تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

ومنها : ما اعتمد عليه المحقّق المذكور أيضا في الحاشية المذكورة من : أنّه لو جاز العمل بقول الفقيه بعد موته امتنع في زماننا هذا ، للإجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين ، والوقوف لأهل هذا العصر على الأعلم والأورع بالنسبة إلى الأعصار السابقة كاد أن يكون ممتنعا.

وفيه : ـ مع أنّ الوقوف على الأعلم والأورع من الأموات قد يتأتّى بمراجعة كتبهم وتصانيفهم واشتهاره فيما بين الطائفة ، وكونه بحيث يعتنى بشأنه ويستشهد بقوله وفتواه في المسائل الخلافيّة ـ منع الملازمة ، إذ غاية ما يلزم من امتناع الوقوف على الأعلم والأورع منهم بعد العلم الضروري بوجوده فيما بينهم إجمالا إنّما هو سقوط اعتبار الأعلميّة والأورعيّة لا امتناع تقليد الميّت ، وذلك لما تقدّم في بحث تقليد الأعلم أنّ الأعلميّة والأورعيّة من باب المانع من تقليد غير الأعلم والأورع بل من باب المرجّح لتقليد الأعلم والأورع عند الاختلاف بينه وبين غيره في المسائل الخلافيّة ، فإذا تعذّر تشخيص محلّهما بعد العلم بوجودهما إجمالا سقط اعتبارهما ويثبت التخيير لعدم غيره حتّى العمل بالاحتياط ، لأنّ التقليد في حقّ العامي الغير المتمكّن من الاجتهاد إنّما يثبت مشروعيّته بعد الفراغ عن إثبات سقوط اعتبار الاحتياط لتعذّره أو تعسّره.

وللمانعين من تقليد الميّت حجج اخر واهية لا جدوى في التعرّض لها ولما فيها من وجوه الضعف ، وقد تعرّض لإيراد أكثرها السيّد الطباطبائي قدس‌سره في مفاتيحه.

وللقول بجوازه أيضا وجوه :

أوّلها : إطلاق أدلّة مشروعيّة التقليد كتابا وسنّة ، أمّا الكتاب فكآيات النفر والكتمان والسؤال فإنّه بإطلاقها تتناول الموتى وتدلّ على جواز الأخذ بفتاويهم والعمل بها.

وهذا كما ترى أضعف شيء ذكر في المقام ، ويرد عليه ـ بعد الإغماض عمّا قدّمناه في محلّه من منع دلالة هذه الآيات على أصل مشروعيّة التقليد فضلا عن تناولها لتقليد الميّت والبناء على نهوض دلالاتها على المشروعيّة ـ منع الأطلاق تارة ووجوب الخروج عنه اخرى.

أمّا آية النفر : فيرد على الاستدلال بها ظهورها في الأحياء ، فإنّ إسناد الإنذار إلى المتفقّهين وتوقيته برجوعهم إلى قومهم ظاهر كالصريح في وجوب قبول فتاويهم والعمل بها حال حياتهم.

٥٢١

لا يقال : يتمّ في الأموات بالإجماع المركّب كما هو كذلك في العمل برواياتهم ، فإنّ المستدلّين بالآية لاثبات حجّية خبر الواحد لا يفرّقون في العمل بالرواية بين حياة الراوي ومماته ولا جهة له إلاّ الإجماع المركّب.

لأنّ الإجماع المركّب إنّما يسلّم في الرواية وأمّا الفتوى فإن لم ندّع الإجماع على الفرق ـ كما يرشد إليه الإجماعات المنقولة على منع تقليد الميّت ـ فلا أقلّ من كون القول به مشهورا ، وإن لم ندّع الشهرة أيضا فلا أقلّ من دعوى وجود قائل به بل مصير جماعة إليه.

ومع هذا كلّه فكيف يعقل الإجماع على عدم الفرق بين العمل بفتوى الحيّ والعمل بفتوى الميّت.

ولو سلّم عدم ظهورها في العمل بفتاوى المنذرين في حال حياتهم فلا نسلّم أيضا ظهورها في الإطلاق ، فيكون مفادها وجوب العمل بفتاوى المنذرين على وجه الاهمال ، ومن حكم القضيّة المهملة وجوب الأخذ فيها بالقدر المتيقّن وهو هنا فتاوى الأحياء والرجوع في غيره وهو فتاوى الميّت إلى الأصل المنحلّ إلى اصول متعدّدة حسبما قرّرناها في بيان مستند القول المختار.

ولو سلّم الإطلاق فوجب الخروج عنه بتخصيص الآية بالأحياء بالإجماعات المنقولة المتقدّمة المعتضدة بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، بل ظهور إجماع السلف على المنع مع اعتضادها بالاعتبار المتقدّم القاضي بزوال الظنّ بالموت.

وأمّا آية الكتمان ، فيرد عليها :

أوّلا : أنّ دلالتها على وجوب القبول والعمل ليست بطريق المطابقة بل بطريق الالتزام ، للملازمة بين وجوب إظهار الهدى ووجوب قبوله الّذي هو التقليد عرفا أو عقلا ، بتقريب : أنّه لو لا جواز القبول لزم خروج الاظهار لغوا خاليا عن الفائدة وهو قبيح ، فيكون الأمر به أمرا بالقبيح وهو قبيح مناف للحكمة ، وهذا المدلول الالتزامي أمر معنويّ لا لفظ فيه ليكون عنوانا للعموم أو الإطلاق.

فأقصى ما يسلّم فيه ثبوته على طريقة القضيّة المهملة ، فيجري فيها ما تقدّم من وجوب الأخذ بالقدر المتيقّن والرجوع في غيره إلى الأصل.

وثانيا : أنّه على تقدير ثبوت الإطلاق يجب الخروج عنه في الأموات بما مرّ من الإجماعات واعتضاداتها.

٥٢٢

وأمّا آية السؤال ففيها :

أوّلا : أنّ حقيقة السؤال المأمور به تأبى تناول الآية للرجوع إلى الأموات ، لعدم صدق السؤال عليه عرفا ولا لغة.

وثانيا : أنّه لا إطلاق في الأمر بالسؤال بحيث يقضي بوجوب تقليد الميّت ابتداء أو استدامة.

أمّا في الأوّل : فلأنّ السؤال عند الجهل إنّما وجب لوجوب القبول والعمل ، لا أنّ القبول والعمل يجب لوجوب السؤال ، فيكون وجوب السؤال مقدّميّا غيريّا فيكون في إطلاقه وعمومه أو بيانه وإجماله تابعا للقبول والعمل الّذي هو الواجب الأصلي النفسي.

ومن الظاهر أنّه في الآية أمر لبّي لا لفظ فيه ليكون عنوانا في الحكم ويعتبر فيه عموم أو إطلاق فلا يكون إلاّ قضيّة مهملة ، ويكفي في خروج الأمر بالسؤال عن اللغويّة وجوبه في الجملة ، والقدر المتيقّن منه وجوب السؤال من الأحياء والعمل بفتواهم في المسألة ، فيبقى غيره غير مندرج في الآية.

وأمّا في الثاني : فلأنّ مقتضى الأمر بالسؤال المعلّق على عدم العلم وجوبه عند طروّ حالة الموت.

فإن قلت : إنّ العلم في هذه الحالة حاصل ولا حاجة معه إلى السؤال.

