تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

والمبادئ والتهذيب والنهاية والمنية والألفيّة لأوّل الشهيدين ، ورسالة عدم جواز تقليد الميّت لثانيهما ، والتمهيد والمقاصد العليّة له أيضا ، والجعفريّة لثاني المحقّقين ، والإحكام والمختصر وشرحه للعضدي ، وفي نسبة هذا القول إلى المنية نظر لأنّه نسب اختياره إلى المصنّف من غير تعرّض لترجيحه ، إلاّ أن يستظهر اختياره له من عدم تعرّضه لردّ ما نقله من حجّة المصنّف لكونه آية ارتضائه بموجبها ومصيره إلى مؤدّاها.

وكيف كان ففي المفاتيح : « أنّ الأكثر على أنّه يتعيّن عليه الاجتهاد ولا يجوز له التقليد ».

وعن النهاية : « أنّه مذهب أكثر الأشاعرة ».

وعن الإحكام : « مذهب القاضي وأكثر الفقهاء إلى منع تقليد العالم سواء كان أعلم منه أو لم يكن ».

وثانيهما : أنّه يجوز له التقليد وهو لجماعة من العامّة كما في المفاتيح قائلا : « وهو محكيّ عن أحمد والشافعي وأبي حنيفة ومحمّد بن الحسن الشيباني وسفيان الثوري وأبي عليّ الجبّائي وإسحاق بن راهويه وغيرهم من المخالفين ».

ثمّ عن هؤلاء أنّهم اختلفوا على أقوال :

منها : أنّه يجوز مطلقا.

ومنها : أنّه يجوز له تقليد الأعلم مطلقا ولو كان غير صحابي دون المساوي والأدون.

ومنها : أنّه يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابي دون غيره.

ومنها : أنّه يجوز له تقليد غيره إن كان صحابيّا ، فإن كان أحد الصحابة أرجح في نظره من غيره قلّده وإن استووا تخيّر في تقليد أيّهم شاء.

ومنها : أنّه يجوز له التقليد فيما يخصّه دون ما يفتى به.

ومنها : أنّه يجوز فيما يخصّه إذا خاف فوات الغرض من حكم تلك الواقعة لو اشتغل بالاجتهاد ، حكاه في المنية عن ابن شريح.

ومنها : أنّه يجوز له التقليد إذا كان يقلّد صحابيّا أو تابعيّا.

فالأقوال في المسألة ثمانية غير أنّه لم ينقل القول بالجواز بشيء من وجوهه عن أصحابنا الإماميّة ومن هنا أمكنك دعوى اتّفاقهم على المنع ، وقبل الخوض في الترجيح والتعرّض لحجج الأقوال ينبغي التعرّض لبيان امور :

الأمر الأوّل : أنّ محلّ الخلاف ما إذا لم يطرأه ضرورة إلى التقليد ـ وحينئذ لا ينبغي

١٢١

التأمّل في جوازه بل تعيّنه ـ ولم يكن هناك مانع شرعي كما نصّ عليه في المفاتيح بل ولا مانع عقلي من الاجتهاد ، ومرجعه إلى اعتبار كونه قادرا بالفعل على الاجتهاد بوجود شرائطه العقليّة والعاديّة وفقد موانعه العقليّة والشرعيّة والعاديّة ، وإذا انتفى بعض الشرائط أو وجد بعض الموانع فهل يتعيّن عليه العمل بالاحتياط أو يجوز له التقليد أيضا؟ وجهان : من قاعدة الشغل ، ومن ظاهر الأكثر كما قيل وستعرف تحقيقه في آخر المسألة إن شاء الله.

الأمر الثاني : أنّ التقليد المبحوث عنه في حقّ العالم البالغ رتبة الاجتهاد هو التقليد المشروع للعامّي وهو الأخذ بفتوى الفقيه على وجه يكون فتواه منشأ للحكم ومدركا له ، وضابطه دخول تلك الفتوى في كبرى دليل المقلّد الّذي يعبّر عنه : « بأنّ كلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي ».

وبذلك اندفع ما أشكل الأمر على بعض الفضلاء. فأورد على منع التقليد في حقّ المجتهد الّذي يندرج فيه موضوع البحث أيضا بموارد نقض كعملهم بالإجماع المنقول وبالشهرة عند من يراها حجّة ، وبقاعدة التسامح في أدلّة السنن في مورد فتوى الفقية ولو واحدا ، بتقريب : أنّ الأوّل أخذ بفتوى المجمعين الّتي نقلها ناقل الإجماع ، والثاني أخذ بفتوى الأكثر ، والثالث أخذ بفتوى الفقيه الواحد ، حيث قال :

« ويشكل بما ذهب إليه كثير من حجّية الإجماع المنقول من حيث نقل المنكشف ، وما ذهب إليه قوم من حجّية الشهرة ، وما ذهب إليه بعض من الاكتفاء في إثبات السنن بالفتوى وإن اتّحد المفتي من حيث النصّ لا من حيث الاحتياط ، فإنّ ذلك كلّه بحسب الظاهر تقليد ، إذ لا نعني به إلاّ الأخذ بفتوى الغير من غير حجّة ، قطعيّة كانت الفتوى أو ظنّية ، اتّحد المفتي أو تعدّد ، وإن كان الأخذ لحجّة وهي الأدلّة الدالّة على جواز التمسّك بالمذكورات » انتهى.

وظنّي أنّه لو أخذ مورد النقض مكان المذكورات عمل السلف بفتاوى عليّ بن بابويه واعتمادهم عليها لكان أوضح في الإشكال وأنسب بالنقض ، وكيف كان فالإشكال المذكور ليس في محلّه والنقض وارد على خلاف التحقيق ، إذ ليس في شيء من المذكورات تقليد بالمعنى المتقدّم الّذي فسّره بالأخذ بفتوى الغير من غير حجّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأخذ بالإجماع المنقول إن كان من باب أنّه نبأ عدل لعموم أدلّة حجّية نبأ العدل الشامل له أيضا فالعمل به عمل بقول الإمام ، فهو منشأ الحكم ومدركه لا فتوى المجمعين.

١٢٢

غاية الأمر أنّ قول الإمام قد يدرك بطريق الحسّ كما في الخبر المصطلح وقد يدرك بطريق الحدس كما في نقل الإجماع ، فإنّ ناقل الإجماع إنّما ينقل ما أدركه من قول الإمام حدسا من ملاحظة الإجماع ، وإن كان

من باب كشفه قطعا أو ظنّا عن قول الحجّة. فالعمل به عمل بالمنكشف أيضا وهو قول الحجّة لا بالكاشف ، وهذا هو معنى حجّيّته من حيث المنكشف لا غير.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأخذ بالشهرة إن كان على ما نراه في العمل بها في بعض الأحيان من كونها كاشفة على وجه الاطمئنان عن وجود دليل معتبر للأكثر بحيث لو ظفرنا به لم نتعدّه ولم نخرج عن موجبه فالعمل بها في الحقيقة عمل بذلك الدليل لا بها من حيث إنّها فتوى الأكثر ، على أنّه لا يشترط في العمل بالدليل المعتبر كونه معلوما بالتفصيل بل يكفي كونه معلوما بالإجمال كما نقول بنظيره في العمل بالإجماع المحصّل حيثما نعمل به ، فإنّه باعتبار كشفه القطعي عن دليل معتبر لو ظفرنا به لم نتعدّه ولم نخالفه ، وإن كان على أنّها تورث الظنّ بالحكم فالعمل بها من باب حجّية مطلق ظنّ المجتهد ـ لقيام القاطع بحجّيته ـ عمل بذلك الظنّ لا بها من حيث إنّها فتوى الأكثر.

