقليد الميّت ابتداءا ولا البقاء على تقليده بناء منه على اشتراط حياة المفتي ابتداء واستدامة ، حيث إنّ الطائفة يعملون بروايات الأموات ابتداء واستدامة من غير توقّف ونكير.

٤٤٨

ولكنّه يندفع بوضوح الفرق بين المقامين الموجب لبطلان المقايسة ، والفارق أنّ الحجّة في الرواية هو قول الراوي من حيث إنّه كلام يحكي السنّة ، وحجّيته من باب الطريقيّة فلا بدّ في إحراز صدقه ورفع احتمال الكذب والسهو عنه من اعتبار الشروط المذكورة مع الضبط حال الرواية ليحرز به السنّة الّتي هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، وإذا حصل الوثوق والاطمئنان بصدق الراوي وعدم سهوه بملاحظة الشروط المذكورة احرز به السنّة.

ولا يقدح فيها بعد إحرازها النقص السابق ولا عدم استقامة اللاحق ، فالعمل بالرواية حينئذ مرجعه إلى العمل بالسنّة المحرزة بها حال الإخبار ، لا إلى العمل بها من حيث إنّها قول الراوي ، ومن ثمّ لا يعتبر بقاء الشروط ولا حياة الراوي حال العمل مطلقا ، بخلاف الفتوى فإنّ الحجّة فيها إنّما هو رأي المفتي ، واللفظ الصادر منه إنّما يؤخذ به لكشفه عن الرأي ، وحجّيته بالنسبة إلى عمل المقلّد من باب الموضوعيّة ، لكونه موضوعا للحكم الفعلي الّذي يترتّب عليه آثار الواقع ، ومن الظاهر أنّ هذا الموضوع إنّما يحتاج إليه في مقام العمل فلابدّ وأن يكون جامعا للشروط حال العمل ، لأنّه في موضوعيّته للمحمول المذكور بمقتضى أدلّة الشروط مقيّد بها على وجه يكون كلّ منها جزءا للموضوع ، واللازم من ذلك انتفاء الموضوع بانتفائها كلاّ أم بعضا ويستحيل معه بقاء المحمول ، فلا يجوز العمل بعد طروّ النقص للمفتي وإن كان كاملا قبل ذلك.

ومن هنا اندفع نقض الفتوى بالرواية في ردّ من لا يجوّز تقليد الميّت ولا البقاء على تقليده ، فإنّهما على ما بيّنّاه ليسا من واد واحد ليجري حكم أحدهما في الآخر فكيف حكم الفتوى بما هو من أحكام الرواية.

وبالجملة فلا ينبغي التأمّل في اعتبار الشروط المذكورة في حال العمل بالفتوى لأنّه ممّا لا كلام فيه بل الظاهر أنّه أيضا إجماعي ، وإنّما الكلام في أنّه هل يعتبر مع ذلك وجودها في حال الإفتاء أيضا أو لا؟

والظاهر بل الّذي ينبغي أن يقطع به هو الأوّل لوجوه :

الأوّل : ما اخترناه عند تعريف التقليد من أنّه الالتزام والتديّن بقول الغير ، على معنى الأخذ به على أنّه من الدين ، فلا بدّ وأن يحتوي المفتي للشروط المذكورة من حال الإفتاء إلى جميع حالات العمل.

نعم على القول بأنّه العمل فقط اتّجه القول بكفاية وجودها حال العمل وإن كانت منتفية حال الإفتاء ، غير أنّه خلاف التحقيق.

٤٤٩

الثاني : ما أشرنا إليه سابقا من أنّ الإفتاء يتضمّن إخبارين : الإخبار برأيه ، والإخبار بكون رأيه حكم الله الفعلي ، ومن ذلك ينتظم القياس المؤلّف من قطعيّتين يعبّر عنهما : « بأنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي ».

ولا ريب أنّ الصغرى المذكورة تتولّد من الإخبار الأوّل في حال الإفتاء والكبرى تتولّد من الإخبار الثاني ، والأوسط المتكرّر فيهما وهو الحكم المفتى به وإن كان رأي المفتي إلاّ أنّه بمقتضى أدلّة الشروط المذكورة مقيّد بها ، والحاجة إليه إنّما تحصل في حال العمل والإفتاء معا فلابدّ من وجودها في كلتي الحالتين.

