تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

الشرعيّة وأدلّتها وكونها مفيدة لها شرعا وذلك يتوقّف على معرفة الله تعالى ، فإنّ معرفة الحكم الشرعي بدون معرفة الشارع محال.

ولا يذهب عليك أنّ تحصيل هذا الشرط على وجه يترتّب عليه الغرض المطلوب منه بالقياس إلى الامور المذكورة لا يستدعي لزوم مراجعة الكتب الكلاميّة ، ولا الخوض في علم الكلام والتبحّر فيه ، واستقصاء مسائله بالقراءة والمذاكرة والمناظرة لأهلها على وجه يصير متكلّما كما نصّ عليه غير واحد ، فإنّ الّذي يتقوّم به الشرطيّة من مسائله على قسمين :

أحدهما : المعارف الخمس وما يتعلّق بها ، بل بعض المعارف لا كلّها كما لا يخفى ، وهذا القسم ما يكفي فيه الإجمال الّذي يتيسّر حصوله لعامّة المكلّفين من غير حاجة إلى الخوض في الفنّ ومزاولة كتبه بالقراءة وغيرها ، ولذا كان هذا ما يشترك فيه العالم والعامي ، وهذا هو معنى ما في كلام غير واحد من أنّ كلّ ذلك بالدليل الإجمالي وإن لم يقدر على التحقيق والتفصيل.

وثانيهما : المسائل المتفرّقة المعبّر عنها عند الاصوليّين بالمبادئ الأحكاميّة ، كوجوب شكر المنعم ، والتحسين والتقبيح العقليّين ، وقبح التكليف بما لا يطاق ، وامتناع اجتماع الأمر والنهي ، وعدم جواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط ، وجواز التعليق من العالم بالعواقب وعدمه ، وكون الامتناع بالاختيار منافيا للاختيار ، وقبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه بلا بيان عند الحاجة إليه ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على الخبير البصير.

وهذا القسم ما يكفي فيه تعرّض الاصوليّين له والبحث عنه بجميع خصوصيّاته في الكتب الاصوليّة على وجه أبسط ونمط أوفى ومعه يرتفع الحاجة إلى مراجعة فنّ آخر ، مع عدم ورود عنوان أكثر المذكورات في غير الكتب الاصوليّة.

وعلى ما ذكرنا يمكن حمل كلام المنكر لشرطيّة علم الكلام ، وعليه فلا مشاحّة ويعود النزاع لفظيّا.

ولا يذهب عليك أيضا أنّ في إطلاق القول بشرطيّة المعارف الخمس نوع مسامحة إذ الموقوف عليه منها للاجتهاد بعضها كما أشرنا إليه أيضا ، وهذا البعض هو الّذي فصّلته العبارة المحكيّة عن العدّة قائلة : « وذلك نحو العلم بالله تعالى وصفاته وتوحيده وعدله.

وإنّما قلنا ذلك لأنّه متى لم يكن عالما بالله لم يمكن أن يعرف النبوّة ، لأنّه لا يأمن أن يكون الّذي يدّعي النبوّة كاذبا ، ومتّى عرفه ولم يعرف صفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز

٢٨١

وأمّا معرفة فروع الفقه ، فلا يتوقّف عليها أصل الاجتهاد *. ولكنها قد صارت في هذا الزمان طريقا يحصل به الدربة فيه وتعين على التوصّل إليه.

لم يأمن أن يكون قد صدّق الكاذب ، فلا يصحّ أن يعلم ما جاء به الرسول ، فإذا لابدّ من أن يكون عالما بجميع ذلك ، ولابدّ أن يكون عالما بالنبيّ الّذي جاء بتلك الشريعة ، لأنّه متى لم يعرف لم يصحّ أن يعرف ما جاء به من الشرع.

ولابدّ أن يعرف أيضا صفات النبيّ وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه ، لأنّه متى لم يعرف جميع ذلك لم يؤمن أن يكون غير صادق فيما يؤدّيه ، أو يكون ما (١) أدّى جميع ما بعث به ، أو يكون أدّاه على وجه لا يصحّ له معرفته ، فإذا لابدّ من أن يعرف جميع ذلك » انتهى (٢).

والظاهر أنّ معرفة الوصيّ أيضا لها مدخليّة ، لأنّه متى لم يعرفه أو لم [ يعرف ] صفاته لم يعرف كون مضامين الأخبار الصادرة منه أو المنسوبة إليه أحكاما شرعيّة أو ممّا جاء به النبيّ ، والمفروض أنّ الاجتهاد لا يتمّ إلاّ مع انضمام الأخبار الإماميّة إلى سائر طرقها ومداركها عند الفرقة المحقّة.

وكأنّ الشيخ إنّما أهمل ذكر ذلك على الانفراد لأنّ المراد بالاجتهاد المتوقّف على هذا الشرط ما يعمّ الاجتهاد بطريقة أهل الخلاف ، أو لأنّ المراد ممّا جاء به النبيّ الّذي يجب معرفته بمعرفة النبيّ ما يعمّ التنصيص بالخلافة.

* قال في الفوائد : « ومن الشرائط معرفة فقه الفقهاء وكتب استدلالهم ، وكونه شرطا غير خفيّ على من له أدنى فطانة ، إذ لو لم يطّلع عليها رأسا لا يمكنه الاجتهاد والفتوى ».

والأظهر ما عليه المصنّف وفاقا للقواعد والتحرير والمنية والدروس ـ على ما حكي عنهم ـ فإنّ المعرفة بفروع الفقه بل المسائل الفقهيّة المبحوث عنها في الفقه ليس لها بنفسها كثير دخل في الاجتهاد سواء اخذ باعتبار الملكة أو الفعل.

وعلّله في المنية : « بأنّ هذه الفروع استخرجها المجتهدون بعد تحقّق كونهم مجتهدين فكيف يكون شرطا في الاجتهاد مع تأخّرها عنه » انتهى.

نعم هو لازم عادي لما له مدخليّة تامّة فيه ، وهو الانس بطريقة الفقهاء في الدخول والخروج والخبرة بمذاقهم في كيفيّة الاستدلال وتقريبه وجرح الأقوال وتعديلها كما يرشد إليه بداهة الوجدان المغني عن مؤنة البرهان ، وبه صرّح في الزبدة قائلا : « ولابدّ من الانس

__________________

(١) « ما » نافية.

(٢) العدّة ٢ : ٧٢٧.

٢٨٢

بلسان الفقهاء » وكأنّه مراد من عبّر بما تقدّم من المعرفة بفقه الفقهاء.

فالقول بتوقّفه على معرفة فروع الفقه إن اريد بها ما عدا الانس المذكور ضعيف جدّا.

وأضعف منه ما عن بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين من توهّم اشتراطه بكونه عالما بجملة يعتدّ بها من الأحكام علما فعليّا بحيث يسمّى في العرف فقيها ، كما في « النحوي » و « الصرفي » فإنّهما لا يصدقان عرفا بمجرّد حصول الملكة الكلّية ، بل لابدّ بها من الفعليّة المعتدّ بها عند أهل الصناعة.

فإنّ إضافة العلم إلى الأحكام ـ على ما تقرّر في غير موضع ـ لا يستقيم إلاّ إذا اريد بها الأحكام الفعليّة ، ولم ينهض دليل من الشرع والعقل على أنّ مجتهدات فاقد الملكة أحكام فعليّة في حقّه ولا في حقّ غيره ، بل الدليل ناهض بخلافه.

