تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

أحدهما أقلّ أفرادا والآخر أكثر أفرادا ، أو ما لم يكن أحدهما مخصّصا والآخر مخصّصا ، وما كان التخصيص الوارد على أحدهما أقلّ من التخصيص الوارد على الآخر ، وما كان تخصيصه على تقدير رجوعه إليه من تخصيص الأقلّ وفي الأخر من تخصيص الأكثر إلى غير ذلك ممّا يصير أظهر في العموم لأمر داخلي أو خارجي ، ففي الجميع يجب الأخذ بعموم الأوّل وإرجاع التخصيص إلى الآخر ، وقد يترجّح ظهور أحدهما باعتضاده بالمرجّحات الخارجيّة كالشهرة والاستقراء والأولويّة ونحوها إذا أوجبت موافقة أحدها وهنا في العامّ المخالف له بحيث صار الموافق أظهر.

ومن أمثلته ما في تعارض حسنة عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » وحسنة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله » والأوّل موافق للشهرة ، لأنّ المشهور نجاسة أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه طيرا كان أو غيره ، ولعلّه لذا رجّحه السيّد في الرياض استنادا إلى الشهرة ، لوضوح أنّه لولا كونها موهنة للعامّ الآخر لم يكن لترجيحه عليه وجه ، لأنّ أصالة الحقيقة جارية فيهما معا ، وكما أنّها في الأوّل مانعة من العمل بها في الآخر فكذلك هي في الآخر مانعة عن العمل بها في الأوّل ، واللازم من ذلك طروّ الإجمال لهما معا المانع من العمل بكلّ منهما ، ولعلّه لذا استوجه صاحب المدارك في ذرق الغير المأكول بل بوله القول بالطهارة عملا بالأصل السالم عن المعارض مريدا به أصالة الطهارة في الأشياء.

وربّما يحتمل كونه ترجيحا للخبر الثاني بموافقة الأصل بناء منه على القول بالترجيح به ، ولكنّه خلاف ما يظهر من كلامه ، فما اختاره بناء على ظاهر كلامه على تقدير عدم كون شهرة الفتوى موهنة في دلالة الخبر الثاني أوفق بالقواعد ، لأنّ مجرّد وجود نحو هذه الشهرة الغير الموهنة لا يوجب زوال التعبّد بأصالة الحقيقة المفروض جريانها في الخبر المخالف للشهرة.

هذا إذا كان العمل بأصالة الحقيقة من باب التعبّد استنادا إلى أصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص.

وأمّا إذا كان من باب الظنّ النوعي فربّما يسبق إلى الوهم جواز الترجيح بها وبغيرها من المرجّحات الخارجيّة إذا أفادت الظنّ الشخصي بمضمون ما يوافقها.

ويزيّفه : أنّ الظنّ في باب الدلالات إنّما يعتبر حيث كان بناء العرف على اعتباره ،

٦٨١

والتعويل عليه كالظنّ المستند إلى القرائن العرفيّة المعتبرة لدى أهل العرف ، والظنّ الحاصل من الشهرة وغيرها من الأمارات الغير المعتبرة بالخصوص ليس بهذه المثابة ، لعدم كون هذه الأمارات من القرائن المعتبرة في العرف ، فإنّ الكلام إنّما هو على تقدير عدم ثبوت حجّيتها بالخصوص كما هو الأقوى حيث لم يقم دليل خاصّ عليها ، كما أنّه لم يقم دليل خاصّ على عدم حجّيتها ، والمقام لا يخلو عن إشكال.

المقام الثالث

في المرجّحات الخارجيّة وقد ذكرنا سابقا أنّ المرجّحات الخارجيّة على تقدير الترجيح بها راجعة إلى مضمون الخبر ومدلوله ، لأنّها عبارة عن كلّ مزيّة خارجة عن نفس الخبر سندا ومتنا ودلالة توجب الظنّ والوثوق بصدور مضمون الخبر المشتمل عليها من الإمام عليه‌السلام ولو بلفظ آخر غير لفظ هذا الخبر ، ومن صفته الّتي يمتاز بها عن سائر المرجّحات أن لا يكون متعرّضا لصدور الرواية ودلالتها وجهة صدورها ، فيكشف ظنّا عن وجود خلل في الخبر الآخر في صدوره أو دلالته أو جهة صدوره ، ومن ثمّ سمّي المرجّح « الخارجي » لخروجه عن جميع جهات الخبر.

وهو على قسمين لأنّه إمّا أن يكون في نفسه حجّة بحيث لو لا الخبر الّذي يرجّحه كفى وجوده في دليل الحكم الشرعي ومدركه كموافقة الكتاب أو الأصل ونحوه ، أو لا يكون في نفسه حجّة بحيث لو لا ورود الخبر الّذي يرجّحه في المسألة لم يكن كافيا في دليل الحكم ، فالكلام يقع في موضعين :

الموضع الأوّل

في المرجّح الخارجي البالغ حدّ الحجّيّة

وهو إمّا الكتاب وإمّا الأصل ، ففيه مرحلتان :

المرحلة الاولى : في الترجيح بموافقة الكتاب وفي معناه السنّة القطعيّة ، والترجيح بموافقتهما منصوص عليه في الأخبار المتكاثرة وربّما ادّعي تواتر الأخبار به.

وعن المحقّق في المعارج الاستدلال عليه بوجهين :

أحدهما : أنّ الكتاب دليل مستقلّ فيكون دليلا على صدق مضمون الخبر.

وثانيهما : أنّ الخبر المنافي لا يعمل به لو انفرد عن المعارض فما ظنّك به معه.

وقضيّة هذين الوجهين بظاهرهما كون المراد بالموافقة والمخالفة للكتاب في معقد

٦٨٢

كلام الأصحاب ومصبّ أخبار الباب هو الموافقة والمخالفة بطريق التباين الّذي لا يمكن معه الجمع بين المتعارضين على وجه يكون مقبولا عند العرف سواء لم يمكن أصلا أو أمكن ولم يكن مقبولا ، لا الموافقة والمخالفة بالعموم والخصوص وغيرهما من أنواع الظهور والنصوصيّة.

وتوضيح ذلك : إنّ الموافقة والمخالفة للكتاب في الخبرين المتعارضين على قسمين :

أحدهما : أن يكون الخبران بحيث لولا الخبر الموافق لكان الخبر المخالف مقدّما على الكتاب لكونه أقوى دلالة بالنصوصيّة ، كما فيما لو كان خاصّا والكتاب عامّا وغيرهما من أنواع النصّ والظاهر ، كقوله : « لا بأس ببيع العذرة » مع قوله : « ثمن العذرة سحت » قبالا لقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) الوارد في الكتاب ، وقوله : « أكرم زيدا العالم » مع قوله : « لا تكرم زيدا العالم » قبالا لقوله : « أكرم العلماء » المفروض وروده في الكتاب.

وثانيهما : أن يكون الخبران بحيث لولا الخبر الموافق لكان الخبر المخالف مطروحا لمخالفته الكلّية وعلى وجه التبائن لا يمكن الجمع بينه وبين الكتاب أصلا أو أمكن ولم يصحّ عرفا ، ولم نقف لذلك على مثال إلاّ على سبيل الفرض مثل قوله : « الخمر نجس » في خبر ، وقوله : « الخمر طاهر » في آخر ، مع ورود « الخمر نجس » في الكتاب ، وقوله : « أكرم العلماء » وقوله : « لا تكرم العلماء » مع ورود « أكرم العلماء » في الكتاب ، وقوله : « أكرم زيدا » وقوله : « لا تكرم زيدا » مع ورود « أكرم زيدا » في الكتاب.