قلنا : إن أردت بالعلم العلم الحقيقي فالأمر على تقدير كونه حاصلا كما ذكرت ، إلاّ أنّه خلاف المفروض لكون مبنى التقليد على التعبّد لا العلم ولا الظنّ ، وإن أردت به العلم الشرعي وهو فتوى المجتهد الّتي يجب العمل عليها نطالبك بدليل ذلك ، فإنّا في شكّ في وجوب [ العمل ] بقول المجتهد الميّت.

وقضيّة ذلك وجوب الرجوع إلى الحيّ وسؤاله بمقتضى الأمر بالسؤال المعلّق على عدم العلم.

وثالثا : أنّه على تقدير تسليم الإطلاق فلا بدّ من الخروج منه بما عرفت.

وأمّا السنّة فطائفتان من الأخبار :

إحداهما : ما دلّ بالعموم على الأمر بتقليد الفقهاء كالمرويّ عن احتجاج الطبرسي عن تفسير العسكري في حديث طويل من قوله عليه‌السلام : « من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه » أو بالرجوع إلى رواة

٥٢٣

الحديث كما في التوقيع المرويّ عن الفقيه وإكمال الدين واحتجاج الطبرسي من قوله عليه‌السلام : « أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم ».

واخراهما : الأخبار الجزئيّة الواردة في أشخاص مخصوصين من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام الآمرة لبعضهم بالإفتاء ، كما في أبان بن تغلب من قول الباقر عليه‌السلام : « اجلس في هذا المجلس وأفت بين الناس ، فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك » وفي جماعة بأخذ معالم الدين عنهم كما في أبي بصير الأسدي وزكريّا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن.

فإن كان النظر في الاستدلال إلى الطائفة الاولى ففيه أوّلا : الطعن في أسانيدها.

وثانيا : منع الإطلاق بدعوى ظهورها في الأحياء ، فإنّ الموصوف بالصفات المذكورة في الرواية الاولى لا يكون إلاّ الحيّ ، والضمير في قوله : « أن يقلّدوه » راجع إلى هذا الموصوف ، فالأمر بالتقليد هنا لا يشمل غير الأحياء ، ولو سلّم العموم ولو بالقياس إلى الأحوال الّتي منها حالة الموت فلا بدّ من تخصيصها بحالات الحياة أو بالأحياء بما تقدّم من الإجماعات.

والرواية الثانية أيضا لا تتناول غير الأحياء بضابطة ما هو الأصل في المشتقّ من كونه لحال التلبّس بالمبدأ ، وهو في الراوي من قبيل الملكات فيكون عبارة عمّن شأنه الرواية.

ولا ريب أنّ رواة الحديث بهذا المعنى لا يكونون إلاّ الأحياء.

وممّا يؤكّد ذلك أنّه لو لا المراد الإرجاع إلى الأحياء لناسب أن يقال : « فارجعوا إلى رواياتنا ، أو إلى أحاديثنا ، أو إلى كتب رواة حديثنا » ولو سلّم العموم أو الإطلاق لوجب الخروج عنه أيضا بما عرفت.

وأضعف من الاستدلال بنحو هاتين الروايتين ما قد يوجد من الاستدلال بما دلّ من الأخبار على تأبيد الأحكام مثل قوله عليه‌السلام : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ».

وفيه : أنّ الحلال والحرام الواقعيّين كما في الرواية وكلامنا في الأحكام التقليديّة الّتي هي الأحكام الظاهريّة المعلّقة على موضوع أخذ فيه قيود من الاجتهاد والإيمان والعدالة ويحتمل كون الحياة منها ، واللازم فيه ارتفاع الأحكام بزوال الحياة ، فلا مستند للحكم ببقائها إلاّ الاستصحاب. وسيأتي الكلام فيه.

وإن كان النظر إلى الطائفة الثانية. ففيه : منع كون أخذ معالم الدين عن آحاد الأشخاص

٥٢٤

المخصوصين تقليدا لهم حتّى يكون الأمر بذلك الأخذ أمرا بتقليد هؤلاء ، فإنّهم فيما يروونه أو يفتون به كانوا يقصدون النقل عن أئمّتهم عليهم‌السلام وإن لم يذكروه بصورة النقل.

ومن المعلوم أنّ الأخذ بما ينقله الواسطة لا يسمّى في العرف تقليدا للواسطة ، كأخذ المقلّد بما ينقله العدل عن مجتهده حيث لا يسمّى تقليدا لذلك العدل ، فالغرض الأصلي من الأوامر الواردة في الأخبار الخاصّة إخراج أصحابهم السائلين عمّن يؤخذ عنه معالم الدين عن الجهالة في الدين وبلوغ الحقّ إليهم ووصولهم إلى الواقع النفس الأمري المتلقّى منهم عليهم‌السلام ، لا تحصيل موضوع الحكم الظاهري الّذي هو قول المفتي من حيث نفسه ، كما يرشد إليه قضيّة انفتاح باب العلم لهم ، فالمطلوب منهم تحصيل الواقع لا الأخذ بقول الغير تعبّدا.

وممّا يؤيّد ذلك ويؤكّده أو يدلّ عليه وصف جماعة من هؤلاء بالوثاقة والأمانة ، ومنه ما ورد في شأن زكريّا بن آدم عن عليّ بن المسيّب الهمداني قال : قلت للرضا عليه‌السلام : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : « من زكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا ».

وما ورد في العمري ـ الّذي هو وابنه من السفراء ـ عن أحمد بن إسحاق قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام قلت له : من اعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال له : « العمري ثقة فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون ».

وفيه وابنه عن أحمد بن إسحاق أنّه سأل أبا محمّد عليه‌السلام عن مثل ذلك ، فقال له : « العمري وابنه ثقتان فما أديّا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان ».

وما ورد في يونس من قوله عليه‌السلام : « نعم » لمّا قال له عبد العزيز المهتدي : ربّما أحتاج ولست ألقاك في كلّ وقت ، أيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ قال : « نعم » (١).

وبالجملة إناطة أخذ معالم الدين بالوثاقة والأمانة في هذه الأخبار تدلّ على أنّ المقصود من [ الرجوع إلى ] أصحاب الأئمّة والرواة إنّما هو التوصّل إلى الحكم الواقعي المتلقّى من الأئمّة والرواة من غير فرق في ذلك بين ما لو صدر بيانه من الجماعة

__________________

(١) رجال الكشي : ٤٨٣ رقم ٩١٠.

٥٢٥

المذكورين بصورة الرواية أو الفتوى.

وبالجملة الأخذ من هؤلاء الأجلاّء والموثّقين كالأخذ من الإمام والنبيّ ليس تقليدا وإن كان المأخوذ صادرا منهم بصورة الفتوى.

ولو سلّم كونه تقليدا نقول : إنّ الأخبار الآمرة به مختصّة بهؤلاء الأجلاّء في حال حياتهم ، وليس فيها ما يتناول غيرهم من الأحياء ولا الأموات ، ولا ما بعد ممات هؤلاء من عامّ أفرادي ولا أزماني ولا أحوالي.

وتوهّم الدلالة على ما بعد الموت ممّا ورد في كتاب يونس عن داود بن القاسم أنّ أبا جعفر الجعفري قال : أدخلت كتاب يوم وليلة الّذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري عليه‌السلام فنظر فتصفّحه كلّه ، ثمّ قال : « هذا ديني ودين آبائي وهو الحقّ كلّه » (١).

