تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

حكّمه ملك على ناحية وعهد إليه أنّه متى أخبره ثقة بأنّ الملك أمرك بكذا أو نهاك عن كذا فعليك بالطاعة ، وبيّن له المخلص عند تعارض الأخبار ، فهو يترك العمل بما سمعه من الأوامر والنواهي من الثقات معلّلا بجهله بمسائل الاصول ، فاستحقاقه للذمّ حينئذ لا ريب فيه.

ومنها : أنّ هاهنا قوما لا يعملون بهذه الاصول بل يطرحونها خلف « قاف » (١) وليسوا من المتحيّرين.

ومنها : أنّه إذا لم نعرف تغيّر عرفنا من عرف زمان الشارع فلا بأس عليه ، إذ الحجّة الآن أحاديثهم وما كلّفنا بأزيد ممّا نفهمه منها ، وإن علمنا تغيّر العرف فمن أيّ طريق نثبته أمن الكتاب أو السنّة أو الإجماع الكاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام أم من تلك الاصول الضعيفة؟.

ومنها : أنّه ليس في علم الاصول إلاّ نقل الأقوال المتفرّقة والأدلّة المختلفة فلا أصل له.

ولا يذهب عليك أنّ التأمّل في سياق هذه الكلمات ومساقها يعطي أنّ غرض هؤلاء نفي لزوم المراجعة في أخذ المسائل الاصوليّة المحتاج إليها في معرفة الأحكام إلى الفنّ المعهود المدوّن في كتبه المتداولة على وجه يستلزم التعلّم والاستماع وصرف برهة من العمر حسبما هو متداول بين أربابه على حدّ سائر الفنون قديما وحديثا ، لا نفي الحاجة إلى القدر المحتاج إليه من هذه المسائل بالمرّة ولو حصل استعلامها بغير جهة مراجعة هذا الفنّ ، وإلاّ فكيف يعقل الاستنباط من الكتاب والسنّة ـ المشتملين على الحقائق والمجازات مع القرائن وبدونها والمشتركات مع القرائن وبدونها ، وألفاظ العبادات والمعاملات وغيرها والأوامر والنواهي والمناطيق والمفاهيم والعمومات والمخصّصات والمطلقات والمقيّدات ، مع كون الخبر الواحد من السنّة قد يخالف ظاهر الكتاب ، ومفهوم الموافقة أو المخالفة قد تعارض العامّ كتابا أو سنّة وعامّان كتابيّان أو خبريّان أو مختلفان قد يتعارضان ، وكون اللفظ الوارد فيهما قد يتعارض فيه الأحوال المخالفة للأصل من المجاز والاشتراك والنقل والتخصيص والإضمار والتقييد والنسخ ، وقد يتعارض فيه العرف واللغة أو عرف الراوي والمرويّ عنه إلى غير ذلك من العناوين المأخوذة عند أرباب الفنّ ـ من دون معرفة أحكام الحقائق والمجازات من أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة وأنّ المجاز لا يصار إليه إلاّ

__________________

(١) « قاف » جبل محيط بالدنيا من زبرجد أخضر وإنّما خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل. ( تفسير القمي : ٥٩٥ وعنه في البحار ٥٧٠ / ١٢١ ح ٩ ).

٢٦١

بقرينة واضحة تترجّح على أصالة الحقيقة ، وأنّ اللفظ مع القرينة المذكورة يجب حمله على المجاز ، وأنّه لا يجوز استعماله في معنييه الحقيقي والمجازي أو يجوز مع المرجوحيّة.

ولا معرفة أحكام المشترك من أنّه بدون القرينة هل هو ظاهر في إرادة جميع المعاني أو لا؟ وأنّه يجوز استعماله في أكثر من معنى أو لا؟ وأنّه مع عدم القرينة حكمه ماذا؟

ولا معرفة أحكام المشتقّ من أنّه حقيقة في حال التلبّس مطلقا أو خصوص حال النطق أو غيرهما؟ وإنّ حكمه بالقياس إلى ما انقضى عنه المبدأ ماذا؟

ولا معرفة أحكام ألفاظ العبادات والمعاملات من أنّها هل هي مبقاة على معانيها الأصليّة اللغويّة أو منقولات إلى معان اخر شرعيّة؟ وهل هي في المعاني الشرعيّة بالقياس إلى عرف الشارع كانت حقائق أو مجازات؟ وهل المعنى الشرعي على التقديرين خصوص الصحيح أو الأعمّ منه ومن الفاسد بالنسبة إلى الشرائط فقط أو هي والأجزاء معا؟

ولا معرفة أحكام الأوامر من أنّها هل تفيد الوجوب أو غيره؟ وهل تفيد شيئا من المرّة والتكرار والفور والتراخي أو لا؟ وأنّها إذا وقعت عقيب الحظر بأقسامه الثلاث هل تفيد الإباحة أو غيرها؟ وأنّها إذا كانت موقّتة هل ينتفي بفوات الوقت أو لا؟ وأنّها على فرض إفادتها الوجوب هل تدلّ على وجوب مقدّمات المأمور به أو لا؟ وهل تدلّ على النهي عن أضداد المأمور به أو لا؟

ولا معرفة أحكام النهي من أنّه هل يفيد التحريم أو غيره؟ وهل يفيد التكرار أو لا؟

وهل يدلّ على فساد مورده إذا كان عبادة أو معاملة أو لا يدلّ؟

ولا معرفة أحكام المفاهيم من أنّها هل هي حجّة أو لا؟ وعلى فرض الحجّية فهل هي على وجه الإيجاب الكلّي ، على معنى كون المفهوم بجميع أنواعه حجّة حتّى ما كان لقبا أو على وجه الإيجاب الجزئي؟ وإنّ مفهوم المخالفة على فرض الحجّية هل يجب مطابقته للمنطوق في جميع الخصوصيّات المأخوذة معه كمّا وجهة وزمانا ومكانا وغيرهما من القيود والمتعلّقات عدا كيف القضيّة وما علّق عليه حكمها من شرط أو وصف أو غاية أو عدد أو نحو ذلك؟

ولا معرفة أحكام العامّ والتخصيص من أنّ العامّ أيّ لفظ؟ ولأيّ عموم؟ وفي أيّ مقام يحمل على العموم؟ وأيّ صورة يخصّص وبأيّ شيء يخصّص؟ وبأيّ شيء لا يخصّص؟

وعلى أيّ قدر يجوز تخصيصه؟ وأنّه بعد التخصيص يبقى على حجّيته أو لا؟ وأنّه إذا

٢٦٢

خصّ بمجمل فحكمه ماذا؟ وأنّه يخصّص بخبر الواحد أو لا؟

ولا معرفة أحكام المطلق والمقيّد من أنّه في محلّ التنافي يحمل المطلق على المقيّد أو لا؟ وإنّ المطلق في أيّ موضع يؤخذ بإطلاقه وأيّ موضع لا يؤخذ به فيه؟ وإنّ الإطلاق في أيّ موضع يثبت وأيّ موضع لا يثبت؟

ولا معرفة أنّ العامّ هل يخصّص بمفهوم الموافقة والمخالفة معا أو لا يخصّص بشيء منها أو بالأوّل دون الثاني؟ وإنّ العامّين من وجه إذا تنافيا فحكمهما ماذا؟ وكيف يجمع بينهما؟

ولا معرفة أحكام تعارض الأحوال من حيث الترجيح والوقف ، وأحكام تعارض العرف واللغة وعرفي الراوي والمرويّ عنه وهكذا.