غاية الأمر أنّها أحد أسباب الظنّ الّذي هو مناط العمل.

وأمّا الثالث : فلأنّ قاعدة التسامح على رأي من يخصّها بالخبر الضعيف ولا يعمّها بالنسبة إلى فتوى الفقيه لا تصلح موردا للنقض.

وأمّا على رأي من يعمّها بالقياس إلى الفتوى أيضا لعموم البلوغ المصرّح به في الروايات المستفيضة فالعمل بها ليس أخذا بالفتوى على وجه تكون الفتوى منشأ للحكم ومدركه ليكون تقليدا ، بل منشأ الاستحباب أو الكراهة في مورد التسامح إنّما هو عمومات « من بلغه ثواب على عمل ».

غاية الأمر أنّ لهذه العمومات موضوع لا يحرزه إلاّ الخبر الضعيف أو فتوى الفقيه ، فالفتوى إنّما يؤخذ بها إحرازا لموضوع دليل الاستحباب أو الكراهة لا دليلا عليهما ومدركا لهما ليكون تقليدا.

نعم يشكل الحال على رأي من يجعل أخبار من بلغ مؤكّدة للاستحباب المستفاد من الخبر الضعيف ، لكنّ الأمر فيه هيّن إذ لم يظهر من أصحاب هذا الرأي تعميم القاعدة بالقياس إلى فتوى الفقيه.

١٢٣

وبملاحظة ما قرّرناه يتبيّن الوجه في اعتماد السلف على فتاوى عليّ بن بابويه ، فإنّه من جهة ما اشتهر فيما بينهم من أنّ دابه أنّه لا يفتي إلاّ بمتون الأخبار فالاعتماد على فتاويه اعتماد على الأخبار لا غير ، وليس ذلك أيضا من التقليد في شيء.

الأمر الثالث : أنّ مبنى الخلاف في المسألة على أنّ جواز التقليد هل هو مشروط بعدم التمكّن من الاجتهاد فمن تمكّن منه لا يجوز له التقليد ، أو بعدم فعليّة الاجتهاد فمن تمكّن منه يجوز له التقليد ، ومرجعه إلى اشتراط حرمة التقليد بالتمكّن من الاجتهاد أو بفعليّته ، فالاشتراط ثابت بالاتّفاق والخلاف إنّما هو في تعيين الشرط المعلّق عليه.

وحينئذ فما في حجج القول بعدم الجواز من أنّ التقليد بدل للاجتهاد جوّز ضرورة لمن لا يمكنه الاجتهاد ولا يجوز الأخذ بالبدل مع التمكّن من المبدل كالوضوء والتيمّم ليس على ما ينبغي ، لكونه مصادرة فإنّ الدليل الشرعي في التيمّم قائم بأنّه بدل اضطراري للوضوء وجوازه مشروط بعدم التمكّن منه ، والتقليد أيضا بدل ولكن كونه اضطراريّا على وجه يكون شرط جوازه عدم التمكّن من الاجتهاد لا عدم فعليّته عين المتنازع فيه ، فدعوى كونه بدلا له جوّز ضرورة لمن لا يمكنه الاجتهاد أوّل المسألة.

الأمر الرابع : ظاهر كلماتهم عنوانا ودليلا بل صريح بعضها كون النزاع في جواز التقليد ـ بالمعنى الموجود في ضمن الوجوب ـ على وجه التخيير بينه وبين الاجتهاد ووجوب الاجتهاد عينا المستلزم لحرمة التقليد عينا ، وأمّا وجوب التقليد عينا المستلزم لحرمة الاجتهاد كذلك فالظاهر أنّه لا قائل به.

فالتحقيق في عنوان المسألة حينئذ أن يقال : إنّهم بعد ما اتّفقوا على أنّ العالم المتمكّن من الاجتهاد يجب عليه امتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال ، وهو موقوف على تحصيل المعرفة بتفاصيل الأحكام ، فتكون المعرفة واجبة من باب المقدّمة ولها بحسب الشرع طريقان.

أحدهما : أخذها بطريق التقليد.

والآخر : أخذها بطريق الاجتهاد.

اختلفوا في أنّه في تحصيل المعرفة الّتي هي مقدّمة هل يتخيّر بين الطريقين أو يتعيّن عليه أحد الطريقين وهو الاجتهاد لا غير؟ وعليه فما في حجج القول بعدم الجواز من أنّ جواز التقليد حكم شرعيّ فلابدّ له من دليل والأصل عدمه ـ كما اعتمد عليه جماعة من

١٢٤

العامّة كالحاجبي والعضدي وغيرهما ـ غير سديد ، إذ قد عرفت أنّ الأمر بالنسبة إلى التقليد دائر بين وجوبه تخييرا وتحريمه تعيينا وكما أنّ الأوّل حكم شرعي فلا بدّ له من دليل.

والأصل عدمه فكذلك الثاني حكم شرعيّ فلابدّ له من دليل والأصل عدمه ، فالأصل على فرض صحّته معارض بمثله وإعمال الأوّل دون الثاني تحكّم.

وأمّا ما في شرح المختصر للعضدي من دفعه المعارضة بقوله : « لا يقال : هذا معارض بعدم الجواز ، لأنّ الانتفاء نفي يكفي فيه عدم دليل الثبوت. وقد يقال : إنّ التحريم الشرعي ينفي الجواز الثابت بالأصل ».

فمع أنّه يعارضه ما يقال : من أنّ الجواز بمعنى الاباحة يكفي في ثبوته عدم دليل المنع. فيه : أنّ هذا إنّما يسلّم فيما لو دار الأمر بين ثبوت حكم وجودي وانتفائه لا فيما إذا دار الأمر بين حكمين وجوديّين كما فيما نحن فيه ، بل قد يمكن أن يقال : إنّ الأصل في مفروض المقام يقتضي الجواز ، لأنّ عدمه يستلزم ترتّب الذمّ والعقوبة على الفعل وهو ممّا لابدّ له من دليل والأصل عدمه.

بل قد يقال : ـ على ما أشرنا إليه في المسألة السابقة ـ إنّ الأصل فيما دار الأمر بين الجواز التخييري والجواز التعييني هو الأوّل.

وأمّا ما حكاه من القول بأنّ التحريم الشرعي ينفي الجواز الثابت بالأصل فالمراد به غير واضح ، إلاّ أن يوجّه بأحد الوجهين :

الأوّل : ما أشرنا إليه في المسألة السابقة في أدلّة تحريم التقليد ثمّة من تحكيم قاعدة الاشتغال في اقتضاء التعيين على أصل البراءة المقتضي للتخيير عند دوران الأمر بينهما ، قيقال : إنّ جواز التقليد تخييرا أنّما يثبت بحكم الأصل وقاعدة الشغل المقتضية لتعيين الاجتهاد تقتضي تحريمه وهي واردة على أصل البراءة دافعة لموضوعه ، فتكون بالقياس إليه بمثابة الأدلّة الشرعيّة فمقتضاها وهو التحريم ينفي مقتضى الأصل وهو الجواز التخييري.

لكن يبقى الإشكال في أنّ هذه القاعدة لا تقتضي التحريم الشرعي ، بل غاية ما تقتضيه إنّما هو عدم الاجتزاء بالتقليد ونحوه في مقام الامتثال ، إلاّ أن يراد بالتحريم الشرعي ما يلزم من جهة التشريع ولعلّه مراد كلّ من أطلق التحريم هنا غير أنّه بعيد.

والثاني : أنّ جواز التقليد ـ لو سلّمناه ـ إنّما يثبت بمقتضى الأصل الأوّلي وهو أصالة البراءة عن التحريم الجارية في كلّما لم يرد نصّ على تحريمه.