ولذا يقال : إنّ الصورة الاولى من هذا القسم عديمة المورد والصورة الثانية منه قليلة المورد فيما بأيدينا اليوم من الأخبار المتعارضة ، والوجهان المذكوران عن المحقّق بظاهرهما لا ينطبقان إلاّ على هذا القسم ، لأنّ موافقة الكتاب فيه تقضي بصدق مضمون الخبر الموافق وصدوره عن المعصوم ولو بلفظ آخر فتكشف عن كذب مضمون الخبر المخالف لوقوع خلل فيه إمّا في صدوره أو دلالته أو جهة صدوره ، وأنّ الخبر المخالف في نحوه ممّا لا يعمل به لو انفرد وسلم عن معارضة الخبر الموافق لعدم إمكان الجمع بينه وبين الكتاب على وجه يقبل عرفا وعدم مقاومته سندا لمعارضة الكتاب ، إذ كلّ ما يفرض معه من المزايا الموجبة للترجيح من أعدليّة الراوي ونحوها لا يقاوم قطعيّة سند الكتاب مع عدم جريان احتمال التقيّة في صدوره ولا احتمال الكذب في مضمونه ، فلم يبق فيه جهة مجوّزة للعمل به دون الكتاب إلاّ احتمال النسخ الّذي مرجع الحمل عليه إلى الترجيح باعتبار الدلالة ،

٦٨٣

وهو أيضا غير صحيح لعدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، بخلاف القسم الأوّل فإنّ مجرّد الموافقة للكتاب بعد ملاحظة جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لا يقضي بصدق مضمون الخبر الموافق وكذب مضمون الخبر المخالف ، لجواز كون الصادر من المعصوم هو ذلك المضمون تخصيصا للكتاب الّذي هو جائز بالفرض ، ولو انفرد عن المعارض يعمل به بعنوان التخصيص لا أنّه يطرح.

فقضيّة احتجاج المحقّق كون القسم الثاني معقد كلام الأصحاب ومصبّ أخبار الباب في الترجيح بموافقة الكتاب.

وربّما يساعد عليه ما نبّهنا عليه من ضابط ترجيح المضمون بما يرجع إليه من المرجّحات الّتي منها موافقة الكتاب من كشف المرجّح عن صدق مضمون الخبر الموافق فيكشف عن وقوع خلل في إحدى جهات الخبر المخالف.

ولكن يبعّد احتمال كون هذا هو مورد الترجيح بموافقة الكتاب ما أشرنا إليه من عدم وجود خبر مخالف للكتاب على الوجه المذكور أو ندرة وجوده ، فيلزم من تنزيل الأخبار الآمرة بالترجيح بهذا المرجّح على كثرتها على هذا القسم إخراجها بلا مورد أو إلى مورد قليل لا يعبأ به لقلّته.

هذا مضافا إلى ما دلّ من الأخبار المدّعى تواترها على بطلان الخبر المخالف للكتاب المقتضي لسقوطه عن الحجّية المخرج له عن صلاحية المعارضة ، بناء على أنّ الظاهر منها أو القدر المتيقّن منها المخالفة على وجه التبائن ، فيخرج المفروض عن تعارض الخبرين ، ويلزم منه خروجهما عن أخبار الترجيح رأسا ، لأنّ المراد به تقديم أحد الخبرين لمزيّة فيه غير مخرجة للآخر عن الحجّية لا تقديم أحدهما لما يسقط الآخر عن الحجّية.

مع أنّ التأمّل الصادق في غير موضع من مقبولة ابن حنظلة يعطي خروج هذا النحو من المخالفة عن موردها ، ومن ذلك إطلاق الأمر بالترجيح بصفات الراوي من الأعدليّة فإنّه يقضي بوجوب الأخذ بخبر الأعدل وإن كان هو المخالف للكتاب.

وممّا يشهد بهذا الإطلاق فرض التساوي بينهما من حيث صفات الراوي في كلام السائل ثمّ ورود الجواب على طبقه بالأخذ بما وافق الكتاب والسنّة وطرح ما خالفهما.

ولا ريب أنّه يلزم من تقديم الخبر المخالف لمزيّة الأعدليّة ونحوها طرح الخبر الموافق وهو على تقدير إرادة المخالفة الكلّية أو ما يعمّها يستلزم طرح الكتاب أيضا وهو غير

٦٨٤

معقول ، سواء رجع الطرح إلى سند الكتاب أو إلى دلالته.

أمّا الأوّل : فلأنّ قطعيّته مع عدم احتمال التقيّة فيه تمنع من طرحه الّذي هو في معنى الحكم بعدم صدوره.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا جهة لطرحه دلالة الكتاب إلاّ طرح مدلوله من حيث النسخ وهو غير صحيح ، لعدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد.

ومن ذلك أيضا ما فرضه السائل من التساوي بينهما من حيث الموافقة للكتاب بقوله : « أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا » إلى آخره.

وهذا لا يستقيم إلاّ إذا كان كلّ من الخبرين المفروض موافقتهما للكتاب أخصّ من الكتاب ، كالخبرين المختلفين في صحّة بيع المكره وبطلانه مثلا الموافق أوّلهما لآية ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) وثانيهما لآية ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) وعليه فما سمعت من المحقّق من الاحتجاج بالوجهين ليس على ما ينبغي ، بل وارد على خلاف التحقيق.

ولا يلزم ممّا ذكرناه عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، لأنّ مرجع الترجيح بموافقة الكتاب المستلزم لطرح الخبر المخالف إلى اشتراط تخصيص الكتاب بخبر الواحد بخلوّه عن معارضة مثله على وجه لم يشتمل على مزيّة مرجّحة له على معارضه ولا ضير فيه.

لا يقال : إنّ مرجع الترجيح بالموافقة حينئذ إلى حفظ ظاهر الكتاب والعمل بعمومه فيلزم كون الكتاب مرجعا لا مرجّحا ، وهذا خلاف المعنى المعهود من الترجيح وهو تقديم ذي المزيّة من الخبرين على وجه يكون الخبر هو المستند والمرجع ومدرك الحكم في المسألة.

لأنّا نقول : إنّ مدلول الخبر الموافق بحسب الواقع وإن كان من مقتضى الكتاب إلاّ أنّ ثبوته في المورد دون مدلول الخبر المخالف بعد وقوع التعارض بينهما ـ بحيث أوجب للناظر فيهما تحيّرا في أنّ الصادر من الإمام هل هو الخبر الموافق أو الخبر المخالف ـ يستند في ظاهر نظر العرف إلى الخبر ، بحيث يصحّ إسناده إليه والحكم عليه بكونه مرجعا في المسألة ومدركا للحكم فيها.

غاية الأمر اعتضاد مضمونه بموافقة الكتاب ، فالمرجّح له في الحقيقة هو الموافقة للكتاب ، فإنّها المزيّة في أحد المتعارضين أوجبت تقديم مضمونه على مضمون معارضه

٦٨٥

لا نفس الكتاب ، وإطلاقه على نفس الكتاب مسامحة باعتبار أنّ الموافقة له نسبة بينه وبين الخبر فيصحّ إطلاق المرجّح عليه توسّعا من باب المجاز ، فلا يشكل الحال في هذا الإطلاق حينئذ من جهة أنّ المرجّح يعتبر فيه عدم بلوغه حدّ الحجّية والكتاب حجّة مستقلّة.