الثالث : أنّ الشروط المذكورة قد ينظر إليها لأمر يرجع إلى المقلّد المستفتي وهو جواز العمل بالحكم المفتى به ، وقد ينظر إليها لأمر يرجع إلى المقلّد المفتي وهو الولاية على الإفتاء والقابليّة والتأهّل له ، بناء على أنّ الإفتاء كالقضاء منصب من المناصب الشرعيّة كما هو ظاهر كلام الأصحاب ، ومرجع إثبات الشروط إلى بيان أنّ الفاقد ليس له هذا المنصب ، والأمر الراجع إلى المقلّد بالكسر حكم تكليفي وإلى المقلّد بالفتح حكم وضعي ، وأثر الأوّل يظهر في حال العمل وأثر الثاني يظهر في حال الإفتاء فلابدّ من وجود الشرائط في الحالتين معا.

نعم هاهنا شروط اخر بعضها ما هو على تقدير شرطيّته معتبر في حال الإفتاء فقط كالضبط على ما ذكره بعض الفضلاء تبعا للشهيدين في الذكرى والروضة ولا يخلو عن وجه ، التفاتا إلى أنّ الإفتاء لتضمّنه الإخبار بالرأي لابدّ في مطابقته الواقع من اعتبار ما يدفع عنه احتمال الكذب وهو العدالة مثلا ، وما يدفع عنه احتمال الخطأ بالسهو والنسيان وهو الضبط الّذي هو عبارة عن غلبة الذكر على السهو ، وهذا بناء على هذا التوجيه يختصّ اعتباره بحال الإفتاء كما هو واضح.

لكن عن الذكرى تعليله بتعذّر درك الأحكام بدونه ، وهذا يقتضي باختصاصه بحال الاستنباط ، لكنّه عليل جدّا.

ومنها ما لو ثبت شرطيّته كان معتبرا في جميع الحالات الثلاث ، أعني حال الاستنباط والإفتاء والعمل كالأعلميّة والأورعيّة على القول باشتراطهما في التقليد ، وحياة المقلّد بالفتح فإنّها شرط عقلي للاستنباط وشرعي للأخذ ـ بناء على القول بمنع تقليد الميّت ابتداء ـ والعمل أيضا بناء على القول بعدم جواز البقاء على تقليد الميّت.

ومن جملة ذلك اجتهاد المفتي على معنى كونه ذا ملكة راسخة ، ولذا لو زال ملكته لعارض وجب العدول عن تقليده إلى صاحب الملكة ، فيشترط وجود الاجتهاد بهذا المعنى

٤٥٠

وفي صحّة رجوع المقلّد إليه علمه بحصول الشرائط فيه * ، إمّا بالمخالطة المطلقة ، أو بالأخبار المتواترة ، أو بالقرائن الكثيرة المتعاضدة ، أو بشهادة العدلين العارفين. لأنّها حجّة شرعيّة إلاّ أنّ اجتماع شرائط قبولها في هذا الموضع عزيز الوجود كما لا يخفى على المتأمّل.

ويظهر من الأصحاب هنا نوع اختلاف ، فإنّ العلاّمة رحمه‌الله قال في التهذيب : لا يشترط في المستفتي علمه بصحّة اجتهاد المفتي ،

__________________

في حال الاستنباط وبقائه إلى حالي الأخذ والعمل ، ويجب على المقلّد حين إنشاء التقليد إحراز فتوى مجتهده وكونها ناشئة عن الاستنباط وكون الاستنباط ناشئا عن الملكة ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه في كلام القوم باشتراط كون المفتي من أهل الاجتهاد ، وهل يجب في صحّة رجوع المقلّد إليه وجوازه علمه باجتهاده أو يكفيه غلبة الظنّ؟ فيه خلاف أشار إليه المصنّف.

* الظاهر أنّه أراد من العلم هنا ما يعمّ العلم العقلي والعلم الشرعي ، بقرينة عطف شهادة العدلين الّتي هي علم شرعي على الامور السابقة عليه الّتي هي أسباب للعلم العقلي ، وظاهر العبارة كون العلم المذكور شرطا لجواز التقليد ، فيكون كالشروط المذكورة من قيود المقلّد ومحصّله : المجتهد المعلوم الاجتهاد ، وهذا خلاف التحقيق لعدم توقّف أصل الجواز على أزيد من الشروط المتقدّمة ، والعلم المذكور إنّما يتوقّف عليه العلم بالجواز لا أصل الجواز.