١٢٥

ولكن هذا الأصل بالنسبة إلى العمل بما وراء العلم الّذي منه التقليد قد انقلب إلى أصل ثانوي وهو الحرمة المستفادة من عمومات المنع عن العمل بما وراء العلم كتابا وسنّة ، وظاهر أنّ مقتضى هذا الأصل هو الحرمة في كلّ تقليد عدا ما أخرجه الدليل الناهض مخصّصا لتلك العمومات ، وعليه فالمحتاج إلى الدليل حينئذ إنّما هو الجواز لا الحرمة ، والقدر المسلّم ممّا خرج بالدليل بهذا المعنى إنّما هو تقليد العامّي الصرف والعالم الغير البالغ رتبة الاجتهاد للإجماع والضرورة ، وأمّا ما عداهما كتقليد العالم البالغ رتبة الاجتهاد فلا إجماع ولا ضرورة قضت بخروجه فيبقى تحت الأصل ، ومقتضاه التحريم الشرعي وهو ينفي الجواز الثابت بالأصل الأوّلي لورود الأصل الثانوي عليه ، وعليه فيكون المراد بأصل العدم في الدليل المتقدّم أعني قولهم : « الجواز حكم شرعيّ فلا بدّ له من دليل ، والأصل عدمه » أصالة عدم ما ينهض مخصّصا للعمومات المحرّمة للتقليد المؤسّسة للأصل الثانوي ، فالمراد من الدليل هو الدليل المخرج عن تلك العمومات ، وهذا هو السرّ في افتقار الجواز إلى الدليل.

وأمّا التحريم فيكفي فيه العمومات ولا يحتاج إلى دليل آخر.

وبذلك يندفع المعارضة الّتي قرّرناها في منع الأصل المتمسّك به في نفي التقليد.

وليس لأحد أن يعارضه : بأنّ التعويل على الاجتهاد باتّباع مؤدّياته أيضا عمل بما وراء العلم ، إذ المفروض أنّها في الغالب ظنّية ولم يقم دليل علمي على التعويل عليها ليكون تعويلا على العلم الحاصل من هذا الدليل ، إذ الدليل العلمي هنا إمّا الإجماع ولا إجماع لمكان الخلاف ، أو الضرورة بمعنى الاضطرار وهي مبنيّة على نفي التقليد بالإجماع وفرض الخلاف هنا ينفي الإجماع أيضا فيندرج في الأصل المستفاد من العمومات المانعة عن العمل بما وراء العلم ، وهذا الأصل أعمّ موردا من الأصل المستفاد من عمومات نفي التقليد كما لا يخفى.

ولا مخرج عنه هنا ، فالأصل عدم ما يصلح لتخصيصها.

لما نبّهنا عليه من أنّ جواز الاجتهاد في الجملة إجماعيّ والخلاف إنّما هو في كون هذا الجواز هل هو على جهة التعيين أو على جهة التخيير؟ وتعيين التقليد على وجه يستلزم منع الاجتهاد ممّا لا قائل به.

فالمفروض مخرج عن الأصل المذكور بالإجماع ، بخلاف التقليد المتنازع فيه الّذي لا إجماع على خروجه عن الأصل.

١٢٦

نعم قد يشكل الحال في هذا الأصل من جهة أنّ الاجتهاد والتمكّن منه قد يسبقه التقليد بل هو الغالب ، بل ما لم يسبقه التقليد مجرّد فرض وتجويز عقلي وإلاّ فالواقع باعتبار الخارج هو المسبوق بالتقليد ، فيكون محلّ البحث ممّن خرج عن الأصل قبل ما بلغ رتبة الاجتهاد ، وإجراء حكم الأصل فيه لبلوغه رتبة الاجتهاد يقتضي عوده إلى الأصل الّذي فرض خروجه عنه ، وهذا ممّا لا دليل عليه.

والحاصل : أنّ المفروض ممّا أخرجه الدليل عن الأصل قبل بلوغه تلك الحالة ، فما الّذي يوجب عوده إليه بعد بلوغه إيّاها؟ بل الأصل يقتضي عدم العود.

ومن هنا تمسّك جماعة من المجوّزين للتقليد له باستحباب جوازه الثابت له قبل بلوغه لتلك الحالة.

لكن يدفعه : أنّ الأحكام تتبع موضوعاتها الكلّية الملحوظة في القضيّة عنوانا للحكم لا المصاديق الشخصيّة المندرجة تحت تلك الكلّيّات ، فالشخص المفروض من حيث هو شخص لم يؤخذ عنوانا لحكم التقليد لا من حيث الجواز ولا من حيث خلافه ، بل جريان الجواز في حقّه إنّما هو من جهة اندراجه في عنوان الغير المتمكّن من الاجتهاد ، كما أنّ جريان عدم الجواز في حقّه من جهة اندراجه في عنوان المتمكّن من الاجتهاد ، وهذان عنوانان كلّيان أوّلهما مخرج عن الأصل بدليل أنّ مناط الحكم بجواز التقليد هو قضاء الضرورة به وحصول الاضطرار إليه من جهة تعذّر الاجتهاد فيكون ثانيهما باقيا تحته ، والمكلّف إذا طرأه حالتان يندرج لإحداهما في العنوان الأوّل ولاخراهما في العنوان التالي لزم أن يتوارد عليه الحكمان الجواز وعدمه على سبيل التعاقب لمجرّد اندراجه تارة في العنوان الأوّل واخرى في العنوان الثاني ، فعدم جواز التقليد له بعد بلوغه رتبة الاجتهاد ليس من باب العود إلى الأصل بعد خروجه عنه ليحتاج إلى الدليل ، وبذلك يتبيّن لك وجه دفع الاستصحاب المشار إليه الّذي تمسّك به جماعة للجواز.

وملخّصه : أنّ الاستصحاب مع تبدّل الموضوع ممّا لا معنى له ، وإجراء حكم عنوان في عنوان آخر مغاير له في الحكم غير معقول.

وبهذا البيان يظهر أنّ شرط جواز التقليد عدم التمكّن من الاجتهاد ، فيكون شرط حرمته هو التمكّن منه ، ووجهه ـ على ما بيّنّاه ـ : أنّ مقتضى العمومات المحرّمة للتقليد حرمته إلاّ ما خرج عنه بالدليل ، والقدر المتيقّن ممّا خرج منه ما يتأتّى من غير المتمكّن من الاجتهاد.

١٢٧

وأمّا هو من المتمكّن من الاجتهاد فلا دليل على خروجه فيكون باقيا تحت العموم لأصالة عدم التخصيص.

فبجميع ما ذكر يعلم أنّ المعتمد في المسألة هو القول بتعيّن الاجتهاد وعدم جواز التقليد له مطلقا ، ودليله القاعدة المتقدّم ذكرها مع الأصل الّذي مرجعه إلى أصالة العموم وأصالة عدم التخصيص.

مضافا إلى ما علم أيضا من أنّ جواز الاكتفاء بالاجتهاد إجماعيّ والاكتفاء بالتقليد خلافيّ ، فقضيّة الإجماع في الأوّل العلم بكون مؤدّيات الاجتهاد أحكاما فعليّة يجب التديّن بها والأخذ بها في امتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال.

وقضيّة الخلاف في الثاني الشكّ في كون مؤدّيات التقليد أحكاما فعليّة وعدمه.