وأمّا الإشكال من جهة عدم جريان ضابط الترجيح المضموني هنا لأنّ كون مضمون الخبر الموافق صدقا ليس بأولى من كون مضمون الخبر المخالف صدقا ، ومجرّد موافقة الأوّل ومخالفة الثاني للكتاب لا يقضي بصدق الأوّل وكذب الثاني بعد ملاحظة جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، ومرجعه إلى منع دلالة الموافقة عليه بحيث أوجب ظنّ الصدور والوثوق به لعدم الملازمة ، إلاّ أن يجعل مبنى الترجيح به على التعبّد الصرف وهو بعيد.

فيمكن الذبّ عنه : بأنّ معنى موافقة الكتاب عند التحقيق موافقة ظاهره الّذي يحرز بأصالة الحقيقة ، وهي لكونها معتبرة من باب الظنّ النوعي توجب رجحان صدق مضمون الخبر الموافق ، فيكشف ظنّا عن خلل في الخبر المخالف إمّا في صدوره أو دلالته أو جهة صدوره ، ولا حاكم عليها في جانب أدلّة حجّية سند الخبر المخالف لاشتغاله بمعارضة مثله الّذي لا يمكن الجمع بينه وبينه في العمل فلا بدّ من أخذ وطرح ، وتعيينه موكول إلى موافقة الكتاب الّذي مرجعها إلى أصالة الحقيقة السليمة عمّا يوجب الخروج عنها.

المرحلة الثانية : في الترجيح بموافقة الأصل ، والمراد به البراءة الأصليّة لا مطلق الاصول العمليّة حتّى الاستصحاب والاشتغال ، ولا القواعد الشرعيّة كأصالة الطهارة وأصالة الصحّة ، ولا ما يعمّ الجميع بدليل التعبير عنه في الكتب الاصوليّة بحكم العقل وعن الخبرين بالمقرّر والناقل.

واختلفوا هنا في تقديم الناقل وهو الخبر المخالف للأصل على المقرّر وهو الخبر الموافق للأصل أو العكس على قولين ، فعن أكثر الاصوليّين ومنهم العلاّمة تقديم الناقل ، وعن بعضهم والشيخ تقديم المقرّر.

والمنقول من حجّة الأوّلين : أولويّة التأسيس من التأكيد ، فإنّ الناقل يستفاد منه ما لا يستفاد إلاّ منه فيكون تأسيسا ، والمقرّر لا يفيد إلاّ ما أفاده الأصل فيكون تأكيدا.

وأيضا العمل بالناقل يقتضي تقليل النسخ لأنّه يزيل حكم العقل فقط ، بخلاف المقرّر فإنّه يوجب تكثير النسخ لأنّه يزيل حكم الناقل بعد ما أزال الناقل حكم العقل فيتعدّد النسخ ، والأوّل أولى.

٦٨٦

ومستند الآخرين : أنّ فائدة التأسيس أقوى من فائدة التأكيد ، وحمل كلام الشارع على ما هو أكثر فائدة أولى ، وهذا يحصل بترجيح المقرّر ، لأنّ ترجيح الناقل يستدعي تقديم المقرّر في الصدور فيكون تأكيدا وهو إخراج لكلامه عن الفائدة أو حمل له على أقلّ فائدة ، وترجيح المقرّر يقتضي تقديم الناقل عليه في الصدور فيكون فائدته رفع حكم العقل وإذا تأخّر عنه المقرّر يكون فائدته رفع حكمه ، فأفاد كلّ منهما فائدة فتكثّرت الفائدة فكان أولى.

وفي الجميع ما لا يخفى من الضعف ، فإنّ المفروض أنّ الخبرين من جهة الحجّية وشمول أدلّتها لهما متساويان ولا مزيّة لأحدهما على الآخر أصلا ، فجعل الناقل ناسخا ليس بأولى من العكس ، مع أنّ جعل رفع حكم العقل من النسخ المأخوذ فيه رفع الحكم الشرعي كما ترى ، كما أنّ أولويّة التأسيس من التأكيد ـ بعد تسليمها ـ لا تصلح دليلا على تعيين المرجع سندا ، فإنّها قاعدة لو سلّمناها كانت جارية في كلام متكلّم اشتبه مقصوده ودار بين كونه تأسيسا أو تأكيدا ، فيقال حينئذ : إنّ التأسيس أولى ، إذ الظاهر في كلّ كلام بملاحظة الغلبة نوعا أو صنفا الإفادة دون الإعادة ، فهذا من مرجّحات الدلالة ولا مجرى له فيما نحن فيه.

وبالجملة الاستناد إلى أمثال هذه الاعتبارات في نظائر المقام في غاية الإشكال بل لا وجه له ، فالأولى الرجوع إلى سائر القواعد الكلّية العامّة ، وينبغي أوّلا النظر في أنّ حمل أحد الخبرين على كونه ناسخا والآخر منسوخا هل هو جائز أو لا؟ وعلى الأوّل فهل يصلح طريقا للجمع بينهما أو لا؟

فنقول : إن كان الخبران عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاز كون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، فإن علم تاريخهما من حيث التقدّم والتأخّر كان المتأخّر ناسخا والمتقدّم منسوخا ، فيؤخذ بالمتأخّر سواء كان موافقا للأصل أو مخالفا له.

وبعبارة اخرى : يقدّم المتأخّر ناقلا كان أو مقرّرا.

وإن جهل التاريخ جرى احتمال الناسخيّة والمنسوخيّة في كلّ منهما على نهج سواء ، فيكونان كالعامّين من وجه إذا احتمل في كلّ منهما كونه مخصّصا للآخر ، فلا بدّ من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، ومجرّد موافقة الأصل ومخالفته لا تصلح معيّنة ، فيكون الأصل حينئذ مرجعا.

وإن كان عن الأئمّة عليهم‌السلام فإن جوّزنا النسخ في أخبارهم جرى فيه التفصيل المتقدّم ،

٦٨٧

وإلاّ فإن اعتبرنا الأصل من باب الظنّ النوعي ومن حيث كشفه الظنّي عن الحكم الواقعي تعيّن العمل به وبالخبر الموافق معا ، لكونهما معا بمنزلة دليل واحد يترجّح على معارضه لاعتضاد بعضه ببعض ، فيكون الأصل حينئذ معاضدا وليس بمرجّح لكونه حجّة مستقلّة ، وليس كالكتاب ليكون موافقته مرجّحة لما عرفت من رجوع موافقة الكتاب إلى موافقة أصالة الحقيقة الجارية فيه فهي الموجبة لظنّ صدق مضمون الخبر الموافق ، والمقام ليس من هذا الباب كما هو واضح.

وإن اعتبرناه من باب الحكم الظاهري القطعي المجعول لما لم يعلم حكمه الواقعي بالخصوص كان مرجعا ، لأنّ الخبرين باعتبار ورودهما لبيان الواقع مع تكافؤهما يتساقطان فلا يبقى لمقام العمل إلاّ الرجوع إلى الأصل.

والسرّ فيه : أنّ وضع الأصل بحسب الشرع للرجوع إليه عند عدم العلم بحكم الواقعة بالخصوص من وجوب أو حرمة ، وتعارض الخبرين مع التكافؤ يوجب اشتباه الحكم ، ضرورة أنّ الخبر المخالف للأصل باشتغاله بمعارضة مثله لا يفيد العلم بالوجوب أو الحرمة ، كما أنّ الخبر الموافق له لا يوجب العلم بالإباحة باشتغاله بمعارضة مثله ، فصارت الواقعة ممّا لم يعلم وجوبها أو حرمتها بالخصوص ، وهذا موضوع الأصل المقرّر في الشريعة.