والسرّ فيه : أنّ الجواز بحسب أدلّة الشروط معلّق على موضوع واقعي اخذ فيه قيود فما لم يعلم تحقّقه بقيوده وصدقه على ما شكّ أو ظنّ حصول الشرائط فيه لم يعلم جواز الرجوع إليه ، ومن الظاهر أنّ عدم العلم بالجواز في الامور المخالفة للأصل كاف في الحكم بعدم الجواز حتّى مع الظنّ بحصول الشرائط ما لم يقم دليل بالخصوص على حجّيته ، لكونه ظنّا في الموضوع الصرف والأصل فيه عدم الحجّية.

ومن هنا ظهر أنّ القائل باعتبار العلم وعدم كفاية الظنّ مستظهر لموافقة قوله الأصل ، وعليه فالدليل يطالب من القائل بكفاية الظنّ لا من القائل باعتبار العلم. لكن ينبغي أن يعلم أنّ أثر هذا البحث إنّما يظهر في خصوص اجتهاد المفتي ، لوضوح حكم سائر الشرائط من

٤٥١

غير حاجة له إلى عقد هذه المسألة ، إذ العدالة منها ـ على ما قرّرناه في رسالة منفردة (١) ـ يكفي في ثبوتها حسن الظاهر المفيد للوثوق بوجود الصفة النفسانيّة ، والوثوق بوجودها الحاصل من غير جهة حسن الظاهر كائنا ما كان من غير تفاوت فيه بين مواردها الّتي منها المفتي والإسلام ، بل الإيمان منها يكفي في ثبوته الظهور النوعي المعوّل عليه في الإنسان المكلّف المنتحل إلى المسلمين وأهل الإيمان بالسيرة القطعيّة المتّصلة بأعصار المعصومين حتّى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ الظاهر فيه سلامة العقائد وصحّتها فيحكم بها ما لم يظهر منه ما ينافي الإسلام بالمعنى الأخصّ ، ولا يسأل بل لا يجب الفحص عن باطنه كما لا يسأل عن باطن الشهود وأئمّة الجماعة والحكّام والفقهاء والمجتهدين وغير ذلك من موارد هذا الشرط.

والعقل أيضا يكفي في ثبوته الظهور النوعي في الإنسان البالغ ، لأنّ ظاهره كمال العقل وعدم قصوره الملحق له بالمجنون ما لم يظهر منه ما يوجب الجنون ، وهذا الظاهر أيضا ممّا يعوّل عليه بالإجماع والسيرة القطعيّة.

وأمّا البلوغ فوقوع أصل الاشتباه في حصوله في المتصدّين للإفتاء والمدّعين لأهليّة الفتوى لأنفسهم قليل لا يتّفق إلاّ في فرض نادر لا يصلح لعقد مسألة علميّة له ، ولو فرض وقوعه أحيانا فيبنى فيه على الأصل وهو أصالة عدم البلوغ ، ولا وارد عليه من الظواهر ، والأصل في مطلق الظنّ فيه لكونه ظنّا في الموضوع عدم الحجّية.

فتمحّض البحث وعقد المسألة لمن شكّ في أهليّته للفتوى باعتبار الشكّ في اجتهاده ، ومرجع البحث إلى أنّه هل يكفي في إحرازه والالتزام بثبوته غلبة الظنّ المستندة إلى ظاهر ككونه متصدّرا ومتصدّيا للإفتاء بمشهد من الناس ومرجعا للعامّة في الاستفتاء ، فإنّ ذلك بنوعه يفيد الظنّ والاطمئنان بكونه من أهل الاجتهاد ، ولا يجب تحصيل العلم به بالسؤال والفحص وإحراز سائر أسباب العلم ، أو لا بل يجب الاقتصار على العلم وما يقوم مقامه كشهادة العدلين؟

فالمحقّق في المعارج وقبله السيّد في الذريعة وبعده المصنّف هنا على اعتبار العلم وعدم كفاية غلبة الظنّ ، والعلاّمة في المبادئ والتهذيب والنهاية وولده فخر الإسلام في شرح المبادئ والسيّد عميد الدين في المنية والشهيدان في الذكرى والمقاصد العليّة والمحقّق الثاني في الجعفريّة ـ كما حكي ـ على عدم اشتراط العلم وكفاية غلبة الظنّ.

__________________

(١) رسالة في العدالة : ٢٨ ( المطبوعة بقم المشرّفة ، سنة ١٤١٩ ه‍ ).