ولا ريب أنّه لا بدّ في كلّ من المذكورات وغيرها من بناء الأمر على شيء والإذعان بشيء من أطراف القضيّة ، ولا بدّ وأن يكون هذا البناء والإذعان بطريق الاجتهاد عن دليل يعتمد عليه العقل ويسكن إليه النفس ، ولا نعني من معرفة مسائل الاصول الفقه المحتاج إليها في الاستنباط إلاّ هذا ، سواء حصل هذه المعرفة بمراجعة الفنّ المدوّن حسبما هو متداول بينهم من السلف إلى الخلف ، أو بطريق آخر ممّا يقضي العادة بامتناعه خصوصا في هذه الأعصار ، وخصوصا بالقياس إلى من كان أجنبيّا بلسان العرب ، فإن كان هذا القدر مسلّما عند الخصم يعود الخلاف بينه وبين المجتهدين والاصوليّين من أصحابنا لفظيّا ، وإلاّ ترجع مقالته في نفي الحاجة إلى دعوى حصول معرفة الأحكام الشرعيّة من الكتاب والسنّة أو مطلق الأدلّة بطريق المكاشفة ، على قياس ما هو الحال في الأسباب الضروريّة الغير المحتاجة إلى استفادة المطالب منها إلى إعمال شيء من المقدّمات الخارجة عنها كما لا يخفى.

ومن المعلوم بالبداهة أنّ حدوث تدوين الفنّ لا ينافي وجود مسائله معمولا بها قبل التدوين ، وعمل قدمائنا ورواة أحاديثنا بهذه الأخبار الموجودة وبغيرها ممّا ذهبت عنّا بمرور الدهور لا يعقل من دون استحصال المسائل المشار إليها وغيرها ممّا لم نشر إليها ، كما أنّه لا يعقل من دون استحصال العلوم العربيّة وغيرها ممّا هو ملحوظ من باب المبادئ ، وعدم المنع والتقرير من الأئمّة إنّما هو لأجل وجود شرط العمل لديهم ومراعاتهم له وعلمهم عليهم‌السلام بهما ، بل وفي بعض الأخبار ما يشير إلى لزوم مراعاة هذا الشرط ، ووجوب إعمال جزئيّاته الّتي هي مسائل علم اصول الفقه ، كما في قصّة ابن الزبعرى المعترض على

٢٦٣

قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ )(١) بما فهمه خطأ من عموم كلمة « ما » لما يعقل أو ما لا يعقل قائلا : « أما عبد موسى وعيسى والملائكة؟ » من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أجهلك بلسان قومك ، أما علمت أنّ « ما » لما لا يعقل » حيث إنّه توبيخ على المعترض على ما لم يعلمه أو غفل عن مراعاة ما علمه من كون « ما » لغير ذوي العقول.

بل المتتبّع في أخبار الأئمّة وآثار أهل بيت العصمة يجد فيها إشارات غير محصورة إلى كون مسائل هذا العلم متداولة لديهم ومعمولا بها عندهم ، لو لم نقل بكونها تصريحات بذلك.

ويكفيك في ذلك ملاحظة ما تقدّم في الأخبار الّتي احتجّ بها الأخباريّة على إبطال طريقة المجتهدين من رواية سليم بن قيس الهلالي قال : « قلت لأمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ما في أيدي الناس ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة في تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطلا؟ فترى الناس يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدين ويفسّرون القرآن بآرائهم؟ قال : فاقبل عليّ عليه‌السلام فقال : قد سألت فافهم الجواب ، إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده حتّى قام خطيبا فقال : « أيّها الناس قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبّوأ مقعده من النار » ثمّ كذّب عليه من بعده ، وإنّما آتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :

رجل منافق يظهر الإيمان متصنّع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدا ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمع منه وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، إلى أن قال :

ورجل سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه ، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم به أو سمعه ينهى ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.

__________________

(١) الأنبياء : ٩٨.

٢٦٤

وآخر رابع لم يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم ينس بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه وعلم الناسخ والمنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ ، فإنّ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ، قد كان يكون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام له وجهان : كلام عامّ وكلام خاصّ مثل القرآن ، وقال الله عزّ وجلّ في كتابه ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(١) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » إلى آخره.

فانظر إلى مضامين هذا الحديث الشريف وفقراته وما أشار إليه من جملة كثيرة من مسائل اصول الفقه كانت معمولة لديهم متداولة عندهم على وجه علم به الإمام فرضي به ولم يردعهم ، بل أمر ضمنا بمراعاة جملة اخرى منها كما يظهر بالتأمّل.

والعمل بأوامر الشرع ونواهيه كيف يعقل مع عدم فهم المعنى المراد منهما ، ولا يعقل الفهم من غير الإذعان فيهما ولو ظنّا بكونهما للإيجاب والتحريم أو الندب والكراهة أو لهما معا بطريق الاشتراك لفظا ومعنى ، ولا الإذعان بأنّ الأمر يفيد المرّة والتكرار والفور أو التراخي أو طلب الماهيّة ، وأنّه إذا وقع عقيب الحظر فحكمه ماذا؟ وإنّ الأوامر وكذا النواهي الصادرة عن الأئمّة صارتا من المجازات الراجحة المساوي احتمالها لاحتمال الحقيقة كما ذهب إليه بعض الأصحاب أو لا كما عليه المعظم؟

فلو اريد بالعلوم اللغويّة الموجبة لفهم الأوامر والنواهي ما يفيد جميع ذلك وغيره ممّا يرتبط به فهم خطابات الشرع كتابا وسنّة فهو اعتراف بعين المدّعى من قيام الحاجة إلى معرفة المسائل الاصوليّة فيعود النزاع لفظيّا ، ونحن لا نقصد من مسائل علم الاصول إلاّ الامور المذكورة ونظائرها إن شئتم سمّوها بهذا الاسم أو بغيره ، ولو اريد بها ما لا يفيد ذلك كلاّ أم بعضا. فدعوى الفهم غير مسموعة ، فالحكم على من هذه حاله بوجوب التقليد إنّما هو لانصحار طريقه فيه وعدم تمكّنه من غيره ، فكلّ من جهل مسائل علم اصول الفقه كلاّ أو بعضا على وجه لا يغنيه ما علمه في التوصّل إلى الاستنباط على الوجه الشرعي وحسبما هو قانونه عند أهل الشرع ليس وظيفته إلاّ التقليد ، لا لأنّه جاهل بل لأنّ هذا الجهل موجب لعدم تمكّنه من فهم الأدلّة.

__________________

(١) الحشر : ٥٩.

٢٦٥

ولا ريب أنّ عدم التمكّن منه عذر قاطع وبرهان ساطع في التقليد ، وليس للملك أن يحكمّ على ناحية إلاّ من يعلم من حاله أنّه يعرف معنى الأمر والنهي باعتبار المادّة ، وأنّ ما يبلّغه إليه الثقة بصيغة « افعل » أو « لا تفعل » هل يصدق عليهما الأمر والنهي أم لا؟ وعلى تقدير عدم الصدق فمفادهما أيّ شيء؟ وأن يعرف « الثقة » مفهوما ومصداقا ، وأن يعرف سائر الجهات المتعلّقة بالخطاب الّتي لها دخل في فهمه ، فلو حكّم من ليس له هذه المرتبة من المعرفة ولا أنّه متمكّن من تحصيلها وأوجب عليه مع ذلك أن يعمل بأمره ونهيه ومقتضى خطابه الواصل إليه من الثقة فلا ريب أنّه ارتكب فعلا قبيحا ، وكان ممّن يرميه العقلاء بسخافة الرأي ودناءة الطبع ، ثمّ إذا ترك هذا الرجل القيام بمقاصد الأوامر والنواهي الواصلة إليه معتذرا بعدم تمكّنه عن فهم تلك المقاصد كان معذورا وخارجا عن حدّ التقصير في نظر العقلاء ، فلو عاتبه الملك حينئذ أو عاقبه لأطبقوا على تقبيحه ورميه بالسفه.

