تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

فالراجح ، فإن عدم الرجحان فالحكم إمّا التساقط أو التخيير أو الرجوع إلى غيرهما. وعلى كلّ تقدير فالحكم معيّن فالمخالف له مخطئ فالمصيب واحد » (١).

والمنساق من هذا الدليل أنّه فرض التخطئة في الحكم الاصولي الّذي هو واحد على كلّ تقدير ، إذ مع خلوّ الأمارة الموجودة في المسألة عن المعارض وجب العمل بها بعينها ، ومع رجحانها على معارضها على تقدير وجوده وجب العمل بها أيضا كذلك ، ومع التساوي فالحكم إمّا التخيير أو التساقط والرجوع إلى الأصل ، أو التوقّف والرجوع إليه أيضا على الخلاف في مسألة تعادل الأمارتين.

وقضيّة ذلك أن يكون المخالف في جميع التقادير مخطئا.

ويشكل ذلك : بأنّ ظاهر كلماتهم اختصاص النزاع بالمسائل الفرعيّة الاجتهاديّة وخروج المسائل الاصوليّة عنه ، لاتّفاق الكلّ فيها على التخطئة كما أو مأنا إليه سابقا ، وإن أراد من الاستدلال بيان أنّ الخطأ في الحكم الاصولي على جميع تقاديره يستلزم [ الخطاء ] في الحكم الفرعي المتفرّع في المسألة الفرعيّة على ذلك الحكم الاصولي.

فيدفعه : منع الملازمة بالتقريب المتقدّم ، إذ المخالف إنّما يخالف الحكم الاصولي المفروض في جميع تقاديره لحكم اصولي آخر هو الراجح في نظره ، فإذا صلح الأوّل منشأ لحكم فرعي صلح ذلك أيضا منشأ لحكم فرعي ، فيكون كلّ منهما حكما واقعيّا لصاحبه فيكون كلّ من المجتهدين مصيبا ، على أنّ المخالف إنّما يخالفه لأمارة أو أصل ترجّح في نظره العمل بها فيحدث مؤدّاهما حكما واقعيّا في حقّه ، وإن كان جعل مؤدّى الأصل حكما واقعيّا لا يخلو عن إشكال بل لا وجه له.

هذا مع ما يرد على ما ذكره في الترديد الأوّل من : « أنّ المكلّف إن كلّف لا عن طريق » من أنّه لا يدري إنّ المكلّف به المفروض هل هو معرفة الحكم أو الاجتهاد؟

والأوّل خلاف مفروض المصوّبة من خلوّ الواقعة قبل الاجتهاد عن حكم مخصوص.

والثاني لا يلائمه تفريع الأمرين عليه من لزوم التكليف بما لا يطاق إذا كان الحكم معيّنا عند الله غير معيّن عند المكلّف ، أو القول بالحكم في الدين لمجرّد التشهّي إذا لم يكن معيّنا عند الله أيضا ، فإنّ الّذي يلزم على تقدير التكليف بالاجتهاد من غير طريق إنّما هو التكليف بما لا يطاق لا غير ، فليتدبّر.

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ١٠٢.

٣٤١

حجّة المصوّبة ـ على ما في نهاية العلاّمة ـ كثيرة ونحن نقتصر منها على جملة يظهر بملاحظتها حال البواقي.

منها : ما ملخّصه : أنّه لو كان لله تعالى في الواقعة المبحوث عنها حكم معيّن لكان ما أنزل الله هو ذلك الحكم ، فيكون الحاكم بغيره عند الخطأ في الاجتهاد حاكما بغير ما أنزل الله فيكون فاسقا بل كافرا ، لقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) وقوله أيضا : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) والتالي باطل للإجماع على عدم كفره ولا فسقه ، والمقدّم مثله.

والجواب : أنّه لو لم يكن لله تعالى في الواقعة المبحوث عنها حكم معيّن لكان الخطاب في الآيتين ونحوهما لغوا ، إذ المفروض انتفاء حكم منزّل من الله فيها ليجب الحكم به ويلزم كون الحكم بغيره حكما بغير ما أنزل الله فلا مصداق لموضوع الآيتين ، وهذا معنى ما ذكرناه من لزوم كون الخطاب لغوا ، والتالي باطل والمقدّم مثله.

فإن قيل : يكفي في تحقّق مصداق للآيتين وجود الحكم المجعول للعالمين به أو حدوث الحكم للمجتهدين بعد اجتهادهم واستقرار ظنّهم من مقتضى الأمارة القائمة بالواقعة ، فكلّ من الفريقين إذا أفتى بغير ما علمه من الحكم المجعول في حقّه كان حاكما بغير ما أنزل الله فيكون فاسقا وكافرا.

قلنا : الاعتراف بذلك نقض لأصل الاستدلال وجواب عنه ، لأنّ مرجعه إلى أنّ الخطاب في الآيتين ليس مع المجتهدين قبل اجتهادهم ، لعدم علمهم بالحكم المنزّل من الله في الواقعة ليلزم من حكمهم بغيره الفسق والكفر ، ومحصّله : أنّ الظاهر المنساق منهما الحكم بالفسق والكفر على من حكم بغير ما أنزل الله مع علمه بما أنزل الله.

هذا مع أنّ لنا أن نقول : إنّ من الحكم من الله (١) إنّما هو وجوب البناء على الظنّ والأخذ بالمظنون على أنّه الواقع ، وإذا حكم به المجتهد أو أفتى به لمقلّده كان حكما بما أنزل الله لا بغيره ، وعدم الحكم بغيره على تقدير مخالفة الظنّ للواقع إنّما هو من جهة العذر وهو الجهل به فلا يكون آثما ليوجب الفسق والكفر.

ومنها : أنّه لو أخطأ المجتهد لزمه العمل بمقتضى ظنّه ، وحينئذ فإمّا أن يلزمه ذلك مع بقاء الحكم الواقعي في حقّه فيلزم التكليف بالمحال أو اجتماع الضدّين وكلاهما محالان ،

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : « إنّ من الحكم بما أنزل الله » الخ.

٣٤٢

أو بدونه فيلزم أن يكون العمل بالحكم الخطأ واجبا وبالصواب حراما وهو أيضا محال.

والجواب : أنّ معنى لزوم العمل بمقتضى الظنّ عند المخطّئة وجوب تطبيق العمل ـ بمعنى الحركات والسكنات الخارجيّة ـ على الظنّ ، والالتزام بالمظنون وترتيب الآثار عليه على أنّه الواقع ، وحينئذ فإن صادف الواقع كان المجتهد مصيبا وكشف إصابته عن تعلّق الحكم الواقعي به فلا يلزم شيء من التكليف بالمحال ولا اجتماع الضدّين ولا غيرهما ، وإن لم يصادفه كان مخطئا وكشف خطائه ـ باعتبار الجهل الّذي هو عذر عقلي ـ عن عدم تعلّق الحكم الواقعي به ، فلا يلزم وجوب العمل بالحكم الخطأ وحرمة العمل بالحكم الصواب ، لأنّ القبيح إنّما هو إيجاب العمل بالخطأ من حيث هو خطأ وتحريم العمل بالصواب من حيث هو صواب وهاهنا لا تحريم بالنسبة إلى الصواب.

والمفروض إيجاب العمل بالمظنون الّذي هو خطأ في الواقع على أنّه هو الواقع والصواب ، لا على أنّه خلاف الواقع ومن حيث إنّه خطأ وهذا ممّا لا قبح فيه ليكون محالا.

