تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

مرجعه إلى النظر في الأدلّة التفصيليّة.

ومعلوم أنّ الملكة المضافة إلى النظر يغاير الملكة المضافة إلى العلم الحاصل بالنظر.

فإن قلت : إنّ العلم من الامور التوليديّة المترتّب حصولها على حصول المقدّمتين قهرا ، فلا يضاف إليه ملكة إلاّ وهي الملكة المضافة إلى المقدّمتين ، فهي أمر واحد يضاف إليهما أوّلا وبالذات وإليه ثانيا وبالعرض ، فالملكة المأخوذة في « الفقه » هي الملكة المأخوذة في « الاجتهاد » بعينها فلا تغاير بينهما.

قلت : هذا إذا اعتبرنا الملكة المضافة إلى النتيجة في مقابلة الملكة المضافة إلى مجموع المقدّمتين وليس المقام كذلك ، فإنّ الملكة المأخوذة في مفهوم الاجتهاد ليست هي الملكة المضافة إلى مجموع المقدّمتين ، بل هي ملكة مختصّة بالصغري وهي بمجرّدها لا تكفي في حصول الملكة المضافة إلى النتيجة ، بل لا بدّ معها من ملكة اخرى يتحصّل بها الكبرى ، فالهيئة الحاصلة عن مجموع الملكتين هي الملكة المضافة إلى النتيجة لا الملكة المختصّة بالصغرى وحدها ، وقضيّة ذلك كون ملكة الاستنباط جزءا من ملكة الفقاهة ، فحصل بذلك التغاير فيما بين الاجتهاد والفقه شبه تغاير الجزء والكلّ.

ـ تعليقة ـ

قد عرفت أنّ الاجتهاد قد يلاحظ باعتبار الفعل وقد يلاحظ باعتبار الملكة وهذان إذا اضيفا إلى جميع المسائل وإلى بعضها يتصوّر في المقام صور كثيرة ، وهي حصول كلّ من الملكة والفعليّة بالقياس إلى جميع المسائل ، وحصولهما معا بالقياس إلى بعضها ، وحصول الملكة بالقياس إلى الجميع والفعليّة بالقياس إلى البعض ، وحصول الفعليّة بالقياس إلى الجميع والملكة بالقياس إلى البعض ، وحصول الملكة بالقياس إلى الجميع أو البعض معرّاة عن الفعليّة ، وحصول الفعليّة بالقياس إلى الجميع أو البعض معرّاة عن الملكة ، فهذه ثماني صور.

ثمّ إنّ المجتهد عندهم ينقسم إلى مطلق ومتجزّ ، ويدخل في الاجتهاد المطلق من الصور المذكورة ثلاث صور وهي ما لو حصلت الملكة والفعليّة معا بالقياس إلى الجميع ، أو حصلت الملكة بالقياس إلى الجميع مع فعليّة البعض ، أو معرّاة عن الفعليّة بالمرّة ، كما أنّه يدخل في المتجزّي صورتان وهما : حصول الملكة بالقياس إلى البعض خاصّة مع الفعليّة بالقياس إليه ، أو معرّاة عنها ، وهما بكلتيهما على ما صرّح به الفحول ويساعده عليه عناوينهم

٢١

في كتب الاصول وغيرها محلّ للنزاع الآتي في بحث التجزّي في الاجتهاد وإن قصر عنه جملة من أدلّتهم كما ستعرف ، بناء على أنّ حصول الفعليّة غير معتبر في نظر من يجوّز التجزّي في الاجتهاد كما يقتضيه إطلاقهم بإمكان تجزّي الملكة.

وسيلحقك زيادة بيان في ذلك عند البحث في مسألة التجزّي.

وأمّا الصور الثلاث الباقية وهي فعليّة الجميع مع ملكة البعض ، أو معرّاة عنها بالمرّة ، وفعليّة البعض معرّاة عنها أيضا فهي خارجة عن موضوع الاجتهاد المطلق ، كما أنّها خارجة عن موضع النزاع في مسألة التجزّي ، لظهور اتّفاقهم على امتناع الجميع كما يقتضيه إطلاقهم بتوقّف الاجتهاد باعتبار الفعل عليه باعتبار الملكة.

وأمّا الاجتهاد المطلق فظاهرهم الاتّفاق على إمكانه في جميع صوره الثلاث ، وإن كان إيرادهم المعروف على حدّ « الفقه » المتقدّم في محلّه بعدم انعكاس الحدّ لو اريد بالأحكام جميعها يومئ إلى وجود القول بعدم إمكان الصورة الاولى منها أو عدم وقوعها أو ندرتها ، ولم نقف من الاصوليّين ولا غيرهم من العامّة والخاصّة على من جزم بتعذّره إلاّ بعض الأخباريّة بالقياس إلى الصورة الاولى كالأمين الاسترآبادي في فوائده المدنيّة ، حيث إنّه بعد ما أبطل طريقة المجتهدين على ما زعمه وأثبت طريقة الأخباريّين بما ستقف على ضعفه وفساده عقد فصلا على حدة في إثبات تعذّر المجتهد المطلق ، وقال : « الفصل الثالث : في إثبات تعذّر المجتهد المطلق.

أقول : بعد ما أحطت خبرا بالآيات والروايات المتقدّمة لم يبق مجال للمجتهد المطلق ، ونزيدك بيانا فنقول : في كثير من الوقائع لا يجري التمسّك بالبراءة الأصليّة ولا بالاستصحاب ، ولا تفي بها عمومات الكتاب ولا عمومات السنّة ولا إجماع هناك ، ومن أمثلة ذلك دية عين الدابّة كما مرّ من أنّ بعد العلم باشتغال الذمّة والحيرة في القدر المبرئ للذمّة لا تجري البراءة الأصليّة وغيرها.

فإن قلت : كيف يزعم عاقل تحقّق المجتهد المطلق مع كون كتب الخاصّة والعامّة مشحونة بقول الفقهاء : « وفيه تردّد » وما أشبهه من العبارات؟

قلت : زعمهم ذلك مبنيّ على مقدّمات تقدّمت وهي : أنّ الله تبارك وتعالى نصب دلالات ظنّية على المسائل الاجتهاديّة لا القطعيّة ، وأنّه ليس شيء من الدلالات المنصوبة من قبله تعالى مخفيّا عند أحد بحيث يتعذّر تحصيلها بالتتبّع ، وإنّ سبب تردّد الفقيه في بعض

٢٢

المسائل تعارض الدلالات المنصوبة من قبله تعالى في نظره ، وأنّ حكم الله في حقّه وحقّ مقلّديه ما دام كذلك التخيير.