والقوم الّذين لا يعملون بهذه الاصول لا علم لهم بالأحكام الشرعيّة الفعليّة الّتي يترتّب عليها آثار الإطاعة والانقياد ، وما يزعمونه علما بمعتقدهم الفاسد ليس في نظر الشرع إلاّ جهلا مستقرّا نشأ عن التقصير ، فعدم كونهم متحيّرين حقّ غير أنّ عدم التحيّر قد يكون لأجل العلم بالمسألة ولو شرعيّا ، وقد يكون لأجل الجهل بها ولو مركّبا ، ومجرّد عدم المعرفة بتغيّر العرفين لا يوجب استفادة المطلب من الخطاب ما لم يتصدّ لإعمال الاصول المقرّرة لإحراز المراد الّتي لا تعرف إلاّ بمراعاة علم اصول الفقه ، والأحاديث إنّما يكون حجّة لمن يقوم بشرائط الحجّية المحرزة للسند والدلالة وغيرها ممّا له تعلّق بمقام استفادة الحكم واستنباطه لا مطلقا ، وعدم التكليف بأزيد ممّا يفهم إنّما يسلّم لمن نشأ فهمه عن القواعد المقرّرة والضوابط المحرّرة الباعث مراعاتها على إدراج هذا الفهم في عداد العلوم الشرعيّة وإخراجه عن الجهل والضلالة.

وما علم فيه بتغيّر العرف يعلم حاله بسائر الطرق الاجتهاديّة والاصول القويّة المحكمة الّتي رضي بها الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واكتفيا بها عن الواقع حيثما اجريت مجاريها ، والحكم عليها بالضعف إنّما ينشأ عن ضعف العقيدة وقصور الهمّة ، ولا مجال للكتاب والسنّة والإجماع الكاشف عن قول أهل العصمة في العرف وما يتعلّق به ، مع أنّ ما علم فيه بتغيّر العرف إن أوجب إشكالا فهو مشترك الورود.

ولا ريب أنّه يهون في نظر من يعتمد على تلك الاصول الضعيفة ويرتفع بطريقته أخذا

٢٦٦

وأن يعرف شرائط البرهان لامتناع الاستدلال بدونه *

__________________

بموجبها ، وأمّا على طريقة من يزعمها ضعيفة فهو بحاله ولا مدفع له عنه إلاّ الالتجاء بها أو بما يقرب منها ممّا دونها أو فوقها ، وليس ذلك في مذاقه إلاّ الرجوع إلى الاحتياط ، وأيّ شيء قضى بقوّة هذا الأصل وضعف غيره ممّا يعتمد عليه المجتهدون من الاصول المعهودة لديه الّتي منها الاستصحاب وأصل البراءة ونحوها.

وتفرّق أقوال مسألة واختلاف أدلّتها لو أوجب عدم الاعتداد بها لخرج المسائل الفقهيّة عن الاعتبار ، إذ قلّما يتّفق فيها من مسألة لم يتفرّق فيها الأقوال ولا يختلف فيها الأدلّة.

ومن المعلوم أنّ الاعتداد بالمسألة يتبع الإذعان بها من أيّ فنّ كانت وبأيّ سبب حصل حيثما قامت الحجّة على اعتباره أو اعتبار سببه.

* أراد بذلك بمقتضى ظاهر العبارة معرفة القواعد المنطقيّة والقوانين الميزانيّة المتعلّقة بصور الأدلّة من الاستثنائيّات والاقترانيّات المحصورة بالأشكال الأربعة ، لامتناع نهوض الدليل دليلا لمن جهلها ، ولأنّ عدمها يؤدّي إلى امتناع استحصال سائر الشروط المتقدّمة ، فإنّ هذه المعرفة كما أنّها شرط لأصل الاجتهاد فكذلك شرط لغيره من شروطه الّتي هي عبارة عن عدّة علوم ولا سيّما علم اصول الفقه الّذي هو العمدة في الباب لكونه من العلوم النظريّة ، ولأجل ذا ربّما أمكن الاستغناء عن اعتبار هذا الشرط بالخصوص بعد اعتبار غيره من المذكورات ، نظرا إلى أنّ المراد باستحصالها حسبما تقدّم استحصالها بمبادئها اللازمة الّتي منها مراعاة المنطق ، فحصولها يستلزم سبق حصول معرفته ، وهو يوجب الغناء عن التصريح بشرطيّته للاجتهاد ، لأنّ العبرة في شرائط الوجود بحصولاتها الخارجيّة لا وجوداتها الذهنيّة ، وهذا الكلام وإن كان يجري في سائر الشروط أيضا غير أنّها لابدّ فيها من التصريح بالاعتبار بعثا لطالب صناعة الاجتهاد الغافل عن شرطيّتها على تحصيلها.

ولا يذهب عليك أنّ القدر المكتفى به من هذا الشرط أيضا حصول ما يوصل إلى التمكّن من إقامة الدليل بشرائطه المقرّرة عند أهل الصناعة ولو من غير جهة الكسب ، وبغير طريق مراجعة أهل الصناعة ومزاولة كتبها المدوّنة.

وقضيّة ذلك كفاية حصوله على نحو الإجمال من غير حاجة إلى النظر التفصيلي الّذي لا يتأتّى إلاّ بالخوض في مسائلها المدوّنة المستدعي لصرف برهة من العمر المفيد لتعرّف تفاصيل اصطلاحاته واستفصال مجملاته الحاصلة للأوساط من الناس حصول الفطريّات ،

٢٦٧

إلاّ من فاز بقوّة قدسيّة تغنيه عن ذلك *

__________________

بل لا يزال نتائجه المجملة حاضرة في ذهن كلّ من له عقل وشعور حتّى العوام بل النسوان والصبيان ، خصوصا جملة من الأقيسة كالقياس الاستثنائي والشكل الأوّل من الاقتراني المدّعى كونه بديهيّ الإنتاج.

ألا ترى أنّه لو قيل : « إذا كان الغراب قد طار من الهوا فقد مات زيد » أو قيل : « كلّ عالم شريف ، فزيد شريف ، وهو ليس من العلماء » أو قيل : « زيد كاتب ، وكلّ كاتب خليفة السلطان ، فزيد خليفة السلطان » كانت الملازمة فاسدة ببداهة نظر كلّ من وصله هذا القول وكان من ذوي العقول والشعور ، كيف وامور معاش العقلاء بجميع وجوهها المختلفة وعناوينها المنضبطة لا تكاد تنتظم إلاّ باستدلالاتهم المحكمة المندرجة في فطريّاتهم وأظهر جبلّياتهم.

فالخوض في الفنّ بمزاولة مسائله وممارسة مطالبه ممّا لا يجدي إلاّ في تبدّل لباس الإجمال بلباس التفصيل ، وتعرّف الاصطلاحات الّتي تعين على أداء المركوز في الذهن بحسب الفطرة الأصليّة على وجه التفصيل ، وهذا كما ترى ممّا ليس له كثير مدخليّة في استنتاج المطلب الّذي هو الغرض الأصلي في مقام الاستدلال ، فإنّ العجز عن تحرير الدليل والتعبير عن أجزائه ومقدّماته الحاضرة في الذهن على جهة الإجمال بالألقاب المحرّرة في الصناعة ـ وهو أمر بين الخارج عنها والداخل فيها ـ لا يخلّ بالقوّة الراسخة في النفس المقتدر بها على إعماله.

ولا ريب أنّ كلّ من له هذه القوّة فهو محصّل للشرط المذكور ولا حاجة له معها إلى تكلّف مؤنة التحصيل توصّلا إلى جهة التفصيل.