على أنّا نقول : إنّ إيجاب الشارع لم يتعلّق بالمظنون الّذي هو خطأ في الواقع بالخصوص ، بل إنّما تعلّق بالمظنون الّذي قد يكون في الواقع صوابا وهو الأغلب ، وقد يكون خطأ على أنّه هو الصواب وهو في نظر المجتهد الظانّ ما دام ظانّا صواب دائما ، لأنّه يعتقده ظنّا حكما واقعيّا فأوجب الشارع العمل به على أنّه حكم واقعي.

ولا ريب أنّ هذا الإيجاب إذا لوحظ معه الوصول إلى مصلحة الواقع أو إلى مصلحة اخرى يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع في نفس العمل ـ لا الفعل المظنون حكمه في صورتي المصادفة وعدمها ـ حسن لا أنّه قبيح.

وبالتأمّل فيما ذكرناه يظهر ما هو الحقّ من شقّي الترديد المأخوذ في الدليل بالنسبة إلى بقاء الحكم الواقعي وعدم بقائه في حقّ المجتهد إذا أخطأ.

وتوضيحه : أنّه إن اريد من بقاء الحكم الواقعي في حقّه تعلّق الحكم المجعول للواقعة به حال كونه جاهلا به نختار عدم البقاء ، لأنّ جهله به عذر مانع عن تعلّقه به لئلاّ يلزم التكليف بالمحال ، وهذا ليس من تحريم العمل بالصواب كما هو واضح.

وإن اريد وجوده معلّقا تعلّقه به على زوال جهله به نختار البقاء من غير أن يلزم مع فرض وجوب العمل بالظنّ بالمعنى المتقدّم تكليف بالمحال ولا اجتماع الضدّين كما لا يخفى.

فإن قلت : فأيّ فائدة لجعله مع فرض عدم تعلّقه بل لا يكون إلاّ لغوا.

قلت : يكفي في خروجه عن اللغويّة تعلّقه بالعالمين به ، وإنّما يلزم لو فرض اختصاص

٣٤٣

فلا أرى للبحث في ذلك بعد الحكم بعدم التأثيم كثير طائل*. فلا جرم كان ترك الاشتغال بتقرير حججهم على ما فيها من الإشكال أوفق بمقتضى الحال.

__________________

جعله بالجاهلين لا إذا فرض بحيث يشترك فيه العالم والجاهل ويتساوى نسبته إلى الجميع مع اشتراط فعليّته وتعلّقه بالعلم بذلك المجعول.

ومنها : أنّ الإجماع منعقد على أنّ المجتهد مأمور بالعمل على وفق ظنّه ، ولا نعني بحكم الله تعالى إلاّ ما أمر بالعمل به ، فإذا كان مأمورا بالعمل بمقتضى ظنّه وعمل به كان مصيبا للقطع على أنّه عمل بما أمره الله تعالى به ، فكلّ مجتهد مصيب. ويظهر الجواب عنه بالتأمّل في الجواب عن سابقه.

وتوضيحه : أنّ المسلّم إنّما هو الإجماع على أنّ المجتهد مأمور بالعمل بمقتضى ظنّه على أنّه الحكم الواقعي المجعول في الواقعة مع قطع النظر عن الاجتهاد ، وهذا بمجرّده لا يستلزم كونه مصيبا وإنّما يصير مصيبا إذا صادف ظنّه الواقع لا مطلقا.

والحاصل : أنّ مجرّد الأمر بالعمل على مقتضى الظنّ أعمّ من الإصابة وعدمها.

وإن شئت قلت : إنّ هذا الأمر أمر ظاهري والعمل به في صورة عدم مصادفة الظنّ للواقع ليس من الإصابة بالمعنى المتنازع فيه وإلاّ عاد النزاع لفظيّا كما لا يخفى.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (١) فإنّه لو كان بعضهم مخطئا لما حصل الهدى في متابعته إذ العمل بغير حكمه تعالى ضلال.

والجواب أوّلا : منع سند الحديث ، بل هو يشبه بكونه من موضوعات المخالفين المعاندين للحجّة المنصوبة في تصرّفاته فتوى وحكومة.

وثانيا : منع كون أصحابه مجتهدين بل هم كانوا يتلقّون الأحكام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا عالمين بها ، فكون الاقتداء بهم اهتداء إنّما هو باعتبار ما لزمه من الوصول إلى الأحكام الواقعيّة.

وثالثا : أنّ متابعة المجتهد في الحكم الظاهري أيضا نوع من الهدى ، وكونه عملا بغير حكم الله واضح الدفع بأنّ الأحكام الظاهريّة في موضوعاتها أيضا أحكام الله تعالى.

* ظاهره أنّه لو لا حكمهم بعدم التأثيم على التخطئة أيضا الّذي هو في معنى الإجماع

__________________

(١) لا يوجد هذا الحديث في مجامعنا الروائيّة ، وانما أوردوها العامّة في كتبهم عن النبيّ ٦ وهو يشبه بكونه من موضوعات المخالفين كما نبّه عليه الماتن ١.

٣٤٤

عليه كانت الفائدة المترتّبة على القولين في المسألة هو الإثم وعدمه وليس للنزاع فيها ما عدا ذلك ثمرة معتدّ بها في الفروع ولا في غيرها ، وهذه الفائدة أيضا منتفية بالإجماع على العدم.

وقضيّة هذا كلّه أن لا يكون للبحث فيها كثير طائل ، لكنّ الشهيد الثاني في تمهيد القواعد ـ على ما حكي عنه ـ ذكر للمسألة فروعا :

منها : أنّ المجتهد في القبلة إذا ظهر خطائه هل يجب عليه الإعادة أو القضاء أو لا؟

وجهان مبنيّان على القولين ، فعلى التخطئة يجب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، وعلى التصويب لا يجب لحصول أداء المأمور به الواقعي.

ومنها : ما لو صلّى من يرى وجوب السورة أو التسليم في الصلاة ـ باجتهاد أو تقليد ـ خلف من لا يرى وجوبهما ولم يفعله ، ففي صحّة الائتمام وعدمه وجهان مترتّبان على القولين ، نظرا إلى أنّ من شروط صحّة صلاة المأموم صحّة صلاة الإمام وهي على التصويب صحيحة بخلافه على التخطئة.

ومنها : إنفاذ مجتهد حكم مجتهد آخر يخالفه في مأخذ الحكم ، كما إذا رأى كفاية الشهادة العمليّة أو شاهد ويمين في تماميّة البيّنة أو استماع شاهد الفرع مع عدم تعذّر شاهد الأصل والمجتهد الأوّل لا يرى شيئا من ذلك ، ففي جوازه أيضا وجهان مترتّبان على القولين.

وفي الكلّ نظر.

أمّا الأوّل : فلخروج الاجتهاد في الموضوعات والأحكام الجزئيّة عن موضوع المسألة واختصاص النزاع بالمجتهد في الأحكام على ما بيّنّاه سابقا ، مع أنّ أئمّتنا المعصومين سلام الله عليهم أجمعين قد بيّنوا لنا المخلص في خصوص الاشتباه في القبلة على ما استفيد من أخبارهم من التفصيل بين ما لو كان الاشتباه فيما بين المشرق أو المغرب فلا إعادة ولا قضاء ، أو في نفس المشرق أو المغرب فعليه الإعادة مع بقاء الوقت ومع خروجه لا قضاء ، أو في دبر القبلة فعليه الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه كما هو الأقوى من أقوال المسألة ، فلا حاجة معه إلى النظر في مسألة التخطئة والتصويب ، مع أنّ جعل ما ذكر من فروع مسألة الإجزاء أولى من جعله من فروع هذه المسألة.