والعجب كلّ العجب من متأخّري أصحابنا حيث قالوا بهذه المقدّمات مع أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار ببطلانها ، فإنّها [ صريحة ] في أنّ له تعالى في كلّ واقعة خطابا صريحا قطعيّا خاليا عن المعارض ، وفي أنّ كثيرا منها مخفيّ عندهم عليهم‌السلام ، وفي أنّه يجب التوقّف في كلّ واقعة لم نعلم حكمها.

وممّن تفطّن بتعذّر المجتهد المطلق الآمدي من الشافعيّة ، وصدر الشريعة من الحنفيّة مع كثرة طرق الاستنباطات الظنّية عندهم ، فالعجب كلّ العجب من إماميّ يزعم عدم تعذّره مع قلّة طرق الاستنباطات الظنّية عنده » انتهى (١).

وهذا الكلام كما ترى من صدره إلى ذيله مختلّ النظام ، ووجوه الإيراد على فقراته كثيرة تظهر بالتأمّل ، لكنّ الّذي يتعلّق منها بمحلّ الكلام هو أن يقال : إنّ تعذّر الاجتهاد المطلق إن اريد به تعذّر العلم أو الظنّ في كلّ واقعة من أوّل الوقائع الّتي عيّن لها بحسب الواقع أحكام إلى آخرها فهو حقّ لا ينكره أحد ولا يقول أحد من الإماميّين بعدم تعذّر ذلك ، غير أنّ الاجتهاد الّذي عليه بناء عملهم قديما وحديثا ليس مقصورا على هذا الفرض ، لما تقدّم من اعترافهم بأنّه قد يفضي إلى القطع وقد يفضي إلى الظنّ كما هو الغالب ، وقد يفضي إلى الأخذ بمقتضى الاصول العامّة العمليّة التعبّديّة الّتي هي المرجع بعد تعذّر الوصول إلى الواقع علما أو ظنّا.

وإن اريد به تعذّره مطلقا حتّى بالقياس إلى مواضع التعبّد من الاصول وغيرها فهو كذب وفرية ، كيف ولا يخلو واقعة اجتهاديّة إلاّ وأنّ المجتهد على تقدير اجتهاده فيها يصل إلى حكمها الواقعي علما أو ظنّا إن أصابه فيها دليل اجتهادي معتبر واضح الدلالة خال من المعارض الّذي عجز عن علاجه ، أو حكمها الظاهري المستفاد من الأسباب التعبّديّة من الاصول العامّة ، والّذي يقول الإمامي وغيره بعدم تعذّره هو الاجتهاد بهذا المعنى.

والحاصل : أنّ الّذي يتعذّر الوصول إليه في جميع المسائل إنّما هو الحكم الواقعي المثبت في كلّ واقعة ، وهو لا يقضي بتعذّر الوصول إلى الحكم الفعلي الثابت في كلّ واقعة الّذي هو

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ٢٦١.

٢٣

قد يكون حكما واقعيّا وقد يكون حكما ظاهريّا.

والّذي يتّفق كثيرا للفقهاء من التردّد والتوقّف في المسائل فإنّما هو بالنظر إلى الأحكام الواقعيّة لا الأحكام الفعليّة ، ولعلّ الشبهة نشأت عمّا تقدّم في تعريف الأكثر للاجتهاد من أخذهم فيه الظنّ ، وقد عرفت توجيهه عند دفع الإيراد عليه بخروج قطعيّات الفقه وموارد التعبّد ومجاري الاصول العامّة العمليّة.

ثمّ إنّه في فصل آخر صرّح بعدم اعتبار الملكة فيمن يستنبط الحكم الشرعي إذا كان متمسّكه الخبر الصحيح الصريح فقال : « الفصل الرابع : في إبطال القسمة المذكورة ، وقد تقدّمت الوجوه الدالّة عليه ، ونزيدك بيانا ، فنقول : يجوز لفاقد الملكة المعتبرة في المجتهد أن يتمسّك في مسألة مختلف فيها بنصّ صحيح صريح خال عن المعارض لم يبلغ صاحب الملكة أو بلغ ولم يطّلع على صحّته ، ولا يجوز له أن يتركه ويعمل بظنّ صاحب الملكة المبنيّ على البراءة الأصليّة أو على استصحاب أو عموم أو إطلاق » انتهى (١).

وفيه : أنّه إن أراد بالنصّ الصحيح الصريح ما يفيد القطع بحكم الله الواقعي النفس الأمري على وجه يكون بالقياس إليه حكما فعليّا ، فما ذكره حقّ ، غير أنّ الفرض لا يختصّ بكون سبب القطع هو النصّ ، بل هذا كلام يجري في جميع أسباب العلم. وإن أراد به ما عدا ذلك فما ذكره دعوى لا شاهد بها من عقل ولا نقل ، بل الدليل الشرعي وهو الإجماع ناهض بخلافه ، فإنّ تكليف فاقد الملكة في الصورة المفروضة هو الرجوع إلى صاحب الملكة جدّا.

ـ تعليقة ـ

إذا بلغ العالم رتبة الاجتهاد باجتماعه للشرائط المعتبرة فيه ولم يكن متجزّيا ـ بأن كان ذا ملكة عامّة وقوّة كلّية بالقياس إلى جميع المسائل ـ واجتهد في المسألة على الوجه المعتبر شرعا تعيّن عليه العمل بمؤدّى اجتهاده مطلقا ، ولم يجز له تقليد غيره في تلك المسألة ولو كان ذلك الغير أعلم منه إجماعا ، ولا مخالف في المسألة إلاّ جماعة من الأخباريّة لشبهات عرضت لهم ، ومحلّ خلافهم على ما أشرنا إليه سابقا الاجتهاد بالمعنى المصطلح المأخوذ فيه الظنّ ، فمرجعه إثباتا ونفيا إلى جواز التعويل على الظنّ الحاصل

__________________

(١) الفوائد المدينة : ٢٦٣.

٢٤

بالاجتهاد وعدمه ، فانّهم على ما عزي إليهم أنكروا جواز ذلك في نفس الأحكام وموضوعاتها الّتي هي من قبيل العبادات ، مع مصيرهم إلى الجواز في الموضوعات الّتي ليست من قبيل العبادات.