والمفروض أنّ مقصود المقام بيان شروط الاجتهاد بمعنى الملكة ، ومن المستحيل أخذ العلم بجملة من الأحكام الفعليّة يعتدّ بها المتوقّف على الملكة شرطا له بهذا المعنى للزومه الدور ، وأخذه شرطا له بمعنى الفعل خروج عن فرض المسألة ، مع أنّ قضيّة العبارة المذكورة ابتناء المطلب على كون الاجتهاد مرادفا للفقه.

وقد عرفت سابقا منعه مع توجّه المنع إلى توقّف صدق اسم « الفقيه » على العلم المذكور ، على معنى كونه مأخوذا في مسمّاه العرفي إن اريد به الإذعان بالمسائل الحاصل بطريق الاستدلال ، بل قصارى ما يسلّم اعتباره إنّما هو الإحاطة بجملة يعتدّ بها من مسائل الفنّ ، بل هذا هو القدر المسلّم في « النحوي » و « الصرفي » وغيرهما على أربابها ، والمراد بالإحاطة هنا التصديق بهذه الجملة على أنّها من مباحث الفنّ الباحث عنها عند أهلها ، لا على أنّها امور ثابتة لموضوعاتها باعتبار الواقع.

ومن الفضلاء من جعل العلم المذكور شرطا غالبيّا لتحقّق الاجتهاد خارجا وذهنا على معنى تحقّقه الخارجي والعلم به معا ، حيث قال : « والتحقيق أنّ الملكة المعتبرة في الاجتهاد المطلق ـ أعني الملكة الكلّيّة ـ لا يحصل غالبا إلاّ بالممارسة المستلزمة للفعليّة المذكورة ، وكذلك العلم بحصولها لا يحصل غالبا بدونها ، فهي طريق إلى حصول الملكة ومعرفتها غالبا ، لا شرط في الاعتداد بها » (١) وهذا ليس بسديد ، إلاّ إذا رجع إلى إرادة أخذ الشرط هو الممارسة الملزومة للفعليّة المذكورة لا نفس الفعليّة.

__________________

(١) الفصول : ٤٠٤.

٢٨٣

وما يلهج به جهلا أو تجاهلا بعض أهل العصر ، من توقّف الاجتهاد المطلق على أمور وراء ما ذكرناه ، فمن الخيالات الّتي تشهد البداهة بفسادها * والدعاوي الّتي تقتضي الضرورة من الدين بكذبها.

__________________

وحينئذ يكون قريبا ممّا قدّمناه من شرطيّة الانس بطريقة الفقهاء ومذاقهم ، نظرا إلى أنّه لا يتأتّى إلاّ بالممارسة ، وقد وافق في هذا التعبير على التوجيه المذكور عبارة الوافية القائلة : « بأنّ الحقّ أنّه لا يكاد يحصل العلم بحلّ الأحاديث ومحاملها بدون ممارسة فروع الفقه » (١).

* الحقّ وفاقا لغير واحد من أساطين الطائفة من كون شروط الاجتهاد مقصورة على الامور المتقدّمة ولا مزيد عليها.

نعم هاهنا امور اخر نصّ غير واحد بكونها من مكمّلات الاجتهاد كمعرفة الحساب والهيئة والهندسة والطبّ.

أمّا الأوّل : فبأن يعرف منه الأربعة المتناسبة والخطأين والجبر والمقابلة (٢) والأعداد المتماثلة والمتداخلة والمتوافقة والمتبائنة.

وأمّا الثاني : فبأن يعرف منه ما يتعلّق بالقبلة ، وبكون الشهر ثمانية وعشرين يوما بالنسبة إلى بعض الأشخاص.

وأمّا الثالث : فبان يعرف منه ما يتعلّق بالسطوح وغيرها ليظهر فائدته فيما لو باع بشكل العروس (٣) وغيره.

وأمّا الرابع : فبأن يعرف منه ما يحتاج إليه في القرن ونحوه من العيوب المفسخة للنكاح ، وغير ذلك من الأمراض المبيحة للإفطار.

وعدم كونها من شروط الاجتهاد واضح ، لأنّ وظيفة الفقيه بيان الحكم لا معرفة الموضوع ، وهذا هو معنى ما قيل في وجه عدم الحاجة من : « أنّ الفقيه ليس عليه إلاّ الحكم باتّصال الشرطيّات وأمّا تحقيق أطراف الشرطيّة فليس وظيفته ».

__________________

(١) الوافية : ٢٨٣.

(٢) تجد توضيح هذه المصطلحات في : مفتاح السعادة ١ : ٣٧٠ وأبجد العلوم : ٢ : ٢٦٣.

(٣) شكل العروس ـ عند القدماء من علماء الهندسة ـ عبارة عن : كلّ مثلّث قائم الزاوية ، فإنّ مربّع وتر زاويته القائمة يساوي مربّعي ضلعيها ، وإنّما سمّي به لحسنه وجماله ـ راجع كشّاف اصطلاحات الفنون ١ : ٧٨٥.

٢٨٤

أصل

اتّفق الجمهور من المسلمين على أنّ المصيب من المجتهدين في العقليّات الّتي وقع التكليف بها واحد وأنّ الآخر مخطئ آثم * لأنّ الله تعالى كلّف فيها بالعلم ونصب عليه دليلا. فالمخطئ له مقصّر فيبقى في العهدة ، وخالف في ذلك شذوذ من أهل الخلاف. وهو بمكان من الضعف.

__________________

ـ تعليقة ـ

ومن لواحق الاجتهاد المعدودة من مسائله بحث التخطئة والتصويب اللاحقين للمجتهد باعتبار أنّه مجتهد ، وطريق الكلام فيه يختلف على حسب اختلاف موارد الاجتهاد باعتبار كونها من العقليّات ـ كلاميّة واصوليّة وفروعيّة ـ والشرعيّات ـ ضروريّة ونظريّة قطعيّة وظنّية ـ فالكلام في جميع ذلك يقع في طيّ مسائل :

المسألة الاولى

في التخطئة والتصويب في المسائل العقليّة الكلاميّة الّتي وقع التكليف بها ، كحدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته وبعثة الرسل وغير ذلك ممّا يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله ومعاد يوم الجزاء ، أو ما لا يرجع إليه كالرؤية وخلق الأعمال وقدم الكلام وعصمة الرسول ونحوها على اختلاف الوجهين حسبما تعرفه.

* والمخالف في المسألة هو الجاحظ والعنبري على ما نقل ، قال العلاّمة في النهاية : « خالف الجاحظ وأبو عبد الله بن الحسين العنبري سائر المسلمين في ذلك ، فذهبا إلى أنّ كلّ مجتهد في الاصول مصيب سواء أخطأ أو لا ، ولم يريدا بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد للعلم الضروري بفساده ، بل نفي الإثم والخروج عن عهدة التكليف ».

وقال في التهذيب : « أجمعت العلماء على أنّ المصيب في العقليّات واحد إلاّ الجاحظ والعنبري فإنّهما قالا كلّ مجتهد مصيب ، لا على معنى المطابقة بل بمعنى زوال الإثم ».

ولقد وافقه والمصنّف في دعوى الإجماع على القول الأوّل جماعة من العامّة والخاصّة ، فمن العامّة الحاجبي في المختصر وشارح المختصر في بيان المختصر.

قال الأوّل : « الإجماع على أنّ المصيب في العقليّات واحد ، وإنّ النافي ملّة الإسلام مخطئ آثم كافر ، اجتهد أو لم يجتهد ».

٢٨٥

وقال الثاني : « الإجماع منعقد على أنّ المصيب من المجتهدين في المسائل العقليّة واحد ، إذ المطابق لما في نفس الأمر لا يكون إلاّ واحدا ، وأيضا الإجماع منعقد على أنّ النافي ملّة الإسلام مخطئ آثم كافر اجتهد أو لم يجتهد ».