ومن القبيح في حكم العقل الإقامة على الشكّ والتديّن بالمشكوك مكان الإقامة على العلم والتديّن بالمعلوم ، وقد ورد في النصوص ما يقضي بذلك أيضا كما تقدّم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة » وقوله عليه‌السلام : « ومن عمى نسى الذكر واتّبع الظنّ وبارز خالقه » ولعلّه إلى هذا المعنى يرجع ما عن الشيخ في العدّة من الاحتجاج على القول المختار بقوله : « إنّما قلنا ذلك لأنّ قول المفتي غاية ما يوجبه غلبة الظنّ ، وإذا كان له طريق إلى حصول العلم فلا يجوز له أن يعمل على غلبة الظنّ على حال » وفي معناه ما عن المعارج من الاستدلال : « بأنّ تحصيل العلم في حقّه ممكن ».

وقد تقدّم نظيره في المسألة السابقة ، وعليه فلا وجه لما في مفاتيح السيّد من المناقشة في هذا الدليل بقوله : « وفيه نظر لأنّه إن اريد أنّ العقل يمنع من العمل بغير العلم في صورة التمكّن من العلم فهو ممنوع ، كيف وقد جوّز الشارع العمل بغير العلم مع التمكّن من العلم في مقامات كثيرة :

منها : ما إذا شكّ في ملكيّة ما في يد المسلم ، فإنّه جوّز العمل بظاهر اليد ولم يوجب البحث والاجتهاد مع التمكّن منهما.

ومنها : ما إذا شكّ في نجاسة الثوب والبدن ، فإنّه جوّز البناء على الطهارة ولم يوجب البحث والاجتهاد مع التمكّن منهما.

ومنها : ما إذا شكّ في صدق المدّعي ، فإنّه اكتفي منه بالشاهد ولم يوجب البحث

١٢٨

والاجتهاد مع التمكّن منهما.

ومنها : ما إذا شكّ العامّي القريب من الاجتهاد في الحكم الشرعي فإنّه جوّز له التقليد ولم يوجب له الاجتهاد مع التمكّن منه.

ومنها : غير ذلك.

وبالجملة : تجويز العمل بغير العلم مع التمكّن من تحصيل العلم أمر لا يحكم العقل بامتناعه ، فإنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح ولذا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص ، ولا امتناع في تحقّق مصلحة وإن لم نعلمها تفصيلا.

لا يقال : إنّ العقل إنّما يحكم بذلك حيث لم يرد من الشرع ما يقتضي خلافه كما في محلّ البحث.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ محلّ البحث من هذا القبيل ، فإنّ القائل بجواز التقليد يدّعي قيام الدليل الشرعي على جواز التقليد هنا ، على أنّ الدليل المذكور على هذا التقرير يرجع إلى الدليل الأوّل ، ويكون حاصله : أنّ الأصل عدم جواز التقليد هنا ، فتأمّل.

وإن اريد أنّ الإجماع واقع على ذلك وإن لم يحكم العقل به ، ففيه : أنّ الإجماع ممنوع في محلّ البحث ، ومع ذلك فدعوى التمكّن من العلم بالحكم الشرعي الواقعي هنا على الإطلاق ممنوعة ، إذ قد يعلم بعدم التمكّن منه.

وإن اريد من ذلك العلم بوجوب العمل وبالحكم الظاهري فالمجوّزون للتقليد هنا يدّعونه فلا فرق.

وبالجملة : إن كان المقصود أنّه إذا لم يقم دليل على جواز التقليد هنا فالأصل وجوب الاجتهاد فهو مسلّم ولا خلاف فيه ، ولكن لا يكون ذلك حجّة على المخالف له عند قيام الدليل ، وإن كان المقصود أنّه لا يجوز ذلك ويكون ممّا يستحيل فرض صدوره من الشرع فهو باطل » انتهى.

وهذا كما ترى ليس في محلّه لابتنائه على الخلط والالتباس في حقيقة المراد ، فإنّ العقل يستقبح من المكلّف أن يكتفي في مقام امتثال الأحكام المعلومة بما يشكّ في كونه حكما فعليّا في حقّه بعد ما كان عالما بحكمه الفعلي أو متمكّنا عن العلم به ، وهذا ليس من تجويز الشرع في بعض المقامات من الاكتفاء بغير المعلوم في شيء ، فإنّ ذلك جائز من الشارع لمصلحة لاحظها لكن ثبوته في كلّ مقام يتبع الدليل الخاصّ بهذا المقام كما في

١٢٩

الأمثلة المذكورة ، وهذا في كلّ مقام ثبت بالدليل يقضي بكون ما لم يعلم به باعتبار الواقع حكما فعليّا اعتبره الشارع.

والّذي يعلم بالاجتهاد من هذا الباب بخلاف ما يؤخذ بالتقليد ، لأنّ المفروض عدم قيام دليل من الشرع على أنّه أيضا ما اعتبره الشارع حكما فعليّا ، وكون القائل بجواز التقليد يدّعي قيام الدليل عليه لا يجدي نفعا لمن لا يجد دليلا عليه بعد ما تبيّن في نظره فساد ما اعتمد عليه هذا القائل من الوجوه الّتي كلّها بمرئى منه ومسمع ، هذا.

ويمكن أن يستدلّ أيضا على المطلب بدليل الانسداد ؛ على دعوى أنّه بنفسه يقتضي تعيّن الاجتهاد في حقّ محلّ البحث ، بأن يقال : إنّه قد ذكرنا سابقا أنّ الأصل العقلي المعتضد بالنقل في كلّ اشتغال يقيني اعتبار الامتثال العلمي التفصيلي ، ومع تعذّره اعتبار الامتثال العلمي الإجمالي ، ومع تعذّره أو سقوط اعتباره بدليل شرعي يقوم مقامه الامتثال الاجتهادي أو التقليدي على التخيير أو على التعيين. حسبما يساعد عليه الدليل.

فالأمر في حقّ المقلّد بالمعنى الأعمّ من العامّي الصرف والعالم الغير البالغ رتبة الاجتهاد وفي حقّ المجتهد بالمعنى الأعمّ ـ ممّن اجتهد فعلا ومن بلغ رتبة الاجتهاد ولم يجتهد فعلا ـ دائر بين الامتثال العلمي التفصيلي والامتثال العلمي الإجمالي والامتثال الاجتهادي الّذي لو قام عليه دليل كان قائما مقام الامتثال العلمي والامتثال التقليدي أيضا ، لكنّ الأوّل ساقط في حقّ الجميع بفرض انسداد باب العلم التفصيلي بالمعلومات بالإجمال في الغالب ، وكذلك الثاني بدليل نفي اعتباره من الإجماع والأدلّة النافية للعسر والحرج المخلّين بنظم المعاش البالغين حدّ التعذّر في الغالب ، وكذلك الثالث في حقّ المقلّد بالمعنى الأعمّ بنفس ما دلّ على نفي اعتبار الأوّل من قبح التكليف بغير المقدور ، وكذلك الرابع في حقّ المجتهد بالمعنى الأخصّ ـ أعني من اجتهد فعلا ـ بما تقدّم من الأدلّة على منع التقليد في حقّه ، فبقي أمر المجتهد بالمعنى الآخر وهو المتمكّن من الاجتهاد دائر بين الأمرين من الاجتهاد والتقليد على جهة التخيير كما يدّعيه القائل بجواز التقليد ، أو على جهة تعيين الاجتهاد كما هو المختار ، ولا إجماع على نفي التقليد في حقّه فيبقى حكم المسألة موكولا إلى العقل ، وحكمه بأحد الأمرين من التخيير والتعيين مبنيّ على مساواتهما في نظره بحسب المرتبة وعدم مساواتهما ، بأن يكون لأحدهما مزيّة على الآخر بحيث تصلح لأن تكون في نظره مرجّحة شرعيّة.

١٣٠

لكن نقول : إنّ المزيّة هنا موجودة وهي في جانب الامتثال الاجتهادي فيكون متعيّنا بحكم العقل.