ويرد عليهم : عدم تعقّل الوجه في هذا الفرق ، إذ لو كان غرضهم في نفي الحجّية أنّ الظنّ بنفسه ومن حيث هو مع قطع النظر عن قطعي قام بحجّيته لا يصلح حجّة في الشريعة بخلاف العلم لكونه بنفسه حجّة ، فهذا كلام يجري في الحكم وموضوعه مطلقا. والفرق تحكّم.

ولو كان غرضهم أنّ الظنّ في الموضوع ممّا قام القطعي باعتباره إذ لولاه لانسدّ باب الاستنباط ، فبطل به إنكارهم على المجتهدين في تجويزهم العمل به في الأحكام ، إذ كلّ من قال به إنّما قال عن قطعي بلغه ، فتعويل المجتهد في الحقيقة إنّما هو على القطع لا الظنّ من حيث هو.

ومن هنا يقال : إنّ الظنّ في طريق الحكم وهو لا ينافي قطعيّة نفس الحكم.

وبالجملة لا إشكال لأحد في أنّ الظنّ بنفسه لا يصلح حجّة ، بل هو من هذه الجهة في حكم الشكّ فيقبح في حكم العقل التعويل عليه في إطاعة الله تعالى وامتثال أحكامه بأخذ متعلّقه حكما شرعيّا يجب امتثاله بعنوان القطع ، بل هو عند التحقيق من الامور المستحيلة لأوله إلى تجويز الجمع بين النقيضين كما لا يخفى. بل مجرّد الشكّ في الاعتبار والعدم كاف في الحكم بعدم الاعتبار على ما هو من مقتضى قاعدة التوقّف ، وهو مع ذلك معلوم من الضرورة والإجماع.

قال العلاّمة البهبهاني في التاسعة من فوائده : « وأيضا إجماع المسلمين على أنّه في نفسه ليس بحجّة ، ولذا كلّ من يقول بحجّية ظنّ يقول بدليل ، فإن تمّ وإلاّ فينكر عليه ويقال بعدم الحجّية » ـ إلى أن قال : ـ « وأيضا ظنّ الرجل أمر وحكم الله أمر آخر ، وكونه هو بعينه أو عوضه محتاج إلى دليل حتّى يجعل هو إيّاه أو عوضه شرعا » انتهى.

بل هو مدلول عليه بالنصوص كتابا وسنّة.

أمّا الكتاب : فالعمومات المانعة عن العمل بالظنّ والناهية عن اتّباع ما وراء العلم.

وأمّا السنّة : فالأخبار البالغة فوق حدّ التواتر معنى ، وقد جمع العلاّمة المتقدّم ذكره كثيرا منها في رسالته المعمولة في الاجتهاد والأخبار ، ويكفي في ذلك ما روي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٥

« من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة ».

وما عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ومن عمى نسي الذكر واتّبع الظنّ بارز خالقه ».

وعن الصادق عليه‌السلام : « إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك ، إيّاك أن تفتي الناس برأيك وتدين بما لا تعلم ».

وما عن الباقر عليه‌السلام : « من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم ، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادّ الله حيث أحلّ وحرّم فيما لا يعلم ».

وما عن الصادق عليه‌السلام أيضا : « أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال عن أن تدين الله بالباطل وتفتي الناس بالباطل ».

وما عنه أيضا : « حقّ الله على الخلق أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى الله حقّه ».

وما عن أبي جعفر عليه‌السلام : « حقّ الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون ».

وما عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه ، والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ، ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال الله تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).

وما عنه أيضا : « قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح ».

وعن أبي الحسن عليه‌السلام : « إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به ، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها ، ووضع يده على فيه ».

وما عن أبي الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ فقال : « لا بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد. قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ فقال : إذا أصبتم بمثل ذلك فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا ».

وما عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من دان الله بغير سماع عن صادق ألزمه الله البتّة إلى العناء ،

__________________

(١) الأنبياء : ٧.

٢٦

ومن ادّعى سماعا بغير الباب الّذي فتحه فهو مشرك ، وذلك الباب المأمون على سرّ الله المكنون ».

وما عنه عليه‌السلام : « ما أحد أحبّ إلىّ منكم ، إنّ الناس سلكوا سبلا شتّى منهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برأيه ، وأنّكم أخذتم بأمر له أصل ».

وما عنه أيضا : « أنّ الناس أخذوا هكذا هكذا ، فطائفة أخذوا بأهوائهم ، وطائفة قالوا بآرائهم ، وطائفة قالوا

بالرواية ، وإنّ الله هداكم بحبّه وحبّ من ينفعكم حبّه عنده » إلى غير ذلك من الأخبار الّتي يأتي كثيرا منها أيضا فيما بعد ذلك إن شاء الله.

ولا يذهب عليك أنّ ذمّ الطائفة القائلة بالرواية لا ينافي القول بحجّية خبر الواحد ، لأنّ المراد من القول بالرواية الركون إلى كلّ رواية من كلّ راو من دون اعتبار السند ولا مراعاة الصدق والصدور ولا جهة الصدور ولا الدلالة مثلا.

وبالجملة الأخذ بالرواية من دون مراعاة الشروط المحرزة للسند والصدور وجهة الصدور والدلالة ونحوها ممّا يكون محلاّ للشبهة المانعة عن الركون والاعتماد.

وملخّص الكلام : أنّ قضيّة ما ذكر كلّه أنّ الأصل الأصيل الأوّلي في الظنّ عدم الحجّيّة ما لم ينهض دليل علمي على الأخذ به ، وهذا الأصل ممّا لا ينكره أحد من علمائنا الأعلام من المتقدّمين والمتأخّرين إلاّ من شذّ منهم وندر ، كما يستفاد ذلك من بعض الأعلام في غير موضع من كتابه.

ومن جملة ذلك ما ذكره في بحث الاجتهاد عند منع نهوض آيات تحريم العمل بالظنّ دليلا عليه من قوله : « فالحاصل أنّ الآيات إن سلّمنا وجوب العمل على عمومها مع إخراج الظنّ المعلوم الحجّية فيجب العمل على هذا الدليل مع إخراج الظنّ المعلوم عدم حجّيته ، فارتفع بهذا الدليل القطعي العقلي الظهور الّذي ادّعيت من الآية.

فصار المحصّل : أنّ كلّ ظنّ لم يثبت بطلانه فهو حجّة ، وبطل القول بأنّ الأصل حرمة كلّ ظنّ إلاّ ما ثبت حجّيته » انتهى.