٤٥٢

لقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) من غير تقييد (١) ، بل يجب عليه أن يقلّد من يغلب على ظنّه أنّه من أهل الاجتهاد والورع. وإنّما يحصل له هذا الظنّ برؤيته له منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق ، واجتماع المسلمين على استفتائه وتعظيمه.

وقال المحقّق رحمه‌الله : ولا يكتفي العاميّ بمشاهدة المفتي متصدّرا ، ولا داعيا إلى نفسه ، ولا مدّعيا ، ولا بإقبال العامّة عليه ، ولا اتّصافه بالزهد والتورّع. فإنّه قد يكون غالطا في نفسه ، أو مغالطا. بل لا بدّ أن يعلم منه الاتّصاف بالشرائط المعتبرة من ممارسته وممارسة العلماء وشهادتهم له باستحقاق منصب الفتوى وبلوغه إيّاه.

والاختلاف بين هذين الكلامين ظاهر ، كما ترى. وكلام المحقّق رحمه‌الله هو الأقوى ، ووجهه واضح لا يحتاج إلى البيان.

واحتجاج العلاّمة رحمه‌الله : بالآية على ما صار إليه مردود. أمّا أوّلا : فلمنع العموم فيها. وقد نبّه عليه في النهاية. وأمّا ثانيا : فلأنّه على تقدير العموم لا بدّ من تخصيص أهل الذكر بمن جمع شرائط الفتوى بالنظر إلى سؤال الاستفتاء ، للاتّفاق على عدم وجوب استفتاء غيره ، بل عدم جوازه ، وحينئذ فلا بدّ من العلم بحصول الشرائط ، أو ما يقوم مقام العلم ، وهو شهادة العدلين.

ويظهر من كلام المرتضى : الموافقة لما ذكره المحقّق رحمه‌الله حيث قال : وللعاميّ طريق إلى معرفة صفة من يجب عليه أن يستفتيه ، لأنّه يعلم بالمخالطة والأخبار المتواترة حال العلماء في البلد الّذي يسكنه ورتبتهم في العلم والصيانة أيضا والديانة. قال : وليس يطعن في هذه الجملة قول من يبطل الفتيا ، بأن يقول : (١) هذا ما استدلّ به العلاّمة في كتبه ، ومبناه على إطلاق الذكر ، كما أشار إليه بقوله : « من

٤٥٣

غير تقييد » أي من غير تقييد بكون أهل الذكر معلوم الاجتهاد فيشمل المظنون اجتهاده كما فهمه بعض المحقّقين.

ويمكن ابتناؤه على إطلاق السؤال باعتبار المخاطبين المتناول للعالم باجتهاد أهل الذكر والظانّ به.

وكيف كان فلا خفاء في ضعفه ـ بعد الإغماض عن منع تعميم أهل الذكر بالقياس إلى غير أهل الكتاب ، بناء على نزول الآية في بشريّة الأنبياء كما يشهد به صدرها ، أو بالقياس إلى غير الأئمّة بناء على أخبارنا المستفيضة المفسّرة له بالأئمّة ، أو بالقياس إلى غير العلماء الموجودين في زمن النزول بناء على كون الآية من قبيل خطاب المشافهة ، فلم يظهر شمولها لمن ليس من صنفهم من المجتهدين ـ لأنّ التمسّك بالإطلاق على الوجه المذكور إنّما يتّجه لو كان مبنى قول مشترطي العلم على أخذه مع شروط المفتي على وجه الموضوعيّة ليكون قيدا في أهل الذكر كما أنّ سائر الشروط قيود فيه ، وهذا ليس بلازم وغير مراد لهم بل مرادهم على ما ينساق من ظاهر كلماتهم اعتباره طريقا إلى إحراز الواقع ، فإنّ أهل الذكر الجامع للشرائط موضوع واقعي علّق عليه الأمر بالسؤال ، فلا يجري الإذن المستفاد منه في المورد إلاّ إذا علم اندراجه في الموضوع الواقعي المعلّق عليه ذلك الإذن كما هو الحال في سائر الموضوعات الواقعيّة.

وقد يستدلّ عليه : بأنّ في لزوم الاقتصار على العلم حرجا عظيما وعسرا شديدا فيكون منفيّا كما في

المفاتيح ، وهذا أيضا ضعيف بمنع الملازمة ، لوضوح تيسّر العلم ووفور أسبابه من اختبار وشياع ونقل متواتر وتسامع وتظافر بين طلبة العلم وأهل الخبرة بصناعة الاجتهاد وغير ذلك ، ولو اتّفق لبعض الأشخاص في بعض الأحيان عسر شديد في تحصيله اقتصر في نفي وجوبه عليه ، لكون العسر والحرج في اقتضاء نفي التكليف شخصيّا لا نوعيّا.