وأمّا الثاني : فلعدم الفرق بين القولين في عدم صحّة الائتمام ، أمّا على التخطئة فواضح ، وأمّا على التصويب فلأنّ الشرط في صحّة الائتمام إنّما هو صحّة صلاة الإمام عند المأموم في

٣٤٥

مذهبه ولا يكفي صحّتها في مذهب الإمام فقط ، وضابط الصحّة عند المأموم أن يكون صحّة صلاة الإمام منوطة بكيفيّة لو صلاّها المأموم بانفراده بهذه الكيفيّة كانت مجزئة عنه ، ومفروض المقام ليس كذلك.

وأمّا الثالث : فلعدم الفرق أيضا بين القولين في جواز إنفاذ الحكم المذكور ، فإنّه إجماعيّ حتّى على التخطئة ما لم يعلم بطلان الحكم أو مخالفته الدليل القطعي.

فالإنصاف : أنّ المسألة لا تثمر في المسائل الفرعيّة شيئا يعتدّ به.

نعم ربّما يذهب إلى الوهم ظهور فائدتها في جعل الأمارت الّذي يندرج في مسائل الاصول ، إذ على القول بالتصويب يتّجه القول بالجعل الموضوعي بخلافه على القول بالتخطئة.

وفيه أيضا : أنّ الظاهر ابتناء هذه المسألة على مسألة الجعل لا العكس كما يعلم بالتأمّل.

ـ تعليقة ـ

المشهور بين الاصوليّين من أصحابنا والعامّة ـ كما أومأ إليه بعض الأفاضل ناقلا لحكايته ـ أنّه يجوز للمجتهد في عمل نفسه بالحكم الثابت بالاجتهاد وإفتائه لغيره ممّن استفتاه بذلك الحكم البناء على اجتهاده السابق عند تجدّد الواقعة الّتي اجتهد في حكمها ، فلا يجب عليه تجديد النظر وتكرير الاجتهاد مطلقا ما لم يتغيّر اجتهاده الأوّل أو لم ينس الحكم الحاصل بذلك الاجتهاد.

وقيل : بوجوب تجديد النظر عليه مطلقا.

وقيل : بالتفصيل بين نسيان دليل المسألة فيجب عليه تجديد النظر وتكرير الاجتهاد ، وعدمه فلا يجب ، ذهب إليه المحقّق.

وعن النهاية نسبته إلى قوم ، وحكى القول به عن الإمام والآمدي.

وفي كلام بعض الأفاضل نسبته إلى السيّد العميدي وإلى العلاّمة في قواعده أنّه تفصيل حسن يقرب من قواعدهم الفقهيّة.

وفي الأوّل نظر ، لأنّه على ما وجدناه من عبارته نسب القول بعدم جواز الفتوى مع نسيان الدليل إلى قوم وعقّبه بنقل القول بالجواز ولم يرجّح شيئا.

وهاهنا تفصيل آخر بين ما إذا قويت قوّته في الاستنباط لكثرة الممارسة والاطّلاع

٣٤٦

على وجوه الأدلّة ودلالالتها فيجب وعدمها فلا يجب ، وعزى نفي البعد عنه إلى الزبدة والميل إليه إلى الفاضل الجواد في شرحها.

وهذه المسألة ممّا عنونه المصنّف في عداد شرائط المفتي من حيث إفتائه حيث عبّر عنها فيما يأتي بقوله : « ذهب العلاّمة في التهذيب إلى جواز بناء المجتهد في الفتوى بالحكم على الاجتهاد السابق ، ومنع من ذلك المحقّق فعدّ في شرائط تسويغ الفتوى أن يكون المفتي بحيث إذا سئل عن لمّية الحكم في كلّ واقعة يفتى بها أتى به وبجميع اصوله الّتي يبنى عليها » إلى آخره.

ولكنّ الأنسب كما صنعه جماعة إيرادها في أحكام الاجتهاد بل المجتهد من حيث عمل نفسه وإفتائه لغيره ، لوضوح اشتراك الجهة النافية لوجوب تجديد النظر والمقتضية لوجوبه بينهما وعدم تعقّل اختصاصها بمقام الإفتاء.

وأوضح ما يكشف عن اشتراك الجهة ما استند إليه القائل بوجوب تجديد النظر مطلقا ممّا يرجع إلى فقد المقتضي لجواز الإفتاء من دون تجديد [ النظر ] وهو ارتفاع ظنّه وعدم بقائه ، نظرا إلى احتمال تغيّر اجتهاده بعد تجديد نظره كما يكثر وقوعه في المسائل الظنّية.

وقد يتمسّك له بما يرجع إلى وجود المانع وهو عموم الأدلّة الدالّة بإطلاقها على المنع من العمل بالظنّ ، خرج منه ظنّ من جدّد نظره وكرّر اجتهاده بالإجماع وبقي الباقي تحته ومنه ظنّ من لم يجدّد النظر.

وهذان الوجهان على تقدير تماميّتهما يوجبان المنع من البناء على الاجتهاد السابق بالقياس إلى العمل والإفتاء معا وتساوي نسبتهما في اقتضاء المنع وعدمه إليهما.

ومن هنا ربّما أمكن أن يقال : إنّ مرجع النزاع في المسألة إلى اشتراط حجّية الاجتهاد بتكرّره وتجديد النظر فيه وعدمه ، كما أنّ بذلك يعلم أن ليس المراد من الوجوب المأخوذ في عنوان المسألة نفيا وإثباتا هو الوجوب الشرعي التكليفي بل الوجوب الشرطي ، على معنى كون تجديد النظر وتكرّر الاجتهاد شرطا في جواز العمل والإفتاء بالحكم المستنبط من الأدلّة بالاجتهاد.

ولكن يبقى الإشكال في وجه تخصيص هذا الحكم عند القائلين به مطلقا أو في الجملة بالوقائع المتجدّدة وعدم الالتزام به في الواقعة الاولى على ما يستفاد من كلام جماعة ، وعليه مبنى جوابهم بطريق النقض عن استدلال القائل بوجوب التجديد مطلقا

٣٤٧

باحتمال تغيّر الاجتهاد بعد تجديد النظر فنقض بقيام هذا الاحتمال قبل إفتائه في الواقعة الاولى أيضا ، فلو صحّ ما ذكر لزم تكرار النظر بالنسبة إليها أيضا وهو باطل كما في كلام بعض الأفاضل (١) وعن العضدي أيضا حكاه السيّد في مفاتيحه.

ثمّ قال : « وقد أشار إلى هذا الجواب في النهاية وشرح الجواد على الزبدة » بل الفاضل المتقدّم استظهر من ملاحظة كلماتهم الاتّفاق على بطلان اللازم بعد ما نسب التنصيص عليه إلى العضدي ، وعبارته ـ على ما حكاها السيّد في المفاتيح عند نقله الجواب عن الاستدلال المذكور عنه ـ : « أنّه لو كان السبب في وجوب تكراره احتمال تغيّر الاجتهاد لوجب أبدا ، لأنّ التغيّر يحتمل أبدا ولم يتقيّد بوقت تكرار الواقعة وذلك باطل بالاتّفاق » انتهى.

وكيف كان فالأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو عدم وجوب تجديد النظر مطلقا.

لنا : أنّ وجوب التجديد إن اريد به الوجوب التكليفي النفسي الّذي يعاقب على مخالفته من حيث هو مخالفته فالأصل براءة الذمّة عنه وعن العقاب المحتمل ترتّبه على تركه ، لعدم قيام دليل عليه من عقل أو نقل ، وما اعتمد عليه الخصم ـ إن صحّحناه ـ لا يفيد ذلك كما عرفت.

وإن اريد به الوجوب التكليفي الغيري على معنى مطلوبيّة تجديد النظر حتما على أنّه مقدّمة لتحصيل ما يوجب العمل به وتطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة عليه للخروج عن عهدة الأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال إمّا لاتّفاق امتثالها أو لحصول المسقط لها ، بناء على أنّ موافقة الحكم الظاهري إمّا امتثال للحكم الواقعي في صورة المطابقة أو مسقطة له عن الذمّة على تقدير عدم المطابقة لمن لم ينكشف عنده ذلك.