وعن أحمد بن أبي خلف قال : كنت مريضا فدخل عليّ أبو جعفر عليه‌السلام يعودني في مرضي ، فإذا عند رأسي كتاب يوم وليلة ، فجعل يتصفّحه ورقة ورقة حتّى اطّلع عليه من أوّله إلى آخره ، وجعل يقول : « رحم الله يونس رحم الله يونس » (٢).

وعن صاحب الوافية أنّه قال : « والظاهر أنّ الكتاب كان كتاب الفتوى ، فحصل تقرير الإمام عليه‌السلام على تقليد يونس بعد موته ».

يدفعه ـ بعد تسليم سلامة سند الخبرين ـ : منع كون الكتاب كتاب الفتوى ، بل يكفي في منع الدلالة احتمال كونه كتاب الرواية ، ولئن سلّمنا ظهور كونه كتاب الفتوى لا دلالة في الترحيم ولا التقرير ولا التصريح بأنّه « ديني ودين آبائي » على التقليد المبحوث عنه ، لكون جميع ما في الكتاب أحكاما واقعيّة متلقّاة من أهل بيت العصمة سلام الله عليهم كما هو مقتضى كونه دينه ودين آبائه.

وقد يتوهّم الدلالة من جهة الأخبار المذكورة بواسطة المناط القطعي المستنبط منها ، وهو كون حجّية قول الحيّ في حقّ المقلّد لأجل كونه حكاية وكاشفا عن الواقع ، وهذا لا يتفاوت فيه الحال بين الحياة والممات.

وفيه : أنّ هذا على تقدير كون المخبر به هو الحكم الواقعي مسلّم ، لكنّ الحكم المفتى به فيما نحن فيه حكم ظاهري تعبّدي تابع للظنّ الاجتهادي فربّما يكون لحياة المجتهد مدخليّة في موضوعه فيرتفع بالموت ، وجعله كما لو أخبر بالحكم الواقعي قياس لا نقول به.

__________________

(١) رجال الكشّي : ٤٨٤ رقم ٩١٥.

(٢) رجال الكشّي : ٤٨٤ رقم ٩١٣.

٥٢٦

وثانيها : أنّه لو لم يجز تقليد الميّت لما أجمعوا على النقل من السلف وعلى وضع الكتب ، بيان الملازمة : أنّه لا فائدة في هذين إلاّ العمل بأقوال السلف والاعتماد عليها في العبادات والمعاملات ، وليس هذا إلاّ تقليدا.

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، ويكفي في بطلانه أنّه يستلزم كون جواز تقليد الميّت إجماعيّا وهو كما ترى ، ويقتضي كون الفقهاء والمجتهدين مقلّدين إذ لا يرجع إلى أقوال السلف وكتبهم إلاّ الفقهاء والمجتهدين وهو أيضا كما ترى.

والحلّ : أنّ الرجوع إلى أقوال السلف وكتبهم ليس لتقليدهم والعمل بأقوالهم تعبّدا ، بل للاستعانة على فهم مدرك المسألة ولمّها ، والاحاطة بأطرافها ، ومعرفة الإجماع والخلاف أو الشهرة والندرة ، أو غير ذلك من الفوائد كمعرفة طريقة الاجتهاد وترجيحات الفقهاء وكيفيّة بناء الأدلّة بعضها على بعض ، ومعرفة الجرح والتعديل والتقيّة وعدمها ، والشاذّ النادر والاصطلاحات.

بل عن العلاّمة البهبهاني : « أنّه لا يمكن الاجتهاد إلاّ بملاحظة كتب السلف ، ولا يكون واقعا في الأزمنة الواقعة بعد الغيبة إلاّ بذلك » بل عنه : « أنّ كتبهم ينتفع المتعلّمين أيضا إذ لولاها لما أمكنهم الدرس والتعلّم » انتهى.

ثالثها : أنّه لو لم يجز تقليد الميّت لزم العسر والحرج ، لخلوّ كثير من الأمكنة والأزمنة عن المجتهد الحيّ أو عن إمكان التوصّل إليه.

وفيه أوّلا : منع الملازمة ، فإنّا لم نسمع من لدن بناء التقليد أنّه لزم من منع تقليد الموتى وسدّ بابه العسر والحرج.

وثانيا : أنّ جواز تقليد الميّت على تقدير تسليم العسر يتقدّر بقدر لزومه ، ولا يلزم بذلك فتح باب تقليد الميّت بقول مطلق ، والأصل فيه ما مرّ تحقيقه من كون نفيه حسبما ينساق من أدلّته شخصيّا.

ورابعها : أنّ قول المجتهد الميّت يفيد الظنّ ، فيجب العمل به لعموم ما دلّ على حجّية الظنّ.

وهذا أضعف من سابقيه ، لمنع كون قول الميّت في جميع أحواله وفي جميع الموارد مفيدا للظنّ ، إلاّ أن يراد كونه قد يفيد الظنّ فيعارضه أنّ قول الحيّ أيضا قد يفيد الظنّ ، فوجب إناطة أمر التقليد بما يفيد الظنّ حيّا كان أو ميّتا لا فتح باب تقليد الميّت مطلقا ، مع

٥٢٧

بناء الدليل على كون التقليد من باب الظنّ وقد عرفت بطلانه ، مع تطرّق المنع إلى عموم حجّية الظنّ حتّى ظنّ المقلّد ، لفقد ما دلّ عليه من عقل ونقل.

وكأنّه أراد من عموم ما دلّ عليه دليل الانسداد.

ويدفعه : ما ذكرناه مرارا من أنّه لا نظر في دليل الانسداد إلى الظنّ بل إلى ما هو أقرب إلى العلم والواقع ، ولا يكون بعد تعذّر العلم وسقوط اعتبار الاحتياط إلاّ الظنّ الاجتهادي ومظنون المجتهد ، وكما أنّه أقرب إليه في حقّ المجتهد فكذلك في حقّ المقلّد ، وموافقة ظنّ المقلّد له ومخالفته لا يؤثّر في قربه وبعده ، خصوصا إذا كان مستند الظنّ هو قول المجتهد.

ولو اريد بعموم دليل الحجّية إطلاق إجماعات المنقولة على حجّية الظنّ حال انسداد باب العلم.

ففيه ـ مع أنّ معقد هذه الإجماعات ظنّ المجتهد لا غير ـ : أنّه يعارضه إطلاق الإجماعات المنقولة على عدم جواز تقليد الميّت فإنّه يعمّ ما لو أفاد قول الميّت الظنّ وعدمه.

ومن هنا قد يورد على الدليل المذكور : بأنّ مقتضاه على تقدير تماميّته كون تكليف العامي هو العمل بالظنّ.

ولا ريب أنّ الظنّ الحاصل من فتوى المعظم بعدم جواز تقليد الميّت والإجماعات المنقولة والشهرة المحقّقة والمحكيّة وغيرها من الآيات والأخبار على تقدير نهوضها بمنع تقليد الميّت مانع من العمل بالظنّ الشخصي الحاصل له في خصوص المسألة من قول الميّت.

ومن المقرّر كما اشتهر بينهم أنّه إذا تعارض الظنّ المانع والظنّ الممنوع قدّم الظنّ المانع مطلقا ، خصوصا إذا كان أقوى من الممنوع كما فيما نحن فيه ، لكون سببه أقوى من سبب الممنوع بمراتب شتّى.

وخامسها : الاستصحاب ولعلّه عمدة أدلّة المجوّزين.

ويقرّر تارة : بالقياس إلى حال الفتوى بلحاظ أنّها في حياة المجتهد كانت معتبرة وحجّة.