وبيانه : أنّ العقل بعد تعذّر الامتثال العلمي التفصيلي لا يقضي بتعيّن شيء من الاجتهاد وغيره أوّلا وبالذات ، وإنّما يقضي بتعيّن ما هو أقرب إلى الامتثال العلمي التفصيلي ممّا لا يفضي إلى المحذور الّذي كان أفضى إليه الامتثال العلمي التفصيلي ولا غيره على وجه لم يتخلّل بينهما واسطة ، بأن يكون في القرب إليه مع اعتبار عدم إفضائه إلى المحذور بحيث لو تعدّينا إلى مرتبة فوقه وقلنا باعتبار تلك المرتبة كانت مفضية إلى المحذور ، سواء كانت هي نفس العلم التفصيلي أو ما دونه ، وذلك لأنّ المسقط لاعتبار العلم التفصيلي هو هذا المحذور فلابدّ وأن يتعيّن ممّا دونه ، ما ينتفي عنه المحذور ، ولا يجوز في حكم العقل التنزّل إلى ما تحته وهو ليس كما فوقه مفضيا إلى المحذور ، فالحكم نفيا وإثباتا دائر مدار المحذور وجودا وعدما.

ومن هنا كان المتعيّن في حكم العقل بعد تعذّر العلم التفصيلي الأخذ بمقتضى العلم الإجمالي ، وحيث كان اعتبار ذلك أيضا منفيّا بحكمه أو بحكم الشرع يتنزّل العقل إلى مرتبة تحتهما لا يستلزم محذوريهما بلا توسّط مرتبة اخرى بينها وبينهما إلاّ مرتبة استلزمت محذوريهما أو محذورا ثالثا ، ولأجل هذه القاعدة ترجّح عندنا في العمل بالظنون الاجتهاديّة لزوم الأخذ بما هو أقرب إلى العلم المعبّر عنه بالظنّ المتاخم بالعلم.

وإن شئت عبّر عنه بالظنّ الاطمئناني ، وهو الّذي يوجب الوثوق وسكون النفس إن لم يستلزم مراعاة تحصيله محذور العسر والحرج أو تعطيل الأحكام المخرج عن الدين.

وإذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ الأقرب إلى الامتثال العلمي بكلا قسميه إنّما هو الامتثال الاجتهادي الّذي يتأتّى بسبب الأخذ بمؤدّيات الاجتهاد من غير استلزامه محذوريهما ولا محذورا ثالثا على ما هو مفروض المقام ، وذلك لما يحتمل في الامتثال التقليدي الّذي يتأتّى بسبب الأخذ بفتاوى مجتهد آخر من المبعّدات عن الواقع ما لا يحتمل فيه ، وذلك لأنّ فتاوى نفسه مع فتاوى هذا المجتهد وإن كانا يتشاركان في احتمال الخطأ في أصل الاجتهاد غير أنّ فتاوى المفتي تفارق فتاوى نفسه في احتمال الخطأ والسهو والنسيان والكذب في مقام الإفتاء الصادر من هذا المفتي كما شاهدنا طروّ أكثر هذه الامور لكثير ممّن عاصرناهم من المفتين كثّر الله أمثالهم.

١٣١

ولا ريب أنّه لا يجري شيء من هذه الاحتمالات في حقّ نفسه.

هذا مضافا إلى ما يحتمل في حقّ غيره في بعض الأحيان من عدم أهليّته للفتوى في نفس الأمر إمّا بفقدانه الملكة أو العدالة أو غير ذلك من شروط الاجتهاد والامور المعتبرة في المفتي بخلاف نفسه بحسب اعتقاده.

ومن الواضح البديهي أنّ ذلك مرجّح عقليّ ، على معنى أنّ العقل بعد التنزّل عن المرتبتين المتعذّرتين لا يحكم إلاّ بتعيّن ما لا يجري فيه هذه الاحتمالات أو ما كان أقلّ احتمالا ، وليس ذلك إلاّ الامتثال الاجتهادي.

وقد ورد في النصوص أيضا ما يقضي باعتبار الترجيح من هذه الجهة كما في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله عليه‌السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » بناء على أنّ المراد بالريب المنفيّ عن المجمع عليه هو الريب الإضافي لا سنخ الريب ، على معنى أنّه لا يجري في المجمع عليه من الريب ما هو جار في الشاذّ النادر وإن شارك هو معه في جريان ريب آخر غير هذا الريب على ما هو الحقّ الّذي يأتي تقريره إن شاء الله في محلّه.

وممّا يؤيّد هذا الوجه القاضي بتعيّن الاجتهاد أيضا أنّ الرجوع إلى فتاوى الغير وأخذها أحكاما فعليّة يتديّن بها مع التمكّن من تحصيلها استقلالا بطريق الاجتهاد يشبه بكونه من باب مسألة الناس ممّا في أيديهم من الأموال مع التمكّن من تحصيل مثله أو ما هو أحسن وأتمّ منه فائدة ، وهذه خصلة ربّما يعدّ من التزم بها في نظر العقلاء من السفهاء من حيث إنّها تنشأ من دنائة الطبع وخسّة الرأي وقصور الهمّة ، ولذا تراهم لا يتحمّلونها من غير ضرورة دعت إليها.

وإلى ما ذكرناه من اعتبار الترجيح ينظر ما احتجّ به العلاّمة في التهذيب على القول المختار بقوله : « والأقرب المنع ، لأنّه متمكّن من تحصيل الظنّ بطريق أقوى فيتعيّن عليه ، ووجه القوّة جواز تطرّق الكذب على المفتي » انتهى.

لكن ينبغي أن يحمل الكذب في كلامه على ما يعمّ الخطأ والسهو والنسيان وغيره.

وقرّر السيّد الشارح هذا الوجه بوجه أوضح فقال : « إنّه متمكّن من تحصيل الحكم بطريق أقوى وهو الاجتهاد ، فتعيّن عليه فعله.

أمّا الأوّل : فلأنّه مقدور ، إذ التقدير أنّه مجتهد قادر على الاجتهاد ، وإنّما قلنا إنّ الظنّ

١٣٢

الحاصل من الاجتهاد أقوى من الظنّ الحاصل من تقليد غيره من المجتهدين فلأنّ الظنّ الحاصل من تقليد المجتهد المغاير له متوقّف على صدق ذلك المجتهد في أنّ ما أخبر به هو الّذي أدّى إليه اجتهاده وهو ظنّي ، بخلاف الظنّ الحاصل من اجتهاد نفسه.

وأمّا الثاني : فلأنّ العمل بأقوى الظنّين المستندين إلى طريقين مشروعين واجب إجماعا » انتهى.

نعم إنّما يغاير لما فصّلناه من حيث اعتبار التقليد من حيث الظنّ وهو خلاف التحقيق ، ومن حيث جعل مستند ترجيح الأقوى هو الإجماع دون العقل ، فالمطلب واحد بنوع من التأويل كما عرفت.

وأمّا ما في مفاتيح السيّد من الاعتراض عليه ـ تارة : بأنّه قد يحصل الظنّ الأقوى بالحكم الشرعي من فتوى الغير ، بل قد لا يحصل له الظنّ به بمجرّد نظره واجتهاده.

واخرى : بأنّ العمل بأقوى الظنّين إنّما يجب بعد تحقّقهما ، ولذا يجب على المجتهد بعد اجتهاده العمل بظنّه وترك التقليد ، وليس هذا من محلّ البحث لأنّ الظنّ الأقوى لم يكن حاصلا.

نعم يقدر على تحصيله ولا نسلّم وجوب تحصيل الظنّ الأقوى مع وجود الأضعف ، كيف وقد جوّز الشارع في مقامات كثيرة العمل بغير العلم وترك تحصيله مع التمكّن منه ـ فليس في محلّه ، وهذا من مفاسد قلّة التأمّل في تحقيق المسائل النظريّة.