ومن الخاصّة ثاني الشهيدين في تمهيد القواعد قائلا : « ليس كلّ مجتهد في العقليّات مصيبا بل الحقّ فيها واحد ، فمن أصابه أصاب ومن أخطأ أثم إجماعا ».

ونفى الخلاف عنه في العدّة قائلا :

« اعلم أنّ كلّ أمر لا يجوز تغيّره عمّا هو عليه من وجوب إلى حظر ومن حسن إلى قبح فلا خلاف بين أهل العلم المحصّلين أنّ الاجتهاد في ذلك لا يختلف ، وإنّ الحقّ في واحد ، وإنّ من خالفه ضالّ فاسق ، وربّما كان كافرا ، وذلك نحو القول بأنّ العالم قديم أو محدث؟ وإذا كان محدثا هل له صانع أم لا؟ والكلام في صفات الصانع وتوحيده وعدله ، والكلام في النبوّة والإمامة وغير ذلك ، وكذلك الكلام في أنّ الظلم والعبث والكذب قبيح على كلّ حال ، وإنّ شكر المنعم وردّ الوديعة والإنصاف حسن على كلّ حال ، وما يجري مجرى ذلك » (١).

وذكر في المحصول ما يقرب من عبارة العلاّمة في النهاية وفي كلامهما أيضا إشعار بالإجماع كما يظهر بالتأمّل.

والسرّ في هذه الإجماعات مع مخالفة الجاحظ وصاحبه أنّ الإجماع سابق على خلافهما ولا حق به.

والعضدي لم يتعرّض لنقله بل جعل المسألة خلافيّة بقوله : « قد اختلف أكلّ مجتهد مصيب أم لا؟ وحكم العقليّات والشرعيّات في ذلك مختلف ـ إلى أن قال ـ : بل المصيب من المتخالفين واحد ليس إلاّ والآخر مخطئ ، وإنّ من كان منهم نافيا لملّة الإسلام كلّها أو بعضها فهو مخطئ آثم كافر سواء اجتهد أو لم يجتهد ، خلافا للجاحظ فإنّه قال : لا إثم على المجتهد مع أنّه مخطئ ويجري عليه في الدنيا أحكام الكفّار بخلاف المعاند فإنّه آثم ، وإليه ذهب العنبري وزاد عليه : أنّ كلّ مجتهد في العقليّات مصيب ، فإن أراد وقوع معتقده حتّى يلزم من اعتقاد قدم العالم وحدوثه اجتماع القدم والحدوث فخروج عن المعقول ، وإن أراد عدم الاثم فمحتمل عقلا » انتهى (٢).

وليعلم أنّ قول الجمهور المدّعى عليه الإجماع يتضمّن دعوى قضايا ثلاث : خطأ الغير

__________________

(١ و ٢) العدّة ٢ : ٧٢٣.

٢٨٦

الواحد من المجتهدين المختلفين في المسائل العقليّة الكلاميّة ، على معنى كون الواحد منهم باعتبار إدراكه الواقع مصيبا بمعنى مطابقة اعتقاده لنفس الأمر.

وغيره باعتبار عدم إدراكه الواقع مخطئا بمعنى عدم مطابقة اعتقاده لنفس الأمر ، وكفره بحسب أحكام الدنيا من النجاسة والقتل ونهب الأموال وأسر الأولاد والعيال ، وإثمه بحسب دار الآخرة.

وينبغي القطع بعدم كون خلاف الجاحظ والعنبري في القضيّة الاولى بإرادتهما تصويب الكلّ على معنى مطابقة آرائهم في محلّ الخلاف لنفس الأمر ، فإنّه فيما لا يقبل التعدّد غير معقول ، والواقع في اصول العقائد بل مطلق العقليّات واحد لا يقبل التعدّد ولا يتغيّر ولا يختلف بحسب اختلاف الآراء والاعتقادات ، سواء كان الأمر فيه دائرا بين الوجود والعدم أو بين الوجوديين.

وضابطه الامور الواقعيّة الّتي واقعيّتها ليست منوطة بجعل جاعل ولا اعتبار معتبر ، ففي مثل هذه الامور مطابقة النسبة للواقع في النقيضين أو الضدّين محال عقلا.

وقد عرفت عن العلاّمة في التهذيبين ـ كما في محصول الرازي ـ إرجاع القول بالإصابة إلى إرادة غير هذا المعنى ، وهو الّذي يساعد عليه صريح أدلّة الطرفين ، بل لم نقف على من احتمل إرادة هذا المعنى عدا العضدي في كلامه المتقدّم عند نقل مذهب العنبري ، وهذا منه عجيب فإنّ استحالة اجتماع النقيضين كاستحالة اجتماع الضدّين من القضايا الضروريّة والمقدّمات الأوّلية الّتي لم يتفوّه به جاهل فضلا عن العالم الفاضل ، ولذا ترى أنّ أدلّة الطرفين خلو عن التعرّض لها إثباتا ونفيا ، فإنّ ما لا يعقل ثبوته لا يصحّ الاستدلال على نفيه كما لا يصحّ الاستدلال على ثبوته.

لكن قد يقال : لو قيل بعدم [ استلزام ] العلم بالعلّة للعلم بالمعلول وجواز انفكاكه عنها واقعا ـ كما عليه الأشاعرة القائلين بعدم الملازمة بين المقدّمات ونتائجها عقلا ، بل هي باعتبار جري عادة الله تعالى على إيجاد العلم بالثانية عقيب العلم بالاولى ـ لصحّ تعقّل التصويب في العقليّات ، نظرا إلى منع امتناع اجتماع النقيضين حينئذ بحسب العقل وإن امتنع بحسب جري عادة الله على عدمه.

وفيه : أنّه غير لازم على مذهب الأشاعرة المبنيّ على مقالتهم الفاسدة ، وهو أنّه لا ترتّب ولا علّية في الوجود إلاّ بإجراء الله تعالى عادته على خلق شيء كالعلم والمعلول عقيب شيء آخر كالنظر والعلّة ، وإن كان لا يبعد عنهم التفوّه ـ لسخافة رأيهم ـ بنظائر ذلك.

أمّا أوّلا : فلعدم تمشّي منعهم الترتّب العقلي بين العلّة والمعلول هنا ، لأنّ عدم اجتماع النقيضين معلول لذات النقيضين ، فإنّهما لذاتهما يقتضيان ضرورة عدم اجتماعهما ، فلا يجوّز

٢٨٧

العقل اجتماعهما لاستحالة تخلّف ما بالذات عقلا عن الذات.

ولا ينتقض ذلك بامتناع اجتماع الضدّين الّذي قيل فيه بأنّه ليس لذاتهما بل لعارض ، وهو إمّا لعدم قابليّة المحلّ لوجود أحد الضدّين حال اشتغاله بوجود الضدّ الشاغل له ، أو لأنّ اجتماعهما يؤول إلى اجتماع النقيضين باعتبار أنّ وجود كلّ من المتضادّين في المحلّ يستلزم عدم الضدّ الآخر ، لكفاية كلّ من الأمرين في الحكم بالاستحالة العقليّة كما يظهر وجهه بالتأمّل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ قاعدة جريان العادة لا تجري إلاّ فيما كان من آثار القدرة ، وعدم اجتماع النقيضين لا يصلح أثرا للقدرة وإلاّ كان اجتماعهما أيضا صالحا لأن يكون أثرا للقدرة ، لأنّ ما لا يكون وجوده من آثار القدرة لا يكون عدمه من آثار القدرة ، وهو كما ترى.

ولا ينافيه عموم قدرته تعالى لأنّها عامّة للممكنات ولا تتعلّق بما امتنع ذاتا كما لا تتعلّق بما يجب ذاتا ، لا لقصور في قدرة القادر بل لقصور المحلّ من حيث عدم قابليّته لتعلّق القدرة به.