ففيه : منع مقدميّة تجديد النظر وتكرير الاجتهاد لتحصيل الحكم الظاهري ، بل المسلّم ممّا ثبت كونه مقدّمة بالعقل بل الإجماع إنّما هو الاجتهاد الأوّل وإلاّ لم يكن الحكم الثابت به حكما ظاهريّا والتالي باطل ، ولذا كان العمل عليه والإفتاء به جائزا.

ودعوى اختصاصه بالواقعة الاولى وعدم تناوله للوقائع المتجدّدة.

يدفعها : أنّ مدرك المسألة من الدليل أو الأصل إنّما أفاد أصل الحكم لكلّي موضوعها ، الّذي يتساوى نسبته إلى جزئيّاته الّتي هي الوقائع من دون اختصاص له بواقعة دون اخرى ، لا بطريق التخصيص ولا بطريق التخصّص.

والمفروض أنّ دليل حجّية ذلك الدليل أو اعتبار هذا الأصل من العقل والنقل بل

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٧٠١.

٣٤٨

الإجماع أيضا إنّما أفاد كون مؤدّاهما حكما ظاهريّا يجب بناء العمل عليه والإفتاء به على الوجه الكلّي من دون نظر فيه إلى واقعة دون اخرى.

والمفروض أيضا أنّه لم يطرأه من الامور الوجوديّة ولا العدميّة ما يوجب زوال وصف الظاهريّة عنه ، حتّى أنّه لو فرض طروّ نسيان الدليل أو زيادة قوّة الاستنباط لم يكن له تأثير في زوال الوصف ، لأنّ المعتبر في الحكم الظاهري وجود الدليل وعلمه باستناد ثبوته إليه باجتهاده لا تذكّره والعلم به بعينه عند كلّ واقعة ، وزيادة القوّة محتملة للتأكيد والتأسيس فلا تنهض رافعة للوصف ولو بحكم الاستصحاب ، كيف وهي في حقّ المشتغل الغير التارك تتزايد يوما فيوما وتتكامل حينا بعد حين ، فلو كانت له مدخليّة في الوصف وجودا وعدما لوجب التجديد وتكرير الاجتهاد مدّة العمر.

وهذا مع أنّه ممّا لم يقل به أحد يستلزم من العسر والحرج ما لا يتحمّل عادة.

وإن اريد به الوجوب الوضعي الّذي يعبّر عنه بالوجوب الشرطي بالمعنى المتقدّم.

ففيه : أنّ الشرطيّة ممّا لا دليل عليه والأصل عدمها ، مع أنّ شرطيّة تكرير الاجتهاد ليس له معنى محصّل إلاّ كون المجموع من الاجتهاد الأوّل والاجتهاد الثاني علّة مركّبة للحكم الظاهري الّذي يجوز العمل والإفتاء به ، وهذا خلاف مقتضى مدرك المسألة من دليل أو أصل ، وخلاف مقتضى دليل حجّية ذلك المدرك أو اعتباره ، فليتدبّر.

حجّة القول المختار عدا ما بيّنّاه على ما عثرنا عليه محصّلا ومحكيّا امور :

أحدها : استصحاب الحكم السابق الثابت بالاجتهاد الأوّل ، فإنّه يقتضي جواز العمل والإفتاء به عند كلّ واقعة.

وهذا بظاهره حسن إلاّ أنّه قد يناقش فيه : بأنّ الاستصحاب إنّما يكون حجّة عند عدم قيام دليل شرعي على خلافه ولو ظاهر عموم أو إطلاق.

ولا ريب أنّ قضيّة العمومات والإطلاقات المانعة من العمل بالظنّ هو عدم جواز الأخذ به في شيء من الأحوال والأزمان ، خرج من ذلك ظنّ المجتهد المطلق حال الابتلاء بالواقعة الاولى عقيب الاجتهاد بالإجماع ، وأمّا ظنّه حال الابتلاء بالوقائع المتجدّدة فممّا لا إجماع على خروجه ، فقضيّة أصالة العموم أو الإطلاق بالقياس إليه هو المنع من الأخذ به ، وهذا كما ترى أصل لفظي لا مجرى معه للاستصحاب.

وإن شئت قلت : إنّ مرجع ذلك إلى التمسّك بالعموم الأحوالي المنساق من الأدلّة

٣٤٩

المانعة بالقياس إلى كلّ ظنّ ، والقدر المتيقّن ممّا خرج منه بالتخصيص إنّما هو ظنّ المجتهد في حالة مخصوصة وهي حالة الابتلاء بالواقعة الاولى ، وأمّا هو في غير تلك الحالة فهو باق تحت العموم المذكور ولو بحكم الأصل.

ويمكن الذبّ عنها : بأنّ هذا إنّما يستقيم إذا لم يطرأ العامّ ما يقتضي إجماله.

ولا ريب أنّ المخرج بالدليل ـ من إجماع ونحوه ـ من أدلّة المنع إنّما هو ظنّ المجتهد حال الابتلاء بالواقعة الاولى عقيب الاجتهاد الأوّل ، وظنّه أيضا حال الابتلاء بالوقائع المتجدّدة عقيب الاجتهاد الآخر ، وأمّا ظنّه حال الابتلاء بالوقائع المتجدّدة من دون اجتهاد فلا يعلم دخوله في حكم المخصّص أو في حكم العامّ لإجمال المخصّص الّذي هو على ما حقّق في محلّه يسري إلى العامّ ، إلاّ أنّه يحكم فيه أيضا بالجواز استصحابا للحالة السابقة.

وفيه أوّلا : أنّه لا إجمال في المخصّص هنا إذ لا إجماع بالقياس إلى الحالة المذكورة ، لا أنّه انعقد الإجماع على خروج ظنّ المجتهد مع إجمال في معقده بالقياس إلى الأحوال المذكورة.

وثانيا : أنّه ليس من الإجمال الّذي يسري إلى العامّ على تقدير تسليمه في معقد الإجماع ، كما في قوله : « أكرم العلماء إلاّ بعض اليهود » أو « لا تكرم الاشتقاقيّين » مع كون الإجمال في أنّ المخرج من العلماء هل هو علماء الصرف أو أصحاب التكسير ، بل هو نظير الإجمال في قوله : « لا يتيمّم بشيء إلاّ بالصعيد » حيث يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن ممّا اريد من « الصعيد » وهو التراب ويرجع في غيره من أجزاء وجه الأرض إلى حكم العامّ لأصالة العموم وأصالة عدم التخصيص ، ففيما نحن فيه أيضا يؤخذ بالقدر المتيقّن من معقد الإجماع ويرجع في الباقي إلى عمومات المنع وإطلاقاته.

وثانيها : أنّ الواجب على المجتهد تحصيل الحكم بالاجتهاد وقد حصل ، فوجوب الاستيناف عليه بعد ذلك يحتاج إلى دليل وليس بظاهر ، بناء على أنّ الأمر لا يقتضي التكرار والأصل عدم الاطّلاع في الاجتهاد الثاني على ما لم يطّلع عليه في الاجتهاد الأوّل.

ويمكن المناقشة فيه أيضا : بأنّ تجويز العمل بالحكم أو الإفتاء به عند تجدّد الواقعة من غير تجديد النظر بعد تحكيم عمومات المنع من العمل بالظنّ يحتاج إلى دليل ، لا أنّ وجوب تجديد النظر يحتاج إلى دليل.