نعم حيث إنّ الاجتهاد في هذه الأزمنة والأعصار صار من الصناعات المبتنية على الجدال الّذي لا يكاد يتأتّى إلاّ بالتعرّض للأقوال والقدح في أدلّتها تارة بالنقض والمعارضة والإصلاح لها اخرى بالتأويل والمعالجة ، فالحاجة ربّما تكون ماسّة بالخوض المؤدّي إلى معرفة تفاصيل اصطلاحات هذا الشرط.

* وهذا الاستثناء كما ترى لا يرتبط بسابقه إلاّ إذا كانت المعرفة المتقدّمة مرادا بها ما يحصل بطريق الكسب ، إذ لولاه لكان مفاده : أنّ الفائزين بالقوّة القدسيّة لا حاجة لهم في استدلالاتهم إلى مراعاة قوانين الإنتاج وشروطه ولو إجمالا ، بل يفيد أنّهم بقوّتهم القدسيّة بريئون

٢٦٨

وأن يكون له ملكة مستقيمة وقوّة إدراك يقتدر بها على اقتناص الفروع من الاصول وردّ الجزئيّات إلى قواعدها * والترجيح في موضع التعارض.

إذا عرفت هذا ،

__________________

عن إقامة البرهان بمعونة شروطها المقرّرة عارون عن استحضارها حتّى على جهة الإجمال.

وقضيّة ذلك كونه من صفات النقص الّتي يجب تنزيه الفائزين بصفات الكمال الّتي منها القوّة القدسيّة وهذا هو معنى فوزهم بها ، وفي هذه الدعاوي كلّها من الفساد ما لا يكاد يخفى على ذي مسكة ، ومثلها في الفساد المعنى الأوّل لو كان هو المراد ـ كما هو الأظهر ـ لما قرّرناه سابقا.

فالحقّ أنّ هذا الاستثناء وارد في غير محلّه ، لكونه في كلّ من محتمليه على خلاف التحقيق.

* المعروف بينهم التعبير عن هذه القوّة بالقوة القدسيّة ، والمراد بها على التفسير المذكور وما يرادفه ـ على ما يظهر من تضاعيف كلماتهم ـ قوّة يتمكّن بها من إعمال الاصول الحاضرة والقواعد الكلّية المستحصلة الّتي جملة منها المسائل الاصوليّة وجملة اخرى القواعد المقرّرة في متن الفقه وطيّ مباحثه وثالثة القواعد المتّخذة من علوم اخر ممّا يعدّ عندهم من الشروط.

والمراد بإعمالها إجراء كلّ في مواضعه اللائقة به حسبما ساعد عليه ظاهر النظر بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد الّذي يدخل فيه علاج المعارضات وإن لم يطابق الواقع ، وهذا هو السرّ في اختلاف أنظار أساطين الفقهاء رضوان الله عليهم في تفريعاتهم الفقهيّة واستنباطاتهم الفرعيّة المبتنية على الاصول الكلّية المختلف في أكثرها مع وجود المعارضات في كثير منها لمكان معارضة بعضها بعضا.

وهذه القوّة كما ترى ليست بعين العلوم المتقدّمة المعدودة من الشروط ، ولا بعين القوّة الناشئة منها أو الباعثة على التمكّن من إدراك مسائلها ، ولا بعين الملكة المأخوذة في مفهوم الاجتهاد باعتبار الملكة ، ليلزم منه بناء على أخذها شرطا له بهذا الاعتبار شبهة اتّحاد الشرط مع مشروطه على ما سبق إلى بعض الأوهام ، بل هي حالة اخرى ممتازة عن الجميع مأخوذة في الطرف المقابل لها جمع مغايرة للأحوال الثلاث الاول بالذات والاعتبار وللحالة الرابعة المأخوذة في مفهوم الاجتهاد كذلك أيضا على بعض الوجوه وبالاعتبار فقط على البعض الآخر.

٢٦٩

وتوضيحه : أنّ حقيقة الملكة المأخوذة في مفهوم الاجتهاد المشروطة بالامور المتقدّمة الّتي منها القوّة المذكورة عبارة عن الحالة النفسانيّة المعتدلة الّتي يقتدر معها على إقامة الأدلّة الشرعيّة على الأحكام الجزئيّة الفرعيّة ، وظاهر أنّ إقامة الأدلّة تستدعي كبريات محرزة أو مقدّمات اخر مرتبطة بالكبريات هي قضايا كلّيّة تستحصل جملة منها من علم اصول الفقه واخرى من علوم اخر وثالثة من الأدلّة التفصيليّة كتابا وسنّة وغيرها ، وصغريات أو مقدّمات مرتبطة بالصغريات هي قضايا محقّقة أو فرضيّة تدرك بالوجدان تحرز على وجه ينطبق موضوعاتها على موضوعات الكبريات المذكورة تعدية لما فيها من الأحكام المثبتة بأدلّتها إليها ، وهذا هو معنى التفريع المأمور به في الأخبار بقولهم : « علينا أنّ نلقي إليكم الاصول وعليكم أن تفرّعوا » ويرادفه ما ورد في تفسير القوّة المبحوث عنها من قولهم : « ردّ الفروع إلى اصولها وإرجاع الجزئيّات إلى كلّيّاتها » نظرا إلى أنّ هذه المفاهيم ليس لها معنى محصّل إلاّ تطبيق موضوع المسألة الفرعيّة على موضوع الأصل والقاعدة الكلّيين ، ثمّ إجراء حكم موضوعيهما الكلّيين على موضوعها الّذي هو على فرض الانطباق من جزئيّات هذين الموضوعين.

ولا ريب أنّ إحراز الكبريات لابدّ له من منشأ لا يكون إلاّ حالة نفسانيّة هي إمّا نفس العلوم المشار إليها أو الحالة الناشئة منها ، أو الباعثة على تمكّن إدراكاتها ، كما أنّ إحراز الصغريات على الوجه المذكور لاب دّ له من منشأ لا يكون إلاّ حالة نفسانيّة تغاير الحالة الاولى ، ولا تلازم بينهما أيضا باعتبار الخارج ، لبداهة التخلّف من الطرفين كما يدرك بالوجدان وصرّح به غير واحد من الأعيان ، فقد يبلغ الإنسان في العلوم المشار إليها حظّا وافرا ولا حظّ له في التفريع المذكور لقصور باعه وضعف فطنته كما هو المشاهد ، وقد يتسلّط بفطانته وانسه بمذاق الفقهاء لمخالطته لهم ومزاولته متون كتبهم على التفريع وإدراج كلّ فرع في أصله المقرّر لدى أرباب الصناعة. ولا يتمكّن من تحقيق ذلك الأصل بنفسه ، لعدم خبرته بالعلوم المشار إليها أو عدم استكماله لها ، فإذا جمع الوظيفتين استكمل الحالتين ويحصّل له باجتماعهما حالة ثالثة هي الهيئة الاجتماعيّة أو الهيئة البسيطة المنتزعة عنها أو المتولّدة منها على وجه الحقيقة ، والحالة المعبّر عنها بالقوّة القدسيّة يغايرها على جميع الوجوه ، غير أنّها على الوجه الآخر مغايرة لها ذاتا واعتبارا وعلى الوجهين الأوّلين مغايرة اعتبارا ، والفرق بينهما أنّها على أوّلهما حالة مركبّة من الحالتين ، فإن اخذت بوصف الاجتماع

٢٧٠

كانت غيرهما بالاعتبار وإن اخذت لا بهذا الوصف كانت عينهما بالذات ، فهي متّحدة معهما ذاتا مغايرة لهما اعتبارا.

وعلى ثانيهما حالة بسيطة اعتباريّة ، لكون ثبوتها منوطا بالانتزاع الّذي ليس إلاّ اعتبار المعتبر.