وكيف كان فنحن ندّعي عدم المعقوليّة في العقول السليمة الكاملة ولا نتكلّم مع العقول المشوبة الناقصة.

وبما ذكرناه من الضابط يعلم أنّ النزاع الآتي في التخطئة والتصويب بالقياس إلى الأحكام الشرعيّة الفرعيّة غير جار في موضوعاتها ـ كلّية أو جزئيّة ، عرفيّة أو لغويّة ـ والتصويب فيها غير معقول.

نعم إذا كانت شرعيّة فربّما يتصوّر جريان النزاع المذكور فيها لكونها مطلقة أو إذا كانت من قبيل العبادات ـ على مذهب غير القاضي ـ منوطة بجعل الشارع ، نظرا إلى إمكان القول بأنّ الواقع في الامور الجعليّة كما أنّه يتبع الجعل في أصله كذلك يتبعه في وصفه باعتبار الوحدة والكثرة ، كما وقع ذلك في صلاة المسافر وصلاة الحاضر ، والصلاة عن قيام لمن يقدر عليه ، وهي عن قعود لمن يعجز عنه ، فمن الجائز تعدّد المجعول بل تكثّره على حسب كثرة الآراء والاعتقادات بخلاف الموضوعات الغير الشرعيّة.

وأمّا ما يتراءى من بعض العبائر من الحكم بتصويب المجتهدين في القبلة وما أشبهه فليس المراد به ما يوجب تعدّد أصل القبلة من عين الكعبة أو جهتها ، كيف وهي عينا وجهة أمر شخصي بحسب الواقع لا يتحمّل التعدّد الخارجي ، بل هو مبنيّ على أخذ الاعتقاد في

٢٨٨

مسألة القبلة موضوعا للحكم وإن خالف الواقع ، فالقبلة الّتي يجب الصلاة إليها في حقّ كلّ مكلّف ما اعتقده قبلة وإن لم يكن كذلك في الواقع.

وبالجملة التصويب بمعنى مطابقة اعتقاد كلّ من المجتهدين المختلفين في العقليّات لنفس الأمر ممّا لم يصحّ النزاع في عدم جوازه ، لتأديته إلى اجتماع النقيضين أو الضدّين وهو غير معقول.

فإن قلت : لو كان مجرّد تأدية القول بالتصويب في العقليّات وما بحكمها ـ في عدم تحمّل الواقع للتعدّد ـ إلى اجتماع النقيضين أو الضدّين موجبا لعدم صحّة النزاع فيه لسرى ذلك إلى الفرعيّات أيضا ، والتالي باطل.

أمّا الملازمة : فلمكان محذور الاجتماع على القول بالتصويب فيها أيضا كما هو أحد حجج القائلين بالتخطئة.

قلت : ما يلزم من محذور الاجتماع في غير الفرعيّات ـ على القول بالتصويب فيها ـ إنّما هو بالنظر إلى أصل الواقع ولذا كانت الملازمة فيه بيّنة ، بخلاف ما أورد على التصويب في الفرعيّات ، فإنّه إن سلم من المنع الواقع في كلام غير واحد ـ على ما ستعرفه مع سنده ـ مفروض في الاعتقاد المتعلّق بالحكم من حيث تعدّده بالظنّية والقطعيّة ، ولذا قرّرت الملازمة : بأنّ المجتهد إذا ظنّ بشيء جزم وقطع بأنّ حكم الله في حقّه ذلك ، ضرورة علمه بأنّ كل مجتهد مصيب ، وإذا قطع استمرّ قطعه إذا الأصل بقاء كلّ شيء على ما هو عليه ، واستمرار القطع مشروط ببقاء ظنّه ، للإجماع على أنّه لو ظنّ غيره وجب الرجوع ، فيكون ظانّا عالما بشيء واحد في زمان واحد فيلزم اجتماع النقيضين ، ضرورة اقتضاء القطع عدم احتمال النقيض واقتضاء الظنّ احتماله.

وهذا المحذور على تقدير لزومه وعدم اندفاعه هنا إنّما يلزم بملازمة نظريّة غير بيّنة فلا يبعد في مثله وقوع النزاع في ملزومه ، لإمكان الغفلة من قائله عن الملازمة بينه وبين لازمه ، بخلاف ما هو في محلّ الكلام فإنّه إنّما يلزم بملازمة واضحة بيّنة لا تكاد تخفى على ذي مسكة ، فإذا كان اللازم أمرا غير معقول بحكم البداهة كان القول بالملزوم أيضا ببداهة الملازمة أمرا غير معقول.

وينبغي القطع أيضا بعدم كون خلاف الجاحظ وصاحبه في القضيّة الثانية ، وهو الحكم بكفر الذاهب إلى خلاف الحقّ إذا كان نفيا لملّة الإسلام وما هو بمثابته بإجراء أحكام

٢٨٩

الكفّار عليه الثابتة بحسب الدنيا الّتي أقلّها النجاسة وإن لم يستحقّ القتل ونهب الأموال وأسر الأولاد والعيال حيث لم يكن من أهل الحرب ، والظاهر أنّه ممّا لا نزاع في ثبوته بل هو صريح كلمات الطرفين.

وقد سمعت في حكاية القول بالتصويب اعتراف الجاحظ بل العنبري أيضا بإجراء أحكام الكفر على المخالف للحقّ.

فتعيّن كون خلافهما في القضيّة الثالثة ، ورجوع قولهما إلى دعوى رفع الإثم وعدم استحقاق العقوبة في المخالف للحقّ لخروجه عن عهدة التكليف ، فهو المتنازع فيه بمقتضى صريح كلماتهم.

ولقد سمعت من العلاّمة والرازي تفسير التصويب بعدم الإثم ، فالجمهور إلى تأثيم المجتهد المؤدّي اجتهاده إلى خلاف الواقع وعدم معذوريّته في خطائه بحسب الآخرة ، وغيرهم إلى عدمه المعبّر عنه بالمعذوريّة والخروج عن العهدة.

ومرجع النزاع أنّ خطأ المجتهد في العقليّات عذرا مسقطا للتكليف فيها رافعا للإثم والعقوبة على مخالفة الواقع وعدمه.

ثمّ إنّ المكلّف في اصول العقائد إمّا مجتهد وهو الّذي يجتهد في المعارف ويحصّلها بطريق النظر والاستدلال ، أو معاند وهو الجاحد للحقّ بعد وضوحه وتبيّنه ، أو مقلّد وهو الآخذ في اصول العقائد بقول الغير مع تفطّنه بوجوب النظر متقاعدا عنه تقصيرا أو عدم تفطّنه به رأسا.

ولا ريب أنّ موضوع المسألة ليس إلاّ المجتهد ، أخذا بصريح عناوينها المشتملة على ذكر المجتهد مفردا ومجموعا ، مع ورودها في الكتب الاصوليّة ـ ولا سيّما التهذيب والنهاية ـ في مبحث أحكام الاجتهاد ، وورودها أيضا مع مسألة التخطئة والتصويب في الفروع في باب واحد ، فلا نزاع في حكم المعاند من حيث الكفر والتأثيم ، ولا في حكم المقلّد أيضا من حيث الكفر بل التأثيم أيضا مع التقصير وعدمه مع عدم التقصير ، بناء على ما تسمعه من رجوع النزاع إلى الصغرى من حيث إثبات التقصير ونفيه.