وبالجملة الخبران المتعارضان لا يجديان إلاّ تحقّق موضوع الأصل فوجب الرجوع إليه ، ولا نعني من مرجعيّة الأصل إلاّ هذا ، ومؤدّاه الحكم الظاهري وهو يغاير مؤدّى الخبر الموافق الّذي هو حكم واقعي ، فإنّ الفرق بين الحكم الظاهري والواقعي مع اتّحادهما في المحمول بالنظر إلى ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ من حيث كونه الإباحة فيها معا إنّما يظهر في الموضوع لتغاير موضوعيهما ، باعتبار أنّ موضوع الحكم الظاهري إنّما هو الواقعة من حيث إنّها لم يعلم حكمها بالخصوص وموضوع الحكم الواقعي هي الواقعة بعنوانها الخاصّ الملحوظ بما هو هو.

ومن هنا ظهر عدم إمكان كون الأصل حينئذ معاضدا ، لأنّ المعاضدة إنّما تحصل بين شيئين إذا اتّحد موضوعاهما ، وقد عرفت أنّ الأصل والخبر الموافق متغايران في الموضوع ، كيف ولو صلح الأصل معاضدا لموافقة تصلح معارضا لمخالفه. ولقد تبيّن فساده في صدر الباب ، حيث ذكرنا أنّ الأصل لا يعارض الدليل من جهة تعدّد موضوعيهما ، وكما أنّه بالنسبة إلى المخالف مغائر بحسب الموضوع فكذلك بالنسبة إلى الموافق مغائر ومعه لا يعقل

٦٨٨

كونه معاضدا كما لا يعقل كونه معارضا ، وقضيّة ذلك كونه مرجعا لأنّ هذا وضعه عند الجهل المتحقّق في المقام بملاحظة تعارض الخبرين.

فإن قلت : كيف يرجع إلى الأصل مع أنّه يوجب طرح العلم الإجمالي ، فإنّا نعلم إجمالا بورود حكم للواقعة بالخصوص وهو دائر بين مضموني الخبرين.

قلت : قد تقرّر في محلّه أنّ العلم الإجمالي فيما بين ما يوافق الأصل وما يخالفه من الحكمين بل فيما بين الحكمين المخالفين له لا يمنع العمل به لتحقّق موضوعه وهو الجهل وعدم العلم بحكم الواقعة بالخصوص وإن نشأ من تعارض الخبرين ، ولذا جعل مجرى الأصل ـ حسبما تحقّق في محلّه ـ أعمّ ممّا نشأ الاشتباه من فقد النصّ أو إجمال النصّ أو تعارض النصّين.

وبالجملة العلم الإجمالي بورود حكم للواقعة بالخصوص مردّد [ ا ] بين الإباحة والوجوب أو الحرمة لا ينافي الرجوع إلى الأصل بل يحقّق موضوعه هذا.

ولكن لمّا كان الرجوع إلى الأصل فرعا على تساقط المتعارضين فهو ممّا ينافيه إطلاق الأخبار الدالّة على التخيير في عنوان « التعادل » الّذي هو تكافؤ الخبرين من جميع الجهات ، فإذا دار الأمر بين طرحهما بناء على التساقط أو الأخذ بأحدهما تخييرا تعيّن الثاني عملا بإطلاق هذه الأخبار ، فتكون هذه الأخبار واردة على أدلّة الأصل ، وبعد البناء على التخيير لا يتفاوت الحال فيه بين الأخذ بما وافق الأصل والأخذ بما خالفه.

فتقرّر من جميع ما بيّنّاه أنّ الأصل في عنوان هذه المسألة لا يصلح مرجّحا ولا معاضدا ولا مرجعا.

وقد يجعل من هذا الباب قاعدة أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة فيما تعارض خبران دلّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب ، فيقال بتقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب ، لأنّ في العمل به دفعا للمفسدة وهو أولى من جلب المنفعة.

والكلام هنا تارة : في ثبوت هذه القاعدة بنفسها وكونها بحيث يصلح للاعتماد عليها ولو في غير مقام ترجيح أحد المتعارضين ، كما في مسألة دوران شيء بين كونه واجبا أو حراما ، على معنى كونها من أدلّة الشرع الموصلة إلى الحكم الظاهري أو لا؟

واخرى : في أنّها هل تصلح مرجّحة لأحد المتعارضين أو لا؟

٦٨٩

أمّا الجهة الاولى فالكلام فيها على حسبما تقدّم في بحث أصل البراءة حيث زيّفنا أصل هذه القاعدة.

وأمّا الجهة الثانية فتحقيق القول فيها كما تقدّم في موافقة الأصل ، فهذه القاعدة بعد تسليمها لا تصلح مرجّحة ولا معاضدة ولا مرجعا.

أمّا الأوّل : فلاستقلالها بالحجّية مع كون مؤدّاها الحكم الظاهري.

وأمّا الثاني : فلتغاير موضوعي الحكم الظاهري والحكم الواقعي.

وأمّا الثالث : فلإطلاق أخبار التخيير فيما تكافأ المتعارضان من جميع الوجوه.

الموضع الثاني

في المرجّحات الخارجيّة التي لم تكن بنفسها حجّة وهي امور عمدتها الأمارات ، وهي كلّ أمارة مستقلّة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين ، ومعنى عدم اعتبارها عدم قيام دليل على اعتبارها بالخصوص لا لوجود الدليل على عدم اعتبارها كالشهرة والاستقراء ونحوهما ، ولا إشكال بل قيل لا خلاف بين العلماء قديما وحديثا في الترجيح بها وتقديم ما يوافقها.

والدليل عليه : أنّها توجب كون ما يوافقها أقوى من معارضه وأقرب إلى الواقع ، لوضوح أنّ الأمارة لا تصير أمارة إلاّ إذا أفادت الظنّ الفعلي بالحكم الواقعي ، فتوجب الظنّ بصدق مضمون الخبر الموافق لها إمّا بصدور ذلك الخبر أو بصدور مرادفه على جهة بيان الواقع ، فلازمه الظنّ بوجود خلل في إحدى جهات الخبر المخالف ، فيكون الخبر الموافق راجحا والمخالف مرجوحا ، فيدخلان في الكلّية المستفادة من الأخبار الواردة والإشارات والإشعارات الموجودة فيها ولا سيّما المقبولة من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحد المتعارضين إلى الواقع ، بل يندرج في عموم التعليل المصرّح فيه بنفي الريب لعدم جريان الاحتمال الموجود في المرجوح في الراجح أو لبعد ذلك الاحتمال فيه.

ويمكن الاستدلال أيضا بالإجماع الّذي ادّعاه جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، بناء على كون المراد بالأقوى هنا أعمّ من كونه أقوى في نفسه أو باعتبار موافقة مضمونه لأمارة خارجيّة ، بتقريب : أنّ الأمارة توجب ظنّ خلل موجود في المرجوح مفقود في الراجح فتكون أقوى الدليلين.

وإنّما قيّدنا الأمارة الغير المعتبر بما لا يقم دليل على اعتباره احترازا عن القياس ونحوه

٦٩٠

ممّا قام الدليل على منع العمل به ، لأنّ المعروف من مذهب الأصحاب المنسوب إلى ظاهر المعظم عدم جواز الترجيح به ، ولكن عن المحقّق في المعارج حكاية قول بالترجيح به أيضا حيث قال : « ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

ويمكن أن يحتجّ لذلك : بأنّ الحقّ في أحد الخبرين فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض فلابدّ في العمل بأحدهما من مرجّح والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة.

لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وهذا لأنّ فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض فيكون العمل به لا بذلك القياس ، وفيه نظر » انتهى.

وفي كلام شيخنا الاستاذ قدس‌سره : « ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين ».

أقول : ويرد عليه : أنّ رفع العمل بالخبر المرجوح معناه طرحه ، ومعنى كون القياس رافعا له أنّه يوجب الظنّ الإجمالي بوجود خلل في إحدى جهاته الّذي عليه يعوّل في طرحه.

ولا ريب أنّ التعويل على هذا الظنّ عمل بالقياس فيندرج في عموم المنع من العمل بالقياس ، مع أنّ المنساق من الأخبار الواردة في منع العمل بالقياس كون إعماله والاعتناء به في الشريعة مبغوضا للشارع سواء قصد به تأسيس حكم شرعي أو ترجيح دليله ، ولذا استقرّت طريقة الأصحاب واستمرّت سيرتهم في هجره وتركه وعدم استعماله مطلقا حتّى في مقام ترجيح الدليل.

قيل : ولو لا ذلك لوجب تدوين شروط القياس في الاصول ليرجّح به في الفروع.

فإن قلت : يرد عليك مثله في الترجيح بالشهرة وغيرها من الأمارات الغير المعتبرة ، لأنّ مرجع الترجيح بها إلى التعويل على الظنّ الحاصل منها في طرح الخبر المرجوح وهذا عمل بالظنّ الّذي لم يعتبره الشارع بالخصوص.

قلت : يكفي في جواز التعويل على هذا الظنّ أخبار التراجيح ، بناء على ما استفيد منها من عموم الترجيح بكلّ ما أوجب رجحان أحد المتعارضين على صاحبه وكونه أقوى منه وأقرب إلى الواقع ، وهذا العموم وإن كان يجري في القياس ونحوه ممّا منع عنه الشرع

٦٩١

بالخصوص إلاّ أنّه خرجنا عنه بعموم أدلّة المنع من العمل به ترجيحا له على العموم المذكور لجهات عديدة وإن كان بينهما عموم من وجه.

ثمّ إنّه إذا وقع التعارض بين شيء من المرجّحات الخارجيّة كالشهرة وبعض من مرجّحات الدلالة كالنصوصيّة أو الأظهريّة فيما ورد خبران أحدهما نصّ أو أظهر والآخر ظاهر موافق للشهرة كالعامّ والخاصّ مثلا إذا كان العامّ موافقا للشهرة فلا ينبغي التأمّل في تقدّم مرجّح الدلالة على المرجّح الخارجي مطلقا ، بل قد ذكرنا مرارا أنّ مرجّحات الدلالة لا يعارضها سائر المرجّحات حتّى لو كانت داخليّة راجعة إلى السند أو المضمون فكيف بالمرجّحات الخارجيّة ، فيقدّم الخاصّ في المثال المذكور على العامّ وإن كانت الشهرة في جانبه ولا يلتفت إليها ولا تصلح مرجّحة للعامّ ، لأنّ معنى كونها مرجّحة له حينئذ أنّها تكشف كشفا ظنّيا عن وجود خلل في إحدى جهات الخاصّ فتوجب قدحا في صدوره فيستحقّ به طرح سنده أو قدحا في دلالته فيستحقّ به للتأويل أو قدحا في جهة صدوره فيستحقّ به الحمل على التقيّة ، والكلّ باطل لأنّ أقصى ما يفيده الشهرة إنّما هو الظنّ بالخلل في إحدى تلك الجهات وهو لكونه من الظنون الغير المعتبرة لعدم قيام دليل على اعتبارها بالخصوص لا يقاوم أدلّة حجّية سند الخاصّ ولا أصالة الحقيقة ولا أصالة عدم التقيّة فيه.

أمّا الأوّل : فلأنّ مقتضى أدلّة حجّية السند وجوب الأخذ بسندي المتعارضين مهما أمكن الجمع بينهما بحسب الدلالة جمعا مقبولا لدى العرف وهو هنا ممكن بإرجاع التأويل إلى العامّ.

وأمّا الثاني والثالث : فلأنّ كلاّ من الأصلين إنّما يعتبر في مجاريه من باب الظنّ النوعي فلا يعدل عنه إلاّ بالظنّ الخاصّ المعتبر والمفروض ليس منه ، ولا ينتقض ذلك بأصالة الحقيقة في العامّ الّذي يجب طرحها على تقدير تقديم الخاصّ عليه ، لأنّ الخاصّ بعد حفظ سنده وفرض صدوره بنصوصيّته قرينة على إرادة خلاف ظاهر العامّ.

وبالجملة كما أنّ الشهرة لا يوجب قدحا في شيء من جهات الخاصّ إذا لم يقابله عامّ فكذلك لا يوجب قدحا في شيء من جهاته إذا قابله العامّ ، فلا يوجب قوّة في العامّ ولا ضعفا في الخاصّ حتّى يصير العامّ بسببه أقوى الدليلين ويتعيّن معه طرح الخاصّ ، لأنّ ذلك حيث لم يمكن الجمع السندي بين المتعارضين لا فيما أمكن الجمع وكان إشكال التعارض من جهة شبهة الدلالة مع وجود مرجّح الدلالة في جانب أحد المتعارضين من النصوصيّة أو الأظهريّة.

٦٩٢

وأمّا إذا وقع التعارض بين المرجّحات الخارجيّة وغيرها ممّا يرجع إلى الصدور أو جهة الصدور أو المضمون فيما لو تعارض خبران أحدهما موافق للشهرة مع كون الآخر بحيث يكون راويه أعدل أو موافقا للكتاب أو مخالفا للعامّة فالظاهر ترجيح المرجّح الخارجي على غيره وإن كان داخليّا ، ويكفي في دليله مرجّحيته في غير صورة التعارض ، فإنّه إنّما صار مرجّحا لكون بناء الترجيح والرجوع إلى المرجّحات في علاج التعارض على الظنون الاجتهاديّة ومن باب الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع وما هو راجح في النظر بالقياس إلى نفس الأمر حسبما استفدناه من إجماع العلماء وإشارت الأخبار وإشعاراتها والتعليلات الواقعة فيها ، كتعليل الأخذ بالمجمع عليه بكونه ممّا لا ريب فيه ، وتعليل الأخذ بما خالف العامّة بكون الرشد أو الحقّ في خلافهم.

والمفروض أنّ الأمارة الّتي هي المرجّح الخارجي لا يعتبر أمارة إلاّ حيث أفادت الظنّ الفعلي ، وهذا يوجب كون مضمون ما وافقه أقرب إلى الواقع إمّا بصدور ذلك الخبر عن المعصوم ، أو بصدور مرادفه فيكشف عن خلل في إحدى جهات الخبر المخالف له ولو كان راويه أعدل ، فكان مضمونه أبعد عن الواقع لأنّه يجري فيه من الاحتمال ما لا يجري في مضمون الخبر الموافق.

نعم إن قلنا بالترتيب بين المرجّحات الخارجيّة والمرجّحات الداخليّة ـ بمعنى أنّه لا يرجع إلى المرجّحات الخارجيّة إلاّ مع انسداد باب المرجّحات الداخليّة لكونها من قبيل الظنّ المطلق الّذي لا يرجع إليه إلاّ مع انسداد باب الظنّ الخاصّ ـ فالمتّجه تقديم المرجّحات الداخليّة حينئذ ، لأنّها ما دامت موجودة كائنة ما كانت لا يعارضها المرجّحات الخارجيّة ، لكون حجّيتها معلّقة على انسداد باب المرجّحات الداخليّة إلاّ أنّ المفروض خلافه.