ويمكن الاستدلال على كفاية الظهور المفيد لغلبة الظنّ بأهليّة الفتوى برواية يونس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن البيّنة إذا اقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يحكم بقول البيّنة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال : « فقال : خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم : الولايات ، والمناكح ، والذبائح ، والشهادات ، والمواريث ، فإذا كان ظاهره مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه » وفي الفقيه « الأنساب » مكان « المواريث ».

والمراد بظاهر الحكم هو ظاهر الحال ، بل عن الوافي والوسائل التعبير بها مكان الحكم ،

٤٥٤

وإنّما عبّر بالحكم لصحّة إطلاق الحكم على المحمول المنتسب إلى الموضوع كتصرّف زيد فيما بيده ، وكون المرأة في حبالته ، وذبح المسلم ، وكون الشاهد حسن الظاهر ، وكون زيد منتسبا إلى عمرو بالبنوّة أو الاخوة أو العمومة أو نحو ذلك.

وتقريب الاستدلال : أنّ الرواية تدلّ على حجّية الظاهر وتقدّمه على الأصل في الأشياء الخمس.

ومن جملة ذلك ظهور الولايات وهي كون الرجل يلي أمر شيء ، على معنى القيام به بالأخذ والإعطاء والتقلّب والتولّي في الاستحقاق ولو بعنوان المالكيّة كما في تصرّف ذي اليد فيما بيده.

ومن المعلوم أنّ الولايات عامّ يتناول تولّي المفتي للإفتاء بمشهد من الناس الراجعين إليه في الاستفتاء على وجه الإذعان والقبول ، وهو على الوجه المذكور ظاهر في أهليّته للفتوى فيجب الأخذ بهذا الظاهر بمقتضى الرواية.

هذا ولكن يشكل الحال في جواز التعويل على هذه الدلالة ، حيث لم نقف من الأصحاب على آخذ بها وعامل عليها ، وإن كان السيّد في المفاتيح أيّد ما اختاره من جواز الاعتماد على الظنّ هنا بالرواية المذكورة.

وكيف كان فالمسألة لعدم وضوح دليل واضح على حجّية الظنّ هنا مع مصير الأكثر إلى الحجّية في غاية الإشكال ، وسلوك طريق الاحتياط بعدم التخطّي عن العلم بالاجتهاد وأهليّة الفتوى طريق النجاة ، وفي ثبوت الاجتهاد بشهادة العدلين وعدمه قولان أشهرهما الأوّل وهو أقوى للسيرة القطعيّة.

وعن بعض المحقّقين دلالة رواية صحيحة على حجّية شهادة العدلين مطلقا.

وقد يستدلّ عليه بفحوى ما دلّ على ثبوت ولاية القاضي المنصوب من الإمام بها كما صرّح به جمع من غير نقل خلاف ، وليس ببعيد وإن كان لا يخلو عن تأمّل.

وفي ثبوته بشهادة عدل واحد إشكال أقربه العدم ، وفي اشتراط كون الشاهدين من أهل الاجتهاد أو من أهل الخبرة به [ وجهان ] والأقرب هنا أيضا العدم.

وليعلم أنّ الاجتهاد الّذي هو من شروط المفتي من حيث إفتائه عبارة عن مجموع الملكة الراسخة والإدراكات الناشئة ولا يكفي وجود إحداهما ، وهو معتبر في الأخذ والعمل معا ، ولا يكفي وجوده في ابتداء العمل بل يعتبر بقاؤه في جميع آنات العمل.

٤٥٥

والظاهر أنّه وفاقيّ بل قيل إنّهم نقلوا الإجماع على اشتراط بقاء الاجتهاد ، وعليه فلو عرضه مرض يختلّ به ملكته أو إدراكاته أو ملكته وإدراكاته معا لم يجز البقاء على تقليده بل يجب العدول إلى غيره ، وقضيّة اشتراط بقاء الاجتهاد أن يشترط بقاء حياته إذ لا يعقل بقاء الاجتهاد مع عدم بقاء الحياة.