وثالثها : أنّ وجوب تجديد النظر يؤدّي إلى العسر العظيم والحرج الشديد فيكون منفيّا

٣٥٠

في الشريعة ، ولعلّه نظرا إلى أنّ أصل الاجتهاد صعب شاقّ ومستوعب لمعظم العمر والمسائل غير محصورة فتكريره خصوصا مرارا عند تجدّد كلّ واقعة خصوصا فيما يعمّ به البلوى يوجب من العسر ما لا يتحمّل عادة إن لم نقل بكونه من التكليف بما فوق الطاقة.

وربّما نوقش فيه أيضا : بأنّه إنّما ينفي القول بوجوب تجديد النظر مطلقا ولا ينفي القول بالتفصيل.

ورابعها : قيام السيرة المستمرّة بعدم تكرير الاجتهاد وتجديد النظر ، ولذا لو سئل مجتهد عن المسألة الّتي اجتهد فيها مرارا لم يتوقّف عن الإفتاء في غير المرّة الاولى بل يفتي أخيرا بما ذهب إليه أوّلا من غير تأمّل ولا نكير.

ونوقش فيه : بأنّ السيرة مطلقا حتّى مع نسيان دليل المسألة أو ازدياد القوّة غير ظاهرة.

حجّة القول بوجوب تجديد النظر مطلقا

أمران على ما أشرنا إليه.

أحدهما : أنّه يحتمل أن يتغيّر اجتهاده بعد تجديد نظره كما يتّفق كثيرا في المسائل الظنّية ، ومع هذا الاحتمال لا بقاء للظنّ فلا بدّ من الاجتهاد ثانيا لدفع هذا الاحتمال.

وثانيهما : عمومات المنع من العمل بالظنّ خرج منها الظنّ عقيب الاجتهاد الثاني وبقي غيره تحت العموم.

واجيب عن الأوّل : بما مرّ من النقض بالعمل والإفتاء في الواقعة الاولى لقيام الاحتمال المذكور قبله.

والأولى في الجواب منع كون احتمال تغيّر الاجتهاد مصادما للظنّ بحيث يزيله ويقلبه شكّا وتردّدا ، كيف وهو من فروع احتمال الخلاف في الاجتهاد الأوّل ولوازمه ، ولو فرض في بعض الأحيان أنّه صادمه بحيث صار المجتهد معه متردّدا فلا كلام ولكنّه خارج عن المسألة ، كما أنّ نسيان أصل حكم المسألة خارج عنها ويكون المجتهد معهما كمن لم يجتهد بعد فيجب عليه الاجتهاد ثانيا.

والجواب عن الثاني : أنّ ظنّ المجتهد بعد ما خرج من عمومات المنع ـ بشهادة جواز العمل والإفتاء عقيبه في الواقعة الاولى اتّفاقا ـ فما الّذي أوجب عوده إلى المنع ثانيا ودخوله مرّة اخرى حتّى يحتاج إلى مخرج آخر؟ إلاّ أن يقال : إنّه إنّما يتّجه إذا أفاد المخرج لظنّ المجتهد من عمومات المنع خروجه منها بجميع أحواله وهذا موضع منع ، بل القدر المعلوم من الإجماع إنّما هو خروجه في حالة مخصوصة دون الأحوال الاخر ، كما تقدّم الإشارة

٣٥١

إليه عند المناقشة في الاستصحاب.

ولكن يمكن الذبّ عنه : بأنّ هذا إنّما يتوجّه أن لو كان المخرج لظنّ المجتهد المخصّص للعمومات منحصرا في الإجماع وليس كذلك ، بل العمدة من مخرجه إنّما هو العقل بملاحظة مقدّمات دليل الانسداد ، فإنّه بملاحظة تعذّر العلم تفصيلا وسقوط اعتبار العلم إجمالا يلزم المكلّف ـ مجتهدا ومقلّدا ـ بالأخذ بما هو أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ، وليس إلاّ الظنّ الناشئ من الأدلّة الاجتهاديّة المتعارفة.

ولا ريب أنّ العقل في إلزامه بذلك وحكمه بكون ما ظنّه المجتهد حكما فعليّا لا نظر له إلى خصوصيّات الوقائع بل يحكم به على الوجه الكلّي ، والمفروض أنّ مدرك المسألة من دليل أو أصل إنّما أفاد مؤدّاه لموضوع المسألة على الوجه الكلّي المتساوي نسبته إلى جزئيّاته ، ودليل حجّية ذلك المدرك أو اعتباره أفاد الحجّية والاعتبار على الوجه الكلّي.

واللازم من ذلك كلّه خروج ظنّ المجتهد من أدلّة المنع بجميع أحواله.

ولو سلّم كون حكم العقل على وجه القضيّة المهملة بالقياس إلى أحوال ظنّ أو أزمان العمل عليه والإفتاء به ، فيكفي في جعله من باب المحصورة الكلّيّة قاعدة نفي العسر والحرج.

حجّة القول بوجوب التجديد عند نسيان دليل المسألة أمران :

أحدهما : العمومات المانعة من الأخذ بالظنّ ، خرج منها صورة تذكّر الدليل لما دلّ على حجّية ذلك الدليل ووجوب الأخذ بمقتضاه ويبقى الباقي تحتها.

وثانيهما : أنّ من لم يذكر دليل المسألة لم يكن حكمه فيها مستندا إلى الدليل فيكون محظورا لوضوح حرمة الحكم من غير دليل.

وفيهما معا : أنّ قضيّة دليل حجّية الأدلّة الاجتهاديّة اعتبار وجود دليل في كلّ مسألة واستناد ظنّ المجتهد وحكمه إلى ذلك الدليل الموجود باجتهاده في الواقع تذكّره أو لا ، من غير فرق بين ما لو قلنا بحجّية ذلك الدليل على وجه الطريقيّة أو الموضوعيّة.

ولا ريب في خروج الحكم المفروض على التقدير المذكور من عنوان الحكم من غير دليل ، لعدم مدخليّة تذكّر الدليل في نظر العقل والعرف في صدق قضيّة استناد الحكم في المسألة إلى الدليل كما هو واضح.

حجّة القول بوجوب التجديد مع ازدياد قوّة الاستنباط أمران :

أحدهما : أنّ ازدياد القوّة بسبب كثرة الممارسة يوجب قوّة احتمال اطّلاعه على ما لم

٣٥٢

يطّلع عليه في الاجتهاد الأوّل فلا يبقى له ظنّ بصحّة ما حكم به أوّلا.

وثانيهما : أنّ ظنّ صاحب القوّة القويّة أقرب إلى إصابة الواقع من غيره ، ولذا يقدّم الأفضل على المفضول في التقليد ، فيكون المتّبع ظنّه الحاصل من الاجتهاد الثاني فلا بدّ لتحصيله من ذلك الاجتهاد.

وقد يجاب عن الأوّل : بدفع احتمال الاطّلاع بأصالة عدمه.

والأولى أن يجاب : بمنع مصادمة الاحتمال المذكور بالظنّ السابق ، مع أنّه عبارة اخرى لاحتمال وجود المعارض الّذي لا مدخل في قيامه لازدياد القوّة ، مع عدم مصادمته للظنّ الحاصل بالاجتهاد ، وإن صحّ الفرض في بعض الأحيان فلا كلام.

والجواب عن الثاني : بأنّ وجوب الأخذ بالظنّ الأقرب إنّما يسلّم في الظنّ الفعلي المخالف لغيره ، وحصول ظنّ مخالف للظنّ الأوّل بالاجتهاد الثاني غير معلوم ، ومجرّد احتماله لا يؤثّر في وجوب اجتهاد آخر بعد سقوط التكليف به بالاجتهاد الأوّل ، وبالتأمّل في ذلك يظهر بطلان المقايسة على تقديم الأفضل في التقليد ، فإنّه إنّما يسلّم في موضع العلم بمخالفة المفضول للأفضل في الرأي لا مطلقا.