ويؤيّد خروج المقلّد عن هذا النزاع كونه موضوع مسألة اخرى ـ يأتي التعرّض لها ـ معبّر عنها بجواز التقليد في اصول الدين وعدمه ، ولا ينافيه ما تقدّم في عبارة الحاجبي وغيره من أنّ النافي لملّة الإسلام مخطئ آثم كافر اجتهد أو لم يجتهد ، لعدم قصده بذلك

٢٩٠

إلى تعميم محلّ النزاع ، بل إلى إجراء حكم موضع الوفاق وهو المخالف المعاند في محلّ الخلاف بدليل الإجماع ، الّذي جمع العضدي بينه وبين خلاف المخالف بكونه إجماعا قبل ظهور المخالف.

ثمّ إنّ المجتهد بالمعنى المذكور أعمّ من العامي الّذي اجتهد في معارفه ، والأظهر دخوله في محلّ النزاع موضوعا وحكما كما هو مقتضى قرينة المقابلة بينه وبين المعاند والمقلّد ، ويعضده عموم أدلّة القولين ، ما مع عرفته من رجوع النزاع في المسألة إلى كون خطأ المجتهد في العقليّات عذرا مسقطا للتكليف رافعا للإثم على مخالفة الواقع وعدمه ، وهذا ممّا لا يتفاوت فيه الحال بين العالم والعامي.

ومن الأعلام من احتمل الاختصاص بالعالم حيث إنّه بعد المناقشة في أدلّة الجمهور استشكل من جهة الإجماع المدّعى في كلام جماعة من العامّة والخاصّة على هذا القول ، فقال : « ويمكن دفع هذا الإشكال بأن يقال : مراد من ادّعى الإجماع إنّما هو في حال العلماء العقلاء المجتهدين المطّلعين على أدلّة المسائل نفيا وإثباتا على التفصيل ، لا مطلق من يجتهد في دينه وإن كان عاميّا.

ودعوى أنّ المجتهد الكامل لا يخفى عليه الحقّ لو خلّى نفسه ولم يقصّر ليس بعيدا عن الصواب ، بل هي دعوى صحيحة في أغلب المسائل.

ويشهد بذلك أنّهم يذكرون هذه المسألة مع مسألة التخطئة والتصويب في الفروع في مبحث واحد » انتهى.

إلاّ أن يقال : إنّ غرضه تخصيص معقد الإجماع بذلك لا تخصيص محلّ النزاع ، وأمّا ورود المسألة في أحكام الاجتهاد وورودها مع المسألة الآتية في مبحث واحد فلا شهادة له بالاختصاص ، لأنّ المجتهد إنّما يؤخذ موضوعا في المسائل على حسبما اضيف إليه الاجتهاد ، فإن كان ممّا يتأتّى الاجتهاد فيه من العالم والعامي كان المجتهد في موضوعه أغمّ منهما ، وإن كان لا يتأتّى إلاّ من العالم اختصّ به الموضوع ، وعليه فإنّما خصّت المسألة الآتية بالعالم لأنّ الاجتهاد في الفروع لا يتأتّى من العامي بخلافه الاجتهاد في العقليّات فإنّه يتأتّى من العالم والعامي معا.

ثمّ ينبغي القطع بكون المراد من « المجتهد » أعمّ ممّن أدّى اجتهاده إلى القطع بخلاف الواقع أو إلى الظنّ به ، لوضوح أنّ النزاع إذا كان راجعا إلى كون خطأ المجتهد عذرا وعدمه

٢٩١

فلا يتفاوت فيه الحال بين كون الخطأ على وجه القطع أو الظنّ ، مع إطلاق المجتهد في كلامهم ، مع أنّ احتجاج القول بالمعذوريّة بأنّ تكليفهم بنقيض اجتهادهم ممتنع عقلا وسمعا لأنّه ممّا لا يطاق أوفق بصورة القطع.

ولا ينافيه ما نقله العلاّمة في النهاية عن بعض المعتزلة من تأويله مقالة القاضي والعنبري بالحمل على المعذوريّة في المسائل المختلف فيها بين المسلمين الّتي لا يكفر مخالفها ، كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وقدم الكلام وغير ذلك لأنّ الأدلّة فيها ظنّية متعارضة ، لعدم ابتناء التعليل بالظنّية على كون موضوع المسألة هو المجتهد الظانّ ، بل على ما ستعرفه من رجوع النزاع إلى الصغرى وهو استناد خطأ المجتهد إلى تقصيره فلا يكون معذورا أو إلى قصوره فيكون معذورا ، فغرض بعض المعتزلة تنزيل قول الجاحظ وصاحبه ـ المبنيّ على دعوى القصور ـ على المسائل الّتي يجوز فيها القصور لظنّية أدلّتها وتعارضها الباعثة على الخطأ غالبا من غير تقصير.

ثمّ إنّ ظاهر هذا المؤوّل كون محلّ النزاع من المسائل العقليّة الكلاميّة ، المسائل المختلف فيها بين المسلمين الّتي لا يكفر مخالف الحقّ فيها من حيث إنّه مخالف له ، وإن كان قد يكفر باعتبار خصوصيّة اخرى منضمّة إليه ككونه ممّا ثبت بضرورة من الدين أو المذهب كالمسائل المشار إليها ونظائرها ، ومنها مسألة الإمامة المختلف فيها بين العامّة والشيعة ، دون المسائل المختلف فيها بين المسلمين وغيرهم من سائر فرق الكفر ، بل هذا ممّا جزم به التفتازاني في شرح عبارة العضدي عند المناقشة في الإجماع الّذي تمسّك به العضدي على إثم المخطئ قال :

« وفي ورود الدليل على محلّ النزاع مناقشة ، لأنّ الإجماع إنّما هو في الكافر المخالف للملّة صريحا ، والنزاع إنّما هو فيمن ينتمي إلى الإسلام ويكون من أهل القبلة ، وإلاّ فكيف يتصوّر من المسلم الخلاف في مسألة خطأ مثل اليهود والنصارى » انتهى.

وهذا كما ترى خلاف ظاهر الأكثر وخلاف مقتضى أدلّة الجمهور المصرّحة بكفر المخطئ ، وخلاف ما صرّح به غير واحد كالعلاّمة في النهاية وغيره كالعضدي في عبارته المتقدّمة : « بل المصيب من المتخالفين واحد ليس إلاّ والآخر مخطئ ، وإنّ من كان منهم نافيا لملّة الإسلام كلّها أو بعضها فهو مخطئ آثم كافر سواء اجتهد أو لم يجتهد ، خلافا للجاحظ فإنّه قال : لا إثم على المجتهد مع أنّه مخطئ ويجري عليه في الدنيا أحكام

٢٩٢

الكفّار » إلى آخر ما ذكره.

وهذا كما ترى صريح في عدم اختصاص النزاع بما ذكر إن لم نقل بظهوره في الاختصاص بغيره ممّا يكفر فيه المخطئ ومخالف الحقّ.

وكيف كان فتحقيق هذا المقام يستدعي النظر في جهة اخرى من جهات تحرير محلّ النزاع ، وهي كون النزاع كبرويّا أو صغرويّا؟

فلو قرّر النزاع بأنّ المكلّف بالعلم في اصول العقائد المجتهد فيها المقصّر في اجتهاده حتّى أدّى اجتهاده إلى اعتقاد خلاف الواقع معذور غير آثم على قول الجاحظ والعنبري ، بناء منهما على أنّ الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار خطابا أو عقابا ، وآثم غير معذور على قول الجمهور بناء منهم على أنّه لا ينافي الاختيار خطابا أو عقابا كان كبرويّا.

وكذلك لو قرّر بأنّ المكلّف بالعلم المجتهد القاصر عن تحصيله معذور غير آثم دفعا للتكليف بغير المقدور القبيح على الحكيم على قول الجاحظ والعنبري ، أو آثم غير معذور منعا لقبح التكليف بغير المقدور بحسب الفعل إذا كان مقدورا بحسب العادة ، على معنى كونه ممّا يتأتّى عادة وإن خرج عن المقدوريّة لعارض على القول الآخر.