وربّما يحكى القول بجواز العمل به في الأحكام وموضوعاتها مطلقا ، فإن أراد القائل به كونه من مقتضيات نفس الظنّ من دون اعتبار قيام حجّة عليه فقد خبط خبطا عظيما ، وخرج ما أقمناه من الأدلّة القطعيّة حجّة عليه ، ولم نقف في أصحابنا على من يقول بتلك المقالة ، وإنّما يقولون بعدم جواز العمل به مطلقا إلاّ ظنّ المجتهد المستجمع لشرائط الفتوى

٢٧

في المسائل الاجتهاديّة ، لا لأنّه في نفسه حجّة بل لقيام القاطع عليه من العقل والشرع ، بل الظنّ في كلامهم هنا ليس على إطلاقه وإن وصف في كلام غير واحد بالإطلاق قبالا للظنّ الخاصّ ، بل المراد به الظنون المطلقة المجهولة الحال من جهة الأدلّة الخاصّة من الحجّية وعدمها.

وما عرفته عن بعض الأعلام فهو أيضا ليس قولا بأصالة الظنّ لا عن قاطع كما نصّ به في طيّ العبارة المتقدّمة ، ويمكن كون مراده بما ادّعاه من الأصل ما يكون أصلا ثانويّا كما يستفاد من مواضع اخر من كتابه وإن كان هنا بعيدا ، ولعلّ الأخباريّة غفلوا عن مقصود المجتهدين من أصحابنا فساقوا عليهم بما ساقوا ، واعترضوا عليهم بما تقف عليها من التجشّمات الواهية والتكلّفات الفاسدة.

ومن جملة ذلك ما في كلام الأمين الاسترآبادي في فوائده المدنيّة (١) من احتجاجه في إبطال مقالة المجتهدين بالعمومات الناهية الكتابيّة كقوله تعالى : ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَ )(٢) وقوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(٣) وقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(٤) وقوله تعالى : ( إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ )(٥) و ( إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ )(٦) وقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ )(٧) إلى غير ذلك من الآيات.

ومن جملته أيضا احتجاجه بما ورد عن الأئمّة الهدى عليهم‌السلام من الخطب والوصايا والأخبار الّتي منها أكثر ما تقدّم ومنها غيرها.

فعن نهج البلاغة (٨) في ذمّ القضاة : « ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ تجتمع القضاة بذلك عند إمامهم الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد ، أفأمرهم الله بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه دينا تامّا فقصّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تبليغه وأدائه؟ والله سبحانه يقول :

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٨٥. (٢) الأعراف : ١٦٩.

(٣) النجم : ٢٨. (٤) الإسراء : ٣٦.

(٥) الجاثية : ٢٤.

(٦) الأنعام : ١١٦.

(٧) المائدة : ٤٤.

(٨) نهج البلاغة : ٦١ ، الكلام ٩٨.

٢٨

( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ )(١) وفيه تبيان لكلّ شيء ، إلى آخره » (٢).

وعنه عليه‌السلام أيضا في كلام له : « إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه ، فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف ؛ فزهر مصباح الهدى في قلبه ، وأعدّ القرى ليومه النازل به ، فقرّب على نفسه البعيد وهوّن الشديد ، نظر فأبصر ، وذكر فاستكثر ، وارتوى من عذب فرات ، سهّلت له موارده فشرب نهلا وسلك سبيلا جددا ، قد خلع سرابيل الشهوات ، وتخلّى من الهموم إلاّ همّا واحدا انفرد به ، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه وسلك سبيله ، وعرف مناره ، وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس ، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الامور من إصدار كلّ وارد عليه ، وتصيير كلّ فرع إلى أصله ، مصباح ظلمات ، كشّاف عشوات ، مفتاح مبهمات ، دفّاع معضلات ، دليل فلوات ، يقول فيفهم ويسكت فيسلم ، قد أخلص لله فاستخلصه ، فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه العدل ، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه ، يصف الحقّ ويعمل به ، لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها ولا مظنّة إلاّ قصدها ، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه ، يحلّ حيث حلّ ثقله ، وينزل حيث كان منزله.

وآخر قد يسمّى عالما وليس به ، فاقتبس جهائل من جهّال وأضاليل من ضلاّل ، ونصب للناس أشراكا من حبائل غرور وقول زور ، قد حمل الكتاب على آرائه وعطف الحقّ على أهوائه ، يؤمن من العظائم ويهوّن كبير الجرائم ، يقول : أقف عند الشبهات وفيها وقع ، ويقول : اعتزل البدع وبينها اضطجع ، فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان ، لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ، ولا باب العمى فيصدّ عنه ، وذلك ميّت الأحياء ، فأين تذهبون وأنّى تؤفكون ، والأعلام قائمة والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم! بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم وهم أزمّة الحقّ أعلام الدين وألسنة الصدق ، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وردوهم ورود الهيم العطاش.

أيّها الناس خذوها عن خاتم النبيّين ( أنّه يموت من مات منّا وليس بميّت ، ويبلى من بلى منّا وليس ببال ) فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون ، وأعذروا من

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) الفوائد المدنيّة : ١٩٤.

٢٩

لا حجّة لكم عليه وأنا هو ، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر ، وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقّفتكم على حدود الحلال والحرام ، وألبستكم العافية من عدلي ، وفرشت لكم المعروف من قولي وفعلي ، وأرايتكم كرائم الأخلاق من نفسي ، فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا يتغلغل الله الفكر » (١).

وعنه عليه‌السلام أيضا أنّه قال : « إنّ من أبغض الخلائق إلى الله عزّ وجلّ رجلان : رجل وكلّه الله إلى نفسه ، فهو جائر عن قصد السبيل مشعوف بكلام بدعة ، قد بهج بالصوم والصلاة (٢) فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هدى من كان قبله ، مضلّ لمن اقتدى به في حياته وبعد موته ، حمّال خطايا غيره رهن بخطيئته.

ورجل قمش جهلا موضع في جهّال الناس ، غاريا غباش الفتنة ، قد سمّاه أشباه الناس عالما ولم يعن فيه يوما سالما ، بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر ، حتّى إذا ارتوى من آجن واكتنز من غير طائل ، جلس بين الناس قاضيا ، ضامنا لتخليص ما التبس على غيره ، وإن خالف قاضيا سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان ، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيّأ لها حشوا [ رثّا ] من رأيه ثمّ قطع به ، فهو من لبس الشبهات مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ، لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكره ، ولا يرى أنّ [ من ] وراء ما بلغ فيه مذهبا ، إن قاس شيئا بشيء لم يكذب نظره ، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه ، لكيلا يقال له لا يعلم ، ثمّ جسر فقضى ، فهو مفتاح عشوات ركّاب شبهات ، خبّاط (٣) جهالات ، لا يعتذر ممّا لا يعلم فيسلم ، ولا يعضّ في العلم بضرس قاطع فيغتم ، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم ، تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء يستحلّ بقضائه الفرج الحرام ، ويحرم بقضائه الفرج الحلال ، لاملئ بإصدار ما عليه ورود ، ولا هو أهل لما منه ، فرط من ادّعائه علم الحقّ » (٤).