وينبغي التنبيه على امور :

أحدها : أنّ الاجتهاد في الموضوعات حيثما كان مشروعا كالاجتهاد في الأحكام في عدم وجوب التكرير فيه عند تجدّد الواقعة ، كما إذا اجتهد في طلب القبلة لصلاة فحضرت اخرى ، أو في طلب الماء للتيمّم مرّة لصلاة أيضا فحضرت اخرى أو غير ذلك ، للأصل واستصحاب الآثار المترتّب على الموضوع المحرز بالاجتهاد الأوّل إلاّ أن يقوم عليه دليل في خصوص مورد ، والنظر في وجوده والعدم في خصوص الموارد من وظيفة الفقيه ، والظاهر عدم ابتناء وجوبه فيها على القول بوجوب تجديد النظر في الأحكام ـ وإن كان قد يحكى القول بوجوبه هنا على القول بوجوبه ثمّة ، وعدم وجوبه هنا على القول بعدم وجوبه ثمّة ـ لوضوح منع الملازمة كما نصّ عليه بعض الأفاضل (١).

ثانيها : لا ينبغي التأمّل في جواز تجديد النظر وتكرير الاجتهاد في المسائل المجتهد فيها ولو مرارا على القول المختار ـ من عدم وجوبه ـ للأصل وعدم دليل على المنع بل الظاهر أنّه موضع وفاق ، بل عن النهاية وشرح الزبدة للفاضل الجواد دعوى الإجماع عليه.

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٧٠٥.

٣٥٣

نعم لو وجب الاجتهاد في باقي المسائل الغير المجتهد فيها لم يجز التكرار في المسائل المجتهد فيها إلاّ بعد الفراغ من الاجتهاد في باقي المسائل ، ولو كان هناك مسائل لم يجتهد فيها مع عدم قيام المقتضي لوجوبه

فيها فعلا من جهة عدم تحقّق الابتلاء بها بالفعل فالظاهر جواز الأمرين من تكرير الاجتهاد فيما اجتهد فيه وابتداء الاجتهاد فيما لم يجتهد فيه.

ولا يبعد القول بكون الثاني أرجح توطئة وتمهيدا لرفع الحاجة المحتمل طروّها فيما بعد ، لاحتمال حصول الابتلاء بها لأحد من المكلّفين.

وفي المفاتيح أيضا احتمال ترجيحه ، نظرا إلى إطلاق كلامهم في الحكم بوجوب الاجتهاد في باقي المسائل.

ثالثها : إذا جدّد النظر واجتهد ثانيا فإن وافق اجتهاده الأوّل فلا كلام ، وإن أدّى اجتهاده هذا إلى خلاف ما أفتى به أوّلا وجب عليه الرجوع إلى مقتضى اجتهاده الثاني والأخذ به بلا خلاف ، ويجب على مقلّده أيضا إذا عرف منه الرجوع العدول عن تقليده في فتواه الاولى بلا خلاف أيضا ، بل عن شرح المبادئ الإجماع على الحكم في المقامين.

ثمّ إنّ المقلّد على الخيار بين العدول إلى مجتهد آخر موافق لذلك المجتهد في فتواه الاولى ـ ومرجعه إلى البقاء على الالتزام بتلك الفتوى لكن بتقليد آخر ـ والعدول إلى مجتهد آخر أيضا موافق لهذا المجتهد في فتواه الثانية المرجوع إليها ، والعدول إلى الفتوى الثاني لذلك المجتهد.

وبالجملة المقلّد مخيّر بين ثلاث خصال ، ولم يتعيّن عليه العدول إلى الفتوى الثانية الّذي مرجعه إلى البقاء على تقليد ذلك المجتهد في فتواه الثانية ، ولعلّه على ما بيّنّاه من التخيير بين الصور الثلاث ينطبق ما عن شرح المبادئ المدّعى عليه الإجماع المتقدّم إليه الإشارة ، قائلا : « إذا اجتهد في مسألة فأدّاه اجتهاده إلى حكم ثمّ اجتهد ثانيا في تلك المسألة فأدّاه اجتهاده إلى غير ذلك الحكم فإنّه يجب عليه الرجوع إلى ما أدّاه اجتهاده ثانيا إليه إجماعا ، ويجب على المستفتي العمل بما أدّاه إليه اجتهاده ثانيا أو الرجوع عن الأوّل إجماعا ».

وفي بعض النسخ : « والرجوع عن الأوّل » وعليه فظاهر عبارته لا يخلو عن مناقشة ، حيث أفاد تعيّن الأخذ عليه بفتواه الثانية كما فهمه بعض الأفاضل ، ولكنّ الخطب فيه سهل بعد وضوح الحكم وظهور حقيقة المراد من العبارة وإن قصر ظاهرها عن إفادته.

٣٥٤

ثمّ الظاهر بالنظر إلى إطلاق ما تقدّم من الإجماع المنقول عدم الفرق في وجوب عدول المقلّد إلى الفتوى الثانية بين ما لو كان رجوع المجتهد إليها على سبيل القطع أو على سبيل الظنّ ، بل ينبغي القطع بذلك لبطلان الفتوى الاولى وخروجها عن كونها حكما فعليّا بالرجوع فلا يجوز البقاء عليها مطلقا ، خلافا لكاشف الغطاء فجعل العدول في الثاني أقوى مؤذنا بأنّ فيه وجها لعدم العدول ، قائلا ـ على ما حكي ـ : « وإن علم عدوله عن حكم مخصوص بطريق علمي عدل عمّا كان عليه أوّلا إلى ما صار إليه أخيرا ، وإن كان ظنّيا كان الأقوى ذلك أيضا » انتهى.

وفي كلام بعض الأفاضل ـ بعد المناقشة فيه بنحو ما ذكرناه ـ : « فالوجه المقابل للأقوى ضعيف جدّا ».

وهل يجب على المفتي بعد رجوعه إعلام من قلّده برجوعه إذا كان غافلا أو غير عالم به؟ وجهان بل قولان عزى أوّلهما إلى ظاهر العلاّمة في غير واحد من كتبه.

وثانيهما إلى ظاهر المحقّق والعميدي ، حيث إنّ الأوّل جعل التعريف أولى والثاني جعله أليق.

والمنقول من حجّة القول الأوّل وجهان :

أحدهما : أنّ المقلّد إنّما عمل في المسألة بقول المفتي والمفروض رجوعه عنه فلو استمرّ لبقي عاملا من غير دليل ولا فتوى مفت.

وفيه ـ بعد ملاحظة استناد عمل المقلّد في ابتدائه إلى فتوى المفتي ، وفي الاستمرار عليه إلى الاستصحاب وأصالة عدم الرجوع كما هو الحال فيما لو شكّ المقلّد في رجوع المفتي ـ منع واضح مع فرض كون نحو هذا الاستصحاب حجّة في حقّه.

وثانيهما : ما روي عن ابن مسعود أنّه كان يقول باشتراط الدخول في تحريم امّ الزوجة فلقى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذاكرهم فكرهوا ، فرجع ابن مسعود إلى من أفتاه بذلك ، قال : سألت أصحابي فكرهوا.

وفيه أوّلا : منع أصل الحكاية لبلوغها بواسطة نقل الآحاد.

وثانيا : منع حجّية فعل ابن مسعود.

وثالثا : منع دلالته على الوجوب ، لجواز ابتنائه على ضرب من الاستحباب أو مطلق الرجحان.

٣٥٥

أصل

والتقليد *

__________________

ورابعا : جواز كون فتواه أوّلا من باب الإفتاء من غير علم ، كما يشعر به قوله : « سألت أصحابي فكرهوا ».