واخرى : بالقياس إلى حال المفتي بلحاظ أنّه كان ممّن يجوّز تقليده.

وثالثة : بالقياس إلى حال المستفتي بلحاظ أنّه حال حياة ذلك المجتهد جاز له تقليده ، ويشكّ في ارتفاع هذه الأحكام بالموت من باب الشكّ في قدح العارض كالمذي في المتطهّر.

٥٢٨

ومن المقرّر في محلّه حجّية الاستصحاب في نحوه ، وهذه الاستصحابات وإن كان بعضها يرجع إلى بعض وكان مفاد الجميع واحدا إلاّ أنّ الأخير منها لا يفيد جواز تقليد الميّت إلاّ في حقّ من عاصره لامتناع الجواز في حقّ المعدوم ، والأوّل منها يعمّه وغير المعاصر ، وأمّا الثاني منها فقد يتوهّم كونه كالأخير فيختصّ بمن عاصر المجتهد الميّت في زمان حياته لامتناع تحقّق الجواز في حقّ غيره مع كونه معدوما.

وفيه : أنّه إنّما يتمّ على تقدير إرادة الجواز التكليفي ولعلّه ليس بمراد ، بل المراد الجواز الوضعي الّذي مرجعه إلى أهليّة الميّت حال حياته لأن يقلّد.

وهذه صفة ثابتة فيه يتساوى نسبته إلى من عاصره وغيره.

وكيف كان فيرد عليه بجميع تقاديره : أنّه ـ مع ما تقدّم من الإجماعات المنقولة المعتضدة بما مرّ الّتي هي دليل اجتهادي تامّ على المنع ـ غير جار.

ومع الغضّ عن ذلك فهو من أصله غير صحيح ، لاشتراط صحّته ببقاء موضوع المستصحب وهو غير محرز.

وتوهّم كونه من باب ما يشكّ في قدح العارض ، يدفعه : أنّ الموت عبارة عن زوال الحياة الّتي يحتمل كونها كالاجتهاد والإيمان والعدالة جزءا للموضوع ، على معنى كون موضوع الأحكام المذكورة المجتهد الحيّ بوصف كونه حيّا ، لا كالصحّة والمرض والصغر والكبر وغيرها ممّا لا مدخليّة له في الموضوع أصلا.

وقد تقدّم في محلّه أنّ معنى بقاء الموضوع كون القضيّة المشكوكة بعينها هي القضيّة المتيقّنة بلا تفاوت وفرق بينهما إلاّ في اليقين والشكّ وزماني اليقين والشكّ ، ولا تكون كذلك إلاّ مع وحدة موضوع القضيّتين.

ولا ريب أنّ المجتهد حيّا وهو ميّتا موضوعان متغايران بحسب المفهوم ، وعدم كون هذا التغاير موجبا لتعدّد موضوع القضيّتين مبنيّ على كون موضوع الأحكام المتقدّمة هو ذات المجتهد لا المجتهد الحيّ بوصف الحياة وهو ليس بمعلوم ، بل القدر المتيقّن ممّا ثبت له الأحكام إنّما هو المجتهد الحيّ ، ومن المستحيل انسحاب حكم موضوع إلى ما يغايره بالاستصحاب.

وبما بيّنّاه ظهر بطلان مقايسة ما نحن فيه على الماء المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره بنفسه باعتبار أنّه لا يمنع من استصحاب النجاسة ، والأصل فيه أنّ الاستصحاب لابدّ فيه

٥٢٩

من تغيير حالة في الموضوع أو تبدّل زمان ، وذلك لأنّ التغيّر ممّا لا مدخليّة له في موضوع الحكم لوضوح أنّ معروض النجاسة هو ذات النجاسة (١) والتغيّر علّة لعروض النجاسة.

ومنشأ الشكّ في بقائها وارتفاعها بعد زوال التغيّر هو الشكّ في كونه علّة مبقية أيضا ، فالحالة الّتي لا يمنع تبدّلها من جريان الاستصحاب هو ما علم عدم مدخليّته في الموضوع سواء علم عدم مدخليّته في الحكم أيضا أو لا ، لا ما يحتمل مدخليّته فيه.

وأمّا ما قيل : من أنّ المانع من جريان الاستصحاب إنّما هو القطع بعدم بقاء الموضوع ، فلا مانع من جريانه عند الشكّ في البقاء لكفاية الاستصحاب في الحكم ببقائه كما عن صاحب الوافية.

ففيه : أنّ العلم ببقائه شرط لجريانه ، والأصل فيه أنّ شرط جريان الاستصحاب هو بقاء الموضوع في الواقع ، ولا يحرز إلاّ بالعلم أو ما يقوم مقامه كالاستصحاب فيما لو شكّ في جواز تقليد مجتهد غائب للشكّ في حياته ، ولا علم فيما نحن فيه ولا يمكن جريان بقائه بالاستصحاب أيضا كما لا يخفى ، واستصحاب الحكم أيضا لا يكفي في الحكم ببقائه ، كيف وأصل جريانه موقوف على إحراز بقائه فلا يعقل إحراز بقائه باستصحاب الحكم.

نعم لو كان المقام ممّا يصدق عرفا بقاؤه مسامحة كان لجريانه وجه ، ولكنّه ليس بثابت.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه هنا ـ علاوة على ما حقّقناه في باب الاستصحاب ـ أنّه كلّما استفدنا موضوع المستصحب من دليله وعلمنا عدم بقائه أو اشتبه علينا الموضوع لعدم استفادته من دليله ـ لعدم تعرّضه لبيانه كما لو كان لبّيا كالإجماع ونحوه ـ ولا من خارج امتنع جريان الاستصحاب فيه ، وليس المقام ممّا يحرز بقاء الموضوع بالاستصحاب كما هو واضح.

وإن شئت قلت : إنّ الشكّ هاهنا بعد موت المجتهد ليس في بقاء الموضوع فقط بل راجع إلى موضوعيّة الباقي ، فلا يعقل إحراز موضوعيّته باستصحاب بقاء الموضوع ، ولا باستصحاب الحكم خصوصا على مختارنا من بطلان الاصول المثبتة.

وينبغي ختم المسألة برسم أمرين :

أحدهما : أنّه لا فرق على المختار من عدم جواز تقليد الميّت بين ابتداء التقليد والاستمرار عليه ، فيجب العدول إلى الحيّ لو قلّده في حياته ويحرم البقاء على تقليده بعد الممات

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعلّ الصواب : « أنّ معروض النجاسة هو ذات النجس الخ ».

٥٣٠

وفاقا للأكثر ، ولا سيّما السلف ، لإطلاق فتاويهم بالمنع وعدم الجواز ، ولا سيّما المعبّرة بعدم جواز العمل بقول الميّت ، ولا سيّما المعلّلة بأنّ الميّت لا قول له ، وأنّه إذا مات المجتهد مات قوله ، وإنّ قول الميّت كالميّت ، وغير ذلك ممّا يؤدّي هذا المعنى ، لظهور الجميع في عدم الفرق مع كون بعضها أظهر من بعض.