وعنه عليه‌السلام في خطبة له : « وما كلّ ذي قلب بلبيب ، ولا كلّ ذي سمع بسميع ، ولا كلّ ناظر ببصير ، فياعجبا ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ،

__________________

(١) نهج البلاغة : ١١٨ ، الخطبة ٨٧. الفوائد المدنيّة : ١٩٧.

(٢) وفي النسخ المتداولة المطبوعة : ودعاء ضلالة بدل : قد بهج بالصوم والصلاة.

(٣) وفي المصدر : خباتّ والصواب ما أثبتناه.

(٤) نهج البلاغة : ٥٩ ، الخطبة : ١٧ مع اختلاف في بعض العبارات.

٣٠

لا يقتفون إثر نبيّ ولا يقتدون بعمل وصيّ ، ولا يؤمنون بغيب ولا يعفون عن عيب ، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على أنفسهم ، كان كلّ امرئ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات وأسباب محكمات » (١).

وعنه عليه‌السلام في وصيّة لابنه الحسن عليه‌السلام : « دع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لا تكلّف ، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإنّ الكفّ عند حيرة الضلالة خير من ركوب الأهوال.

[ واعلم ] يا بنيّ : إنّ أحبّ ما أنت آخذ به إليّ من وصيّتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك ، والصالحون من أهل بيتك ، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر ، وفكّروا كما أنت مفكّر ، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عمّا لا يكلّفوا ، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما كانوا علموا فليكن طلب ذلك بتفهّم وتعلّم لا بتورّط الشبهات وعلق الخصومات ، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك وترك كلّ شائبة أولجتك في شبهة ، أو أسلمتك إلى ضلالة ، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتمّ رأيك واجتمع ، وكان همّك في ذلك همّا واحدا فانظر فيما فسّرت لك ، وإن أنت لم تجمع لك ما تحبّ من نفسك وفراغ نظرك وفكرك فاعلم إنّما تخبط العشواء ، وتتورّط الظّلماء ، وليس طالب الدين من خبط أو خلط ، والإمساك عن ذلك أمثل ، فتفهّم يا بنيّ وصيّتي » (٢).

وعن كتاب مجالس الصدوق وعن عبد العزيز بن مسلم قال : كنّا في أيّام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام بمرو فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم جمعة في بدء مقدمنا ، فأدار الناس أمر الإمامة ، وذكروا أكثر اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيّدي ومولاي الرضا عليه‌السلام فأعلمته ما خاض الناس فيه ، فتبسّم عليه‌السلام ثمّ قال : يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن دينهم ، إنّ الله عزّ وجلّ لم يقبض نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شيء ، وبيّن فيه الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه كملا ، فقال عزّ وجلّ : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ )(٣) وأنزل في حجّة الوداع وهي في آخر عمره ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً )(٤) وأمر

__________________

(١) نهج البلاغه : ١٢١ ، الخطبة ٨٨.

(٢) نهج البلاغة : ٣٩٢ ، الكتاب ٣١.

(٣) الأنعام : ٣٨.

(٤) المائدة : ٣.

٣١

الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض عليه‌السلام حتّى بيّن لامّته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيله ، وتركهم على قصد الحقّ ، وأقام لهم عليّا عليه‌السلام علما وإماما ، وما ترك شيئا يحتاج إليه الامّة إلاّ بيّنه ، فمن زعم أنّ الله عزّ وجلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب الله عزّ وجلّ ، ومن ردّ كتاب الله عزّ وجلّ فهو كافر ، فهل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الامّة فيجوز فيها اختيارهم ، إنّ الإمامة أجلّ قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن تبلغه الناس بأبعد عقولهم أو أن ينالوها برأيهم أو يقيموا إماما باختيارهم ، إنّ الإمامة خصّ الله عزّ وجلّ بها إبراهيم الخليل عليه‌السلام بعد النبوّة والخلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها ، وأشاد بها ذكرها ، إنّ الإمام اسّ الإسلام النامي وفرعه السامي ، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود من الأحكام ، ومنع الثغور والأطراف ، الإمام يحلّ حلال الله ويحرّم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذبّ عن دين الله ، ويدعو إلى دين ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجّة البالغة ، الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ، ولا يؤخذ منه بدل ، ولا له مثل ونظير ، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منزلة ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضّل الوهّاب ، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلّة ، فلم يزدادوا منه إلاّ بعدا ، قاتلهم الله أنّى يؤفكون ، لقد راموا صعبا وقالوا إفكا ، وضلّوا ضلالا بعيدا ، ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل ، وكانوا مستبصرين رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اختيارهم ، والقرآن يناديهم ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ )(١) إنّ العبد إذا اختاره الله عزّ وجلّ لامور عباده شرح صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم إلهاما ، فلم يعي بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب ، وهو معصوم مؤيّد موفّق مسدّد ، قد أمن الخطأ والزلل والعثار ، خصّه الله بذلك ليكون حجّة على عباده ، وشاهدا على خلقه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم » (٢).

وعن الكافي عن داود بن فرقد قال حدّثني رجل عن سعيد بن أبي الخضيب البجلّي قال : كنت مع ابن أبي ليلى مزاملة حتّى جئنا إلى المدينة ، فبينا نحن في مسجد الرسول إذ

__________________

(١) القصص : ٦٨.

(٢) أمالي الصدوق : ٥٣٦ ، ح ١.