ومن هنا يتوجّه الإشكال إلى القائلين بعدم اشتراط حياة المفتي أو عدم اشتراط بقاء حياته من حيث إنّ بقاء الاجتهاد منوط ببقاء الحياة وزوال الحياة يستلزم زوال الاجتهاد والواسطة بينهما غير معقولة ، فإنّ الموت أشدّ وأصعب من جميع ما يمكن فرض عروضه من الأمراض ، وإذا أمكن اختلال الإدراكات بعروض المرض فاختلالها بعروض الموت بطريق أولى.

وممّا يرشد إلى ذلك أنّ الإدراكات الحاصلة حال الحياة إنّما حصلت بواسطة آلات هي القوى الحيوانيّة والإنسانيّة المنوطة ببقاء تعلّق الروح بالبدن ، فإذا انقطع التعلّق بمفارقة البدن انعدمت هذه القوى جزما ومعه كيف يصحّ بقاء الإدراكات؟

ويؤيّد ذلك أيضا ما قيل : من أنّ الموت ليس إلاّ فناء الأخلاط الأربعة.

ومن المعلوم بالوجدان والتجارب وتصريح أهل الخبرة أنّ لبعضها مدخليّة في الإدراك حدوثا وقوّة وضعفا ، فإنّ خلط الصفراء يوجب جودة الذهن وسرعة الانتقال ، والسوداء توجب الحفظ ، والبلغم يوجب البلادة وبطؤ الانتقال فغناؤها يوجب زوال الإدراكات ، وممّا يشهد أيضا بأنّ القوّة الحيوانيّة والإنسانيّة لها مدخليّة في الإدراك أنّه كلّما قويت هذه القوى قوي الإدراكات وكلّما ضعفت ضعفت الإدراكات كما في حالة الهرم ، فإنّه إذا تكامل قد يبلغ بالإنسان إلى أن يعود إلى حالة الطفوليّة فينتقص عقله ويختلّ فهمه ، وتضعف قواه وملكاته ، وتزول علومه وإدراكاته ، وتعود معلوماته إلى مجهولات ، كما يشير إليه قوله عزّ من قائل : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ).

فقضيّة هذا كلّه اختلال إدراكات المجتهد بالموت وعدم بقائها لا محالة ، لا على معنى أنّ الروح بعد مفارقة البدن لا إدراك له ، بل بمعنى أنّ إدراكاته الحاصلة حال الحياة غير باقية بعد الممات.

فالقول بعدم اشتراط بقاء الحياة يؤول إلى القول بعدم اشتراط بقاء الاجتهاد ، وانتظر لتتمّة الكلام في ذلك في مسألة تقليد الميّت.

٤٥٦

كيف يعلمه عالما ، وهو لا يعلم شيئا من علومه؟ لأنّا نعلم أعلم الناس بالتجارة والصناعة في البلد ، وإن نعلم شيئا من التجارة والصناعة وكذلك العلم بالنحو واللّغة وفنون الآداب.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ حكم التقليد مع اتّحاد المفتي ظاهر ، وكذا مع التعدّد والاتّفاق في الفتوى ؛ وأمّا مع الاختلاف ، فأن علم استواءهم في المعرفة والعدالة ، تخيّر المستفتى في تقليد أيّهم شاء. وإن كان بعضهم أرجح في العلم والعدالة من بعض ، تعيّن عليه تقليده ، وهو قول الأصحاب الّذين وصل إلينا كلامهم *. وحجّتهم عليه أنّ الثقة بقول الأعلم أقرب وأوكد.

ويحكى عن بعض الناس : القول بالتخيير هنا أيضا. والاعتماد على ما عليه الأصحاب.

ولو ترجّح بعضهم بالعلم بالورع ، قال المحقّق رحمه‌الله : يقدّم الأعلم ، لأنّ الفتوى تستفاد من العلم لا من الورع ، والقدر الّذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم ، فلا اعتبار برجحان ورع الآخر. وهو حسن.

أصل

ذهب العلاّمة في التهذيب : إلى جواز بناء المجتهد في الفتوى بالحكم على الاجتهاد السابق. ومنع من ذلك المحقّق فعدّ في شرائط تسويغ الفتوى أن يكون المفتي بحيث إذا سئل عن لمّيّة الحكم في كلّ واقعة يفتي بها أتى به وبجميع اصوله الّتي يبتني عليها.

وقال في موضع آخر : إذا أفتى المجتهد عن نظر في واقعة ثمّ وقعت بعينها

__________________

* هذا هو عنوان المقام الثاني الّذي يتكلّم فيه عن الشروط الخلافيّة ، فمن جملة ذلك : الأعلميّة.