نعم من عبّر في الفتوى بعدم جواز الأخذ بقول الميّت فلا ظهور لكلامه هذا في عموم المنع ، بل الأخذ بقول الميّت ظاهر في الابتداء ، غير أنّه لا ينافي إطلاق الآخرين بحيث ينفي المنع من الاستمرار ، ضرورة أنّ الأخذ بقول المجتهد مقدّمة للعمل فالمقصود بالأصالة هو العمل ، وإن جعلنا حقيقة الأخذ للعمل لا العمل فيكون الأخذ بقوله في الحكم وجوبا وجوازا وتحريما تابعا للعمل فلا يحرم إلاّ لحرمة العمل بقول الميّت المدلول عليها لحرمة (١) الأخذ بقوله بالالتزام إن لم تعمّ الابتداء والاستمرار معا فلا أقلّ من عدم كونها نافية لحرمة الاستمرار المستفادة من إطلاق الأكثر.

فغاية ما فيه سكوته بالنسبة إلى صورة الاستمرار نفيا وإثباتا ، فيبقى إطلاق الأكثر سليما عمّا ينافيه من الفتاوى.

وأمّا ما عبّر فيه من الفتاوى بعدم جواز تقليد الميّت فيحتمل كونه كعبارة الأكثر المعبّرة بعدم جواز العمل بقوله ، وكونه كعبارة البعض المعبّرة بعدم جواز الأخذ بقوله.

ومبنى الاحتمالين على كون مذهب هذا القائل في التقليد جعله عبارة عن العمل أو عن الأخذ للعمل.

وكيف كان فلا ينبغي [ التأمّل ] في إطلاق فتوى الأكثر وتناولها صورتي الابتداء والاستمرار ، وكذلك معاقد الإجماعات المنقولة فإنّ أكثرها مطلقة حيث اخذ فيها العمل بقول الميّت كما تقدّم عن مسالك الشهيد وكتابه آداب المعلّم والمتعلّم وموضعين من كلام المصنّف.

وما عن ابن أبي جمهور الإحسائي ـ بل في معقد إجماعه ـ نوع ظهور في منع الاستمرار على التقليد حيث قال : « لابدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله فوجب الرجوع إلى غيره » فإنّ بطلان العمل بقوله ظاهر في سبق تقليده كما لا يخفى.

وبعضها محتمل للإطلاق والسكوت عن الاستمرار لما اخذ فيه التقليد كما تقدّم عن

__________________

(١) كذا في الأصل.

٥٣١

ثاني الشهيدين في الرسالة المنسوبة إليه ، فلا بدّ من استعلام مذهبه في معنى التقليد ليحمل عليه معقد إجماعه.

وبعضها ساكت عن الاستمرار لما اخذ فيه الأخذ عن الميّت كما تقدّم عن المحقّق الثاني في شرح الألفيّة.

وكيف كان فالمعتمد والمختار هو عدم جواز البقاء على تقليد الميّت ووجوب العدول إلى الحيّ في المسائل المقلّد فيها وغيرها.

لنا أمران :

الأوّل : الأصل المتقدّم بجميع وجوهها الثلاث من أصالة حرمة التقليد إلاّ ما خرج منه بالدليل ، والقدر المتيقّن منه تقليد الحيّ ابتداء واستدامة.

وأصالة عدم جعل قول الميّت طريقا للمقلّد إلى امتثال أحكامه المعلومة بالإجمال ، ولا يعارضه استصحاب حجّية قوله الثابتة في حال الحياة ، لما عرفت من المناقشة فيه باعتبار بقاء موضوع المستصحب.

وأصالة الاشتغال المقتضية ليقين البراءة الّذي لا يتأتّى إلاّ بتقليد الحيّ والعدول عن الميّت إليه.

لا يقال : إنّ الأمر هاهنا يدور بين المحذورين : وجوب البقاء على تقليد الميّت وحرمته ، أو وجوب العدول إلى الحيّ وحرمته ، فلا يجري أصالة الاشتغال.

لأنّا نقول : إنّ ذلك وهم ينشأ من القول بوجوب البقاء وهو ممّا يقطع بفساده ، للقطع بفساد مدركه ، إذ عمدة أدلّة أهل القول بالبقاء على تقليد الميّت إنّما هو الاستصحاب ، وإطلاق أدلة مشروعيّة التقليد ، والعسر والحرج ولا قضاء لشيء منها ـ بعد تسليم نهوضها بجواز البقاء ـ بوجوبه ، أمّا قاعدة العسر والحرج فلأنّها إنّما تنفي التكليف الإلزامي بالعدول ولا تفيد إيجاب البقاء. وبعبارة اخرى : أنّها تنفي تعيين العدول لا أنّها تثبت تعيين البقاء.

وأمّا إطلاق أدلّة التقليد فلأنّه يفيد التخيير بين العدول والبقاء لا غير.

وأمّا الاستصحاب فلأنّ غاية ما ينساق من قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » وغيره من أخبار الاستصحاب إنّما هو حرمة رفع اليد عن الحالة السابقة لمجرّد الشكّ في ارتفاعها على وجه يكون التعويل في الرفع على مجرّد الشكّ ، وهذا لا ينافي جواز الرفع عنها تعويلا على الاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال ، كما في مستصحب الطهارة الّذي يجوز له

٥٣٢

العدول عن استصحاب الطهارة إلى العمل بالاحتياط المقتضي لتجديد الطهارة ، والمفروض في المقام الاستناد في العدول إلى الحيّ إلى قاعدة الاشتغال.

نعم هاهنا شيء آخر ربّما أمكن كونه مستند القول بوجوب البقاء وعدم جواز العدول وهو عموم حرمة العدول عن تقليد مجتهد إلى مجتهد آخر حيّا كان المعدول عنه أو ميّتا.

ولكن يدفعه : أنّ دليل هذا الأصل على ما تقدّم في محلّه مقصور على أمرين : قاعدة الاشتغال ، والإجماعات المنقولة ، والكلّ مخصوص بالعدول عن تقليد الحيّ.

أمّا الاولى : فلأنّ قاعدة الاشتغال على تقدير [ جريانه ] فيما نحن فيه تقضي بوجوب العدول.

وأمّا الثانية : فلأنّ الإجماعات المنقولة كفتاوى الأصحاب منصرفة إلى الحيّ ولا تتناول الميّت ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّ إجراء أصالة الاشتغال لإثبات المنع من الاستمرار على تقليد الميّت لا يخلو عن كلفة ، فالأولى في التمسّك بالأصل هنا الاقتصار على الأصل بالمعنيين الأوّلين.

الثاني : إطلاق الإجماعات المنقولة ـ حسبما بيّنّاه ـ مع اعتضاده بظهور بعضها في صورة الاستمرار كما عرفت ، وبالشهرة العظيمة المستفادة من إطلاق فتوى المعظم ولا سيّما السلف ، وحداثة القول بالفرق بينه وبين الابتداء من بعض متأخّري المتأخّرين ، وشذوذه من بدو حدوثه إلى أن شاع بين جماعة من معاصرينا لقصور تحصيلهم في الاصول.

وممّا يكشف عن كون المنع في فتوى المانعين ومعاقد الإجماعات مطلقا ما حكي عن السيّد الجزائري في منبع الحياة (١) من إلزام المانعين بأنّه يلزمهم أنّه لو قلّد مجتهدا فصلّى المغرب بتقليده فمات ذلك المجتهد بعد المغرب وقبل العشاء أن يتغيّر حكم الله تعالى وهو باطل ، فإنّه لو كان ثمّة قول بالتفصيل لم يتجّه إطلاق هذا الاستدلال.