٣٢

دخل جعفر بن محمّد عليه‌السلام ، فقلت لابن أبي ليلى : تقوم بنا إليه ، فقال : وما نصنع عنده؟ فقلت : نسأله ونحدّثه ، فقال : قم ، فقمنا إليه ، فسألني عن نفسي وأهلي ، ثمّ قال : من هذا معك؟ فقلت : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين ، فقال له : أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟ قال : نعم ، قال : تأخذ مال هذا فتعطيه هذا ، وتقتل هذا ، وتفرق بين المرء وزوجه ، لا تخاف في ذلك أحدا؟ قال : نعم ، قال : فبأيّ شيء تقضي؟ قال : بما بلغني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن عليّ وعن أبي بكر وعمر ، فقال : فبلغك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال إنّ عليّا أقضاكم؟ قال : نعم ، قال : فكيف تقضي بغير قضاء عليّ وقد بلغك هذا؟ فما تقول إذا جيء بأرض من فضّة وسماء من فضّة ثمّ أخذ رسول الله بيدك فأوقفك بين يدي ربّك ، فقال : يا ربّ إنّ هذا قضى بغير ما قضيت؟ قال : فاصفرّ وجه ابن أبي ليلى حتّى عاد مثل الزعفران ، ثمّ قال لي : التمس لنفسك زميلا ، والله لا اكلّمك من رأس كلمة أبدا » (١).

وعن الفقيه قال الصادق عليه‌السلام : « الحكم حكمان : حكم الله وحكم الجاهليّة ، فمن أخطأ حكم الله عزّ وجلّ حكم بحكم الجاهليّة ، ومن حكم بدرهمين بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ فقد كفر بالله ».

وعن الكافي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « الحكم حكمان : حكم الله وحكم أهل الجاهليّة ، وقد قال الله عزّ وجلّ ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )(٢) واشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهليّة » (٣).

وعنه عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال كان أبو عبد الله عليه‌السلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت قال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئا ، فأعاد عليه المسألة فأجابه بمثل ذلك ، فقال الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « هو في عنقه قال أو لم يقل ، وكلّ مفت ضامن » (٤).

وعنه عن أبي عبيدة قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه » (٥).

وعنه أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ الله عزّ وجلّ خصّ عباده بآيتين من كتابه أن

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٠٨ ، ح ٥.

(٢) المائدة : ٥٠.

(٣ ـ ٥) الكافي ٧ : ٤٠٧ ، ح (٢ و ١).

٣٣

لا يقولوا حتّى يعلموا ولا يردّوا ما لم يعلموا ، وقال عزّ وجلّ ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَ )(١) وقال ( بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ )(٢)(٣).

وعنه عليه‌السلام أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه » (٤).

وعنه أيضا عن أبي بصير قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّته فننظر فيها؟ فقال : لا ، أما أنّك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على الله عزّ وجلّ » (٥).

وعنه أيضا قال : حدّثني جعفر عن أبيه عليهما‌السلام إنّ عليّا عليه‌السلام قال : « من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس ، قال : وقال أبو جعفر عليه‌السلام من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم ، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادّ الله حيث أحلّ وحرّم فيما لا يعلم » (٦).

وعنه أيضا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث طويل : « ومن عمى نسي الذكر واتّبع الظنّ وبارز خالقه » (٧).

وعن كتاب المحاسن عن داود بن فرقد عمّن حدّثه عن عبد الله بن شبرمة قال : ما أذكر حديثا سمعته من جعفر بن محمّد إلاّ كاد أن يتصدّع قلبي ، قال : قال أبي عن جدّي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال ابن شبرمة : واقسم بالله ما كذب أبوه على جدّه ، ولا كذب جدّه على رسول الله ، فقال : قال رسول الله : « من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك » (٨).

وعنه أيضا عن محمّد بن مسلم قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ قوما من أصحابنا تفقّهوا وأصابوا علما ورووا أحاديث ، فيرد عليهم الشيء فيقولون فيه برأيهم؟ فقال : لا ، فهل هلك من مضى إلاّ بهذا وأشباهه » (٩).

وعن كتاب بصائر الدرجات عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « إنّما هلك من كان قبلكم بالقياس ، وإنّ الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أكمل له جميع دينه في حلاله

__________________

(١) الأعراف : ١٦٩. (٢) يونس : ٣٩.

(٣) الكافي ١ : ٤٣ ، ح ٨. (٤) الكافي ١ : ٤٤ ، ح ٣.

(٥) الكافي ١ : ٥٦ ، ح ١١.  (٦) الكافي ١ : ٥٧ ، ح ١٧.

(٧) الكافي ٢ : ٣٩١ ، ح ١. (٨) المحاسن ١ : ٣٢٦ ، ح ٦١.

(٩) المحاسن ١ : ٣٣٦ ، ح ٨٧.

٣٤

وحرامه ، فجاءكم بما تحتاجون إليه في حياته وتستغنون به وبأهل بيته بعد موته ، وأنّه مخفيّ عند أهل بيته حتّى أنّ فيه لأرش [ الخدش ] الكفّ » (١).

وعن الكافي عن أبي شيبة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « ضلّ علم ابن شبرمة عند الجامعة ، إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّ عليّ عليه‌السلام بيده ، إذ الجامعة لم تدع لأحد كلاما فيها علم الحلال والحرام ، إنّ أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحقّ إلاّ بعدا ، أنّ دين الله لا يصاب بالقياس » (٢).

وعنه عن عمر بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا يحتاج إليه الامّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعل لكلّ شيء حدّا ، وجعل عليه دليلا يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا » (٣).

وعنه أيضا عن سليمان بن هارون قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « ما خلق الله حلالا ولا حراما إلاّ وله حدّ كحدّ الدار ، فما كان من الطريق فهو من الطريق ، وما كان من الدار فهو من الدار حتّى أرش الخدش فما سواه ، والجلدة ونصف الجلدة » (٤).

وعنه عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحلال والحرام ، فقال : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة ، لا يكون غيره ولا يجيء غيره » (٥).

وعنه أيضا عن حمّاد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « ما من شيء إلاّ وفيه كتاب وسنّة » (٦).

وعنه أيضا عن المعلّى بن الخنيس قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « ما من أمر يختلف فيه إثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال » (٧).

وعنه أيضا عن سماعة عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : قلت له : أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يقولون فيه؟ قال : « بلى كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٨).

وعنه أيضا عن سماعة عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : قلت : أصلحك الله أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس بما يكتفون به في عهده؟ فقال : « نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة ، فقلت : فضاع من ذلك شيء؟ فقال : لا ، هو عند أهله » (٩).

__________________

(١) بصائر الدرجات : ١٤٧ ، ج ٣. (٢) الكافي ١ : ٥٧ ، ح ١٤.

(٣ و ٤) الكافي ١ : ٥٩ ، ح (٢ و ٣).

(٥) الكافي ١ : ٥٨ ، ح ١٩.  (٦) الكافي ١ : ٥٩ ، ح ٤.