ثمّ إنّهم ذكروا على القول المختار أدلّة اخر كلّها واضح الضعف.

منها : ما أشرنا إليه وإلى ضعفه من كون التقليد بدل الاجتهاد جوّز ضرورة إلخ.

ومنها : أنّه مأمور بالاجتهاد والاعتبار ولم يأت به فيكون عاصيا مأثوما.

ومنها : أنّه يتمكّن من الوصول بفكره إلى حكم المسألة فيحرم عليه التقليد كما في مسائل الاصول ، والجامع وجوب الاحتراز عن الخطأ المحتمل عند القدرة على الاحتراز.

ومنها : أنّه لو كان قد اجتهد وأدّى اجتهاده إلى حكم من الأحكام لم يجز له تقليد غيره وترك ما أدّى إليه اجتهاده ، فكذا لا يجوز له تقليده قبل الاجتهاد لإمكان أن يؤدّيه اجتهاده إلى خلاف رأي من قلّده.

ومنها : أنّه لو جاز لغير الصحابي تقليد الصحابي مع تمكّنه من الاجتهاد لجاز لبعض من المجتهدين أنّ يقلّد البعض ، ولو جاز لما كان لمناظراتهم فيما وقع بينهم من المسائل الخلافيّة معنى.

١٣٣

ويظهر ضعف هذه الوجوه بالتأمّل بل بعضها واضح الضعف بحيث لا يحتاج إلى التأمّل.

حجّة القول بجواز التقليد وجوه :

أحدها : قوله عزّ من قائل : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(١) وهو قبل الاجتهاد لا يعلم والآخر يعلم ومن أهل الذكر ، فوجب عليه السؤال للعمل به وهو المطلوب.

والجواب عن ذلك ـ بعد الإغماض عن أنّ الخطاب في الآية مع أهل الكتاب فالمراد بأهل الذكر علماؤهم كما يظهر من سياقها ومن شأن نزولها ، ثمّ بعد التسليم والإغماض عن أنّ المراد بأهل الذكر خصوص أئمّتنا لا مطلق أهل العلم كما ورد في الأخبار المستفيضة المفسّرة للآية ، وتسليم أنّ المراد بأهل الذكر مطلق أهل العلم المتناول للمجتهدين أيضا ـ من وجوه :

الأوّل : ظهور الآية منطوقا ومفهوما في العلم وعدم العلم بالأحكام الواقعيّة فتكون مختصّة بالمتمكّنين من العلم بالأحكام الواقعيّة بواسطة سؤال أهل العلم كأهل أزمنة الحضور ، ويؤيّده كونها من قبيل خطاب المشافهة المختصّ بالمشافهين.

الثاني : بعد تسليم ظهورها في العلم بالأحكام الفعليّة ـ ظاهريّة كانت أو واقعيّة ـ يمنع كون العالم المتمكّن من الاجتهاد قبله غير عالم ، فإنّه لبلوغه رتبة الاجتهاد يعلم بمقتضى أدلّته القطعيّة أنّ مؤدّيات اجتهاده الّتي هو متمكّن من العلم بتفاصيلها بالاجتهاد أحكام فعليّة في حقّه ، فهو عالم بالأحكام الفعليّة.

غاية الأمر أنّه علم إجمالي لعدم علمه بتفاصيل الأحكام ، ودعوى ظهور العلم في التفصيلي غير مسموعة كما قرّر في محلّه ، فمحلّ البحث مندرج في مفهوم الآية.

ولو سلّم عدم ظهور اندراجه فيه لدعوى عدم انصراف إطلاق العلم إلى الإجمالي ، فلا يسلّم اندراجه في المنطوق أيضا لظهور « لا تعلمون » في الجهل الساذج الّذي لم يجامع العلم الإجمالي كما لا يخفى ، فهو كما لا يندرج في المفهوم كذلك لا يندرج في المنطوق فيبقى خارجا عن مورد الآية بالمرّة.

والثالث : أنّ الحكم في الآية وإن كان بمقتضى مفردات الكلام معلّقا على عدم فعليّة العلم ، لكن الظاهر المنساق منها بمقتضى الهيئة التركيبيّة كونه معلّقا على عدم التمكّن من العلم من غير جهة السؤال.

__________________

(١) النمل : ٤٣.

١٣٤

وممّا يرشد إليه ما عليه الإجماع في آية التيمّم المعلّقة على عدم وجدان الماء من حملها على عدم التمكّن منه ، كما يستفاد ذلك من الأخبار الواردة في باب التيمّم أيضا ، وليس ذلك كلّه إلاّ من جهة ظهور الهيئة التركيبيّة عند العرف في التعليق على عدم القدرة والتمكّن.

وإن شئت فقل : بظهورها عرفا في انتفاء فعليّة العلم في حقّ من لا يتمكّن منه من غير جهة السؤال ، على معنى انحصار الطريق بالنسبة إليه في هذا السؤال من الغير.

ويؤيّد هذا الظهور أنّه لو كانت الآية مع من يتمكّن من العلم من غير جهة السؤال أيضا أو لما يعمّه لقضى بأنّ له طريقين إلى العلم ، وإرجاعه إلى طريق السؤال ليس بأولى من إرجاعه إلى الطريق الآخر ، بل الأولى إرجاعه إلى هذا الطريق لأنّه أدخل في إفادة الوثوق والاطمئنان وحصول الجزم بالمطلب ، لما في طريق السؤال من الاحتمالات المانعة من هذه الامور أو المحتاجة في رفعها إلى توسيط مقدّمات كثيرة وإحراز مطالب اخر ـ الّذي لا يكون في الغالب إلاّ بمراجعة اصول غير صالحة لإفادة العلم ـ ما هو في الكثرة بحيث لا يخفى ، كاحتمال الكذب والتورية والتقيّة والخطأ والسهو والنسيان ونحو ذلك ، فإنّ هذه الاحتمالات المبعّدة عن الواقع قائمة في جواب المسؤول وليس شيء منها قائما في الطريق الآخر.

والمفروض أنّ المطلوب بالآية تحصيل العلم بالمطلب فمقتضى الحكمة إرجاع الجاهل إلى أسرع الطريقين وأعمّهما في إفاده العلم.

إلاّ أن يدفع ذلك : بأنّه إنّما يتمّ إذا كان الغرض من الأمر بالسؤال استحصال العلم وهو في حيّز المنع ، لجواز كون الغرض مجرّد العمل تعبّدا من غير نظر إلى الواقع ، كما هو الحال في موارد التقليد وفي سائر الأمارات الشرعيّة التعبّديّة المجعولة لمجرّد احتمال مطابقتها الواقع.

لكن نقول : مع التمكّن من العلم على نحو الاستقلال فالحمل على مسألة الغير حمل له على أهون الطريقين وأخسّهما وأردأهما ، وهذا ممّا لا يكاد يتحمّله العقلاء كما يظهر وجهه بملاحظة ما سبق في ذيل الوجه الأخير من أدلّة المختار.

والرابع : أنّ الأمر الوارد في الآية ظاهر في التعيين وهو في محلّ البحث منفيّ بالإجماع كما أشرنا إليه في صدر المسألة ، وحمله على وجوب التخيير كما هو المقصود يحتاج إلى شاهد مفقود في المقام ، فوجب حمله على غير المتمكّن الّذي مرجعه إلى ترجيح التقييد في مسألة دوران الأمر بينه وبين حمل الأمر على التخيير.

١٣٥

أمّا على القول بكون الأمر مجازا في التخيير فوجهه واضح.