خاتمة

في بيان مطلبين

المطلب الأوّل

فيما إذا وقع التعارض بين أكثر من دليلين ، فإنّ موضوع الكلام في المباحث المتقدّمة إنّما هو التعارض الواقع بين دليلين لا أزيد ، وليس المراد بالأكثريّة في عنوان هذا المطلب الأكثريّة بحسب الطريق ـ كما لو وقع التعارض بين خبر وخبرين أو ثلاثة أخبار مثلا على

٦٩٣

مضمون واحد ، فإنّ ذلك لا يخرج عن حدّ التعارض بين دليلين ، بتقريب : أنّ العبرة في التعارض تنافي المدلولين ، والمدلول في المفروض لا يزيد على إثنين وإن كان الدالّ على أحدهما في أحد الجانبين أكثر منه في الجانب الآخر ـ بل المراد بالأكثريّة ما هو بحسب المدلول والمضمون بحيث رجع التعارض إلى تنافي مداليل ثلاث أو أزيد كوجوب شيء وحرمته وكراهته واستحبابه.

وبالجملة محلّ البحث هنا ما لو وقع التعارض بين ثلاثة أو أربعة أخبار مختلفة المضامين ، وهذا على قسمين :

أحدهما : أن يكون النسبة بين المتعارضات واحدة من تبائن أو عموم من وجه أو عموم مطلق.

ومن أمثلة الأوّل : ما لو قال في خبر : « يجب إكرام العلماء » وفي آخر : « يحرم إكرام العلماء » وفي ثالث : « يكره إكرام العلماء » وفي رابع : « يستحبّ إكرام العلماء ».

ومن أمثلة الثاني : ما لو ورد في خبر : « يجب إكرام العلماء » وفي آخر : « يحرم إكرام الفسّاق » وفي ثالث : « يكره إكرام الشعراء » فإنّ بين كلّ مع الآخر عموما من وجه فيجتمع الكلّ في العالم الفاسق الشاعر.

ومن أمثلة الثالث : ما لو ورد في خبر : « يجب إكرام العلماء » وفي آخر : « يكره إكرام الحكماء » وفي ثالث : « يحرم إكرام فسّاقهم » فإنّ الثاني أخصّ من الأوّل والثالث أخصّ منهما إن جعل الضمير للاصوليّين (١) وإن جعل للعلماء يكون أخصّ من العلماء والثاني أخصّ منهما.

وهذا القسم ممّا لا كلام فيه ولا إشكال في حكمه بعد ما علم حكم التعارض وعلاجه في الخبرين من الترجيح أو التخيير في المتبائنين ، والعمل بكلّ منهما في مادّة افتراقهما والتوقّف في مادّة اجتماعهما للإجمال في العامّين من وجه ، وإرجاع العامّ إلى الخاصّ بالتخصيص في العامّ والخاصّ فيخصّص كلّ عامّ بالخاصّ المقابل له ولو كان العامّ واحدا وقابله خاصّان خصّص بهما معا إن لم يستلزم محذورا ، كما لو ورد « أكرم العلماء » وورد « يستحبّ إكرام الاصوليّين » و « يكره إكرام النحويّين » فيحمل العامّ على إرادة إكرام غير الاصوليّين والنحويّين من العلماء ، بخلاف ما لو استلزم محذورا كما لو قال : « أكرم العلماء »

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : « للحكماء » بدل « للاصوليّين ».

٦٩٤

وورد أيضا : « يستحبّ إكرام عدول العلماء » و « يكره إكرام فسّاق العلماء » فإنّه يلزم من تخصيص العامّ بهما معا بقاؤه بلا مورد ، وبأحدهما دون آخر الترجيح بلا مرجّح لتساوي نسبتهما إليه في ورودهما عليه ، فحكم ذلك كالمتبائنين لأنّ مجموع الخاصّين مبائن للعامّ فيندرجان فيما لا يمكن الجمع بينهما ، ولا يبعد ترجيح العمل بالخاصّين تقليلا لطرح السند ، والأولى التوقّف في مثل ذلك لعدم معلوميّة شمول أخبار التخيير له.

وإذا وجد عامّ وخصّص بالإجماع أو دليل العقل ببعض الأفراد ثمّ ورد خاصّ آخر في دليل لفظي بينه وبين العامّ مع قطع النظر عن التخصيص المذكور عموم وخصوص مطلق ، كقوله : « أكرم العلماء » وقام الإجماع على عدم وجوب إكرام النحويّين أو فسّاق العلماء مع ورود « لا تكرم الاصوليّين » مثلا فقد يتوهّم أنّه إذا لوحظ العامّ مخصّصا بالإجماع انقلبت نسبة العموم والخصوص المطلق بينه وبين الخاصّ الآخر بنسبة العموم من وجه ، لرجوع الفرض إلى مقابلة قوله : « لا تكرم الاصوليّين » لقوله : « أكرم العلماء الغير النحويّين أو العلماء العدول » لوضوح أنّ العالم الغير النحوي أعمّ من الاصولي وغير الاصولي ، والاصولي أعمّ من النحوي وغير النحوي ، كما أنّ العالم العادل أعمّ من الاصولي وغيره ، والاصولي أعمّ من العادل وغيره ، فكلّ أعمّ من الآخر من وجه وأخصّ منه من وجه آخر ، فيتعارضان في العالم الاصولي الغير النحوي ، أو الاصولي العادل الّذي هو مادّة اجتماعهما ، فقوله : « أكرم العلماء » يقتضي وجوب إكرامه لكونه غير نحوي أو عادلا ، وقوله : « لا تكرم الاصوليّين » يقتضي حرمة إكرامه لكونه اصوليّا.

ومن أمثلته في الشرعيّات العمومات المانعة من العمل بما وراء العلم المخصّصة بالبيّنة واليد بالإجماع على جواز العمل بهما مع قوله : « اعمل بخبر الواحد » المستنبط من الآيات وغيرها كآية النبأ ونحوها ، فإنّ غير البيّنة ممّا وراء العلم يعمّ خبر الواحد وغيره ، كما أنّ خبر الواحد يعمّ البيّنة وغيرها ، فيتعارضان في غير البيّنة من خبر الواحد لقضاء العمومات بمنع العمل به ، والآيات بجواز العمل به فلابدّ من التوقّف من جهة الإجمال المسقط للاعتبار.

وفيه من المغالطة الواضحة ما لا يخفى ، فإنّ الخاصّين من حيث ورودهما على العامّ ونهوضهما لتخصيصه ـ كما هو قضيّة العموم والخصوص ـ متساوي النسبة إليه ، وبناء التخصيص ـ كما حقّق في محلّه ـ على الكشف عن حقيقة مراد المتكلّم من العامّ من حين صدوره ، ولا يعقل ترتّب بينهما من حيث التقديم والتأخير في إرادة المتكلّم ، فهما معا في

٦٩٥

نحو المثالين الأوّلين كاشفان عن أنّ المراد من « العلماء » من حين صدوره ما عدا النحوي والاصولي أو ما عدا الفسّاق والاصوليّين ، وفي نحو المثال الأخير كاشفا عن أنّ المراد من قوله : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وغيره من عمومات المنع من حين صدوره ما عدا البيّنة واليد وخبر الواحد من غير ترتّب في إرادة المتكلّم وإن كان بينهما ترتّب من حيث صدورهما أو من حيث الاطّلاع والعثور عليهما.