ولا ريب في وجود الردع في مثل ذلك لقبح الإضلال والإغراء بالجهل.

وقد يستدلّ أيضا بقوله تعالى : ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ) وقوله : و ( الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى ) وقوله : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ).

وبأنّ في ترك إعلام المقلّد إغراء بالجهل.

وفي الكلّ منع واضح بعد ملاحظة اعتماد المقلّد على طريقة الاستصحاب ، أمّا الأخير فواضح ، وأمّا الآيات فلاختصاصها بمن ليس له طريق شرعي أصلا أو انصرافها إليه ، وعليه فالأصل السليم عن معارضة الدليل عدم وجوب الإعلام.

ويؤيّده لزوم الضيق والحرج في بعض الأحيان من وجوب الإعلام سيّما مع تشتّت المقلّدين وانتشارهم في البلدان ، وما ادّعي من ظاهر السيرة المستمرّة الجارية بين العلماء لشيوع تجدّد الآراء وعدم معهوديّة تعرّضهم الإعلام على وجه الالتزام ، مع أنّه قد يوجب ارتفاع وثوق العامّة عن الخاصّة ويبعث على فتح باب الكلام من أهل الجهالة والعناد على الشريعة المبتنية على طريقة الاجتهاد.

فالأقوى حينئذ عدم الوجوب ، وإن كان الإعلام حيث يمكن أحوط وأقرب إلى طريق النجاة.

ومن الفضلاء من قال : « ولو قيل بالفرق بين ما لو قطع بالبطلان فيجب الإعلام بقدر الإمكان وبين ما إذا لم يقطع به فلا يجب كان قريبا » انتهى.

وسنورد بعض الكلام في ذلك أيضا في مباحث شرائط التقليد المعتبرة فيه من حيث المسألة المقلّد فيها.

* كون التقليد في الأصل تفعيلا من القلادة يعطي كونه لغة لخصوص جعل القلادة في العنق ، يقال : قلّدته قلادة أي جعلتها في عنقه ، لكنّ الاستعمالات الدائرة في العرف والواردة في كتب اللغة ترشد إلى كونه لجعل مطلق الشيء في العنق والرقبة ، ومنه : تقليد الهدي ، وقلّدته السيف ، وقلّدته الدعاء أو الزيارة ، وقلّده القضاء ـ كما في كلام الفقهاء ـ لو قلّد المفضول القضاء.

٣٥٦

وما في حديث الخلافة : « فقلّدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام » أي جعلها في رقبته ، وكأنّه بحسب الاستعمال استعارة فيه باعتبار المادّة ، لكون ما يجعل في العنق والرقبة لازما له ، كلزوم القلادة له ، كما ربّما يومئ إليه كلام الفيّومي في المصباح المنير قال : « وتقليد العامل توليته كأنّه جعل قلادة في عنقه » ولعلّه إنّما يسمّى المعنى العرفي الّذي ستعرفه تقليدا لأنّ المقلّد بالتزامه لفتوى المجتهد في كلّ مسألة يجعلها كالقلادة في عنقه ، أو لأنّه لتعويله في امتثال أحكام الله تعالى على قول المجتهد بجعلها كالقلادة في عنق ذلك المجتهد ، فلو قلت : قلّدت المجتهد مريدا به المعنى اللغوي أمكن كون تقديره : جعلت فتاويه قلادة على عنقي ، أو جعلت أحكامي قلادة على عنقه.

ثمّ الظاهر أنّ تعديته إلى مفعولين ـ كما ظهر في الأمثلة المذكورة ـ ليست لمجرّد التضعيف ونقل مجرّده إلى باب التفعيل كما قد يتوهّم ، لعدم كون مجرّده من المعاني الحدثيّة فضلا عن تعدّيه بنفسه إلى مفعول واحد ، بل لضرب من التضمين على حدّ الأفعال الغير المتعدّية بأنفسها إلى مفعولين الّتي يضمّن في مفاهيمها معنى ما يتعدّى من الأفعال إليهما كالجعل والإعطاء وما يقرب منهما ، وقد يجعل من هذا الباب البيع والإجارة والهبة والرهن وغيره حيث تقع متعدّية إلى مفعولين مع عدم اقتضاء شيء منها بحسب وضعه ومفهومه اللغوي التعدّي إليهما ، وليس هذا إلاّ من جهة تضمين معنى الإعطاء في مفاهيمها.

فحاصل معنى « بعتك داري أو آجرتك إيّاها أو وهبتها أو رهنتك إيّاها » : أعطيتك داري على وجه البيعيّة أو الإجارة أو على جهة الهبة أو الرهن ، فمفاهيم هذه الأفعال بأنفسها وجوه وجهات للإعطاء ، فإنّ إعطاء شيء شيئا له وجوه وجهات فقد يتحقّق على وجه البيعيّة ، وقد يحصل على جهة الإجارة ، وقد يتأتّى بعنوان الهبة وهكذا.

ولو قلت : « أعطيته جبّة » كان مدلوله الإعطاء المطلق من دون تنبيه على وجهه وعنوانه.

ولعلّ من جملة وجوهه كون المعطى الّذي هو المفعول الثاني قلادة على عنق المعطى له الّذي هو المفعول الأوّل ، ويعبّر عنه بهذا الوجه والعنوان بالتقليد. فمعنى « قلّده القضاء » أعطاه القضاء على وجه يكون قلادة في عنقه لازما على رقبته ، وكذا معنى قوله عليه‌السلام : « قلّد الخلافة عليّا » ، وحيث إنّ الإعطاء يرد في الاستعمالات تارة بحذف مفعوله الأوّل واخرى بحذف مفعوله الثاني وثالثة بذكر مفعوليه فكذا ما تضمّنه ، « فقلّده القضاء » من باب ذكر المفعولين « وقلّدت البعير » من باب حذف المفعول الثاني ، و « قلّدت السيف » من باب حذف

٣٥٧

هو العمل بقول الغير من غير حجّة *

__________________

المفعول الأوّل ، و « قلّدت المجتهد » من محتمل الوجهين ، لكنّ الأظهر كون التقليد ما ضمن في مفهومه معنى الجعل ، فليتدبّر.

* هذا هو معناه العرفي الفقهائي بل المتشرّعي ، وأخذ العمل في تعريفه كما صنعه جماعة.

وفي تعريف غير واحد التعبير بـ « الأخذ » مكان العمل.

وفي كلام آخرين التعبير بالقبول ، وهو الأمر النفساني والعقد القلبي الّذي يعبّر عنه بالالتزام بالشيء.

والظاهر أنّ هذا مجرّد تغيير في العبارة واختلاف في التعبير فالمعنى العرفي واحد عنه الجميع لا أنّه اختلاف في المعنى لتكون المسألة خلافيّة ، بدليل أنّهم في شرح هذه التعريفات يعبّرون بكلّ من هذه الألفاظ مكان الآخر ، بل في شرح ما أخذ فيه « العمل » يعبّر عنه تارة بالأخذ كما في كلام المصنّف وغيره ، واخرى بالقبول كما في محكيّ الإحكام والنهاية ، فيراد من الأخذ والعمل ما يرجع إلى القبول وهو الالتزام بفتوى الفقيه لحقه العمل ـ بمعنى الحركات والسكنات اللتين هما من الأكوان الأربع ـ أو لا.

فحمل « العمل » في تعريف من عبّر به على هذا المعنى ثمّ إرجاع القبول إليه ليكون المعنى المراد منه الالتزام المستتبع للعمل بعيد.

وأبعد منه جعل المسألة خلافيّة حيث لم ينبّه أحد على الخلاف فيها.