وهذا وإن كان ممّا يومئ إليه بعض كلماتهم كما ستعرفه ، غير أنّ الأولى إسقاط هذا التقرير وسابقه ، لبعد كون موضوع المسألة خصوص المقصّر أو القاصر ، كبعد كون مبنى الخلاف على ما ذكر في التقريرين ، لوجوب تحقّق موافق للجاحظ وصاحبه في القول بالمعذوريّة وعدم الإثم من أصحابنا ، لأنّ منهم من يقول بمنافاة الامتناع بالاختيار للاختيار بل عليه محقّقوهم وهو الأصحّ ، بل قاطبة العدليّة مطبقون على اشتراط صحّة التكليف بالمقدوريّة ذاتا وفعلا وعدم الفرق في قبح التكليف بغير المقدور بين الامتناع الذاتي والامتناع العرضي.

والأولى في تقرير كبرويّة النزاع أن يقال : إنّ المكلّف المجتهد في العقائد إذا أخطأ هل هو معذور غير آثم وإن كان مقصّرا ، أو أنّه غير معذور وآثم وإن فرضناه قاصرا؟

ولو قرّر النزاع بأنّ المجتهد المؤدّي اجتهاده إلى مخالفة الواقع في اصول الدين آثم لكونه مقصّرا أو غير آثم لكونه قاصرا كان صغرويّا ، لرجوعه إلى أنّ المجتهد المخطئ فيها هل هو مقصّر ليكون آثما أو قاصر لئلاّ يكون آثما؟

وقد يقرّر ذلك بإمكان وجود القاصر عقلا أو عادة وعدمه ، وهذا كما ترى بعيد عن

٢٩٣

تضاعيف كلماتهم في تلك المسألة.

كيف وهذا البيان إنّما يلائم ما لو قرّر الكلام في نوع المكلّف مع كون المتنازع فيه إمكان التأثيم وعدمه وقد ظهر سابقا خلافه.

نعم لو قرّر الكلام في إمكان القصور وعدمه في نوع المكلّف ولو عاميّا نزاعا آخر غير النزاع في المسألة لم يكن بذلك البعيد.

ويمكن استخراج نزاع آخر في وجود الأدلّة القاطعة على المطالب الاصوليّة وعدمه من بعض كلماتهم الآتية ، ولكنّ الظاهر أنّه متفرّع على النزاع في التعبّد بالظنّ وعدمه في اصول الدين ، ضرورة أنّ التعبّد بالعلم على جهة التعيين يستدعي وجود الأدلّة العلميّة حذرا عن التكليف بغير المقدور.

وما ستعرف من أهل القول بالتعبّد بالظنّ من منع وجودها فإنّما وقع منه قصدا إلى منع لزوم التعبّد بالعلم نظرا إلى أنّ انتفاء اللازم ممّا يكشف عن انتفاء الملزوم ، أو قبالا لمدّعي وجودها.

وكيف كان فلا بدّ في تحقيق كون النزاع كبرويّا أو صغرويّا على الوجه الّذي بيّنّاه من ذكر أدلّة القولين وتحريرها ونقل سائر ما يتعلّق بها من النقوض والإبرامات.

فنقول : احتجّ الجمهور بوجوه :

منها : ما قرّره المصنّف تبعا للعلاّمة في التهذيب والسيّدين في شرحيهما له من : « أنّ الله تعالى كلّف عباده في العقليّات الكلاميّة بالعلم ، ونصب عليه دليلا فالمخطئ له مقصّر فيبقى في العهدة ».

واستدلّ في المنية على كلّ من مقدّمتي الدليل ، أمّا على المقدّمة الاولى : فبقوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ ) وقوله أيضا : واعلم أنّه لا إله إلاّ هو (١) فإنّه بظهور الهيئة والمادّة يفيد إيجاب العلم بالالوهيّة والوحدانيّة.

وأمّا على المقدّمة الثانية : فبأنّه لو لا نصب الدليل عليه لزم تكليف ما لا يطاق وهو قبيح.

فهذا الدليل بصراحته يقضي بابتناء الحكم في نظر الجمهور على التقصير في النظر والاجتهاد ويرجع مفاده إلى دعوى ملازمتين :

أحدهما : ملازمة الخطأ هنا للتقصير ، والاخرى ملازمة التقصير للتأثيم ، فينتظم بملاحظة الملازمتين قياس بتلك الصورة : المجتهد المخطئ في العقليّات مقصّر في اجتهاده ،

__________________

(١) محمّد : ١٩.

٢٩٤

وكلّ مقصّر في اجتهاده آثم.

أمّا الكبرى : فبحكم المقدّمة الاولى من الدليل.

وأمّا الصغرى : فبحكم المقدّمة الثانية ، إذ المراد بالدليل المنصوب هو الدليل الواضح القاطع الّذي يجده من طلبه لئلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق ، فمن لم يجده لم يطلبه بحكم عكس النقيض ، ومن لم يطلبه فقد فرّط في تحصيل الواجب الّذي هو العلم والمفرّط مقصّر جدّا.

وقد يقرّر الدليل ـ على ما في نهاية العلاّمة كما عن المحصول ـ : « بأنّ الله تعالى نصب الأدلّة القاطعة على هذه المطالب ومكّن العقلاء من معرفتها ، فوجب أن لا يخرجوا عن العهدة إلاّ بالعلم ».

واجيب عن التقرير الأوّل : بالمنع من وضعه تعالى أدلّة قاطعة على تلك المطالب يتمكّن العقلاء من معرفتها ، والخطاب بالعلم الوارد في الآية متوجّه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وله من وفور العقل ودقّة النظر وكمال الحدس ما ليس لأحد من أمّته ، فلا جرم كلّفه بالعلم به لتمكّنه منه ، ولمّا كانت عقول الامّة قاصرة عن ذلك وفطنتهم ضعيفة لم يكلّفهم بالعلم حذرا عن تكليف الغافل وتكليف ما لا يطاق. وغرض المجيب منع كون المجتهد المخطئ في المعارف مقصّرا باعتبار منع تكليفه بالعلم فيها من جهة منع نصبه تعالى أدلّة يتمكّن من معرفتها العقلاء ، فلا يكون آثما.

وهل هو في مراد المجيب لعدم تكليفه فيها رأسا من باب السالبة بانتفاء الموضوع كفاقد الطهورين بالنسبة إلى الصلاة ، أو لخروجه عن عهدة تكليفه وهو التكليف بمؤدّى اجتهاده وهو اعتقاده جزما أو ظنّا وإن تعلّق بالباطل؟ احتمالان ، منشأهما رجوع النفي في قوله : « لم يكلّفهم بالعلم » إلى جنس العلم الّذي هو عبارة عن الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، بناء على أنّ قصوره وعجزه عن الوصول إلى الواقع وإدراك نفس الأمر ينهض عذرا عقليّا كاشفا عن عدم توجّه تكليف إليه بالاعتقاد في الواقع كالحائض إذا طرأها الحيض في أثناء نهار رمضان ، سواء كان قصوره من جهة تأدية اجتهاده إلى الجزم بالباطل وإن كانت زيادة النظر بعده مقدورة له بحسب الواقع ، أو من جهة عدم تمكّنه من زيادة النظر وإن كان اجتهاده قد أدّى إلى الظنّ بالباطل أو إلى أحد فصليه : الجزم أو المطابقة بناء على وقوع التعبّد بالظنّ في اصول الدين وإن تعلّق بالباطل ، أو كفاية الاعتقاد الجازم فيها (١) وإن

__________________

(١) عطف على قوله : « منشأهما رجوع النفي في قوله : لم يكلّفهم بالعلم إلى جنس العلم » الخ.