ولا ريب أنّه مع الاعتضادات المذكورة ينهض ـ مضافا إلى الأصل ـ دليلا تامّا على المنع من البقاء على تقليد الميّت ووجوب العدول إلى الحيّ ، لإفادة الظنّ الاطمئناني الّذي عليه مدار حجّية الأدلّة الظنّية ، وعلى فرض عدم نهوضه دليلا أو قصوره دلالة يكفينا الأصل المتقدّم بعد ملاحظة انتفاء الدليل على البقاء وجوبا أو جوازا كما هو المفروض ، إذ ليس للمجوّزين ممّا استدلّ أو يمكن أن يستدلّ به إلاّ وجوه ضعيفة غير ناهضة لإثبات

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٥٣٣

الجواز فضلا عن الجواب.

منها : الاستصحاب الّذي يقرّر تارة في المسألة الاصوليّة ، بتقريب : أنّ المقلّد حال حياة مجتهده جاز له العمل بقوله ، أو إنّ ذلك المجتهد حال حياته جاز العمل بقوله لمن قلّده ، فيستصحب بقاؤه إلى ما بعد الموت.

واخرى : بالقياس إلى الحكم الفرعي في المسائل المقلّد فيها كحرمة العصير ونجاسة الغسالة ووجوب السورة في الصلاة مثلا ، فإنّ هذه الأحكام الثابتة على المقلّد حال حياة المجتهد الّذي قلّد فيها يستصحب بقاؤها فيما بعد الموت.

والأوّل يندفع بما مرّ مشروحا من القدح فيه باعتبار عدم معلوميّة بقاء موضوع المستصحب.

كما أنّ الثاني أيضا يندفع مشروحا من أنّ هذا الحكم المستصحب إمّا أن يؤخذ بلحاظ أنّه حكم واقعي ، أو بلحاظ أنّه حكم ظاهري تابع لظنّ المجتهد ، وأيّا ما كان فهو باطل ، إمّا لانتفاء اليقين السابق أو لانتفاء الشكّ اللاحق للقطع بارتفاعه بسبب زوال الظنّ بالموت ، ولا يعقل بقاء التابع مع زوال [ المتبوع ](١) فيما كان تابعا في حدوثه وبقائه كما فيما نحن فيه ، ولذا لو زال ظنّ المجتهد الحيّ ارتفع الحكم الظاهري التابع ولا يجوز له ولا لمقلّده البقاء على العمل به بعد زوال الظنّ وحصول التردّد.

وإن شئت قلت : إنّ الحكم الظاهري التابع لظنّ المجتهد إنّما جعل لما ظنّ حرمته أو وجوبه أو نجاسته من الوقائع ، فالظنّ جزء لموضوع ذلك وإن لم يكن له مدخليّة في الحكم الواقعي وهو الحكم المجعول للواقعة من حيث هي لئلاّ يلزم التصويب ، فزوال الظنّ بالموت يوجب ارتفاع الموضوع ومعه لا يعقل بقاء الحكم. هذا مضافا إلى ما عرفت سابقا من أنّ الحكم الفعلي نسبته واحدة من جهة واحدة بين المجتهد ومقلّده ، فلا يعقل بقاؤها في حقّ المقلّد مع فرض ارتفاعها في حقّ المجتهد ، فتأمّل.

ومنها : إطلاق أدلّة التقليد من الآيات والروايات ، ولقد عرفت ضعف ذلك سابقا وعدم نهوضه دليلا على جواز تقليد الميّت ابتداء واستدامة بما لا مزيد عليه ، ولا حاجة إلى الإعادة والتكرار.

ومنها : تنقيح المناط ، فإنّ مناط جواز العمل بقول الحيّ المعدول إليه إنّما هو الاجتهاد

__________________

(١) وفي الأصل « التابع » بدل « المتبوع » ، والصواب ما أثبتناه في المتن.

٥٣٤

وهو بعينه موجود في الميّت المعدول عنه ، فليكن العمل بقوله أيضا جائزا.

وفيه أوّلا : منع بقاء الاجتهاد بعد الممات لما عرفت من زوال ظنونه الاجتهاديّة بالموت بسبب فناء القوى الحيوانيّة والإنسانيّة بأجمعها ، واللازم منه فناء جميع ملكاته الّتي منها ملكة الاجتهاد ، ولذا يقال : إنّ اجتهاد المجتهد وحياته متلازمان وجودا وعدما فلا يمكن بقاء الاجتهاد مع زوال الحياة.

ولو سلّم بقاؤه بعد الممات يتطرّق المنع إلى دعوى كون الاجتهاد هو المناط بل هو الاجتهاد مع الحياة ولو احتمالا ، والمعتبر في تنقيح المناط القطع بإلغاء الفارق ، فمع قيام احتمال مدخليّة الحياة لا معنى لتنقيح المناط ، فيؤول التعدّي حينئذ من الأصل إلى الفرع إلى القياس الّذي لا نقول به.

ومنها : السيرة ، لجريان عادة السلف إلى الخلف على بقاء المقلّدين على تقليد المجتهدين بعد موتهم من دون نكير ، ولا عدول إلى تقليد المجتهد الحيّ وإلاّ لنقل إلينا ، لتوفّر الدواعي من كثرة ابتلاء الناس بموت المجتهدين.

وفيه : منع واضح ، لعدم تحقّق السيرة على البقاء سواء اريد بها طريقة أهل أعصار الأئمّة عليهم‌السلام أو طريقة السلف أو طريقة أهل أعصارنا هذه.

أمّا الأوّل : فلأنّا نعلم ضرورة أنّ أهل أعصار الأئمّة على فرق ، ففرقة كانوا يأخذون أحكامهم ومعالم دينهم من الأئمّة عليهم‌السلام من غير واسطة ، واخرى كانوا يأخذون بروايات الموثّقين من أصحابهم والأخبار المعلوم صدورها عنهم ، وثالثة كانوا يأخذون بفتاوى الصلحاء والموثّقين من الرواة والمحدّثين تعبّدا.

ولا ريب أنّ العدول والبقاء لا يعقل في حقّ الفرقة الاولى ولا الفرقة الثانية لعدم كون عملهم من باب التقليد كما هو واضح.

وأمّا الفرقة الأخيرة فحالهم من حيث العدول والبقاء بعد موت مفتيهم غير معلومة ، ومن أين علم أنّهم استمرّوا على تقليدهم بعد الموت وعلم به الإمام ولم يردعهم؟ مع أنّ تقليد هؤلاء أيضا ربّما يفارق تقليد عوامنا لعلمائهم ، فإنّهم كانوا يأخذون من الواسطة بمسموعات الواسطة من إمامه فلا يقاس عليه الأخذ ممّن يفتي بظنونه الاجتهاديّة من دون استناد إلى السماع من الإمام.

ولا ريب أنّ الأخذ ممّن سمع من الإمام كالأخذ ممّن سمع من المجتهدين من عدول

٥٣٥

زماننا ليس تقليدا له كما بيّنّاه مرارا.

وأمّا الثاني : فلأنّ حال المقلّدين من الأعصار السابقة أيضا غير معلومة ، بل قضيّة فتوى السلف بالمنع من تقليد الموتى على الإطلاق كون طريقة عوامهم ومقلّديهم هو العدول عن تقليد من مات منهم إلى الحيّ كما هو واضح.