ولا ريب أنّ القوّة القدسيّة يصحّ على جميع التقادير عدّها شرطا بالإضافة إليها وإن كان في إطلاق الشرط عليها على أوّل التقادير نوع مسامحة يظهر وجهها للبصير بمصطلح القوم ، وهذا هو الدافع لما أشرنا إليه من شبهة اتّحاد الشرط والمشروط بناء على أخذ القوّة المذكورة شرطا للاجتهاد بمعنى الملكة ، فإنّ الملكة المقتدر بها على إقامة الدليل غير الملكة المقتدر بها على إقامة جزء الدليل كما عرفت ، فلا مانع من جعل الاولى مشروطة بالثانية.

والحاصل : ملكة الاجتهاد عبارة عن الحالة النفسانيّة الّتي يتمكّن بها على استنباط الأحكام الشرعيّة عن الأدلّة بطريق الاستدلال المشتمل على صغرى وكبرى ، وما يرتبط بهما من المقدّمات القريبة أو البعيدة الّتي لها مدخليّة في إنتاجهما ، وهذه الحالة موقوفة في حصولها الخارجي على قوّة يتمكّن بها من التفريع ، وحاصل معنى التفريع جعل الصغرى مرتبطة بالكبرى.

وبعبارة اخرى : قوّة بها يدرك اندراج الأصغر في الأوسط ، مثلا قولنا : « كلّ متغيّر حادث » وقولنا : « كلّ مستغن من المؤثّر قديم » أصلان كلّيان وإثبات الحدوث أو القدم للعالم يتوقّف على قوّة بها يدرك كون العالم من جزئيّات المتغيّر ، أو المستغني عن المؤثّر ، وهذه هي قوّة التفريع المعبّر عنها بالقوّة القدسيّة.

وإليه يرجع ما أفاده بعض الفضلاء في هذا المقام من : « أنّ المذكور في الشرط قوّة ردّ الفروع إلى

الاصول ، ومرجعه إلى التمكّن من معرفة اندراج كلّ فرع تحت أصله ، وظاهر أنّ هذا المقدار من القوّة لا يستلزم التمكّن من معرفة حكم الفرع كما هو معنى الاجتهاد بالقوّة فضلا عن اتّحادها معه ، فإن لم يتحقّق مباحث الاصول ربّما يحصل له بمزاولة الفقه ملكة يتمكّن بها من معرفة اندراج كلّ فرع تحت أصله ، ولكن لا يتمكّن من معرفة حكم الفروع لعدم تمكّنه من تحقيق حكم الأصل ».

وفي معناه ما قرّر أيضا بعض الأعلام من : « أنّ الملكة الّتي هي نفس الاجتهاد هي الملكة الخاصّة المترتّبة على مجموع شرائط الفقه الّتي من جملتها الملكة العامّة ، أعني

٢٧١

تمكّن ردّ مطلق الجزئيّات إلى الكلّيات والفروع إلى الاصول ، لا بردّ جزئيّات الفقه إلى كلّياته ».

ولكنّك خبير بأنّه أظهر في بعض الوجوه المتقدّمة ، كما أنّك بصير بأنّ ذيل كلامه غير خال عن حزازة ، فإنّ التعميم المذكور المتعقّب للتصريح بنفي الخصوصيّة غير واضح الوجه.

إلاّ أن يقال : إنّه لتوهّم التلازم بين صناعة الفقه وسائر الصناعات في قوّة التفريع ، فإنّها حيثما حصلت لا تختصّ بصناعة دون اخرى ، فليتدبّر.

وربّما يفسّر هذا الشرط بسرعة الانتقال كما في بعض شروح التهذيب عند قول العلاّمة : « وثامنها : أن يكون له قوّة استنباط الأحكام الفرعيّة عن المسائل الاصوليّة » فقيل في شرحه : « هذا قريب من التمكّن الّذي مضى ذكره ، ويمكن أن يراد بقوّة الاستنباط سرعة الانتقال ، ويسمّيه بعض الفقهاء بالقوّة القدسيّة كما في الدروس ، ويحمل ذلك على أن لا يكون متناهيا في البلادة وهو أن يكون بحيث إذا راعى أجزاء القياس وشرائطها يغلط في الانتقال ، فهذا لا يكون مجتهدا ، إذ من حصّل الأسباب كلّها فهو متهيّئ باعتبار الأسباب ، لكن بعد ترتيب القياس يغلّط ، فهذه مرتبة اخرى بعد المرتبة الاولى على ما يفهم من كتاب الإشارات » انتهى. وضعفه واضح ممّا مرّ ، فإنّ التمكّن من إقامة الدليل على وجه اشتمل على صغرى وكبرى لا يتأتّى إلاّ بوجود ما يحرز به الصغرى من الهيآت النفسانيّة ، وقوّة الاستنباط هاهنا مرادا بها القوّة الباعثة على التمكّن من إحراز الصغرى لتعدية الأحكام الاصوليّة بالمعنى الأعمّ من القواعد الكلّية المقرّرة في نفس الفقه إليها.

ولا ريب في مغايرته لما مرّ ، مع أنّ سرعة الانتقال بمعنى عدم التناهي في البلادة ممّا لا مدخل له في حقيقة هذه القوّة ، بل هي كجودة الذهن وغيرها كمال آخر من كمالات النفس.

وما بيّنّاه في الفرق بين هذا الشرط ومشروطه ـ وهو الاجتهاد بالمعنى الملكي ـ لا ينافي ما قرّرناه في تعريف الفقه من أنّ مقام الاجتهاد ما يحرز فيه صغرى لينضمّ إليها كبرى مستحصلة من أدلّة حجّية اعتقاد المجتهد ومجتهداته وكونها أحكاما فعليّة ، لأنّ ما يقع صغرى لهذا القياس هو النتيجة المستحصلة في مقام الاجتهاد المبتنية على الملكة المشترطة بامور منها : القوّة المفسّرة بالقوّة القدسيّة حسبما تقدّم.

ثمّ يبقى الكلام في امور ينبغي التعرّض لها :

أحدها : مقتضى التأمّل الصادق ـ كما تنبّه عليه بعض الفضلاء ـ كون أصل هذه القوّة

٢٧٢

من حيث إنّها عرض قائم بالنفس أمرا كسبيّا منوطا عروضها بالأسباب الخارجيّة الّتي عمدتها التدبّر التامّ في جميع أطراف المسألة ووجوهها ليتميّز به ما به اندراجها تحت أصل من الاصول عن الخصوصيّات المكتنفة بها ، ولملاحظة النظائر والأضداد تمييزا لما به مضادّة الأضداد عمّا به اندراج النظائر المندرجة تحت الأصل المشكوك في اندراج المسألة تحته ليعلم اندراجها فيه وعدم اندراجها دخل عظيم في حصولها ، وليس ذلك من باب القياس في شيء ، لوضوح الفرق بين الانتقال إلى حكم شيء لاندراجه تحت أصل كلّي بملاحظة ما به اندراج النظائر المندرجة فيه ، وبين الانتقال إلى حكم شيء أصله مشتركة بينه وبين غيره المعبّر عنه بالأصل.

وممّا له دخل في حصولها أيضا ملاحظة تفريعات أهل الصناعة ومزاولة تنظيراتهم واستنباطاتهم الجزئيّة ، ولمجادلة أربابها ومباحثتهم أيضا دخل فيه وفي ازدياده.

فما يستفاد من بعض الأعلام من كون هذه القوّة أمرا غريزيّا موهبيّا يختصّ ببعض النفوس دون بعض ولا يحصل أصلها بالكسب بل له مدخليّة في زيادتها وتقويتها ، ليس بسديد.