٢٩٥

لم يطابق الواقع ، فالمخطئ على كلّ من الوجهين امتثل تكليفه بتحصيل ما كلّف به من الاعتقاد مطلقا أو بشرط الجزم مطلقا.

ولكنّ الظاهر سقوط احتمال رجوع النفي إلى الجنس عن مراد المجيب بملاحظة ما اجيب به عن التقرير الثاني للدليل ، القاضي ببناء قوله بالعذر وعدم الإثم على الاكتفاء بالظنّ الاجتهادي في اصول الدين وإن لم يطابق الواقع ، حيث اجيب عنه : « بمنع نصب الأدلّة القاطعة وتمكّن العقلاء من معرفتها ، خصوصا ونحن نرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد من زمن وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبعد أن يكون أحد منهم مكابرا.

سلّمنا لكن لا نسلّم اقتضاء ذلك أمرهم بالعلم ، فجاز أنّهم كانوا مأمورين بالظنّ الغالب سواء كان مطابقا أو لا ، وحينئذ يعذر الآتي به.

ويدلّ على أنّ التكليف إنّما وقع بالظنّ أنّ اليقين التامّ المتولّد من البديهيّتين المرتّبتين ترتيبا صحيحا متعسّر لا يصل إليه إلاّ الآحاد ، فلا يقع التكليف به لجميع الخلق ، لقوله عليه‌السلام : « بعثت بالشريعة السهلة السمحة » ولا حرج أعظم من تكليف الإنسان في لحظة واحدة بمعرفة ما عجز الخلق عن معرفته في خمسمائة سنة ، ولأنّا نعلم أنّ الصحابة لم يكونوا عالمين بهذه الأدلّة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة ، كما لم يكونوا عالمين بدقائق الهندسة وعلم الهيئة والحساب ، مع أنّه عليه‌السلام حكم بإيمانهم ، سلّمنا أنّهم كلّفوا بالعلم لكن نمنع عقاب المخطئ والإجماع في محلّ الخلاف ممنوع » انتهى.

ولك أنّ تقول : بأنّ المنع الأخير مبنيّ على إرجاع النفي إلى جنس العلم ، فيراد بمنع العقاب دعوى انكشاف عدم توجّه التكليف إليه رأسا ، لعدم تمكّنه من تحصيل العلم بسبب طروّ العذر المانع عن صحّة التكليف ، بناء على عدم جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه ، المبنيّ على قبح تكليف الغافل وقبح تكليف ما لا يطاق كما يشير إليه الحجّة الآتية لقول الجاحظ.

ومنها : أنّا نعلم بالضرورة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر اليهود والنصارى بالإيمان وذمّهم على إصرارهم على عقائدهم وقاتل بعضهم ، وكان يكشف عن مؤثّر المبالغ ويقتله ، ومعلوم أنّ المعاند المعارض ممّا يقلّ وإنّما الأكثر مقلّدة عرفوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا المعجزة.

واعترض عليه : بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتلهم لجهلهم بالحقّ مع إصرارهم على ترك التعلّم لا الجهل مطلقا ، فلعلّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغ في إرشادهم ولم يلتفتوا إلى بيانه واشتغلوا باللهو والطرب ، وأمّا

٢٩٦

من بالغ في الطلب والبحث فنمنع أنّه قتله ، سلّمنا قتله لكن نمنع عقابه.

ومنها : إجماع المسلمين على قتال الكفّار وعلى أنّهم من أهل النار ، ولو كانوا غير آثمين لما شاع ذلك ، هذا على ما في النهاية وغيرها.

وفي شرح العضدي : « إجماع المسلمين قبل ظهور المخالف على قتل الكفّار وقتالهم وعلى أنّهم من أهل النار يدعونهم بذلك إلى النجاة ، ولا يفرّقون بين معاند ومجتهد ، بل يقطعون بأنّهم لا يعاندون الحقّ بعد ظهوره لهم ، بل يعتقدون دينهم الباطل عن نظر واجتهاد.

واعترض عليه : بأنّ الجهاد مع الكفّار من الأحكام الثابتة لهم في الدنيا وهو لا يستلزم تعذيب الغير المقصّر منهم في الآخرة.

وأمّا الإجماع على أنّهم من أهل النار فنمنع في غير المقصّرين منهم للزوم الظلم عليه تعالى.

ومنها : قوله سبحانه ( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (١) ( وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ )(٢)( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ )(٣) وذمّ المكذّبين للرسول ممّا لا ينحصر في الكتاب والسنّة.

واعترض عليه تارة : بأنّه غير مفيد للقطع ، لجواز التخصيص بغير المجتهد منهم ، واخرى : بأنّ الآيات وردت في ذمّ الكافر ، والكفر لغة : الستر ، وهو لا يتحقّق إلاّ في المعاند الّذي عرف الدليل ثمّ أنكره ، أو المقلّد الّذي يعرف أنّه لا يعرف الدليل على صحّة الشيء ثمّ يقول به ، أمّا العاجز المتوقّف الّذي بالغ في الطلب ولم يصل فلا يكون ساترا لما ظهر عنده فلا يكون كافرا.

ومنها : قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا )(٤) والمراد بـ « فينا » : في سبيلنا ، بشهادة « سبلنا » وعمومها يعمّ الاصول وغيرها ، فإذا جاهد الجاهل ونحوه في الله يهتدي إلى الإسلام فإذا لم يهتد يتبيّن كونه مقصّرا.

واعترض عليه : بأنّ المجاهدة مفاعلة مستلزم لاثنين وحملها على الجدّ والاجتهاد مجاز لا يصار إليه إلاّ بدليل ، فالمعنى : الّذين يدافعون الخصماء من شياطين الجنّ والإنس ونحوهما لنرشدنّهم إلى سبلنا ولنعينّنهم على دفاع الأعداء ، وأكثر هذه الأدلّة عدا الدليل الأوّل وإن احتمل كبرويّة النزاع إلاّ أنّه أمكن إرجاعها بقرينة اعتراضاتها إلى الصغرى.

__________________

(١) ص : ٢٧.

(٢) فصلت : ٢٣.

(٣) البقرة : ٧.

(٤) العنكبوت : ٦٩.

٢٩٧

حجّة القول الآخر أمران :

أحدهما : ما أشار إليه الحاجبي من : « أنّ تكليفهم بنقيض اجتهادهم ممتنع عقلا وسمعا لأنّه ممّا لا يطاق ».

والظاهر أنّ مراده هو العلم بالواقع ؛ ولا ريب أنّه مع تأدية الاجتهاد إلى الجزم بخلاف الواقع أو إلى الظنّ ـ مع عدم التمكّن من زيادة النظر ـ ممتنع ، فيكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق وهو قبيح عقلا وسمعا فيكون ممتنعا.

وهذا أوجه ممّا ذكره العضدي في توجيهه من : « أنّ تكليفهم بنقيض اجتهادهم تكليف بما لا يطاق ، فيمتنع.

أمّا الاولى : فلأنّ المقدور بالذات هو الاجتهاد والنظر لكونهما من قبيل الأفعال ، دون الاعتقاد فإنّه من قبيل الصفات ، وما يؤدّى إليه الاجتهاد حصوله بعد الاجتهاد ضروري واعتقاد خلافه ممتنع.

وأمّا الثانية : فلما تقدّم من دليل العقل والسمع على امتناع تكليف ما لا يطاق وعلى عدم وقوعه » انتهى.