وأمّا الثالث : فلأنّا نجد المقلّدين من عوام أهل أعصارنا مختلفين في البقاء والعدول عن موت مجتهديهم على حسب اختلاف المجتهدين في إيجاب العدول وتجويز البقاء أو إيجابه ، بل كلّ من يبقى على تقليده بعد موت مجتهده فإنّما يبقى بتقليد مجتهد حيّ يجوز البقاء أو يوجبه ، فمن أين حصلت السيرة على وجه يصلح للاعتماد عليها؟ كيف ولا بدّ أن تكون كاشفة عن الرضاء أو التقرير ولا تكون كاشفة إلاّ إذا كان بناء الناس في كافّة الأعصار والأمصار على الالتزام بالبقاء أو على نفس البقاء. ومن أين علم ذلك؟ بل ولم يعلم به في طائفة ، ولو علم به في طائفة أيضا لا يجدي نفعا في الكشف ، لاحتمال استناد عدم العدول في هذه الطائفة إلى قلّة مبالاتهم في الدين ، أو إلى جهلهم بحكم المسألة ، أو إلى فتوى مجتهد جوّز البقاء ، أو إلى اعتقاد الموافقة بين الحيّ والميّت في الرأي والفتوى ، أو إلى عدم العلم بالمخالفة ، أو غير ذلك من الاحتمالات المانعة من الكشف ، فتوهّم السيرة هنا والاستناد إليها خطأ واضح وغلط ظاهر.

ومنها : أنّه لو وجب العدول من التقليد بعد موت المجتهد للزم العسر الشديد والحرج العظيم غالبا ، وهو منفيّ في الشريعة ، تمسّك به السيّد في المفاتيح.

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، لوضوح منع الملازمة ، فإنّا لا نعقل في العدول عسرا ولا كلفة أصلا فضلا عن كونه شديدا أو عظيما ، بل الّذي ندركه بالوجدان أنّ العدول عن تقليد مجتهد إلى مجتهد آخر بعد درك المسائل وفهمها واستيناسها أسهل وأيسر بمراتب شتّى من ابتداء التقليد ، ويحصل في زمان قليل كيوم ويومين أو أقلّ أو أكثر من دون كلفة ، بخلاف ابتداء التقليد الّذي لا يزال متضمّنا للكلفة والمشقّة ولا يحصل غالبا في زمان قليل ، ولم يقل أحد بتأديته إلى العسر والحرج المنفيّين في الشريعة ، وكما أنّه لا يؤدّي إليهما فكذلك العدول عن الميّت إلى الحيّ لا يؤدّي إليهما ، بل هو أولى بعدم التأدية إليهما لما نبّهنا عليه.

ولأنّ العدول لا يجب إلاّ في موضع المخالفة ولا تتّفق المخالفة إلاّ في أقلّ قليل من

٥٣٦

المسائل ، والعدول في هذا القليل من المسائل لا يستتبع عسرا ولا محذورا آخر.

وتوضيح المقام : أنّ المقلّد بعد موت مجتهده له مأخوذات وغير مأخوذات يجب الرجوع فيها إلى الحيّ باتّفاق منّا ومن الخصم ، ومحلّ العدول المتنازع [ فيه ] هو المأخوذات الّتي أخذها من المجتهد في حال حياته ، وكيفيّة العدول بالقياس إليها أن يلاحظ فتاوى المجتهد الحيّ ويراجعها بالرجوع إلى كتابه ورسالته مثلا ، فما كان من مأخوذاته موافقا لفتوى الحيّ يبقى فيه على حسب ما أخذه ، وما كان منها مخالفا له يعدل عنه إليه.

ولا ريب أنّ كلّ ذلك يتمّ في زمان قليل ، والمفروض أنّ المخالفة لا تتّفق إلاّ في أقلّ قليل من المسائل ، وأيّ عسر في ذلك ليكون مناطا في نفي وجوب العدول؟

وقد يقال : إنّ العسر والحرج إنّما يلزم على تقدير تكرّر العدول كرّات كثيرة على حسب توالي موت المجتهدين على سبيل التعاقب ، إذ من الممكن أن يموت مجتهد ثمّ يموت مجتهد آخر بعده باسبوع أو شهر أو سنة أو نحو ذلك ، ثمّ يموت مجتهد ثالث كذلك وهكذا إلى ما شاء الله ، فلو وجب العدول في كلّ هذه المراتب عن تقليد الميّت إلى الحيّ لزم ما ذكر.

وهذا هو الفارق بينه وبين الشروع في التقليد وابتدائه ، وأنت خبير بما فيه من التمحّل المبنيّ على عدم التعمّق في القواعد ومظانّها ومقتضياتها ، فإنّ نفي التكليف الإلزامي العسري يدور مدار العسر المحقّق ولا يكفي فيه فرض العسر واحتماله ، لأنّ الفرض لا يحقّق المفروض ، والاحتمال لا يلازم تحقّق المحتمل في الواقع ، فيؤول القول المذكور إلى دعوى أنّ المقلّد عند موت أوّل مجتهد مات لا يجب عليه العدول إلى حيّ آخر لأنّه بملاحظة الإمكان العقلي يحتمل أن يموت ذلك المجتهد الحيّ أيضا بعد يوم أو اسبوع أو شهر وإذا عدل عنه أيضا إلى مجتهد ثالث يحتمل في حقّه الموت أيضا وهكذا إلى ما شاء الله ، فيلزم بتكرّر العدولات المتوالية العسر والحرج ، مع أنّه لا عسر في العدول الأوّل ولا في غيره بحسب نفسه وفي حدّ ذاته ، وهذا ممّا يضحك به الثكلى.

ولو سلّم تأديته إليه في بعض الفروض النادرة يجب الاقتصار في نفي وجوبه على مورده ، وهذا لا يوجب نفي وجوب العدول اللازم لجواز البقاء على الوجه الكلّي المطّرد في جميع الموارد حتّى ما لا عسر فيه أصلا كما هو الغالب.

وبالجملة لا فرق في المنع من تقليد الميّت بين الابتداء والاستدامة ، بل المنع المدّعى

٥٣٧

عليه الإجماع كان بين قدماء أصحابنا المتعرّضين للمسألة مطلقا ، والتفصيل بينهما لم يكن موجودا ثمّة فيكون مصادما للإجماع.

وقد يدفع أيضا على وجه يبطل معه الاستصحاب بأنّ : الابتداء والاستدامة في التقليد مجرّد اصطلاح لا يوجب فرقا في الحكم ولا اختلافا في الموضوع ، إذ التقليد في صورة الاستدامة مرجعه إلى التقليد الابتدائي ، وذلك لأنّ المسألة كوجوب غسل الجمعة مثلا في كلّ آن من آنات الابتلاء بها واقعة مستقلّة يجب فيها التقليد ، وحصول التقليد فيها في الآن السابق لا يسقط التقليد اللازم فيها في الآن الثاني ، فيكون العمل فيها في كلّ آن من آنات الابتلاء بها فعلا ابتداء تقليد ، ومعه لا معنى للاستصحاب المتمسّك به لجواز تقليد الميّت في صورة الاستدامة.

وبهذا التوجيه يظهر أنّ سائر شروط المفتي من حيث إفتائه المعتبرة في جواز تقليده والأخذ والعمل بفتواه معتبرة في كلّ من الابتداء والاستدامة ، فإنّ المسألة إذا كانت في كلّ آن من آنات الابتلاء واقعة مستقلّة يجب تقليد المجتهد الجامع للشرائط فيها من الاجتهاد والإسلام والإيمان والعقل والعدالة والحياة ، فلابدّ وأن تكون الشروط محرزة عند كلّ واقعة لكون العمل عندها ابتداء تقليد.