٤٥٧

وتحرير هذه المسألة : أنّ مجتهد عصر المقلّد إن اتّحد فلا إشكال في تعيّن تقليده ، وإن تعدّد فإن اتّفقا في الرأي والفتوى فلا إشكال في كون حكمه على التخيير بين تقليد أيّهما شاء ، وإن اختلفا في الرأي فإن تساويا في العلم والمعرفة فلا إشكال أيضا في التخيير ، وإن اختلفا في ذلك أيضا ففي تعيّن الرجوع إلى الأعلم أو التخيير بينه وبين الرجوع إلى غير الأعلم خلاف ، مرجعه إلى الخلاف في اشتراط صحّة التقليد وجوازه بالأعلميّة مع وجود الأعلم وعدمه ، فذهب جماعة كالمحقّق في المعارج والعلاّمة في الإرشاد ونهاية الاصول والتهذيب والسيّد في المنية والشهيد في الدروس والقواعد والمحقّق الثاني في الجعفريّة وجامع المقاصد والشهيد الثاني في التمهيد وولده في المعالم والبهائي في الزبدة والصالح المازندراني في حاشية المعالم والسيّد صاحب الرياض ـ كما حكي عنهم ـ إلى الأوّل ، واختاره المصنّف بل ما عرفت من عبارته يؤذن بدعوى الإجماع عليه ، ويوهمه ما عن التمهيد من قوله : « والحقّ عندنا ذلك ».

وعن المسالك كونه المشهور بين أصحابنا ، وقيل : بالثاني كما عن الحاجبي والعضدي والقاضي أبي بكر وجماعة من الاصوليّين والفقهاء ، واختاره بعض الفضلاء وجماعة ممّن عاصرناهم.

حجّة القول الأوّل بما استدلّ أو يمكن أن يستدلّ به وجوه :

الأوّل : أنّ مناط عمل المقلّد في تقليده كون فتوى المجتهد حكما فعليّا في حقّه يجب عليه بناء العمل عليه والتديّن به ، والقدر المتيقّن المقطوع بكونه حكما فعليّا في حقّه إنّما هو فتوى الأعلم ، لمكان الشكّ في كون فتوى غير الأعلم أيضا حكما فعليّا وعدمه ، والشكّ فيه كاف في الحكم بعدم جواز الأخذ به والتعبّد به.

فإن قلت : إنّ مؤدّيات اجتهاد غير الأعلم ومظنوناته أحكاما فعليّة ولو في حقّ نفسه ممّا لا كلام فيه ، ولذا لا يجوز له تقليد غيره وإن كان أعلم منه ، وقد ذكرت في مسألة كون وجوب التقليد على وجه التعبّد لا من باب الظنّ أنّ كون مؤدّيات اجتهاد المجتهد أحكاما فعليّة نسبة واحدة بينه وبين المقلّد أعني كلّ من وظيفته التقليد ، ولذا يعبّر في كبرى القياس

٤٥٨

المنتظم عنده : « بأنّ كلّما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي » وقضيّة ذلك أن لا يتفاوت الحال في كون مؤدّيات اجتهاد المجتهد أحكاما فعليّة في حقّ المقلّد بين الأعلم وغير الأعلم.

قلت : إنّ كون مؤدّيات اجتهاد المجتهد أحكاما فعليّة إنّما يسلّم كون نسبته واحدة بينه وبين المقلّد إذا لم يطرأها ما يخرجها من كونها كذلك في حقّ المقلّد كاشتراطه عدالة المفتي من حيث إفتائه ، ولا ما يوجب الشكّ في كونها كذلك في حقّه كالشكّ في شرطيّة الأعلميّة مع وجود الأعلم كما فيما نحن فيه ، فوحدة النسبة حسبما قرّرناها في المسألة المذكورة ليست على إطلاقها.

والمفروض أنّ مصير المعظم إلى اشتراط الأعلميّة يوجب الشكّ في الشرطيّة ، ومعه لا يلزم من كون مؤدّيات اجتهاد غير الأعلم أحكاما فعليّة في حقّه كونها كذلك في حقّ غيره ممّن وظيفته التقليد.

الثاني : قاعدة الاشتغال ، وبيانها : أنّه اشتغلت ذمّة المقلّد بامتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال ، ولا بدّ له من طريق ولا يكون إلاّ تقليد المجتهد.