وبالجملة فهما معا لكونهما مخصّصين منفصلين يقومان مقام قرينة واحدة دالّة على أنّ المراد من « العلماء » من حين صدوره إنّما هو معنى مجازي له وهو ما عدا النحويّين والاصوليّين وما عدا العدول والاصوليّين من الأفراد من غير ترتّب في الإرادة.

والحاصل : الإجماع الّذي خصّص به « العلماء » مثلا إنّما أفاد خروج النحويّين عن حقيقة مراد المتكلّم فيه ، لا أنّه أعطاه بتخصيصه عنوانا آخر غير ما هو ملحوظ أوّلا وهو « العلماء الغير النحويّين » أو « العلماء العدول » ، ضرورة أنّ الغير النحويّين أو العدول مفهوم ينتزع من العلماء بعد تخصيصه بالإجماع باعتبار خروج النحويّين أو الفسّاق عن مراد المتكلّم منه من حين صدوره ، لا أنّه قيد مع « العلماء » وجزء مع العامّ ، فنسبة العموم من وجه إنّما هي بين هذا المفهوم المنتزع و « الاصوليّين » ، لا بين « العلماء » و « الاصوليّين » ولا بين ما هو المراد من العلماء والاصوليّين ، فإنّ المراد من « العلماء » بعد تخصيصه بالإجماع إنّما هو مصاديق غير النحويّين وغير الفسّاق لا مفهوم غير النحويّين وغير الفسّاق ، وإذا لوحظ مع قوله : « لا تكرم الاصوليّين » [ يكشف ] عن كون المراد به أيضا مصاديق غير الاصوليّين لا مفهومه.

ولا ريب أنّ المصاديق الّتي يصدق عليها غير النحويّين وغير الفسّاق وغير الاصوليّين في عرض واحد ، ونسبتها إلى العلماء نسبة واحدة وهي كونها بعض الأفراد أو ما عدا العموم واريد منه مجازا ، فما ورد عليه مخصّصان منفصلان اريد منه من حين صدوره مصاديق ما عدا الأفراد المندرجة في المخصّصين المخالفة في الحكم إرادة واحدة في مرتبة واحدة ، سواء كانا لبّيين أو لفظيّين أو مختلفين من غير أن يعقل تعارض في المختلفين بين المخصّص اللفظي والعامّ المخصّص باللبّي ومن غير انقلاب العموم والخصوص المطلق بينهما إلى العموم من وجه.

فإن قلت : كيف تنكر التعارض بين العامّ المخصّص بالإجماع والخاصّ في المخصّص

٦٩٦

اللفظي وكون النسبة بينهما عموم من وجه ، كما في « أكرم العلماء » مع الإجماع على خروج النحويّين و « لا تكرم الاصوليّين » ، مع أنّ الأوّل ظاهر في وجوب إكرام الاصولي الغير النحوي والثاني ظاهر في حرمة إكرامه مع كونه نصّا في تحريم إكرام الاصولي النحوي ، وهذا تعارض بين ظاهرين فيجب الوقف من جهة الإجمال.

قلت : هذا اشتباه واضح ، لمنع ظهور « أكرم العلماء » في وجوب إكرام الاصولي الغير النحوي مع ملاحظة ورود « لا تكرم الاصوليّين » في مقابله ، سواء اعتبرناه من باب الظنّ النوعي أو من جهة أصالة عدم التخصيص.

أمّا على الأوّل : فلأنّ الظنّ النوعي المذكور تعليقي مراعى اعتباره بعدم ورود ما يصلح قرينة على إرادة الخلاف.

وأمّا على الثاني : فلأنّ أصالة عدم التخصيص أصل مبناه على الشكّ في التخصيص جار لإحراز عدم المانع بعد إحراز المقتضي للعموم وهو الوضع الحقيقي أو النوعي المجازي كما في العامّ المخصّص عند ظهوره في تمام الباقي ، فلا يجري مع وجود ما يصلح للتخصيص لارتفاع الشكّ المأخوذ في موضوعه بسببه ، فلا وجه لدعوى ظهور العامّ في خلاف ما يقتضيه ظاهر الخاصّ.

ومن هنا يقال : إنّ التعارض بين العامّ والخاصّ صوريّ بل لا تعارض بينهما في الحقيقة ، إذ التعارض تنافي مدلولي الدليلين وهذا فرع على حصول الدلالة فيهما معا ولا دلالة في العامّ مع ورود الخاصّ على خلاف مقتضاه.

وقد يفصّل في وقوع التعارض بين الخاصّ والعامّ المخصّص بين ما لو خصّص بمنفصل فلا تعارض أو بمتّصل كالاستثناء فيتعارضان ، كما في « أكرم العلماء إلاّ النحويّين » و « لا تكرم الاصوليّين » لكون العامّ مع الاستثناء لاتّصاله به في معنى « أكرم العلماء الغير النحويّين ».

وقد عرفت أنّه أعمّ من الاصوليّين من وجه فيتعارضان في الاصولي الغير النحوي.

والسرّ في ذلك : أنّ العامّ بقرينة تخصيصه بالاستثناء المتّصل به ظاهر في تمام الباقي ، فالنسبة بينه وبين « لا تكرم الاصوليّين » عموم من وجه ، لأنّ إخراج الاصولي الغير النحوي مخالف لظاهر « أكرم العلماء إلاّ النحويّين » ، بخلاف ما لو خصّص العامّ بمخصّص منفصل.

ولمّ المسألة : أنّ العامّ إذا تعقّبه مخصّصان ثمّ خصّص بأحدهما كائنا ما كان ويبقى مع الآخر لابدّ وأن يلاحظ هل هو بالنسبة إليه معنون باعتبار كونه عامّا أو معنون باعتبار كونه مخصّصا؟

٦٩٧

وبعبارة اخرى : أنّ الّذي يلاحظ عنوانا للحكم المستفاد من الكلام في نظر العرف عند مقابلته لمخصّص آخر منفصل هل هو العامّ باعتبار معناه الحقيقي المستند إلى وضعه ، أو العامّ باعتبار معناه المجازي وهو ما يستفاد من المجموع منه ومن المخصّص المفروض تخصيصه به أوّلا أعني ما عدا المخرج من أفراده بذلك التخصيص؟

فعلى الأوّل لا يحصل بينه وبين الخاصّ الآخر تعارض العامّين من وجه.

وعلى الثاني يحصل ذلك التعارض.

ولا ريب أنّ ما ورد عليه مخصّصان منفصلان من قبيل الأوّل ، سواء كان المخصّصان لبّيين أو لفظيّين أو مختلفين ، وما ورد عليه مخصّصان أحدهما متّصل والآخر منفصل من قبيل الثاني.

ومن أمثلة ذلك في الشرعيّات ما وقع في أخبار العارية من طائفتين من الأخبار غير ما دلّ منها على نفي الضمان في العارية عموما من دون استثناء شيء.

إحداهما : ما دلّ على نفي الضمان فيها مع استثناء الدراهم أو الدنانير.

واخراهما : ما دلّ على نفي الضمان فيها مع استثناء الذهب والفضّة ، حيث يقع التعارض على ما توهّم بين المستثنى الثاني والمستثنى منه الأوّل مع انضمام الاستثناء إليه ، لرجوعهما إلى أن يقال : لا ضمان في العارية إلاّ الدراهم والدنانير والذهب والفضّة مضمونان.