(٧) الكافي ١ : ٦٠ ، ح ٦. (٨) الكافي ١ : ٦٢ ، ح ١٠.

(٩) الكافي ١ : ٥٧ ، ح ١٣.

٣٥

وعن الفقيه قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الحمد لله الّذي لم يخرجني من الدنيا حتّى بيّنت للامّة جميع ما تحتاج إليه » (١).

وعن الكافي عن أبي إسحاق السبيعي عمّن حدّثه قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : « أيّها الناس اعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به ، ألا وأنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ، إنّ المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم ، والعلم مخزون عند أهله ، وقد امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه » (٢).

وعنه أيضا عن عبد الله بن ميمون القدّاح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال : إنّ هذا العلم عليه قفل ، ومفتاحه المسألة » (٣).

وعنه أيضا عن جماعة قالوا : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لحمران بن أعين في شيء سأله : « إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون » (٤).

وعن كتاب المحاسن عن محمّد بن حكيم عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « أتاهم الرسول بما يستغنون به في عهده وما يكتفون به من بعده ، كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٥).

وعن الكافي عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل : « والله كذلك لم يمت محمّد إلاّ وله بعيث نذير ، قال : فإن قلت : لا فقد ضيّع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من في أصلاب الرجال من امّته ، قال السائل : وما يكفيهم القرآن؟ قال : بلى إن وجدوا له مفسّرا ، قال : وما فسّره الرسول؟ قال : بلى قد فسّره لرجل واحد ، وفسّر للامّة شأن ذلك الرجل وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال السائل : يا أبا جعفر كان هذا أمر خاصّ لا يحتمله العامّة ، قال : أبى الله أن يعبد إلاّ سرّا ، حتّى يأتي أبّان أجله الّذي يظهر فيه دينه » (٦).

وعن الاحتجاج عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الغدير : « ألا إنّ الحلال والحرام أكثر من أن احصيهما واعرّفهما في مقام واحد ، فامرت أن آخذ البيعة عليكم والصفقة منكم بقبول ما جئت به عن الله عزّ وجلّ في عليّ أمير المؤمنين والأئمّة من بعده ، يا معاشر الناس تدبّروا القرآن ، وافهموا آياته ، وانظروا في محكماته ، ولا تتّبعوا متشابهه ، فو الله لن يبيّن لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره إلاّ الّذي أنا آخذ بيده » (٧).

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١١٢ ، ح ٣٤٣٢. (٢) الكافي ١ : ٣٠ ، ح ٤.

(٣) الكافي ١ : ٤٠ ، ح ٣. (٤) الكافي ١ : ٤٠ ، ح ٢.      

(٥) المحاسن ١ : ٣٦٨.

(٦) الكافي ١ : ٢٤٩ ، ح ٦.

(٧) الاحتجاج ١ : ٦٥ ، ٦٠.

٣٦

وعن الكافي عن منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « قلت للناس أليس تزعمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الحجّة من الله على خلقه؟ قالوا : بلى ، قلت : فحين مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كان الحجّة على خلقه؟ فقالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدري والزنديق الّذي لا يؤمن حتّى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم ، فما قال فيه من شيء كان حقّا ، فقلت لهم : من قيّم القرآن؟ فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم وحذيفة يعلم ، قلت : كلّه؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحدا يقال إنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّا عليه‌السلام ، وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال : أنا أدري ، فأشهد أنّ عليّا عليه‌السلام كان قيّم القرآن ، وكانت طاعته مفترضة ، وكان الحجّة على الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ ، فقال رحمك الله » (١).

وعنه أيضا عن زيد الشحّام قال : « دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : يا قتادة إنّك فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : بلغني أنّك تفسّر القرآن ، قال له قتادة : نعم ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : فإن كنت تفسّره بعلم فأنت أنت ، وإن كنت إنّما فسّرت من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (٢).

وعن المجالس مسندا إلى عبّاس قال : صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبر فخطب واجتمع الناس إليه ، فقال : « يا معاشر المؤمنين إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إليّ أنّي مقبوض ، وأنّ ابن عمّي عليّا مقتول ، وإنّي أيّها الناس اخبركم خبرا إن عملتم به سلمتم وإن تركتموه هلكتم ، إنّ ابن عمّي عليّا هو أخي ووزيري وهو خليفتي ، وهو المبلّغ عنّي وهو إمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، إن استرشدتموه أرشدكم وإن اتّبعتموه نجوتم ، وإن خالفتموه ضللتم ، وإن أطعتموه فالله أطعتم ، وإن عصيتموه فالله عصيتم ، إنّ الله عزّ وجلّ أنزل إليّ القرآن وهو الّذي من خالفه ضلّ ، ومن ابتغى علمه عند غير عليّ فقد هلك.

أيّها الناس : اسمعوا قولي واعرفوا حقّ نصيحتي ، ولا تخلفوني في أهل بيتي إلاّ بالّذي امرتم به ، من طلب الهدى من غيرهم فقد كذبني » (٣).

وعن الاحتجاج [ في احتجاج ] الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام على الجماعة

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٨ ، ح ٢.

(٢) روضة الكافي : ٣١١ ، ح ٤٨٥.

(٣) أمالى الصدوق : ٦٢ ، ح ١١.

٣٧

المنكرين فضله وفضل أبيه بحضرة معاوية ، قال عليه‌السلام : « أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حجّة الوداع : أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما لم تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ثمّ قال : والمعوّل علينا في تفسيره » (١).

وعن أوّل كتاب الروضة من الكافي عن حفص المؤذّن وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه ، وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها ، وكانوا يضعونها بها في مساجد بيوتهم ، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها ، وهي طويلة وموضع الحاجة منها أنّه عليه‌السلام قال : « أيّتها العصابة المرحومة المفلحة أنّ الله [ عزّ وجلّ ] أتمّ لكم ما آتاكم من الخير ، واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس ، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء ، وجعل للقرآن أهلا ولعلم القرآن أهلا ، لا يسع أهل علم القرآن الّذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا برأي ولا مقائيس ، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم الله من علمه وخصّهم به ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها ، وهم أهل الذكر الّذين أمر الله تعالى هذه الامّة بسؤالهم.