نعم قابليّة المحلّ من حيث استعداده وتهيّوئه لقبولها أمر موهبي لابدّ وأن يكون من المبدأ الفيّاض ولا مدخل للكسب فيه ، ومرجعها إلى الفطانة والذكاوة وجودة الذهن واستقامة الطبع ، ولعلّه قدس‌سره اختلط عليه الأمر فاشتبه القوّة الحالّة في المحلّ بقابليّة ذلك المحلّ مع وضوح الفرق بينهما ، فإنّ القابليّة بالمعنى المذكور من أسباب هذه القوّة ومقتضياتها. ثمّ إنّه كما أنّ لها أسبابا ومقتضيات فكذلك لها منافيات لابدّ في تحقّقها من انتفائها :

منها : إعوجاج السليقة ، فإنّه من معائب النفس الباعثة على عدم استقامة الطبع الّذي يستكشف عنه بمراجعة الغالب والمعتدلين ومشاهير الفقهاء والمجتهدين.

ومنها : الجربزة الباعثة على عدم وقوف الذهن على شيء المعلوم انتفاؤها ، بأن يكون له ثبات فيما يرجّحه.

ومنها : البلادة الباعثة على عدم التفطّن بالدقائق المعتنى بها في مقام الاستنباط.

وقد يذكر هنا امور اخر منها : أن لا يكون جريّا في الفتوى غاية الجرأة ، ولا مفرطا في الاحتياط ، فإنّ الأوّل ممّا يهدم المذهب والدين ، والثاني ممّا لا يهتدي إلى سواء الطريق من

٢٧٣

حيث أدائه إلى عدم قضاء حوائج المسلمين بل ربّما يشوّه الدين ويشوّش الشرع المبين.

ومنها : أن لا يكثر في التوجيه والتأويل ، فإنّه ربّما يفضي إلى الأخذ بأبعد الاحتمالات مكان الظواهر لمكان الانس بذلك ، فإنّ للانس بكلّ طريقة أثرا بيّنا في إذلال الذهن وإضلال الفكر عن الصراط السويّ.

ومنها : أن لا يكون بحّاثا يحبّ البحث ولا جدليّا يحبّ الجدال ، فإنّ ذلك مرض قد يكون طبيعيّا كالعقرب المجبولة على حبّ اللسع ، وقد يكون لغرض فاسد من حبّ الرئاسة والشهرة وطلب إظهار الكمال والفضيلة.

والإنصاف أنّ هذه الامور ليست من شروط القوّة المبحوث عنها ولا من الامور الراجعة إلى قابليّة المحلّ.

نعم كثير منها من شروط الاعتبار والوثوق والاطمئنان.

نعم الإفراط في الاحتياط ربّما يكون لضعف قوّة الترجيح وقصور ملكة الاستنباط ، وبعضها من آداب الورع والتقوى ولوازم الخلوص وحسن النيّة كالأخير.

وثانيها : أنّ من القاصرين من أنكر اعتبار هذه القوّة أو مطلق الملكة في الاجتهاد لشبهات عرضت له.

منها : أنّه ينافي القول بوجوب الاجتهاد عينا أو كفاية على القولين ، لأنّا نعلم بالعيان أنّ كثيرا من الناس ليس له تلك الملكة ، وإن خصّصنا بذوي الملكات فهو أيضا باطل ، لأنّه قبل الاجتهاد ومزاولة الفقه لا يظهر له أنّه ذو ملكة أم لا؟ فمع عدم العلم بالشرط كيف يجب عليه ، مع أنّ كثيرا من المشتغلين يظهر له بعد السعي وبذل الجهد أنّه فاقد لها فكيف حكم الحكيم بوجوبه عليه مع فقدان الشرط ، وقد مرّ أنّه لا يجوز التكليف مع علم الآمر بانتفاء الشرط.

ويزيّفه : أنّه إن أراد به أنّ إطلاقهم في اختيار أحد القولين حيث صار إلى كلّ فريق من دون تعرّض لذكر هذا الشرط ممّا ينفي اعتباره فيفسد معه القول بشرطيّته.

ففيه أوّلا ـ بعد عدم مساعدة ظاهر العبارة عليه ـ : أنّ الإطلاق على فرض قيامه متساوي النسبة إلى هذا الشرط وسائر الشروط المتقدّمة الّتي لا كلام لأحد بل لا خلاف يعتدّ به في اعتبار أكثرها ، حيث إنّ الفريقين لم يتعرّضا في هذا المقام لذكر شيء منها ، فيلزم التوصّل به إلى نفي الشرطيّة فيها بأسرها وهو كما ترى ، والمدفع واحد والفرق تحكّم.

٢٧٤

وثانيا : بطلان توهّم الإطلاق في هذا المقام ، حيث إنّ الغرض الأصلي عند اختيار القولين ونظائرهما في سائر الموارد إنّما هوبيان أصل الحكم لموضوع محرز بالفرض أو معيّن بحسب الواقع من دون نظر إلى تفاصيل ما يعتبر في ذلك الموضوع وما لا يعتبر ، فالقضيّة حينئذ بالقياس إلى موضوعها مأخوذة على وجه الإهمال والإجمال لا على سبيل الإطلاق والبيان ، فلا ينافيها التعرّض للبيان في غير مقام بيان أصل الحكم كما في سائر القضايا بالقياس إلى موضوعاتها الّتي تبيّن في غير مقام البحث عن أحكامها متقدّما أو متأخّرا.

وثالثا : أنّا في صدد تحقيق المسألة حسبما يقتضيه النظر ويساعد عليه القاعدة ، فلا جرم نختار أحد القولين ولا نطلقه بل نخصّصه بواجدي الشروط الّتي منها هذه الملكة الخاصّة أو مطلق الملكة ، فإن اخترنا القول بفرض الكفاية فلازمه سقوط الفرض بقيام من قام به الكفاية عن الآخرين ظاهرا وواقعا لو كانوا واجدين للشروط واقعا ، أو ظاهرا فقط لو كانوا فاقدين لها واقعا ، فلا محذور.

وإن اخترنا القول بفرض العين فلازمه وجوب الإقدام على كلّ مكلّف احتمل في حقّه حصول الشروط تحصيلا لمقدّمات وجود الواجب المطلق على حدّ سائر الواجبات المطلقة بالقياس إلى مقدّماتها الوجوديّة ، نظرا إلى أنّ شروط الاجتهاد كلّها حسبما تقدّم مقدّمات وجوديّة صرفة.

ولا يقدح فيه قيام احتمال عدم اتّفاق حصولها كلاّ أم بعضا بطروّ العذر ، أو تبيّن مصادفة عدم التمكّن أخذا بظاهر الحال وغلبة السلامة المستتبعة لاتّفاق حصول المقدّمات ، كما هو الحال في طيّ مسافة الحجّ المحكوم بوجوبه ظاهرا على المستطيع شرعا في العام الأوّل من الاستطاعة مع اطّراد قيام احتمال عدم اتّفاق الوصول لعذر طار.

غاية ما هنالك أنّه إذا تبيّن في الأثناء تعذّر الحصول وعدم التمكّن من الوصول انكشف عدم شمول الخطاب من أوّل الأمر قضيّة لعدم جواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط ، فيكون حال هذا المكلّف كغيره من الغير المتمكّنين من بدو الأمر ، فيحكم عليه حينئذ بحكمه المقرّر عند أهل هذا القول.

وإن أراد به أنّ مصيرهم إلى اختيار أحد القولين مع انضمام علمهم العياني بأنّ كثيرا من الناس ليس لهم تلك الملكة يقوم مقام التصريح بعدم اعتبارها في الاجتهاد أصلا.