ولا ريب أنّ غير الدراهم والدنانير أعمّ من الذهب والفضّة ومن غيرهما ، كما أنّ الذهب والفضّة أعمّ من الدراهم والدنانير وغيرهما كحليّ النسوان ونحوها ، ومحلّ التعارض هو غير الدنانير والدراهم من الذهب والفضّة ، حيث إنّ الأوّل يقتضي نفي ضمانه والثاني يقتضي ضمانه ، وقد سبق توهّم هذا التعارض هنا إلى جماعة من الأصحاب منهم صاحب الكفاية وتبعه السيّد في الرياض ، قال في الكفاية ـ بعد الإشارة إلى اختلاف أخبار المسألة ـ : « وقع التعارض بين المستثنى منه في خبر الدراهم والدنانير ـ وحاصله لا ضمان في غير الدراهم والدنانير ـ وبين المستثنى في خبر الذهب والفضّة ، والنسبة بين الموضوعين عموم من وجه ، ويمكن تخصيص كلّ منهما بالآخر.

فإن خصّص الأوّل بالثاني كان الحاصل : لا ضمان في غير الدراهم والدنانير إلاّ أن يكون ذهبا أو فضّة ، وإن خصّص الثاني بالأوّل كان الحاصل : كلّ من الذهب والفضّة مضمونان إلاّ أن يكون غير الدراهم والدنانير فالأمر المشترك بين الحكمين ثابت وهو حصول الضمان

٦٩٨

في الدراهم والدنانير ، فلابدّ من استثناء هذا الحكم من عموم الأخبار الدالّة على عدم الضمان ويبقى تلك الأخبار في غير ذلك سالما عن المعارض.

فإذن المتّجه الحكم بعدم الضمان في غير الدراهم والدنانير من الذهب والفضّة » انتهى.

وهكذا ذكر في الرياض بعين هذه العبارة ، خلافا لمن أطلق الحكم بالضمان في الذهب والفضّة من الأصحاب منهم المحقّق في الشرائع وثاني الشهيدين في المسالك قائلا فيه : و « التحقيق في ذلك أن نقول : إنّ هنا نصوصا على ثلاثة أضرب أحدها عامّ في عدم الضمان ـ إلى أن قال ـ : وثانيها بحكمها إلاّ أنّه استثنى مطلق الذهب والفضّة ، وثالثها بحكمها إلاّ أنّه استثنى الدنانير أو الدراهم ، وحينئذ فلا بدّ من الجمع فإخراج الدراهم والدنانير لازم لخروجهما على الوجهين الأخيرين ، فإذا خرجا من العموم بقي العموم فيما عداهما بحاله وقد عارضه التخصيص بمطلق الجنسين فلابدّ من الجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ.

فإن قيل : لمّا كان الدراهم والدنانير أخصّ من الذهب والفضّة وجب تخصيصهما بهما عملا بالقاعدة ، فلا يبقى المعارضة إلاّ بين العامّ الأوّل والخاصّ الأخير.

قلنا : لا شكّ أنّ كلاّ منهما تخصيص لذلك العامّ ، لأنّ كلاّ منهما مستثنى وليس هنا إلاّ أنّ أحد المخصّصين أعمّ من الآخر مطلقا وذلك غير مانع ، فيخصّص العامّ الأوّل بكلّ منهما أو يقيّد مطلقه ، لا أنّ أحدهما يخصّص بالآخر لعدم المنافاة بين إخراج الذهب والفضّة في لفظ والدراهم والدنانير في لفظ حتّى يوجب الجمع بينهما بالتخصيص أو التقييد » انتهى.

أقول : الأقوى هو ما عليه الجماعة وأوضحه في المسالك ، فإنّ المستثنيات الثلاث لا تعارض بينها وإن ورد كلّ في الخطاب بغير صورة الاستثناء ، فلو قيل في خطاب : « في الدراهم ضمان » ، وفي آخر : « في الدنانير ضمان » وفي ثالث : « في الذهب والفضّة ضمان » لم يكن بين الأخير وأحد الأوّلين تعارض ، وإن كان كلّ من الدراهم والدنانير بحسب المفهوم أخصّ مطلقا من الذهب والفضّة لموافقتهما في الحكم ، فلا يحمل في مثل ذلك العامّ على الخاصّ ، لأنّ حمل العامّ على الخاصّ ـ على ما حقّق في محلّه ـ من أحكام العامّ والخاصّ المتنافي الظاهر ، لا العامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر ، فمن الجائز ثبوت الضمان في الدراهم والدنانير باعتبار أنّه ثابت في مطلق الذهب والفضّة ، وإنّما خصّ كلّ منهما بالذكر في الخطاب المختصّ به لجواز كونه محلّ حاجة السائل وموضع ابتلاء المخاطب في ذلك الخطاب ، وهذا هو الوجه في اختلاف النصوص في كون المستثنى في بعضها خصوص الدراهم وفي بعضها

٦٩٩

خصوص الدنانير وفي بعضها مطلق الذهب والفضّة ، فلا تعارض في الأنواع الثلاث من الأخبار بين مستثنياتها ولا بين مستثنى خبر الذهب والفضّة والعامّ المستثنى منه من خبري الدراهم والدنانير وإن لوحظ بوصف كونه مخصّصا بالمتّصل ، لكون كلّ من الاستثناء والمخصّص المنفصل متساوي النسبة إلى العامّ في كون بناء التخصيص بهما على الكشف عن خروج الفرد المخرج بكلّ منهما عن مراد المتكلّم من العامّ من حين صدوره لاشتراكهما في وصف القرينيّة.

غاية الأمر أنّ أحدهما قرينة متّصلة والآخر قرينة منفصلة ، فهما معا بمنزلة قرينة واحدة على المراد أنّ من العامّ من حين صدوره ما عدا هذا الفرد وذاك الفرد وإن كان أحد الفردين أخصّ من الآخر مطلقا.

غاية الأمر إفادة التخصيص خروج الفرد الأخصّ عن حكم العامّ باعتبارين.

ولا ريب أنّ نسبة العموم من وجه الّتي هي منشأ التعارض في العامّين من وجه هاهنا إنّما هي بين مفهوم « غير الدراهم والدنانير » ومفهوم « الذهب والفضّة » ولكن مفهوم « غير الدراهم والدنانير » ليس جزءا من العامّ المخرج منه الدراهم والدنانير ولا قيدا فيه ، بل المراد من العامّ بعد تخصيصه بالاستثناء مصداق غير الدراهم والدنانير ، وهذا لا يوجب كون مفهومه جزءا من اللفظ ولا قيدا فيه.

وكأنّ توهّم التعارض وتحقّق نسبة العموم من وجه بين المستثنى والمستثنى منه في الأخبار المذكورة إنّما نشأ عن ملاحظة أنّ نقيض الأخصّ لمّا كان أعمّ من وجه من عين الأعمّ واستثناء الأخصّ يفيد كون المراد من العامّ نقيض الأخصّ ، فيقع التعارض حينئذ بين العامّ الوارد عليه ذلك الاستثناء والمستثنى الآخر الّذي هو أعمّ من وجه أيضا من نقيض الأخصّ المراد من العامّ الأوّل.

ويدفعه : أنّ المراد من العامّ بعد استثناء الأخصّ مصداق نقيض الأخصّ لا مفهومه ، وهو نفس الأفراد الباقية بعدم استثناء الأخصّ.

وبالجملة : نقيض الأخصّ الّذي هو مفهوم « غير الدراهم والدنانير » في الأخبار المذكورة و « غير النحويّين » و « غير فسّاق العلماء » في المثالين المتقدّمين ليس مناطا للحكم ، لا على أنّه مراد من العامّ ولا على أنّه جزء من اللفظ ولا على أنّه قيد فيه ، فبطل توهّم التعارض بين العامّ المخصّص بالمتّصل والمخصّص المنفصل.

٧٠٠