بل ومع الغضّ عن هذا التوجيه أيضا لابدّ من اعتبار وجود الشروط في الابتداء والاستدامة معا لكونها معتبرة في الأخذ والعمل معا ، كما صرّح به المحقّق الثاني في حاشية الشرائع قائلا : « ومتى عرض الفقيه العدل فسق العياذ بالله أو جنون أو طعن في السنّ كثيرا بحيث اختلّ فهمه امتنع تقليده لوجود المانع ، ولو كان قد قلّده مقلّد قبل ذلك بطل حكم تقليده ، لأنّ العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ. وقد خرج عن الأهليّة لذلك ، فكان تقليده باطلا بالنسبة إلى مستقبل الزمان » انتهى.

فما استظهره بعض الفضلاء ـ من جواز التقليد بقاء في الجنون الإطباقي ومطلقا في الأدواري مع استشكاله البقاء في صورة اختلال الفهم ـ غير سديد ، وإن كان البقاء في الأدواري غير بعيد.

وثانيهما : في بيان عدّة فروع ينبغي معرفتها.

الأوّل : أنّ البحث في مسألة العدول عن تقليد الميّت والبقاء عليه جوازا أو وجوبا إنّما هو من وظيفة المجتهد الناظر في المسألة لاستعلام ما هو واقع الأمر فيها ، وأمّا العامي

٥٣٨

المقلّد فلا مناص له من الرجوع فيها وكذلك في أصل تقليد الميّت ابتداء إلى المجتهد الحيّ ويأخذ حكم المسألة منه تقليدا ، وليس له البناء على شيء من العدول أو البقاء من غير تقليد ، لأنّ المسألة ليست من الواضحات لئلاّ يجب فيها النظر ولا التقليد اعتمادا على وضوحها ، ولا أنّها من النظريّات الّتي يتيسّر النظر فيها ممّن ليس [ له ] قوّة النظر فيستعلم حكمها بنظره ويبني على ما رجّحه.

وحينئذ فلو قلّد مجتهدا قائلا بالبقاء وجوبا أو جوازا ثمّ مات ذلك المجتهد فليس له أن يبقى على تقليده اعتمادا على أنّ مجتهده كان بانيا عليه وقد قلّده فيه ، لكون ذلك أيضا تقليدا للميّت في تلك المسألة ، فلابدّ وأن يكون فيها مجتهدا أو مقلّدا لحيّ قائل بالبقاء ، والمفروض عدم اجتهاده فتعيّن رجوعه إلى الحيّ.

لا يقال : إنّ هذا المقلّد ـ بناء على كون التقليد هو مجرّد الأخذ ـ قد قلّد المجتهد الحيّ في حياته في مسألة البقاء ، وحيث إنّ أخذ المسألة إنّما يجب لوجوب العمل وإنّما يجب العمل في موضع الابتلاء به وزمان

الابتلاء في تلك المسألة إنّما هو بعد موت المجتهد ، وحينئذ فلو بقي على تقليده لذلك المجتهد في الفروع اعتمادا على تقليده له في تلك المسألة لم يكن تقليدا للميّت في تلك المسألة.

لأنّ حياة المجتهد ـ بناء على المختار من كونها شرطا في التقليد ابتداء واستدامة ـ معتبرة فيه أخذا وعملا ، سواء جعلناه عبارة عن العمل أو عن الأخذ للعمل ، فليتدبّر.

الثاني : أنّه لو قلّد مجتهدا ثمّ مات ذلك المجتهد فرجع إلى مجتهد آخر قائل بوجوب العدول فعدل إليه لتقليده في الفروع تقليدا له في المسألة الاصوليّة ثمّ مات ذلك المجتهد أيضا فرجع إلى ثالث ، فإن كان موافقا للثاني في القول بوجوب العدول فلا إشكال ، وإن كان مخالفا له بحكمه بوجوب البقاء أو جوازه فهل ينصرف حكمه بالبقاء إلى بقائه على تقليد المجتهد الأوّل أو إلى بقائه على تقليد المجتهد الثاني الّذي عدل من الأوّل إليه ، وجهان أقربهما الثاني ، لأنّ تقليده للمجتهد الأوّل قد بطل بفرض العدول عنه بتقليد الثاني فلا حكم له بعد ذلك.

والمراد من البقاء على تقليد الميّت هو البقاء على التقليد الّذي كان متلبّسا به عند موت مجتهده في ذلك التقليد وليس إلاّ تقليده للمجتهد الثاني.

ومن مشايخنا من استقرب الأوّل تعليلا : « بتأدية بقائه على تقليد الثاني إلى التناقض ،

٥٣٩

نظرا إلى أنّ من جملة فتاويه الّتي يجب البقاء على التقليد فيها بحكم فتوى الحيّ فتواه بوجوب العدول في المسألة الاصوليّة ، وهذا يقتضي وجوب العدول في المسائل الفرعيّة إلى الحيّ ، وحكم الحيّ بالبقاء يقتضي وجوب البقاء فيها ، بل لو كان بناء هذا الحيّ على جواز البقاء يلزم من البقاء على تقليد الثاني عدم جواز البقاء ، فيلزم من جواز البقاء عدم جوازه وهو أيضا باطل.

مضافا إلى أنّ قضيّة أدلّة وجوب البقاء فساد العدول الّذي حكم به المجتهد الثاني ، وقضيّة فساده وجوب رجوعه إلى المجتهد الأوّل.

غاية الأمر أنّ أعماله الواقعة بتقليد الثاني حال حياته محكومة بالصحّة ، وأمّا بعد موته فلا مقتضي لصحّتها بل المقتضي لفسادها حينئذ موجود ».

وفيه من المغالطة ما لا يخفى ، فإنّ حكم الحيّ بوجوب البقاء على تقليد الميّت لا يتناول محلّ التنافي ، بل لا ينصرف إلاّ إلى البقاء في المسائل الفرعيّة ، والمفروض أنّ البقاء فيها أو العدول عنها محلّ حاجة المقلّد بعد موت مجتهده الّذي قلّده لا غير.

وأمّا فساد العدول الّذي يقتضيه أدلّة وجوب البقاء في نظر القائل بالوجوب فهو فساد ظاهري ، وهو لا ينافي الصحّة الواقعيّة ، واحتمال كون العدول حقّا في الواقع مع احتمال كون البقاء حقّا كذلك سيّان في نظر المقلّد.

غاية الأمر أنّ حكمه الظاهري بعد رجوعه إلى الحيّ القائل بالبقاء هو البقاء وهو لا يلازم فساد عدوله السابق عن تقليد المجتهد الأوّل في الواقع ، كيف والحكم بصحّة الأعمال الواقعة بتقليد المجتهد الثاني بعد عدوله عن المجتهد الأوّل يستلزم الحكم بصحّة العدول المذكور ظاهرا.

الثالث : لو قلّد مجتهدا حال حياته وأخذ منه مسائل وعمل بها أيضا ومسائل اخر لم يعمل بها حتّى مات ذلك المجتهد فرجع إلى حيّ قائل بوجوب البقاء ، فهل يبقى في معمولاته خاصّة ، أو في مأخوذاته مطلقا وإن لم يعمل بها؟ وجهان مبنيّان على مذهب المجتهد في معنى التقليد أهو العمل أو الأخذ للعمل؟

فعلى الأوّل يبقى في المعمولات فقط ويعدل إلى الحيّ في المأخوذات.

وعلى الثاني يبقى في المأخوذات أيضا.

هذا كلّه على تقدير عدم تقليده الميّت حال حياته في معنى التقليد أو تقليده له مع

٥٤٠