٢٧٥

ففيه : منع صراحة القول ولا ظهوره في النفي فلا منافاة بين المقامين ، ولو سلّم الدلالة على النفي بأحد الوجهين فهي بعد نهوض القاطع بشرطيّة الملكة دلالة فاسدة قصدت على خلاف التحقيق فلا يعبأ بها ، مع عدم ابتناء المسألة على تقليد الغير من أصحاب القولين فلا ضير في المصير إلى مخالفتهم إذا ساعد عليه النظر المؤدّي إلى الشرطيّة والمفروض عدم انعقاد الإجماع على نفي الشرطيّة لمصير أساطين أهل الصناعة إلى الشرطيّة كما يظهر للمتتبّع.

ومنها : أنّ اشتراط الملكة يستلزم عدم العلم بوجود المجتهد ، لأنّها أمر خفيّ مع أنّه غير منضبط لاختلاف الطبائع فيها غاية الاختلاف ، فلا يظهر ما هو المعتبر منها للعوامّ ومعه لا يمكن الامتثال غالبا فيقبح التكليف.

وفيه : أنّ صاحب الملكة من كلّ شأن وصناعة يعرفه أهل الخبرة من هذا الشأن وتلك الصناعة بالطرق المقرّرة عندهم ، بل معرفة وجودها في نظرهم أسهل شيء في مظانّه ، وليس هذه المعرفة من وظيفة العامي بل وظيفته الرجوع إلى العدول من أهل الخبرة ، ولا يعتبر في أهل الخبرة وجود الملكة كما لا يخفى.

ومنها : أنّهم عليهم‌السلام قرّروا لنا قواعد يستنبط منها بعض المسائل ولا حاجة لنا فيها إلى تلك الملكة.

نعم قد وضع الاصوليّون قواعد مبتنية على أدلّة مدخولة ومباني ضعيفة ـ مثل : أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، وإنّ الأمر والنهي لا يجتمعان ، وإنّ استصحاب الحال حجّة ـ يحتاج استنباط المسائل منها إلى تلك الملكة ، وهذه قواعد واهية لا يحتاج إليها فلا يجوز التمسّك بها.

وفيه : أنّ بداهة الوجدان وضرورة العيان تقضي بأنّ فهم أصل تلك القواعد المقرّرة من أدلّتها المتعارفة يستدعي ملكة ، وإجراء تلك القواعد كلّ في موضعها اللائق بها ملكة اخرى لا يكفي عنها الملكة الاولى ، ودعوى عدم الحاجة إليها مكابرة للوجدان ومدافعة لمقتضى العيان ، وأمّا ما في آخر العبارة في القدح في المسائل الاصوليّة فقد أشبعنا الكلام في إفساده بما لا مزيد عليه.

ومنها : أنّ هذه الأحاديث والأخبار كان يعمل بها في عصر الأئمّة كلّ من سمعها عالما كان أو عاميّا ، وتقريرهم عليهم‌السلام إيّاهم يدلّ على أنّ كلّ من فقهاء يجوز أن يعمل بها من دون

٢٧٦

توقّف على شرط آخر من المسائل (١) وغيرها.

وفيه : أنّ مآل هذا الكلام إلى إنكار شرائط الاجتهاد كلّها ، فيفسده كلّما تقدّم في إثباتها ، هذا مع بطلان مقايسة حالنا على حال العاملين بالأخبار والأحاديث من أهل عصر الأئمّة عليهم‌السلام مع ما في التقرير المدّعى من الإجمال المانع من الاتّكال من جهات عديدة باعتبار العامل والمعمول به ووجه العمل وكيفيّته ما لا يخفى على المتأمّل.

فالعموم المدّعى عليه التقرير غير مسموع ، بل ثبوت أصل التقرير غير مسلّم ، وقد تقدّم في الأخبار الدالّة على وجود الأحاديث الكاذبة فيما بين أحاديث أهل العصمة ما هو صريح في المنع من عموم العمل بكلّ حديث ، والردع عن إطلاق الأخذ بالأحاديث المسموعة ، مع أنّ الأمر بالتفريع الوارد في الأخبار المستفيضة لا يتناول كلّ من سمع الحديث ولا كلّ عامل بالخبر ولو عاميّا.

فاختصاص هذا الأمر بغير العامي ينهض دليلا على اعتبار الشرائط كلّها حتّى الملكة المبحوث عنها ، ضرورة أنّ التفريع المأمور به لا يتمّ بدونها.

فالاستدلال على نفي اعتبارها بما ذكر وغيره من الوجوه السخيفة يشبه بكونه اجتهادا في مقابلة النصّ.

وبذلك يبطل ما قيل أيضا : من أنّ عموم تكليف المكلّفين بالعمل بالأخبار يدلّ على أنّ العمل بالأفراد الخفيّة واللوازم الغير البيّنة الّتي لا يهتدي إليها إلاّ الأكثرون ولا يعرف فرديّتها ولزومها إلاّ بالنظر والاستدلال غير لازم ، وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق بالنسبة إلى غير المتمكّنين ، فإنّ ما ادّعي من عموم التكليف بالعمل بالأخبار في محلّ منع لجهات عديدة : فتارة باعتبار العامل ، واخرى باعتبار المعمول به ، وثالثة باعتبار جهة العمل ، مع أنّ التكليف العامّ على فرض وجوده حسبما ادّعي ليس إلاّ من باب الخطابات المعلّقة على شرائط التكليف عقليّة وغيرها فيختصّ كمّا وكيفا وجهة بواجديها.

وبالتأمّل في جميع ما ذكر في دفع جميع الوجوه المذكورة يظهر ضعف ما قيل أيضا : من أنّهم كانوا يعملون بالأخبار بدون الفحص عن المعارض وحصول الملكة المحتاج إليها في علاج التعارض.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والأنسب بسياق العبارة هكذا : « من الملكة » الخ.

٢٧٧

فاعلم : أنّ جمعا من الأصحاب وغيرهم عدّوا في الشرائط : معرفة ما يتوقّف عليه العلم بالشارع من حدوث العالم وافتقاره إلى صانع موصوف بما يجب ، منزّه عمّا يمتنع ، باعث الأنبياء ، مصدّق إيّاهم بالمعجزات ، كلّ ذلك بالدليل الإجمالي ، وإن لم يقدر على التحقيق والتفصيل * ما هو دأب المتبحّرين في علم الكلام.

وناقشهم في ذلك بعض المحقّقين : بأنّ هذا من لوازم الاجتهاد وتوابعه ، لا من مقدّماته وشرائطه. وهو حسن ، مع أنّ ذلك لا يختصّ بالمجتهد ، إذ هو من شروط الإيمان **

__________________

* هذا البيان ملخّص ما أرادوه من قولهم بشرطيّة معرفة الكلام ، كما عن النهاية والتحرير ، والتهذيب ، والذكرى ، والدروس ، والتنقيح ، والروضة ، والفوائد الحائريّة ، ورسالة الاجتهاد والأخبار ، والوافية.

ووجه الاشتراط ـ على ما يستفاد من كلام جماعة ـ : أنّ معرفة الأحكام الشرعيّة يتوقّف على الاعتقاد بوجودها ، المتوقّف على معرفة الشارع وصفاته من كونه قادرا عالما مرسلا للرسل ، ومعرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدقه وعصمته ، فإنّ معرفة الوجوب بدون الموجب بل معرفة الحكم الشرعي بدون معرفة الشارع بالمعنى الشامل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محال.

وأمّا ما في كلام جماعة ـ منهم بعض الأعلام ـ من التعليل بأنّ المجتهد يبحث عن كيفيّة التكليف وهو مسبوق بالبحث في معرفة نفس التكليف والمكلّف ، فلعلّه مسامحة في التعبير ووارد على خلاف التحقيق ، فإنّ المطلوب في مقام الاجتهاد ما هو موضوع التكليف ، لا نفس التكليف وإلاّ لزم أن لا يكون العلم من شروط التكليف لئلاّ يلزم الدور ، كما يعلم وجهه بالتأمّل وسبق بيانه في غير موضع من كلماتنا.