ويظهر ثمرة الوفاق والخلاف هنا فيما لو أخذ التقليد في معاقد الإجماعات المنقولة في أبواب التقليد ، كما لو نقل العلاّمة مثلا الإجماع على عدم جواز العدول عن تقليد المجتهد ، أو على عدم جواز تقليد الميّت ، أو على عدم جواز تقليد المفضول أو نحو ذلك.

فعلى تقدير الخلاف فلا بدّ في معرفة معقد الإجماع من استعلام مذهب ناقله ليجري الأحكام المستفادة منه عليه بحسب مذهبه ، وعلى تقدير عدمه كان الإجماع منقولا على المعنى الواحد المتّفق عليه فيجري الأحكام المستفادة منه على المعنى الواحد.

وتحقيق المقام : أنّ المكلّف الّذي وظيفته التقليد له في لحاظ التقليد حالات أربع مترتّبة ، وهي السؤال المعبّر عنه بالاستفتاء ، وغلمه بفتوى المفتي ، والتزامه بما علمه ، وتطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة على ما التزم به.

ولا ينبغي التأمّل في عدم انعقاد التقليد بالأوّل ولا بالثاني ، وهل ينعقد بالثالث أو لابدّ

٣٥٨

من الرابع؟ وجهان بل قولان أظهرهما الأوّل ، لا بمعنى أنّ العمل بالمعنى المذكور غير واجب على المكلّف حيث وجب عليه التقليد ، كيف وهو المقصود بالأصالة من إيجاب التقليد ، بل بمعنى عدم كونه مأخوذا في مفهومه ومعناه العرفي ، لأنّه المعنى المنساق منه في الاستعمالات المبحوث عنه في أكثر المباحث الآتية المأخوذ في معاقد الإجماعات المنقولة على مشروعيّة التقليد وحسنه ، الّتي منها محكيّ السيّد في الذريعة قائلا : « والّذي يدلّ على حسن تقليد العامي أنّه لا خلاف بين الامّة قديما وحديثا في وجوب رجوع العامي إلى المفتي ، وأنّه يلزمه قبول قوله لأنّه غير متمكّن من العلم بأحكام الحوادث ، ومن خالف في ذلك كان خارقا للإجماع ، وليس يمكن للمخالف في ذلك رفع الإجماع على الرجوع إلى الفتوى ، ويأوّل هذا الرجوع بما هو بعيد فيقول : هو رجوع للتنبيه على النظر والاستدلال.

وهذا التأويل غير معلوم بل المعلوم ضرورة خلافه ، وأنّ العامي لا يستفتي على وجه طلب التنبيه على النظر بل ليلتزم » إلى آخر كلامه رفع مقامه (١).

مع أنّ المناسب للمعنى اللغوي المتقدّم والاستعمالات العرفيّة المتقدّمة هو الالتزام لا العمل بالمعنى المذكور ، مع مقابلة التقليد للاجتهاد وكونهما طريقين إلى العمل وامتثال أحكام الله تعالى فالاجتهاد للمتمكّنين منه والتقليد لغيرهم يعطي كونهما في غير جهة المقابلة على نمط واحد ، وكما أنّ الاجتهاد لم يؤخذ في مفهومه العمل بل هو مقدّمة له ووجوبه مقدّمي فكذلك التقليد ، فالعمل واجب أصلي يتوصّل إليه بأحد الأمرين من الاجتهاد والتقليد.

هذا مع أنّه ليس للقول باعتبار العمل فيه إلاّ أنّهم ذكروا للتقليد شروطا ترجع إليه بمعنى العمل كاجتهاد المقلّد بالفتح وإسلامه وعدالته ، أو إجماعهم قائم على أنّه لو أخذ من الكافر أو الفاسق ثمّ أسلم أو عدل جاز العمل ، فلو أنّها كانت شروطا له بمعنى مجرّد الأخذ والقبول لم يكن جائزا إلاّ بعد الإسلام والعدالة ، وأيضا لو أخذ من مجتهد ثمّ عدل المجتهد عن الفتوى أو حصل له التردّد في المسألة أو زالت ملكته لكان ذلك الأخذ كافيا في انعقاد التقليد مع أنّه يمكن دعوى إجماعهم على بطلانه.

وفيه : أنّ جواز الأخذ والقبول من فاقد الشروط والالتزام بما قاله ما دام فاقدا أوّل المسألة.

ودعوى إجماعهم على ذلك غير مسموعة ، وجواز العمل بعد وجدانها إنّما هو لحصول مقدّمته ولو على وجه غير مشروع ، فإنّ بناء ما ذكرناه على كون التقليد مقدّمة للعمل لا أنّه نفس العمل.

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٧٩٦.

٣٥٩

كأخذ العاميّ والمجتهد بقول مثله *.

__________________

ودعوى كفاية الأخذ عن المجتهد قبل عدوله أو تردّده أو زوال ملكته في انعقاد التقليد ممّا لا ينبغي الإصغاء إليها.

غاية الأمر أنّه بعد طروّ هذه الحالات يصير تقليدا فاسدا لا يترتّب عليه أثر جواز العمل كالأخذ من غير المجتهد ، وأخذ المجتهد ممّن هو مثله فيجب العدول عنه ويحرم البقاء على الالتزام بما أخذه.

ولبعض الفضلاء في الاستدلال على نفي اعتبار العمل في انعقاد التقليد كلام يعجبني نقله حيث قال : « واعلم أنّه لا يعتبر في ثبوت التقليد وقوع العمل بمقتضاه ، لأنّ العمل مسبوق بالعلم فلا يكون سابقا عليه ، ولئلاّ يلزم الدور في العبادات من حيث إنّ وقوعها يتوقّف على قصد القربة وهو يتوقّف على العلم بكونها عبادة ، فلو توقّف العلم بكونها عبادة على وقوعها كان دورا ».

وفيه : أنّ مبنى القول باعتبار العمل في ثبوت التقليد على جعله مقوّما لماهيّته لا شرطا خارجا عن الماهيّة ، وفي كلامه قدس‌سره حزازة اخرى حيث يفهم منه كون التقليد بحسب الاصطلاح عبارة عن العلم لا الالتزام بالفتوى وهو غير صحيح ، وكما لا يعتبر العمل في تحقّق التقليد فكذا لا مدخليّة له في لزوم حكمه حتّى على القول بجواز العدول عن التقليد ، إذ دليل هذا القول إن تمّ قاض بالجواز مع العمل وبدونه خلافا للفاضل المتقدّم ذكره فاعتبره في لزوم حكمه على القول المذكور ووجهه غير واضح.

* ذكر ذلك تبعا لجماعة كالعضدي والآمدي والعلاّمة ، ومبناه على توهّم عود الضمير المجرور في الظرف المقدّر ـ أعني عليه ـ إلى جنس التعريف وهو العمل أو مرادفاه لا إلى « القول » كما هو الأظهر ، مع كون الظرف المذكور باعتبار العامل المقدّر حالا من الجنس على التقديرين ، فتقدير التعريف على ما فهموه : أنّ التقليد هو الأخذ بقول الغير حال كونه حاصلا من غير دليل على ذلك الأخذ أي على جوازه ، وعلى ما ذكرناه : أنّه الأخذ بقول الغير حال كونه حاصلا من غير دليل على ذلك القول أي على خصوصه ، ومعناه : أنّه لم يعتبر معه في لحاظ الأخذ به دليل يستدلّ به عليه ولا حجّة يحتجّ بها عليه وإن ذكر معه دليل ـ كما قد يتّفق أنّ المفتي يورد فتواه عند الاستفتاء مع دليلها ، وكذا ما لو أخذ المستفتي فتوى مجتهده من كتبه الاستدلاليّة ـ لكنّه ليس بحيث يعتبر ذلك الدليل في لحاظ الأخذ

٣٦٠