وأمّا على القول الآخر أو على المختار فلكون التخيير أرجح باعتبار كون الأمر أظهر في التعيين من المطلق في الإطلاق ، وعليه مبنى حمل المطلق على المقيّد في نحو « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » كما حقّق في محلّه مع قيام احتمال التخيير في الأمر بالمقيّد ، وإلى ذلك ينظر ما قيل في دفع الاستدلال بها من أنّ المتبادر من إطلاق الأمر الوجوب العيني ، فيجب حمل الأمر في الآية عليه حملا للّفظ إمّا على الموضوع له أو على الفرد المتبادر ، وهذا الوجوب منفيّ بالنسبة إلى المفروض بالإجماع فيكون متوجّها إلى العامي فيبطل التمسّك بها.

وأمّا ما قيل في دفعه : من أنّا لا نسلّم أنّ الأمر موضوع للوجوب العيني ، بل هو موضوع للأعمّ من العيني.

ففيه ـ مع أنّ الوضع للأعمّ لا ينافي تبادر العيني من جهة الانصراف إلى أظهر الفردين وأشيعهما وهذا كاف في سقوط الاستدلال بها جزما ـ : أنّ التحقيق على ما قرّرناه في محلّه أنّ التعيين والتخيير بحسب الحقيقة ليسا فردين ممّا وضع له الأمر مادّة أو صيغة ، ولا أنّ التخيير في موارده تصرّف في مفهوم نفس الأمر ، كيف وليس مفهوم « الأمر » بحسب الوضع إلاّ الطلب الحتمي الّذي لابدّ له من متعلّق غير أنّه قد يتعلّق بشيء واحد بعينه ، وقد يتعلّق بشيئين على جهة البدليّة المسقطة لجهة التعيين عن كليهما ، فالتعيين والتخيير اعتباران في متعلّق الأمر لا نفسه فيكون التخيير في مواضعه تصرّفا في المأمور به.

وحقيقة هذا التصرّف ترجع إلى اعتبار التقييد في كلّ من الشيئين أو الأشياء الواقع بينها التخيير ، على معنى كون كلّ في المطلوبيّة الحتميّة مقيّدا بحالة عدم حصول صاحبه ، وظاهر أنّ التقييد كائنا ما كان لابدّ له من شاهد وهو في المقام مفقود ، ومجرّد تعذّر الحمل على التعيين من جهة الإجماع لا ينهض شاهدا بتعيين هذا التقييد ، لمعارضة ما ذكرناه من التقييد مع كونه أولى وأرجح بملاحظة ما بيّنّاه ، وعليه فالآية ليست مع محلّ البحث أصلا فسقط الاستدلال بها رأسا.

وثانيها : قوله عزّ من قائل : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(١) لنفوذ أمرهم على الامراء والولاة.

__________________

(١) النساء : ٥٩.

١٣٦

وعن الإحكام : « أنّ المراد باولي الأمر العلماء ، أمر غير العالم بإطاعة العالم ، وأدنى درجاته جواز اتّباعه فيما هو مذهبه ».

والجواب عنه ـ بعد الإغماض عمّا تقدّم من ظهور الأمر في التعيين وهو منفيّ في المقام بالإجماع ولا شاهد للحمل بخلافه ـ من وجوه :

الأوّل : أنّ الاستدلال بتلك الآية ونظائرها ممّا ذكر فيه اولوا الأمر لا يلائم مذهبي الفريقين العامّة والخاصّة ، لكون اولي الأمر عند الأوّلين سلاطينهم وعند الآخرين أئمّتهم المعصومين ، وانتقال الأمر بعدهم في كلّ عصر إلى علماء شيعتهم على جهة النيابة العامّة لا يقضي بدخولهم في الخطاب خصوصا مع ملاحظة اختصاصه بالمشافهين ، وما عرفت من الإحكام من كون المراد باولي الأمر العلماء غير واضح الوجه ، مع ما هم عليه في اولي الأمر.

والثاني : أنّ أوامر الإطاعة كنواهي المعصية إرشاديّة يراد بها الهداية المعرّاة عن الطلب ، فهذا لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها سوى ما يترتّب على الأوامر الخاصّة ، فلا يستفاد منها الوجوب المطلوب في المقام فضلا عن كونه تخييريّا.

والثالث : أنّ الأمر في الآية وارد بصيغة واحدة متعلّق بإطاعة الرسول واولي الأمر ، ومعلوم أنّ الإطاعة باعتبار إضافتها إلى الله أو الرسول تعتبر عينا ولا بدل لها بهذا الاعتبار ليعتبر بينهما التخيير كما لا يخفى.

وقضيّة ذلك كونها باعتبار إضافتها إلى اولي الأمر أيضا كذلك ، فيكون مفاد الآية حينئذ وجوب التعيين وهو خلاف المطلوب.

والرابع : أنّ إطاعة الله ورسوله واولي الأمر عبارة عن الانقياد والامتثال لهم في كلّ ما يأمرون به وينهون عنه ، والأمر بها ـ لو سلّم كونه أمرا حقيقيّا مرادا به الطلب الحقيقي ـ إنّما يرد مؤكّدا للأوامر والنواهي الخاصّة المتعلّقة بالوقائع المخصوصة حسبما يساعد عليه النظر.

وقضيّة ذلك موضوعيّة الأوامر والنواهي الخاصّة لهذا الأمر ، ومن البيّن أنّ تعلّق الأمر بالمكلّف وتوجّهه إليه يتبع تحقّق موضوعه بالقياس إلى المكلّف على معنى كون الموضوع محرزا في حقّه ، ضرورة استحالة توجّه الأمر التابع لموضوع مع انتفاء هذا الموضوع.

والمفروض أنّه لم يتوجّه من الله ورسوله إلى العالم البالغ رتبة الاجتهاد أمر باتّباع مجتهد غيره ليندرج ذلك الأمر في أوامر الإطاعة ويكون من جملة موضوعاتها.

١٣٧

وكذلك لم يصدر من اولي الأمر ـ لو اريد بهم العلماء ـ أمر باتّباعهم إليه ، لما عرفت من أنّه لم يوجد فيما بين العلماء من أصحابنا قول محقّق بجواز التقليد له ، ولو كان فيهم قول محقّق به أو عمّم « اولو الأمر » بحيث يشمل العلماء من العامّة لم يكن مجديا لكون المسألة خلافيّة وأكثرهم يحرّمون التقليد بالنسبة إليه ، فإطاعة المجوّزين يعارضها إطاعة المحرّمين وأقصى مراتبه على فرض التكافؤ وفقد المرجّح التساقط ، فيبقى وجوب الاجتهاد سليما عن المعارض ، ويندرج بهذا الاعتبار في أوامر الإطاعة. فالآية حينئذ تنهض دليلا على المختار.

بل لنا أن نقول : إنّ الترجيح في جانب القول بالتحريم ، إذ الأمر ـ على ما سبق بيانه ـ دائر بين الحرمة عينا والوجوب تخييرا ، والأخذ بمقتضى الحرمة لا ينافي العمل بمقتضى الوجوب تخييرا ، لأنّ المأخوذ حينئذ أحد فردي الواجب التخييري ، بخلاف الأخذ بمقتضى الوجوب تخييرا فإنّه ينافي العمل بمقتضى الحرمة كما لا يخفى. ومن البيّن تعيّن الأخذ من المتعارضين بما لا ينافي العمل به العمل بالآخر.

ولو قرّر الأمر بإطاعة اولي الأمر بالنسبة إلى فتاوى المجتهد الآخر في كلّ واقعة بأن يقال : إنّها إمّا أمر أو نهي فتندرج من هذه الجهة في موضوع أوامر الإطاعة.