** وفي الروضة : « أنّه صرّح جماعة من المحقّقين بأنّ الكلام ليس شرطا في التفقّه ، فإنّ ما يتوقّف عليه منه مشترك بين سائر المكلّفين » إلى آخره.

وقد تحمل هذه العبارة على نفي الشرطيّة رأسا كما هو مفاد ما حكاه المصنّف ، ولكنّه ليس كما حمل كما يشهد به التأمّل في مساقها ، فإنّ النفي عند التحقيق راجع إلى ما زاد على المعارف الخمس من المطالب الكلاميّة الّتي منها مباحث الجواهر والأعراض كما

٢٧٨

فهمه الشهيد الثاني رحمه‌الله ، فلم يثبت قول بنفي الشرطيّة إلاّ محكيّ المصنّف الّذي استحسنه.

ومن الأعلام من وافقه على أصل المطلب وإن خالفه في وجهه ، حيث قال : « والتحقيق أنّ العلم بالمعارف الخمسة واليقين بها لا دخل له في حقيقة الفقه.

نعم هو شرط لجواز العمل بفقهه وتقليده ، فإذا فرض أنّ كافرا عالما استفرغ وسعه في الأدلّة على ما هي عليه واستقرّ رأيه على شيء على فرض صحّة هذا الدين ، ثمّ آمن وتاب وقطع بأنّه لم يقصّر في استفراغ وسعه شيئا فيجوز العمل بما فهمه.

ولا ريب أنّ محض التوبة والإعادة لا يجعل ما فهمه فقها ، بل كان ما فهمه فقها وكان استفراغ وسعه على فرض صحّة المباني » إلى آخره.

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، فإنّ الفقاهة بعد تحقّق الاجتهاد وأدائه إلى نبذة من الاعتقاد عنوان لا يتأتّى إلاّ بانضمام كبرى كلّية قطعيّة إلى صغرى يحرزها مقام الاجتهاد ، وظاهر أنّ الكافر ما دام كافرا فاقد لتلك الكلّية ومعه يستحيل صدق « الفقيه » عليه و « الفقه » على علمه.

وتحقيق المقام : أنّ هذا الخلاف راجع إلى أمر لفظي ، إذ لو فسّر الاجتهاد باستفراغ الوسع في تحصل الظنّ بمؤدّيات الأدلّة المتعارفة في الجملة على فرض قصر النظر عمّا بين الأدلّة المتعارفة على الكتاب والسنّة من حيث إنّهما من الأدلّة اللفظيّة المبنيّة على الدلالات العرفيّة ، اتّجه القول بعدم الشرطيّة ، فإنّ الاستدلال بالأدلّة اللفظيّة بعد الإحاطة بالشروط المحرزة للدلالة ومعالجة المعارضات منوط بملاحظة مداليلها الثابتة لها بمقتضى أوضاعها اللغويّة أو العرفيّة وظهوراتها الأوّلية أو الثانويّة من غير مدخل لخصوص متكلّم دون آخر فيه.

ولا ريب أنّ الألفاظ ـ كتابيّة وغيرها ـ إذا اخذت بهذا الاعتبار ولا بشرط ملاحظة قائلها الخاصّ أفادت للناظر فيها مداليلها ـ باعتبار أنّها صالحة لأن تكون مرادة لقائليها ـ إفادة ظنّية بل جزميّة في بعض الأحيان ، وإن كان الناظر كافرا بل منكرا للصانع والشرائع أو خصوص هذا الشرع.

وتوهّم أنّ الدلالة المثبتة للحكم في الألفاظ عبارة عن فهم المطلب على أنّه مراد للافظها ، وهذه في ألفاظ الكتاب والسنّة لا تحرز إلاّ بعد إحراز صدورها من الشارع بالمعنى الأعمّ من الله سبحانه والنبيّ والوصيّ ، ولا يحرز ذلك إلاّ بعد إثبات الشارع والشرع.

يدفعه : أنّ حصول الدلالة بهذا المعنى إنّما يقتضي وجود لافظ لتلك الألفاظ ، والكافر يعتقد لا محالة أنّ لها لافظا فيفهم مداليلها على أنّها مرادات لذلك اللافظ ، وأمّا أنّه هو الشارع أو النبيّ أو الوصيّ أو غيرهما فممّا لا مدخليّة له في حصول هذه الدلالة ، بل هو

٢٧٩

أمر يرجع إلى مقام الحجّية والاعتبار.

نعم لا يبعد القول بأنّه يستحيل للكافر استفادة المطلب من الأدلّة اللبّية كالإجماع والعقل وغيرهما ، لابتناء دلالة الأوّل على الكشف وهو مع إنكار المنكشف محال والعقل لا يدرك ما ينكر ثبوته ، بخلاف الأدلّة اللفظيّة بالقياس إلى مداليلها الّتي لا مدخل لآحاد اللافظين وخصوصيّاتهم في إفاداتها ، ولا لكون الشارع ومن بحكمه لافظها.

هذا مع إمكان منع استحالة الاستفادة في الإجماع والعقل أيضا بتقريب : أنّ الإجماع يكشف عن رأي الرئيس ولو مع إنكار شارعيّته أو عدم الإذعان بكونه معصوما بسبب إنكار النبيّ والوصيّ ، والعقل يدرك حسن الأشياء وقبحها الملزومين للمحبوبيّة والمبغوضيّة لكلّ عاقل حتّى رئيس الأئمّة (١) وهذا يجامع مع إنكار كونه شارعا.

هذا ولكنّ الإنصاف : أنّ القول بكون المعارف الحقّة من شروط تحقّق الاجتهاد لا حكمه فقط قويّ ، وذلك لأنّ اصطلاحهم في الاجتهاد لمّا انعقد بجعل استفراغ الوسع ـ المأخوذ في مفهومه ـ مقيّدا بالظنّ بالحكم الشرعي ، فهو يتوقّف لا محالة على الشرط المذكور باعتبار قيده ولو في الأدلّة اللفظيّة ، فإنّ مفاد القيد بعد اعتبار التقييد إنّما هو الظنّ بالشيء على أنّه حكم شرعي.

ولا ريب أنّ الظنّ بمؤدّيات الأدلّة ـ ولو لفظيّة ـ على أنّها أحكام شرعيّة لا يتأتّى ممّن لا يعتقد وجود الصانع أو ينكر ثبوت الشرائع أو ينفي خصوص هذا الشرع.

فالقول بالشرطيّة حينئذ متّجه وقائله مستظهر ومنكرها مكابر ، وكونه من شروط الإيمان المتساوي فيه العالم والجاهل لا ينافي كونه من شروط الاجتهاد أيضا إذا كان المنظور من أخذه شرطا نفي تحقّقه عمّن فقده ، فالفاقد له كما أنّه ليس بمؤمن كذلك ليس بمجتهد اصطلاحا ، على معنى تعذّر صدقه عليه وإن جامع الشروط الاخر ، فالتشريك فيه بين العالم والعامي بجعله من شروط الإيمان ممّا لا تعلّق له بهذا المطلب.

لكن لا يذهب عليك أنّ اللازم من البيان المذكور كونه شرطا للاجتهاد الفعلي لا الملكي كما هو واضح.

وإن أخذناه مع ذلك من شروط التفقّه كان الأمر فيه أوضح على ما أشرنا إليه في صدر الباب ، وكما أنّه بهذا الاعتبار من مبادئ الفقه والاجتهاد فكذلك يكون من مبادئ علم اصول الفقه أيضا كما صرّح به جماعة ، معلّلين بأنّ هذا العلم باحث عن طرق الأحكام

__________________

(١) كذا في الأصل والصواب : « رئيس الامّة » كما يقتضيه السياق.

٢٨٠