وهم الّذين من سألهم ـ وقد سبق في علم الله أن يصدّقهم ويتّبع أثرهم ـ أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله بإذنه وإلى جميع سبل الحقّ ، وهم الّذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الّذي أكرمهم الله به وجعله عندهم إلاّ من سبق عليه في علم الله الشقا في أصل الخلق تحت الأظلّة ، فاولئك الّذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر ، والّذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمرهم بسؤالهم ، واولئك الّذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتّى دخلهم الشيطان ، لأنّهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند الله كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين ، حتّى جعلوا ما أحلّ الله في كثير من الأمر حراما ، وجعلوا ما حرّم الله في كثير من الأمر حلالا ، وذلك أصل ثمرة أهوائهم ، وقد عهد إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل موته ، فقالوا : نحن بعد ما قبض الله عزّ وجلّ رسوله يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعد قبض الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد عهده الّذي عهده إلينا وأمرنا به مخالفا لله ورسوله ، فما أحد أجرأ على الله ولا أبين

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٢٧٣ ، والعبارة الاخيرة للحسين ٧ ، فراجع الاحتجاج ١ : ٢٩٩.

٣٨

ضلالة ممّن أخذ بذلك ، وزعم أنّ ذلك يسعه.

والله إنّ لله على خلقه أن يطيعوه ، ويتّبعوا أمره في حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد موته ، هل يستطيع اولئك أعداء الله أن يزعموا أنّ أحدا ممّن أسلم مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بقوله ورأيه ومقاييسه؟ فإن قال : نعم ، فقد كذب على الله وضلّ ضلالا بعيدا ، وإن قال : لا ، لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقاييسه فقد أقرّ بالحجّة على نفسه ، وهو ممّن يزعم أنّ الله يطاع ويتّبع أمره بعد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قال الله وقوله الحقّ : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ )(١) وذلك لتعلموا أنّ الله يطاع ويتّبع أمره في حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد قبض الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه خلافا لأمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكذلك لم يكن لأحد من بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ بهواه ولا برأيه ولا مقائيسه » (٢).

وعن كتاب المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رسالة إلى أصحاب الرأي والمقائيس ، « أمّا بعد ، فإنّ من دعا غيره إلى دينه بالارتياء والمقائيس لم ينصف ولم يصب حظّه ، لأنّ المدعوّ إلى ذلك لا يخلو أيضا من الارتياء والمقائيس ، ومتى ما لم يكن بالداعي قوّة في دعائه على المدعوّ لم يؤمن على الداعي أن يحتاج إلى المدعوّ بعد قليل ، لأنّا قد رأينا المتعلّم الطالب ربّما كان فائقا لمعلّم ولو بعد حين ، ورأينا المعلّم الداعي ربّما احتاج في رأيه إلى رأي من يدعو ، وفي ذلك تحيّر الجاهلون وشكّ المرتابون وظنّ الظانّون ، ولو كان ذلك عند الله جائزا لم يبعث الرسل بما فيه الفصل ولم ينه عن الهزل ولم يعب الجهل.

ولكنّ الناس لمّا سفهوا الحقّ وغمطوا النعمة واستغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم الله واكتفوا بذلك دون رسله والقوّام بأمره ، وقالوا : لا شيء إلاّ ما أدركته عقولنا وعرّفته ألبابنا فولاّهم الله ما تولّوا وأهملهم وخذلهم حتّى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون ، ولو كان الله رضي منهم اجتهادهم وارتيائهم فيما ادّعوا من ذلك لم يبعث الله إليهم فاصلا لما بينهم ، ولا زاجرا عن وصفهم.

وإنّما استدللنا إنّ رضا الله غير ذلك ببعثه الرسل بالامور القيّمة الصحيحة ، والتحذير

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) روضة الكافي : (٢ ـ ٦) ، ح ١.

٣٩

عن الامور المشكلة المفسدة ، ثمّ جعلهم أبوابه وصراطه والأدلاّء عليه بامور محجوبة عن الرأي والقياس ، فمن طلب ما عند الله بقياس ورأي لم يزدد من الله إلاّ بعدا ، ولم يبعث رسولا قطّ ، وإن طال عمره قابلا من الناس خلاف ما جاء به حتّى يكون متبوعا تارة وتابعا اخرى ، ولم ير أيضا فيما جاء به استعمل رأيا ولا مقياسا حتّى يكون ذلك واضحا عندنا كالوحي من الله ، وفي ذلك دليل لكلّ ذي لبّ وحجى أنّ أصحاب الرأي والقياس مخطئون مدحضون وإنّما الاختلاف فيما دون الرسل لا في الرسل.

فإيّاك أيّها المستمع أن تجمع عليك خصلتين إحداهما : القذف بما جاش به صدرك واتّباعك لنفسك إلى غير قصد ولا معرفة حدّ ، والاخرى : استغناؤك عمّا فيه حاجتك ، وتكذيبك لمن إليه مردّك وإيّاك وترك الحقّ سأمة وملالة وانتجاعك الباطل جهلا وضلالة ، لأنّا لم نجد تابعا لهواه ، جائزا عمّا ذكرناه قطّ رشيدا » (١).

وفي كتاب المجالس عن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله جلّ جلاله : ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي ، وما عرفني من شبّهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني » (٢).

وعن المحاسن للبرقي قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّ القرآن شاهد الحقّ ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك مستقرّ فاتّقوا الله ، فإنّ الله قد أوضح لكم أعلام دينكم ومنار هداكم ، فلا تأخذوا أمركم بالوهن ، ولا أديانكم هزوا فتدحض أعمالكم وتخطئوا سبيلكم ، ولا تكونوا أطعتم الله ربّكم ، أثبتوا على القرآن [ الثابت ] وكونوا في حزب الله تعالى تهتدوا ، ولا تكونوا في حزب الشيطان فتضلّوا ، يهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة ، وعلى الله البيان ، بيّن لكم فاهتدوا ، وبقول العلماء فانتفعوا ، والسبيل في ذلك كلّه إلى الله فمن يهدى الله فهو المهتدى ، ومن يضلل الله فلن تجد له وليّا مرشدا » (٣).

وفي الكافي في باب ثواب الأعمال عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنّ الّذي يعلّم العلم منكم له أجر مثل أجر المتعلّم وله الفضل [ عليه ] ، فتعلّموا العلم من حملة العلم وعلّموه اخوانكم كما علّمكموه العلماء » (٤).

وعنه أيضا عن ابن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذلك

__________________

(١) المحاسن ١ : ٣٣١ ، ح ٧٦.

(٢) أمالي الصدوق : ١٥ ، ح ٣.

(٣) المحاسن ١ : ٤١٨ ، ح ٣٦٣.

(٤) الكافي ١ : ٣٥ ، ح ٢.

٤٠