فيتوجّه إليه منع كون الإفتاء من باب الأمر والنهي وإنّما هو إخبار عن مؤدّى الاجتهاد والمذهب ، والأمر والنهي هو المخبر به المأخوذ في قضيّة هذا الإخبار ، وهما بالقياس إلى من يتوجّهان فعلا راجعان إلى أوامر الله ورسوله ونواهيهما ولا مدخل للمجتهد المفتي فيهما.

والمفروض أنّه لم يتبيّن بالدليل توجّههما إلى محلّ البحث على وجه يكونان حكمين فعليّين بالنسبة إليه ، كما أنّهما حكمان فعليّان بالنسبة إلى العامي المقلّد لهذا المفتي ، لأنّ أصل الشبهة في تلك القضيّة لا غير ، فمع الشكّ في اندراجها بالنسبة إليه في موضوع أوامر الإطاعة كيف يستدلّ بتلك الأوامر على وجوب اتّباعه المجتهد الآخر.

وبالجملة : فسقوط الاستدلال بتلك الآية ونظائرها في غاية الوضوح.

وثالثها : قوله عزّ من قائل : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ )(١) الآية أوجب الحذر عند إنذار الفقيه مطلقا فيتناول العالم كالعامي.

والجواب عن ذلك :

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

١٣٨

أوّلا : بما تقدّم في أجوبة الآيتين الاوليين من أنّه لو تمّ لقضى بوجوب الحذر تعيينا وهو منفيّ بالإجماع ، وثبوت التخيير للمنذر بالإضافة إلى المنذرين لو تعدّدوا لا مدخل له بالتخيير الّذي هو محلّ البحث كما لا يخفى ، فإنّ هذا التخيير بالقياس إلى اجتهاد نفس المنذر وهو العالم المتمكّن تعيين ، لمنافاته قيام ما ليس من جنس الإنذار الحاصل من الغير مقامه.

وثانيا : أنّ الآية عند التحقيق ينهض دليلا على وجوب الاجتهاد في حقّ محلّ البحث لا على جواز التقليد له ، وذلك لأنّ التفقّه المأمور به ليس إلاّ عبارة عن الاجتهاد ، والأمر المتعلّق به إمّا أن يكون متوجّها إلى المتمكّنين من الاجتهاد أو إلى من يعمّهم والغير المتمكّنين ، والثاني باطل لاستحالة التكليف بما لا يتمكّن منه. والراجح في النظر القاصر أنّ هذا هو الوجه في تخصيص الأمر من كلّ فرقة بطائفة منهم ، نظرا إلى أنّ المتمكّن منهم من الاجتهاد طائفة منهم لا جميعهم ، فعلى هذا يكون الآية من الخطابات العينيّة لا الكفائيّة على خلاف ما فهمه القوم حيث يستدلّون بها على وجوب الاجتهاد كفاية بدليل تخصيص الطائفة بالذكر ، مع أنّ مذهبهم في الخطاب الكفائي أنّه يتناول الجميع ويسقط بفعل البعض فيضطرّون في تصحيح الاستدلال بها ـ مع ظهورها في أمر الطائفة عينا ـ إلى تأويلها بأنّ تخصيص الطائفة بالذكر من جهة أنّها البعض الّذي يسقط بفعله الفرض عن الآخرين لا من جهة اختصاص الأمر بهم ، وغفلوا عن أنّ هذا التأويل لا ينهض إصلاحا للأمر المتعلّق بالطائفة على طريق العينيّة ، ومن هنا ترى أنّ من خصّ فرض الكفاية بالبعض الغير المعيّن أخذ الآية دليلا على مطلوبه.

وما استظهرناه في معنى الآية لا يستلزم إشكالا ولا افتقارا إلى التكلّف في دفعه بما لا يدفعه أصلا ، فإذا كان المتمكّنون من الاجتهاد يجب عليهم الاجتهاد عينا يدخل فيهم محلّ البحث وهو المطلوب ، بل الوجوب عليهم عينا عين المطلوب.

ولا ينافي ذلك للقضيّة المجمع عليها من أنّ الاجتهاد من فروض الكفاية يتعلّق بجميع المكلّفين ويسقط بفعل البعض ، لأنّ هذا الاجتهاد لابدّ وأن يراد منه غير ما هو المراد منه في محلّ البحث وهو تحمّل المشقّة في النظر في الأدلّة لاستنباط ما يستنبط منها من الأحكام ، ضرورة أنّه لا يتمكّن منه إلاّ بعد حصول مقدّمات وجوده من استحصال العلوم المعهودة المأخوذة من مباديه والملكة وقوّة ردّ الفرع إلى الأصل فلا يكون ذلك ممّا يتمكّن منه

١٣٩

جميع المكلّفين لانتفاء مقدّماته عن الجميع ، فلا يعقل كون الخطاب به متوجّها إلى الجميع على نحو التخيير بل الّذي يصلح لأنّ يتوجّه الخطاب به إلى الجميع إنّما هو الاجتهاد بمعنى تحمّل المشقّة في تحصيل تلك المقدّمات مع ما في كون ذلك مقدورا لكلّ واحد من الآحاد من الإشكال ما لا يخفى ، بل القدرة على هذا المعنى أيضا منتفية عن أكثرهم.

نعم القدرة على تحمّل مؤونة القادر عليه عامّة لكن لا للجميع أيضا.

وبالجملة : الخطاب الكفائي في جميع مراتبه وفروضه كالخطاب العيني لا بدّ وأن يخصّ بالمتمكّنين من متعلّقه ، والّذي يسلّم كون الخطاب به كفائيّا من معنى الاجتهاد هو المعنى الثاني ، فإذا قام من يقدر عليه ويقوم به الكفاية وأقدم عليه إلى أن يفرغ من استحصال المقدّمات بأسرها سقط الفرض عن الآخرين ويصير هو بذلك مجتهدا بالملكة فيتوجّه إليه حينئذ الخطاب بالاجتهاد بالمعنى الأوّل عينا ، فلا تنافي بين القضيّتين أصلا.

نعم قضيّة ما فصّلناه كون الأمر بالاجتهاد بهذا المعنى مشروطا بحسب الواقع ، ولا ينافيه وروده في الآية بعبارة الإطلاق لأنّ المحقّق عندنا ـ على ما قرّرناه في محلّه ـ أنّ المشروط في الحقيقة مطلق مخصوص بواجدي الشرط وإن ورد في القضيّة بعبارة التعليق والاشتراط ، فوروده في الآية مطلقا من جهة اختصاصه بموضوعه الّذي هو واجد للشرط ، فليتدبّر جدّا.

ورابعها : أنّه حكم يسوغ فيه الاجتهاد ، فجاز لغير العالم تقليد العالم كالعامي ، لجامع العمل بالظنّ المستند إلى قول الغير.

والظاهر أنّ الاجتهاد في عبارة هذا الدليل مراد به القياس على ما هو من مصطلح العامّة ، فمحصّل الدليل حينئذ : أنّ جواز التقليد في محلّ البحث حكم يجوز فيه القياس ، وقوله : « فجاز لغير العالم » إلخ تقرير لهذا القياس الجائز في هذا الحكم. فجوابه أوّلا : بمنع جواز القياس لبطلانه في جميع الأحكام.

وثانيا : بمنع جامعيّة الجامع المذكور ، فإنّ التقليد تعبّد لا أنّه عمل بالظنّ المستند إلى قول الغير.

وثالثا : بإبداء الفارق من حيث إنّ العامي إنّما جوّز له العمل بهذا الظنّ لعدم تمكّنه من غيره بخلاف المقام.

وخامسها : الإجماع على قبول خبر الواحد عن المجتهد بل عن العامي ، ووجوب عمل المجتهد اعتمادا على عقله ودينه ، وهذا قد أخبر المجتهدين منتهى بذل الجهد فجواز العمل به أولى.

١٤٠