ولا ريب أنّ تقليد الأعلم مبرئ للذمّة قطعا بخلاف تقليد غيره ، فيجب الأوّل لاستدعاء الشغل اليقيني يقين البراءة ولا يحصل إلاّ به.

لا يقال : قد حقّق في محلّه أنّ الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة يرجع فيه إلى أصل البراءة ، فكما يقال في مسألة الشكّ في جزئيّة السورة للصلاة أنّ الأصل براءة الذمّة عن العقاب المحتمل ترتّبه على ترك الصلاة مع السورة ، فكذلك الأصل براءة الذمّة عن العقاب المحتمل ترتّبه على ترك تقليد الأعلم ، ومعه لا مجرى لأصالة الاشتغال ، واللازم من ذلك كون تقليد غير الأعلم أيضا مبرئا للذمّة.

لأنّ الشكّ في المكلّف به ما لم يكن آئلا إلى الشكّ في التكليف لم يجر فيه أصل البراءة ، وإنّما يؤول إليه إذا كان الشكّ في شرطيّة أو جزئيّة شيء للعبادة وغيرها من واجب نفسي انيط الثواب والعقاب بموافقته ومخالفته ، والواجب النفسي الّذي اشتغلت الذمّة به ويترتّب العقاب على مخالفته إنّما هو امتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال ، والتقليد طريق إليه فوجوبه غيريّ مقدّميّ ، ولا تأثير له في ترتّب العقاب على تركه ، بل إنّما يترتّب على

٤٥٩

ترك الامتثال الّذي هو الواجب النفسي ، فلا بدّ للفرار عن حدّ العقاب على ترك هذا الواجب من إحراز أدائه وحصوله في الخارج ، أو من إحراز ما يكون مبرئ للذمّة عنه ، والأعلميّة المشكوك في كونها شرطا على تقدير شرطيّته في الواقع شرط في الطريق لا في الامتثال ، ولا ريب أنّ التقليد مع إحراز الأعلميّة طريق ومبرئ للذمّة يقينا بخلاف التقليد مع انتفائها ، ولا يعقل في مثل ذلك إلاّ أصل الاشتغال.

وبالجملة فرق في الشكّ في الشرطيّة بين ما لو رجع الشرط المشكوك فيه إلى نفس الواجب النفسي وما لو رجع إلى ما هو طريق إليه ، في أنّ الأوّل يؤول إلى الشكّ في التكليف فيجري فيه أصل البراءة والثاني لا يؤول إليه بالنسبة إلى الواجب النفسي فلا يجري فيه إلاّ أصل الاشتغال.

الثالث : العمومات المانعة من العمل بما وراء العلم ، ولا ريب أنّ قول المجتهد بالنسبة إلى عمل المقلد ممّا وراء العلم ، والقدر المخرج منه من العمومات إنّما هو فتوى الأعلم ويبقى غيره تحتها ومنه فتوى غير الأعلم.

ولا خفاء في ضعفه ، إذ التمسّك بعمومات المنع من العمل بما وراء العلم إنّما يتّجه إذا كان الشكّ في جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل باعتبار الشكّ في وجود المقتضي وليس كذلك ، لخروج قول المجتهد بنوعه من تلك العمومات بعموم ما دلّ على حجّية ذلك القول للمقلّد مطلقا ، ولذا جاز تقليد المفضول على تقدير عدم وجود الأفضل ، فالشكّ في جواز تقليده حال وجود الأفضل إنّما هو باعتبار المانع ، للشكّ في مانعيّة الموجود ، فإنّ وجود الأفضل على تقدير وجوب تقليده مانع من تقليد المفضول ، نظير الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما أقوى من الآخر قوّة توجب ترجيحه عليه ، حيث إنّ تقديمه على المعارض ليس لعدم حجّيته الذاتيّة لثبوت الحجّية الذاتيّة فيهما معا لعموم دليل الحجّية وإلاّ لم يعقل التعارض ، بل لأنّ المعارض الأقوى مانع من العمل عليه ، ولذا لا يلزم بترك العمل عليه تخصيص في دليل الحجّية ، فالفاضل من المجتهدين المتفاضلين أيضا مانع من تقليد المفضول على القول باشتراط الأعلميّة.

ومن الظاهر أنّ عدم المانع ليس جزءا من المقتضي ، فالمقتضي لجواز تقليد المفضول مع وجود المانع موجود ، ومعه لا معنى للتمسّك بعمومات المنع على تقدير الشكّ في مانعيّة وجود الأفضل.

٤٦٠