وهذه الحجّة مع الأوّل من أدلّة الجمهور ، وجوابه المتقدّم شاهد قطعي برجوع النزاع إلى إثبات التقصير على المجتهد المخطئ ونفيه عنه ، واللازم من التقصير كونه معاقبا باعتبار عدم خروجه عن عهدة التكليف بالعلم وتركه امتثاله وعدم إتيانه بالمكلّف به عن تقصير لا عن عذر ، كما أنّ اللازم من عدم التقصير عدم العقاب على مخالفة الواقع إمّا لخروجه عن عهدة تكليفه وامتثاله بإتيان المكلّف به إن قلنا بتوجّه التكليف في المعارف إلى مطلق الاعتقاد ولو ظنّا أو إلى الاعتقاد الجازم وإن لم يطابق الواقع ، أو لسقوط التكليف عنه رأسا بطروّ العذر وهو خروج المكلّف به عن المقدوريّة إن قلنا بأنّ التكليف في الاصول يقع على خصوص العلم وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الّذي هو مع تأدية الاجتهاد إلى الاعتقاد الغير المطابق متعذّر.

وكيف كان فأجاب عنه العضدي ـ تبعا للحاجبي ـ : « بأنّا لا نسلّم أنّ نقيض اعتقادهم غير مقدور ، فإنّ ذلك امتناع بشرط المحمول أي ما داموا معتقدين لذلك يمتنع أن يعتقدوا خلافه ، وذلك لا يوجب كون الفعل ممتنعا عنهم غير مقدور لهم ، فإنّ الممتنع الّذي لا يجوز التكليف به ما لا يتأتّى عادة كالطيران وحمل الجبل ، وأمّا ما كلّفوا به فهو الإسلام وهو

٢٩٨

متأتّ منهم ومعتاد حصوله من غيرهم ومثله لا يكون مستحيلا ».

وثانيهما : ما حكاه العلاّمة والرازي في النهاية والمحصول من : « أنّه تعالى ملك رحيم كريم ، واستقراء أحكام الشرع يدلّ على أنّ الغالب على الشرع التخفيف والمسامحة ، حتّى لو احتاج إلى تعب في طلب الماء أسقط عنه فرض الوضوء ، فكيف بكرمه ورحمته معاقبة من أفنى طول عمره في الفكر والبحث ».

ودفع : بمنع عدم الوصول إلى الحقّ مع المبالغة في البحث والنظر ، بل الواجب مع استيفاء النظر والبحث الوصول إلى الحقّ.

وهذه عمدة كلماتهم تعرّضنا لذكرها من دون تعرّض لجرحها وتعديلها قصدا إلى استعلام الجهات الملحوظة لمحلّ النزاع وبيان رجوع النزاع إلى الصغرى.

وأمّا تحقيق المسألة فهو مبنيّ على التكلّم في مراحل :

المرحلة الاولى : في إثبات وجود القاصر فيما بين المكلّفين بالمعارف واصول العقائد ، فتارة في نوع المكلّفين ، واخرى في المجتهدين منهم.

فنقول : أمّا وجود القاصر وهو من عجز عن الوصول إلى الواقع ولم يقدر على إدراك الحقّ ـ إمّا بعدم وجود دليل عليه ، أو بعدم العثور على الدليل الموجود مع عدم التقصير في طلبه أو لعدم تفطنّ بأصل القضيّة والاختلاف فيها كحدوث العالم مثلا ، أو لعدم التمكّن من الفحص والاجتهاد وطلب الحقّ فيها ، أو سبق إذعان جزمي بالباطل إلى الذهن بسبب غير اختياري من دون سبق احتمال حقّية خلافه كما يشهد به قولهم عليهم‌السلام : « كلّ مولود يولد على الفطرة وإنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه » أو لرسوخ الشبهة بمعنى صورة الشكّ في الذهن بحيث لم يقدر على إزالتها ، أو اضطراب فكر وتشويش ذهن وإعوجاج مدركة واختلال فطنة ، أو فقد ما هو من شروط النظر أو وجود ما هو من موانعه ، أو غير ذلك ممّا شاع فيما بين آحاد النوع ولو بالقياس إلى الرساتيق وأهل البوادي وأقصى بلاد الروم والروس والإفرنج وغيرها ـ فممّا لا ينبغي أن ينازع فيه ، لكون وجوده باعتبار الأسباب المذكورة ممّا يشهد به ضرورة الوجدان وبداهة العيان ، فمنكر وجوده ـ على ما يظهر من بعض العبائر ـ مدافع للضرورة ومكابر للوجدان فلا يلتفت إليه.

كيف ولا يساعده على إنكاره الّذي هو نفي وجوده شيء من السمع والعقل ، سوى ما عسى أن يتوهّم من جهة السمع من عموم التكليف بالمعارف الحقّة المستفاد من إطلاق

٢٩٩

الخطاب بالعلم ، والأوامر الواردة به في الكتاب والسنّة ومعاقد الإجماع من نحو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) وقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً ) ونحو ذلك من الآيات ، فإنّه يقضي باقتدار عامّة المكلّفين في الاصول على إدراك الواقع والوصول إليه دفعا لقبح التكليف بغير المقدور.

ويدفعه : أنّ هذه الخطابات وإن كانت مطلقات إلاّ أنّها من قبيل القضايا التكليفيّة المعلّقة على الشروط الأربع المقرّرة بحكم العقل والسمع للتكليف الّتي منها القدرة على الامتثال ، فتكون كأشباهها ونظائرها من الخطابات الواردة في الفروع كـ ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) مخصوصة بواجدي الشرائط ، فهي مطلقات لفظا ومقيّدات معنى ، فلا يظهر من مجرّد إطلاقها شمولها لعامّة المكلّفين لينهض شاهدا بانتفاء القصور رأسا ، وأصالة الإطلاق في الأمر ـ حسبما تقرّر في محلّه ـ الّتي يرجع إليها في مواضع احتمال التقييد إنّما تسلّم بالقياس إلى الشروط الاخر الزائدة على الشروط الأربع ، فالخطاب التكليفي حينئذ لا يعلم إطلاقه إلاّ حيث صادف الجامع للشروط بأجمعها ، ومن المستحيل حينئذ إحراز وجود الشروط بإطلاقه.

وما عساه يتوهّم من خروج خطابات العلم والمعرفة من سياق الأشباه والنظائر وضابطة الخطابات المشروطة ممّا لا محصّل له ، إلاّ بأن يرجع إلى دعوى أحد الأمرين : من منع الاشتراط بالقياس إلى هذه الخطابات بالخصوص فهي مطلقة بحسب اللفظ والمعنى معا حتّى بالقياس إلى فاقدي الشروط كلّها أو بعضها ، وهي ـ مع أنّها لا تنفي وجود القاصر وأنّها خلاف الفرض كما يشهد به خروج الصبيّ والمجنون منها ـ تخصيص في حكم العقل وغيره من القاطع المثبت للاشتراط فيكون محالا.

أو دعوى مصادفة هذه الخطابات اجتماع الشروط بأسرها بالنسبة إلى عامّة المكلّفين على معنى كون كلّ مكلّف في الاصول حاويا لشروط الامتثال ، وهي مجازفة لا يلتفت إليها في نظائر المقام مع قضاء ضرورة الوجدان بفسادها.

فإن قلت : يمكن الاستدلال على نفي القصور بقاعدة اللطف الّتي هي من دليل العقل ، بتقريب : أنّه كما يشتمل الفروع على مصالح ومفاسد يجب على الله تعالى من باب اللطف إرشاد العباد إليها فكذلك الاصول مشتملة عليها ، بل مصالح الفروع فرع من مصالح الاصول ، وكما أنّ اللطف الواجب في الفروع يقتضي جعل التكاليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب

٣٠٠